أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - الفلسفة استثناء تأسيسي...لوعي آخر















المزيد.....

الفلسفة استثناء تأسيسي...لوعي آخر


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3733 - 2012 / 5 / 20 - 17:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لا يتفلسف أحدهم لأنّ له "ذوقا شخصيا" لا نظير له، بل لأنّ همّته قد تعلّقت بالبحث عن أفضل طريقة مؤدية إلى "تأسيس" الفلسفة بوصفها علماً . وذلك هو طريق هوسرل تحت عنوان "علم الظاهريات" في كتابه أفكار ممهّدة لعلم الظاهريات الخالص وللفلسفة الظاهرياتية والذي تُرجم أخيرا وصدر في بيروت ( دار جداول، 2011). إنّه البحث عن موقف يحرّرنا من سطوة "الموقف الطبيعي ومن العالم كما يوجد قبالتنا ومن الوعي كما يعرض لنا في تجربة علم النفس"(ص22). وبناءً عليه فإنّ "ظاهرات" الفلسفة ليست ظاهرات الطبيعة بل هي "دلالات تنبع من موقف مغاير تماما"(ص20).
وبعبارة أوّلية يدور علم الظاهريات "حول الوعي وحول كل أصناف التجارب المعيشة والأفعال وما يتضايف معها"(ص21). يعني ذلك أمرا خطيرا: أنّ الوعي هو المساحة الخالصة للظاهرات الفلسفية. ليس الوعي النفسي بل الوعي من حيث هو نمط إدراك عقولنا لما يوجد في شكل وعي محض: فالوعي هو العارف والمعروف في آن. أو بعبارة أخرى: كل ما يوجد لا يوجد بالنسبة إلى عقولنا إلاّ بقدر ما يأخذ بنية الوعي. ولأنّ كل معنى هو معنى وعي أو لا يكون، فإنّه لا يمكن لأحد أن يعامل الوعي وكأنّه موضوع خارجي أو على أنّه مجرد وعي نفسي. فالوعي الفلسفي ليس واقعة نفسية بل حالة عقلية تأسيسية.
ولذلك لا أحد بإمكانه أن يدخل إلى نطاق الفلسفة الخالصة، ويشهد ظاهرات الوعي المحض، إلاّ بقدر ما يغيّر أو يكون قد غيّر من نفسه: بنقلها من عالم الطبيعة إلى عالم الوعي. والمرور من الموقف الطبيعي إلى الموقف الظاهرياتي (ص20).إنّ الفلسفة، حسب هوسرل، لا تكون خالصة إلاّ إذا "غيّرت أفق فكرنا" (ص21) على نحو ينقله من نطاق دراسة "الوقائع" (مثل علوم الطبيعة أو النفس) إلى البحث في "الماهيات" التي تشكّل معنى الظاهرات في وعينا المحض. فالفلسفة هي "موقف محوّل وجديد"، وليس امتدادا للموقف الطبيعي أو النفسي. من هنا يقترح هوسرل أن نقول بما يسمّيه "استثناءً ظاهرياتيا" : أن نستثني القيود الطبيعية من أجل أن نحصل في النهاية على "الأفق الحر للظاهرات الخالصة"(ص22). وربما بهذا المعنى فقط يمكن أن يُقال عن الفلسفة إنّها عمل استثنائي.
إنّ الفلسفة لا تبحث في مجرّد الوقائع، مثل العلوم، بل في "ماهيات" الظواهر التي تتجلى لنا في صلب وعينا المحض بما ندركه بعقولنا على نحو متعالٍ (سابق بشكل "قبلي" على كل تجربة محسوسة) بوصفه هو المعنى الحق. ولذلك لا يكفي أن نحدّد ماهية واقعة ما أو ظاهرة واقعية ما حتى نتفلسف. يقول هوسرل:" فعلم الظاهريات الذي نقول به ليس هو نظرية ماهية لظاهرات واقعية بل هو نظرية ماهية لظاهرات خضعت للاستثناء المتعالي"(ص23).
