انتهى الفصل الاول من محاكمة الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش بما يشبه المهزلة: شهود أحضرهم الادعاء تحولوا الى شهود نفي، غرق في تفاصيل الاحداث بدل التركيز على دور ميلوسيفيتش فيها، فشل الادعاء وشهوده في إعادة بناء منطقية للوقائع.
والجلسات التي بدأت أمام محكمة الجزاء الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي في شباط الماضي مع توقف دام شهرا في آب، تناولت ملف الجرائم التي ارتكبتها القوات الصربية في اقليم كوسوفو. هذا الملف هو الاسهل والاوضح مقارنة مع الملفين المقبلين المخصصين للبوسنة وكرواتيا. لكن تواضع قضية كوسوفو مقارنة مع ما جرى في أنحاء اخرى من يوغوسلافيا السابقة، لم يسهل عمل المحكمة والاهم انه لم يسرعه.
ووفقا لأرقام الادعاء، سقط 900 قتيل من ألبان كوسوفو في التصفيات والمجازر التي ارتكبها الصرب بين العامين 1998 و1999 (أقل من عدد الشهداء الفتيان والاطفال في صفوف الفلسطينيين منذ بدء الانتفاضة)، مقابل أكثر من مئتي ألف قتيل ومئات آلاف اللاجئين في حرب البوسنة التي استمرت ثلاثة أعوام. وفي عملية حسابية بسيطة، يمكن تخيل استمرار جلسات المحاكمة لأعوام طويلة وهو ما لا تريده هيئة المحكمة.
لكن المشكلات الاهم التي تعاني منها المحاكمة لا تكمن في الايقاع الرتيب الذي يسيطر عليها، بل في سلسلة من الثغرات القانونية والاجرائية التي وقعت فيها والتي انعكست على الاهتمام العام بها. فبعد التغطية الاعلامية المكثفة للجلسة الاولى توقفت شبكة <<سي ان ان>> عن نقل وقائع المحاكمة ما ان بدأ الرئيس القابع في قفص الاتهام بالحديث وتقديم صور <<للاضرار الجانبية>> التي ألحقها قصف حلف شمالي الاطلسي بالمدنيين الصرب، كما توقفت الشبكات الصربية عن التغطية بسبب التكلفة المادية المرتفعة فيما تابعت محطة <<بي 92>> نقل المجريات من لاهاي.
وفي الوقت الذي كانت المدعية العامة كارلا ديل بونتي تسعى الى تجميع عناصر القوة في ملفها، قامت بتصرف أشبه بمن يطلق النار على قدمه، برفضها التحقيق في الاتهامات الموجهة الى حلف شمالي الاطلسي بارتكاب جرائم حرب من خلال قصفه للمدنيين. كانت ديل بونتي ترغب في جعل المحاكمة مثالا لما يمكن ان تشهده محكمة الجزاء الدولية التي لم تبدأ النظر في اي قضية بعد. وكانت تريد ان تؤسس محاكمة ميلوسيفيتش لمحاكمات مقبلة لرؤساء وقادة امروا او شاركوا في انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الانسان وفي ارتكاب جرائم حرب. لكن إصرارها على إجراء محاكمة سياسية لنظام ميلوسيفيتش وممارساته، جعل الاجواء التي سادت قاعة المحاكمة تفقد المحكمة مصداقية كانت في أمسّ الحاجة اليها.
وخلافا لما أراد أنصار المحاكمة، ارتفعت شعبية الرئيس السابق بين المواطنين الصرب من اثنين في المئة قبل بدئها الى أكثر من عشرين في المئة عند انتهاء القسم الاول منها. أحد أسباب هذا التقدم في شعبية ميلوسيفيتش انه يتحدث عن أمور رآها الصرب بأم العين على غرار القصف الاطلسي واستمرار مأساة اللاجئين الصرب من البوسنة ومن كرواتيا الذين يقدر عددهم ب600 ألف لاجئ يلقون عبئا حقيقيا على الاقتصاد اليوغوسلافي المنهك. فجرائم الآخرين بحق الصرب ماثلة أمام هؤلاء ويسمعون ميلوسيفيتش يتحدث عنها.
