اجداد البشر: الهجرات المبكرة -4

طريف سردست

الحوار المتمدن-العدد: 3721 - 2012 / 5 / 8 - 13:54
المحور: الطب , والعلوم
    

الحلقة الرابعة:

في بداية القرن التاسع عشر كان يوجد انتروبولجي لديه هوس بجمع شعر البشر. بعد 90 سنة، وبفضل هوايته، اعطى الامكانية لاجراء تجربة غيرت معارفنا عن تاريخ البشرية. بمساعد الحمض النووي المستخرج من احدى خصلات الشعر تمكن الخبراء ، لاول مرة، من وضع خارطة جينوم شعب الابورجينا الاسترالي.

هذا العمل ادى ليس فقط الى القاء الضوء على اقدم شعوب الارض وانما ايضا اعطانا رؤية جديدة عن الطريق الذي اتبعه الانسان لاستعمار القارات. من خلال مقارنة الحمض النووي القديم مع حمض الانسان الحديث يبرهن الخبراء على ان اجداد الابورجينا اول من انفصل عن جماعة الانسان الحديث قبل 70 الف سنة وترك الجماعة الاصلية في مكان ما في افريقيا. في ذات الوقت يكشف الحمض النووي ان اجداد الاوروبيين والاسيويين هاجروا في مرحلة لاحقة في موجة هجرة ثانية جرت قبل حوالي مابين 25-40 الف سنة ووصلوا الى استراليا قبل 50 الف سنة، حسب البروفيسور الذي قادر الدراسة، من جامعة كوبنهاجن، Eske Willerslev.

ان يكون الانسان الحديث قد قام بهجرتين يغير الصورة التي كانت لدينا سابقا. الدراسة اظهرت ان الامور اكثر تعقيدا وتتطابق مع دراسات اكثر حداثة تشير الى ان الاجداد اختلطوا خلال هجرتهم وتهجنوا مع انواع بشرية اخرى، سابقة لهم.

جينوم الابورجينا كانت على الدوام هدفا للعلماء لمعرفة صفحات تاريخ النوع البشري. منذ سبعينات القرن الماضي توصل العلماء الى ان جميع البشر خارج افريقيا متشابهين جينيا بصورة مدهشة. بمساعدة تحليل الحمض النووي حسب الباحثون ان جميع البشر انحدروا عن 6000 فرد فقط كانوا يعيشون في افريقيا قبل 75 الف سنة. نسل هذه المجموعة الاولى تمكنوا من استعمار القارات خارج افريقيا.
اول الاماكن التي نعثر فيها على بقايا هياكل هذا النسل ليس الشرق الادنى، كما هو متوقع، وانما في استراليا، وهو الامر المدهش، وبالذات في مونغو Mungo, 750 كيلومتر غرب سيدني. هنا عُثر، قرب شاطئ بحيرة جافة اليوم، على هيكلين عمرهما على الاقل 40 الف سنة. للوصول الى هذه المنطقة لابد ان البشر استعمروا الطريق من هناك والى افريقيا بسرعة كبيرة. ذلك يعني ايضا ان الاوائل تمكنوا من عبور البحر بطريقة ما، والابورجينا هم نسل هذه الهجرات المبكرة.

وحتى على الرغم من ان هيكل مونغو اشار الى ان الانسان جاء الى استراليا قبل 40 الف سنة الا ان تحليل الحمض النووي للابورجينا اشارت الى ان الاحتمال الاكبر انهم نسل لهجرة بشرية لاحقة من اسيا، الامر الذي مس قضية سياسية حساسة في استراليا، وهو الامر الذي عرقل الاستمرار في التدقيق لمعرفة الاستنتاج النهائي.

الشعر مادة ممتازة للحصول على الحمض النووي منها، إذ ان الخلية ، بما فيها الميتة، مغلفة بمادة الكيراتين، وهي نفس المادة التي تبنى منها الاظافر، مما يجعل محتويات الخلية محفوظة وكأنها في صندوق حديدي. ذلك يعني ان اي تلويث لايصل الى محتويات الخلية ويمكن التخلص منه بالغسل بسهولة، قبل البدء بعزل الحمض النووي.