ولأنّ مطلب الفلسفة الحقّ ليس شيئا آخر غير تأسيس إمكانية العلم في أفق وعينا، وذلك بالكفّ عن الخضوع إلى سلطة "الوقائع" و"الدفاع عن الحق الذاتي الأصلي لمعرفة الماهية ضدّ النزعة الطبعانية"(ص24)، فإنّ الفلسفة ليست من الخصومة في شيء، إذ لا تستمدّ شرعيتها إلاّ ممّا تؤسّسه من القدرة في العقل البشري على إدراك ماهية الظواهر التي تتراءى له في صلب وعيه بنفسه، وليس من مجرد مساجلة "النظريات الفلسفية سيئة السمعة" وذلك "كإرث سيء (شرير) من الماضي"(ص24-25).
ولذلك بدلا من "المقارنات النقدية مع السنة الفلسفية"(ص26) يخوض هوسرل بحثا جذريا مباشرا في ما نتوفّر عليه من "تجربة أصلية عن أنفسنا وأحوال وعينا"(ص29) باعتبارها منطلقا مناسبا للتحرّر من ربقة المعرفة الطبيعية السائدة. ولأنّنا "ليس لنا تجربة أصلية عن الآخرين وعن تجاربهم المعيشة في حدسهم الباطني"(نفسه) فإنّ الفلسفة في جوهرها اشتغال مباشر ومطلق على وعينا بأنفسنا وليس على أيّ موقف غريب عنها.
إنّ الوعي هو إطار تجربة أصلية حيث يمكن لماهية شيء ما أن تظهر وتأخذ الصورة الكلية التي من شأنها. وهدف الفلسفة هو ترك الأشياء تأتي إلى ماهياتها. لكنّ هذا لا يتحقق بواسطة علوم الوقائع، بل من طريق آخر.
إنّه البحث في "الصورة" التي يأخذها كلّ كائن في وعينا: إنّ نغمةً مثلا هي لها "في ذاتها ولذاتها ماهيةً" (ص31) أي صورة عقلية ما. فنحن لا نجرّب على الوقائع بل ندرك ماهيتها. الفلسفة ليست تجريبا بل هي "حدس ماهوي (استمهاء)"(ص32). فحين نستمع إلى نغمة فهي ليست مجرد واقعة مادية، بل النغمة لها "في ذاتها ولذاتها ماهية" ما (ص31). وهذه الماهية لا نعثر عليها في الطبيعة بل إنّ "ماهية النغمة" هي شيء "نصنعه لأنفسنا"، لكنّه لا يعطي نفسه دفعة واحدة، بل إنّ "وجوهها المتعددة تُعطى بالتوالي وأنّها مع ذلك لا يمكن أبدا أن تُعطى بكل وجوهها"(ص32).
مع هوسرل تكفّ الماهية أن تكون "دلالة" مجرّدة وتنقلب إلى "موضوع من نوع جديد"(نفسه)، ووجه الجدة فيه هو خاصة أنّه يحتمل نوعا طريفا من "التجسّد الحي"(ص33). إذ "لا إمكان لأيّ حدس ماهوي من دون الإمكانية الحرة لتوجيه النظر نحو (شيء) فردي مناسب وتكوين وعي ممثِّل"(ص34). توجيه النظر نحو شيء ما وليس الاحتكام المادي للوقائع، ذلك بأنّ "الحقائق الماهوية لا تتضمّن أدنى إثبات للوقائع" (ص35). ليس ثمة تفكير من دون إدراك ماهية ما. وكل شيء له ماهية: نغمة، لون، حدث اجتماعي، مكان،...الخ. وهذا الأمر لا يتمّ إلاّ بفضل بنية وعينا، وليس مجرد جمع خارجي لمعطى غريب عن وعينا. وليس هناك طريقة لأنْ نعرف ماهية شيء ما سوى بأن "نعيها وعيا حدسيا"(ص36) بوصفها لا تشير إلى "واقعات فعلية" بل إلى "إمكانات مثالية"(ص40). وهذا هو الموقف "الاستمهائي" بعامة: أن "نضفي على ماهية الشيء المادي أمام ناظرينا صفة المعطى الأصلي"(ص39) لوعينا. إنّ العمل "العقلي الخالص" هو استمهائي أو يكون، أي صيد للماهيات ولكن ليس في أيّ مكان، بل في مساحة الوعي الخالص لعقولنا.