مقابل ذلك، لا تعني المسائل التي يركز الادعاء عليها الشيء الكثير بالنسبة الى الصرب، الذين صدموا بغياب اي اشارة في القرار الاتهامي الى <<جيش تحرير كوسوفو>> والى العمليات التي كان ينفذها ضد القوات الصربية وضد المدنيين الصرب في الاقليم، ما أعطى الانطباع لقراء القرار ان أعمال الجيش الصربي ضد الالبان بدأت من دون اي مقدمات ولدوافع الكراهية العرقية وحدها.
ليس في القرار الاتهامي اشارة ايضا الى التاريخ الدموي للبلقان والى العلاقات العرقية المعقدة والى العوامل الكثيرة التي غذت الآمال القومية لكل الفئات في يوغوسلافيا السابقة وزينت لها اللجوء الى العنف والى التصفيات والمجازر كوسيلة لتحقيق آمالها القومية.
ثغرة رئيسية في ملف الادعاء كانت في استقدامه للرئيس السابق لجهاز أمن الدولة في عهد ميلوسيفيتش رادومير ماركوفيتش. لقد كان هدف الادعاء من الاتيان بهذا الشاهد اثبات ان المتهم كان على علم بكل المجازر والارتكابات التي تمارسها قواته بصفته القائد الاعلى للجيش اليوغوسلافي. فجاء ماركوفيتش مؤكدا ان ميلوسيفيتش كان يكرر الاوامر <<بحماية المدنيين>>، وانه بالفعل أصدر أوامر <<بالتطهير>> ولكن ليس <<التطهير العرقي>> لكوسوفو من الألبان، بل <<تطهير الاراضي من الالغام>> ومن جيف الحيوانات النافقة.
الادعاء، بكل المقاييس، لم يحسن تحضير فرضه. لقد عجز عن إثبات ان عددا من المجازر المفترضة ارتكبها الجنود الصرب ولم تكن معارك بين مقاتلين من جيش تحرير كوسوفو والقوات الصربية. كما فشل في إثبات ان جثثا لمدنيين عثر عليها في قرى مدمرة، قد قتل أصحابها فعلا برصاص الجنود وليس بقصف طائرات الحلف الاطلسي.
تجدر الاشارة الى ما قاله الرئيس اليوغوسلافي فويسلاف كوستنيتشا الذي لم يعرف عنه وده الخاص لميلوسيفيتش، عن ان المحاكمة تتضمن <<الكثير من القصص السطحية والمختزلة والتي تم التحكم بها، هناك الكثير من التسييس والرياء>>.
ولم يتميز أداء ميلوسيفيتش في المقابل، بألمعية خاصة. فبعدما تراجع عن رفضه التجاوب مع المحكمة، تبنى استراتيجية تقوم على ان المحاكمة سياسية وان لا صلاحية للهيئة للنظر في ما جرى في يوغوسلافيا السابقة. لقد استنفد هذه الفكرة في الجلسات والمداخلات التي قام بها، وعليه ان يبحث عن أسلوب أكثر إقناعا للجولات المقبلة. كما ان صلفه في التعامل مع الشهود والطريقة التي <<سحقهم>> بها كاشفا التناقضات في أقوالهم، لا تبرز نباهته. اذ ان الاكثرية الساحقة من الشهود هم من الفلاحين البسطاء الذين لم يغادر كثير منهم قريته من قبل.
لقد كان الفصل الاول من المحاكمة سلسلة طويلة من الخيبات لناحية أداء القضاة الذين كان يفترض بهم التركيز على الاهمية التاريخية والاخلاقية لهذه القضية بدلا من <<النق>> على اهمية اختصار الوقت، ولناحية خضوع الادعاء لرغبة الغرب في الانتهاء من ميلوسيفيتش وتصفيته سياسيا أمام الملأ، ولناحية عدم إقناع الرئيس السابق <<للجمهور>> بأنه هو الضحية وهو الذي كان يعلم بتفاصيل ما كان يجري في كوسوفو ويبرره بأسباب لا يقرها اي نظام قيم أخلاقي او حقوقي، متجاهلا دوره في التحريض القومي منذ العام 1989 وصولا الى يوم انفجرت يوغوسلافيا السابقة أشلاء ودولا متناحرة.
اذا كانت محاكمة ميلوسيفيتش (او ما شهدناه حتى اليوم منها) هي المقدمة والاساس لنوع جديد من العدالة الدولية، فلا ريب في ان تهافت هذه المحاكمة ينذر بمستقبل رهيب ينتظر كل حالم بعالم أفضل.
...
©2002 جريدة السفير