Eske Willerslev كان يعلم ان الفريد كورت هاددون وهو انتربولوجي من بدايات القرن الماضي، اهتم بتصنيف "الاعراق" البشرية بناء على مواصفاتهم الخارجية وعلى الاخص الشعر، كان قد جمع خصلات شعر مستقاة من جميع انحاء الارض وتوجد محفوظة في مركز دراسات تطور الانسان في هامبريدج.

في مجموعة هاددون من خصلات الشعر عثر ويليرسليف على خصلة شعر تعود الى شخص من الابورجينا من منطقة كالوغورلييه في استراليا. والخصلة جرى توثيقها في المجموعة عام 1923. منطقة كالوغورلييه منعزلة تماما في منطقة صحراوية والابورجينا هناك التقوا بالاوروبيين فقط في نهاية القرن الثامن عشر. لهذا السبب تعتبر الخصلة نظيفة جينيا من الدماء الاوروبية والاسيوية.

بتحليل الحمض النووي في خصلات شعر الابورجينا ظهر ان السلسلة النووية لاتملك اية مؤشرات من المؤشرات التي تعتبر مميزة للحمض النووي القادم من الاوروبيين او الاسيويين. بذلك تم الحصول على نتائج موثوقة للغاية يمكن مقارنتها واستخدامها لابراز الطفرات والتغييرات الاخرى المميزة للابورجينا وحدهم.

الطفرات الجينية تشبه بماكينة الزمن، إذ ان جميع الاجيال اللاحقة سترث التغييرات. ولكون الجماعات المعزولة جغرافيا لن تتمكن من الاختلاط الجنسي ستظهر اشكال مختلفة لتموضعات التراتيب القاعدية في الجينات وستتراكم هذه الاشكال لتصبح سمة مشتركة ومميزة للجماعة. وكلما يمضي زمن اكبر على لحظة نشوء الطفرة كلما تنوعت وتعددت اشكال هذه الطفرة وازداد عدد حامليها واتسع نطاق انتشارها، في حين ان الطفرة الجديدة تكون موضعية جغرافيا. بفضل ذلك يستطيع العلماء وضع خارطة لتاريخ الجماعات الاثنية واصولهم ونطاق قرابتهم. ومن خلال حساب عمر الطفرة يمكن للعلماء تحديد الوقت الذي انفصلت فيه الجماعات الاثنية.

بفضل الحصول على خارطة كاملة لجينوم الابورجينا امكن مقارنته مع جينوم مأخوذة من 1220 شخص من 79 منطقة موزعة على مختلف مناطق اسيا واوروبا وافريقيا. لقد ظهر ان الاوروبيين والاسيويين متشابهين بين بعضهم اكثر من تشابههم مع الافريقيين، مما يتوافق مع كون الانسان الحديث خارج افريقيا يعود في اصلة الى مجموعة واحدة من افريقيا.

كما ظهر ان الاسيويين والاوروبيين يشبهون بعضهما البعض اكثر مما يشبهون الابورجينا. ذلك يعني ان اجداد الابورجينا انفصلوا عن البقية. عند القيام بحساب الوقت الذي انفصلوا فيه اكتشف الباحثون ان موجة هجرة الأبورجينا انفصلت قبل 62-75 الف سنة في حين ان الاسيويين والاوروبيين انفصلوا قبل 25-38 الف سنة.