لكنّ "موضوع" الوعي ليس مجرد واقعة معطاة، بل هو يقع دوما داخل "إقليم صوري"ما وينطق عن نفسه من خلال "مقولات صورية"(ص 44). وإنّ عظمة هوسرل الفلسفية لتكمن في هذا الطموح الكبير ليس فقط لاعتبار الوعي المحض لعقولنا هو مساحة كل ما هو حقيقي أو كلي أو برهاني في العلوم، بل في تحويل الوعي نفسه إلى قدرة تشكيلية هائلة للصور العقلية، هي في واقع الأمر ما يجعل كل معارفنا العلمية والوقائعية ممكنة وذات دلالة. فالفلسفة هي بعامة "تحليل" للوعي المحض لعقولنا. ولذلك يعتبر هوسرل أنّ "التحليل" المنطقي لبنى الوعي الصورية لأيّ "موضوع" بعامة هو "المفهوم الوحيد المهمّ فلسفيّاً" (ص45).
إلاّ أنّ "المفهوم" في الفلسفة لا ينحصر في مجرد "دلالة" منطقية، بل هو إشارة إلى "ماهية مقولية" معيّنة(ص46). لا نقول فقط ما يدلّ على واقعة ما، بل نقول "ما هو" الشيء في ذاته، بقدر ما يظهر في وعي عقولنا. ولذلك من المواقف الطريفة تحت قلم هوسرل رغبته في أن يعيد "لعبارة نظرية الوجود صلوحية الاستعمال" (نفسه). فرغم أنّ الفلسفة لا تهتمّ بالوقائع إلاّ أنّها تتحدث عن نمط مخصوص من "الوجود" هو "الوجود الاستمهائي"(ص43).ورغم أنّ تأمّلات الكتاب تكاد تكون "منطقية خالصة" إلاّ أنّ الهدف الفلسفي ليس منطقيا بحصر المعنى إذ هو يسعى إلى "توزيع كل الوجودات الفردية الحدسية على أقاليم وجودية كل واحد منها يعرّف علما استمهائيّاً وتجريبيّا مختلفا" (ص56).
ومن المهمّ أن نشير إلى أنّ طرافة هوسرل غير متأتية من "الانتساب إلى الفلسفة" أكانت قديمة أم حديثة بل من نوع من "الحرية" الرائعة إزاء ما هو "مفترض" سلفا في التقليد الفلسفي. إذ يقول هوسرل: "إننا لا نحتاج إلى افتراض هذا الانتساب إلى الفلسفة" والتأمّلات المقدّمة "ينبغي..أن تكون حرة من كل علاقة ارتباط بـ’’علم’’ هو موضوع نزاع واتهام كالفلسفة. ونحن في كل ما قررناه لم نفترض شيئا، وكذلك لم نفترض مفهوم الفلسفة ونحن نريد كذلك أن نحافظ على هذه الحرية"(ص59).
هذا النوع من الحرية ليس ذوقا شخصيا بل خطة منهجية من طراز رفيع أطلق عليها هوسرل اسم "تعليق الحكم" أو "الإيبوخيا" (Epochè ). يقول: "وتعليق الحكم الفلسفي الذي فضلناه ينبغي بصياغة صريحة أن يتمثّل في كوننا نرفع حكمنا بخصوص المضامين النظرية لكل الفلسفات السابقة"(ص60). أمّا الهدف الأكبر من هذا الإعراض عن بضاعة تاريخ الفلسفية هو الركون التام إلى "الحدس المعطي المباشر" لماهيات الأشياء في الوعي المحض لعقولنا، وهو ما يتطلّب حسب هوسرل شيئا أساسيا واحدا، ألا وهو "أن نتوجّه إلى الأشياء نفسها أي أن نعود إلى الكلام والآراء حول الأشياء ذاتها وأن نلاحظها في مُعطَويتها الذاتية وأن نستبعد كل أحكام أجنبية عن الأمر ذاته" (ص61).
إنّ علينا أن نفهم هنا أنّ "الأشياء ليست مقصورة على الأشياء الطبيعية"(ص62). ومن ثمّ ينبغي رفض "التوحيد بين العلم عامة والعلم التجريبي" (ص63). لأنّ العلم سلوك صوري موجود في كل وعي، يقوم على تشكيل "المثل والماهيات" والتفكير بواسطتها(ص67)، مع التوكيد دوما على أنّ "المفهومات ليست صورا نفسية" (ص68) بل صورا عقلية. إنّ الوعي هو خزّان الصور العقلية التي بها نفكّر أي ندرك نوعا من الماهيات إدراكا أصليا لأنّها معطاة في صلب وعينا نفسه. أن نفكّر بشكل نظري يعني أن نحدس ماهية ما تأتي إلى وعينا إتيانا أصليا. ولذلك "كل نظرية هي بدورها لا تستمد حقيقتها إلاّ من معطيات أصلية" (ص70) متراكمة في صلب وعينا.
ومع ذلك فإنّ هذا النوع من النظر إلى الأشياء بوصفها ظواهر في صلب وعينا الصوري، هو يظل غير ممكن أو مغفولا عنه حتى ننجح في تحقيق "التغيير الجذري للأطروحة الطبيعية" (ص84). لكنّ التغيير هنا في موقفنا وليس في صلاحية المعرفة الطبيعية. "ففي حين يتواصل بقاؤها على ما كانت عليه ها نحن نجعلها بنحو ما ’’خارج العمل’’ إننا ’’نعزلها’’ إننا ’’نضعها بين قوسين’’."(ص86). ما تغيّر في الواقع هو "قيمة" هذه المعارف الطبيعية وليس صلاحيتها. الفلسفة "تغيير قيمي" ناجم عن "حريتنا التامة" في التفكير (نفسه). ومن ثم يمكننا أن نتعود على وصف الأطروحة الطبيعية بأنّها "الأطروحة (الموضوعة) بين قوسين" ووصف الحكم عليها بأنّه "الحكم (الموضوع) بين قوسين" (ص87). وبدلا من "الشك" على طريقة ديكارت، يقترح هوسرل أن نضع العالم الطبيعي بين قوسين دون أن نسيء إلى واقعيته في شيء. كما أنّنا نضع الوعي به "خارج العمل" أو "نعزله" دون أن نشكّك في دوره. وهذا مصير كل النظريات والعلوم التي تدرس الطبيعة (ص89). فماذا يبقى ؟
على الفلسفة أن تعزل "العالم بكامله، بمن فيه نحن ذاتنا وأفكارنا كلها"(ص91) حتى تفكّر بشكل ماهوي. وما يُعزَل هو "العالم من حيث هو وقائع". لكنّ إطار العزل هو الوعي وليس شيئا آخر. و"لفظة الوعي تشمل كل التجارب المعيشة"(ص92). ومع ذلك "ليس للعزل الظاهراتي على ماهيته أي أثر. ومن ثمّ فهو يبقى ’’فَضْلَةً ظاهرياتية’’ بوصفه إقليما وجوديا فريد النوع فرادة مبدئية وهو إقليم يمكن أن يكون في الواقع مجال علم جديد هو: علم الظاهريات"(نفسه).
إنّ الفلسفة هي انتقال صعب، ولصعوبته بقي مجهولا، من الموقف الطبيعي إلى الموقف الظاهرياتي، وذلك من خلال سلسلة من الاستثناءات وعمليات العزل وتعليق الحكم والوضع بين قوسين وخارج العمل لجملة الموقف الطبيعي الذي ظلّ يهيمن إلى اليوم على عقولنا. لكنّ هذا الانتقال لا يمكن أن يقوم به إلاّ وعي لم يعد مجرّد أنا نفسيّ بل نجح في التحوّل إلى أنا محض، أي "وعي التجربة المعيشة" التي توجّه تيّار "الأفكار" في عقلنا(ص94).
يقول هوسرل: " كل تجربة معيشة من تجارب التيار التي يمكن لنظر التفكر أن يلتقي بها هي تجربة لها ماهية ذاتية تقبل الإدراك الحدسي ولها مضمون يقبل الملاحظة من حيث كونه ذاته الخاصة. ونحن ننوي فهم هذا المضمون الذاتي للفكرة في خصوصيتها الخالصة وأن نحدد خصائصها بصورة كلية وكذلك مع استثناء كل ما ليس منها بمقتضى ما هي في ذاتها"(ص95).
تريد الفلسفة أن تبيّن أنّ الأفكار ليست مجرد حالات نفسية بل هي "تيار" من "التجارب المعيشة" في وعينا الخالص بأنفسنا، وذلك يعني بالأساس أنّنا لا نفكّر في شيء ما حقا إلاّ إذا أبصرنا "بما هو ذاتي للأفكار" التي تتولّد عن تفكّرنا. فالتفكير هو على الدوام "فعل وعي" أو "تجربة وعي معيشة"، ومن ثم هو غير ممكن ولا معنى له في غياب من يفكّر أي في غياب "أنا أفكّر" يخترق كلّ وعي بأنفسنا(ص95-96). لا نبدأ في التفكير حقا إلاّ متى أصبحنا قادرين على الوعي بأنفسنا في شكل "أنا أفكّر" نجح في التوجّه نحو الشيء المفكَّر فيه داخل تجربة إدراك أو وعي معيشة حية وعينية. "وهكذا فكل إدراك لشيء ما له دارة (هالة) محيطة من الحدوس الخلفية (..)وهذا أيضا ’’تجربة وعي معيشة’’ أو هو باختصار ’’وعي’’."(ص95-96). ولا يرقى أحد إلى رتبة الوعي الخالص إلاّ بعد القيام بعملية "تحويل" لتجربة الوعي يصفها هوسرل بأنّها نحو من "التفات النظر الحر- وبالذات ليس مجرد التفات النظر المادي بل التفات النظر العقلي"(ص96). وليس يقدر على الالتفات الحر إلى موضوع وعينا الخالص سوى "أنا يقظ" قادر على تحقيق "الـ’’أفكّر’’ ضمن الوعي المتصل لتيار تجربته المعيشة بشكل نوعي"(ص97).
كل تفكير هو في نواته تجربة معيشة، أي هو نتاج أنا يقظ نجح في الالتفات إلى موضوع تفكيره من الداخل. ولذلك يحرص هوسرل على التذكير بأنّ "من ماهية كل ’’أفكّر’’ بالفعل أن يكون وعياً بشيء "ما ( 97). وهو معنى أنّ التفكير هو "تجربة معيشة قصدية" (ص98). ورغم أنّ التجارب المعيشة أوسع من التجارب القصدية، إلاّ أنّ السلوك القصدي هو الذي يهيكل تيار الوعي ويعطيه بنيته الخاصة. القصد هو "التوجّه نحو" موضوع وعينا من أجل استيعابه واعتباره (ص99). ولأنّ "الوعي وموضوعه يكوّنان وحدة فردية تنتجها التجربة المعيشة إنتاجا خالصا" (ص103)، فإنّ العلاقة القصدية مع الموضوع هي التي "تقوّم" الموضوع من خلال "التوجّه نحوه" بشكل أصلي. وهكذا فإنّ الوعي هو في صميمه "توجّه إلى شيء ما" داخل عقلنا، أي "توجّه مقوّم" منتج لضرب من "الموضوعية القصدية" (ص101).
لكنّ الوعي لا يمتلك معرفة مطلقة أو كاملة عمّا يعي به، بل كل مدرك هو مدرك يظهر لنا في "وجه" واحد من وجوهه وعلى أنحاء شتى من الظهورات. في كل مرة نحن نقبض على الشيء في "هيئة" ما، وفي كل مرة هو "يستهيئ" أمامنا على نحو ما، ومن ثم فإنّ الشيء هو جملة "الاستهياءات" التي يجربها الوعي بشكل مباشر ومتوال (ص109). إدراك اللون مثلا ليس معرفته بشكل وقائعي بل هو "استهياء اللون" في هيئات متوالية، كل هيئة لها صحتها القصدية الخاصة (ص110). "المستهيء أي الشيء الذي يظهر" لنا على هيئة قصدية ما (ص111). "لكن التجربة المعيشة لا تستهيء"(ص112). نحن لسنا مجرد هيئة من أنفسنا المتوالية. إنّ التجربة المعيشة "لا تعرض نفسها"، مثلا : "تجربة السعادة لا تستهيء" (ص116)، "أمّا نغمة الكمنجة بهويتها الموضوعية فإنها تعطى بواسطة الاستهياء وأنحاء ظهورها متغيرة" (ص117). كل ما يوجد بالنسبة إلينا هو "ظهورات استهيائية" (ص118). أمّا التجربة المعيشة فرغم أنّها غير تامة إذ هي عبارة عن "سيل" دائم من الأفكار، فإنّ عدم اكتمال الوعي ليس من جنس عدم اكتمال موضوعات الوعي (نفسه).
لكنّ الفاصل الذي ينبغي إثباته بكل عناية هو ذاك الذي يفصل بين "الوجود بوصفه تجربة والوجود بوصفه شيئا"(ص111). ومن الطريف حقّا تحت قلم هوسرل أنّ "المفارق" يؤخذ لديه على أنّه "شيء" إذ يقول صراحة: "إنّ الشيء هو المفارق" (ص112). وذلك يعني أنّ الشيء لا يدخل في مجال إدراكنا إلاّ إذا صار تجربة وعي، إلاّ دخل في مجال حدسنا. إنّ الله مثلا (ص111، 116) لا يمكن أن يعني شيئا بالنسبة إلينا إلاّ متى دخل في مجال إدراكنا. "إنّ الوجود المفارق عامة أيّا كان جنسه يقصد به الوجود (بالنسبة إلى) ’’أنا’’ ما وأنّه لا يمكن أن يكون معطى على نحو مجانس للنحو الذي يُعطى به الشيء إلاّ بواسطة الظهورات (الاستهيائية)" (ص116). ومن ثمّ فإنّ وجود المفارق هو "مجرد وجود ظاهرياتي" (ص115). وبما أنّ مجال نظرنا ليس "لامتناهيا" فنحن "لا يمكننا أن نعلم شيئا عن التجارب غير المفكّر فيها" (نفسه). فما لا يأخذ بنية عقولنا يظلّ بالنسبة إلينا وجودا عرضيا أو افتراضيا (ص122). إنّ الله ليس "شيئا". بمعنى:
إنّ الفلسفة في نواتها "تفكيك فكري لموضوعية الشيء"(ص125) وذلك من أجل استجلاء "مجالات الوعي أي دوائر الوجود التي للتجربة المعيشة"(ص123). والقصد هو أنّه لا وجود لشيء يمكن أن يدّعي أنّه منفصل أو مستقل عن وعينا به. حتى الشيء الذي لا نراه هو جزء من عالمنا. ومن ثمّ إنّه لا يمكن أن نعامل أيّ مفارق باعتباره ممكنا أو موجودا إلاّ بقدر ما يدخل في مجال وعينا به، أي إلاّ بقدر ما "يعني الوعي"(ص126) بعامة. فإنّ "عالم الأشياء المفارقة يتبع الوعي بإطلاق"(ص129). وحده الوعي هو وجود مطلق وضروري لنفسه ومن ثمّ فإنّ الوعي "لا يُعطى بالاستهياء والظهور" (ص130) بل هو "الوجود المطلق كله الوجود الذي عند فهمه الفهم الصحيح (نكتشفه وجودا) يحتوي في ذاته كل أشياء العالم المفارقة ويكونها في ذاته"(ص131).
وكل أنا هو أنا بعامة. ذلك يعني أنّ الفلسفة عمل عقلي كوني بناءً على أنّ الأنا هو بنية محايثة كونية في الإنسان بما هو إنسان. ومن ثمّ فكل أنا هو تجربة معيشة قابلة للدخول في عوالم الآخرين بواسطة "التفاهم". ذلك بأنّه "لا يمكن التوحيد بين عالم تجربتي وعوالم تجارب أخرى إلاّ بواسطة التفاهم الممكن وفي الوقت نفسه يتم إثراء تجربتي بفوائض تجاربهم" (ص120). وشرط الكلي المشترك بين العقول هو "أنّ ما هو قابل للمعرفة من قبل ’’أنا ما’’ ينبغي أن يكون قابلا للعلم بالنسبة إلى كل أنا" (ص127). وإنّه بذلك فقط تدخل العقول في "تجربة فعلية تحقق عالما واحدا مشتركا بين الذوات"(ص128).
الفلسفة هي تقنية "الوعي المتعالي" القادر على خلق "موقف ظاهرياتي" لوعينا بواسطة "استثناء ظاهرياتي" للموقف الطبيعي وللوعي الطبيعي. والبحث المتعالي "يضع الطبيعة بين قوسين"(ص132) لكن لا يكفي أن نتجرّد من الطبيعة حتى نحصل على "وعي متعال" (ص133). إنّ علينا أن "نغض الطرف عن العالم بكامله في شكل استثناء ظاهرياتي" (ص132) يجعل تجارب الوعي هي مجال الإدراك الحقيقي لما يوجد بالنسبة إلى عقولنا......حتى نفكّر يوما ما.



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعلان تونس من أجل الفلسفة.....قبل الثورة وبعدها
- تأويلية آبل...أو الجمع الهرمينوطيقي بين هيدغر وفتغنشتاين
- استشارات كانطية : الرجاء والوهم أو كيف تكون سعيدا بوسائل بشر ...
- استشارات كانطية - التعالي الحرّ أو في -الحرية الموجبة-
- استشارات كانطية - الرجاء الديني والكرامة الإنسانية
- لا هوية إلاّ الخيام...أو ماذا يفعل المعتصمون بالوطن ؟
- استشارة كانطية - الاحترام والقداسة : وحدها الشخصية الإنسانية ...
- العادل لم يعد إماما....أو من أساء إلى الإسلام ؟
- الربيع غيّر عنوانه......
- الضحك خارج القدر...في انتظار الوطن
- الكوجيطو المكسور...في عيادة ريكور
- لعنة الثورة أم جنون الشعوب ؟
- الشهداء...يحتفلون بموتنا
- الغيمات الأخيرة تستقيل...من المساء -
- ترجمة الفلسفة...هل تسيء إلى لغتنا ؟
- الفلسفة لحماً ودماً...في مرآة مرلوبونتي
- اعتذارات مجردة...للأقحوان- قيامتين بعد الطوفان
- كيف صارت التأويلية فلسفة ؟
- جيل دولوز: ثورة كوبرنيكية في فهم الهوية
- حذار من النائمين على حافة اللهِ...


المزيد.....




- فيديو أسلوب استقبال وزير الخارجية الأمريكي في الصين يثير تفا ...
- احتجاجات مستمرة لليوم الثامن.. الحركة المؤيدة للفلسطينيين -ت ...
- -مقابر جماعية-.. مطالب محلية وأممية بتحقيق دولي في جرائم ارت ...
- اقتحامات واشتباكات في الضفة.. مستوطنون يدخلون مقام -قبر يوسف ...
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بسلوكها
- اكتشاف إنزيمات تحول فصائل الدم المختلفة إلى الفصيلة الأولى
- غزة.. سرقة أعضاء وتغيير أكفان ودفن طفلة حية في المقابر الجما ...
- -إلبايس-: إسبانيا وافقت على تزويد أوكرانيا بأنظمة -باتريوت- ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف بلدتي كفرشوبا وشبعا في جنوب لبنان (صور ...
- القضاء البلغاري يحكم لصالح معارض سعودي مهدد بالترحيل


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - الفلسفة استثناء تأسيسي...لوعي آخر