ذلك يعني ان الاوبورجينا هم السكان الاصليين لاستراليا وهم الذين تركوا الاثار التي تعود الى ماقبل 40 الف سنة. ذلك يتوافق منطقيا مع ان هجرة الابورجينا كانت دائما على طول الشاطئ لان التحديات هي نفسها التي تعلموها، في حين ان الحياة في الاراضي الداخلية ستعرضهم الى تحديات جديدة ليست لديهم خبرات عنها. نظرية ان الهجرة ( وبالتالي استعمار الارض) جرت على طول الشاطئ جرى تأكيدها من جهات مختلفة بما فيه من دراسات البروفيسور Michael Petraglia من جامعة اكسفورد حيث عثرت على الكثير من اللقى لادوات تعود الى الفترة المعنية. إضافة الى ذلك ظهر ان الحمض النووي للابورجينا تملك اكبر عدد من الخصائص المشتركة مع سكان من بابوا غوينيا الجديدة وهي المنطقة الاخيرة قبل الانتقال الى المحطة الاخيرة: استراليا.

الاوروبيين والاسيويين الحاليين تعود اصولهم المشتركة الى مجموعة واحدة من افريقيا، غادروها وبعد 30 الف سنة انفصلوا عن بعضهما. لايستطيع الخبراء تحديد الامكنة التي قضوا فيها هذه الفترة مع بعض ولكن على الارجح شرق افريقيا والشرق الاوسط. الهجرة الاخيرة تملك فرعين احدهما اتجه نحو اوروبا والثاني توجه الى اسيا. الفرع الاسيوي اختلط في طريق تنقلاته بمجموعات بشرية ورثة هجرات انسانية سابقة. الباحثون رفعوا النقاب عن الكثير من " الجزر" الاثنية التي يملك ابناءها وبناتها جينات شقيقة لجينات الابورجينا. من هذه التجمعات هناك " السود الاسيويين" حيث لديهم لون جلد غامق وشعر مجعد ومنظر افريقي مثل شعب aetas, (Agta or Ayta) الذي يعيش على جزيرة لوذون في الفليبين. وبمساعدة جينوم الابورجينا نعلم انهم من بقايا الهجرة الاولى. عندما جرى استعمار الفليبين من ابناء الهجرة الثانية بقي شعب الايتيا معزولين ولم يذوبوا جينيا مع ابناء الهجرة الثانية.

هذه الاكتشافات اعادة الى الحياة نظرية قديمة " النظرية التعددية" والتي تركز على القول ان الانسان الحديث تطور في مناطق مختلفة في نفس الوقت عوضا عن ان تقول انه يملك اصولا واحدة.

عند حصول العلماء على البراهين الاولى ( من تحاليل الاحماض الامينية) قبل 10-125 سنة حصلوا على صورة واضحة ان الانسان تطور في شرق افريقيا ومن هناك انطلق في هجرته مختلطا جينيا مع مجموعات اخرى خارج افريقيا. والان ايضا يرى الباحثون ان الانسان تطور في افريقيا ولكن يبدو ان ذلك حدث على نمط موديل المناطق المتعددة. ذلك يؤكده الخارطة الجينية التي وضعت عام 2010 واشارت الى ان اجدادنا التقت بالنيندرتال وتجانست معهم. ذلك وضع بصماته في جينات الانسان الغير افريقي. يضاف الى ذلك اكتشاف انسان دانيسلافا والذي ايضا جرى وضع خارطته الجينية التي تشير الى انه نوع شقيق للنيندرتال.

دراسة قدمها الباحث Mark Stoneking من معهد ماكس بلانك تشير الى ان انسان دانيسلافا ترك بصمته في اثنيات بابوا غينيا الجديدة والابورجينا بمقدار 5%. وابحاثه هذه لايمكن تفسيرها الا انطلاقا من وجود هجرتين رئيستين للبشرية.

وبفضل الاعداد الكبيرة لخصلات الشعر الموجودة في المتاحف التي تعود الى اثنيات طبيعية يسعى الخبراء الان للاستفادة منها لتحليلها ووضع الخرائط الجينية لها لتلقي الضوء على الكثير من الاسئلة المعلقة ومنها منابع نزوح الانسان الى امريكا الشمالية. والبحث جاري في افريقيا لتحديد مكان نشوء الانسان المبكر بدقة اكبر.

#طريف_سردست (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات