أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - الحكيم البابلي - اللعنة التي تُلاحق العراقيين !.















المزيد.....


اللعنة التي تُلاحق العراقيين !.


الحكيم البابلي

الحوار المتمدن-العدد: 3720 - 2012 / 5 / 7 - 15:34
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
    


في زمن الأحياء الموتى
تنقلبُ الأكفانُ دَفاتِرْ
والأكبادُ مَحابِرْ
والشِعْرُ يَسدَّ الأبواب
فلا شُعراءَ سوى الشهداء !.

قبل أيام ، في الأول من أيار تماماً ، نهض صديقي ( فرج داوود دلي ) من نومه صباحاً كما كل يوم ، حلق ذقنه وتحمم وتعطر ولبس ملابسه ، ولكن … للمرة الأخيرة للأسف الشديد !، نزل إلى الطابق السفلي من منزله لآخر مرة ، ودع عائلته وإستقل سيارته متجهاً لمحله التجاري ( محل لبيع الخمور والمواد الغذائية ) في شارع ( دكستر ) من مدينة ديترويت ( الحي الغربي ) التابعة لولاية مشيكان الأميركية ، حيث يعيش الملونين الأميركان من أصول أفريقية .
في طريقه توقف كعادته كل يوم لشراء قهوة الصباح من محلات ( بَنيرا بْريد ) حيث رآه وحدثهُ بعض أبناء الجالية العراقية الكلدانية لآخر مرة . بعدها توجه فرج إلى البنك وسحب مبلغاً كبيراً من الدولارات ، فاليوم كان الأول من أيار ( رأس الشهر ، وعيد العمال بنفس الوقت ) ، وأغلب المحلات التجارية للعراقيين الكلدان تقوم بتصريف شيكات الزبائن نوعية ( المعونات الحكومية ) لقاء عملة صغيرة متفق عليها بين الطرفين ولفائدة الطرفين لأن أغلب الأفريقيين الأميركان لا يملكون حسابات وأرصدة بنكية ويجدون سهولة وإختصاراً للوقت في التصريف والتعامل مع المحلات التجارية التابعة لجاليتنا .
وصل صديقي فرج إلى محله التجاري قبل الساعة العاشرة صباحاً بدقائق ، ترجل من سيارته لآخر مرة في حياته ، وبنفس اللحظة توجه نحوه إثنان من الزنوج الأميركان الملثمين وبسرعة أطلقوا على رأسه من الخلف عيارين ناريين إخترقا جمجمته فسقط على أثرها مرتطماً بأرضية الشارع ونافورة الدم تنفث حممها الساخنة حول الجثة الهامدة الحركة !!!.
هدأت حركة الرجل لأول مرة في حياته المشحونة بكل النشاطات والإيجابيات ، وسلَمَت قيادها للصمت والهدوء والسكينة !!!!، هكذا … خلال لحظات إنتهت حياة عراقي آخر هاجر متجنباً الموت لكن الموت لم يتجنبه !!، شهيداً آخراً من شهداء العمل والواجب والمواطنة الصالحة !!.
هرب الجناة كالعادة ومعهم عدة آلاف من الدولارات التي لا أعرف هل تستحق حقاً أن تُلغى بسببها حياة إنسان !، أي إنسان ، ومهما كان موقعه ونوعيته على أرضية الواقع المعاش !!؟
Vigil held for Detroit liquor store owner shot dead | news - Home

من خلال بقية المقال سأكتب لكم عن صديقي الطيب فرج داوود دلي ، وعن بعض أوضاع العراقيين في أميركا ، ولا أحد منكم مُلزم بمتابعة قراءة المقال ، ربما لأنكم لا تعرفون من هو الراحل فرج دلي ، أو ليس لكم كبير إهتمام ببعض تفاصيل وأوضاع الجالية العراقية الكلدانية في أميركا ، والتي أحاول من خلال هذا المقال المتواضع أن أوضحها لبعض من يتصور أن حياتنا كمغتربين في أميركا هي نزهة على أنغام سمفونية بحيرة البجع ، أو أنها كما يقول الإصطلاح الأميركي piece of cake
من خلال خبرتي وعملي سابقاً في محل تجاري وظروف مشابهة جداً جداً لظروف عمل صديقي الراحل فرج ، أتكهن أن الجناة كانوا قد درسوا وراقبوا وخططوا بذكاء شرير لعمليتهم هذه ، وعرفوا طبيعة ونوعية تحرك الضحية بحيث أنهم إختاروا الأول من الشهر لمعرفتهم بأن الضحية سيحمل معه صباحاً مبلغاً كبيراً من المال لإستعماله في تصريف الشيكات ، كذلك أتكهن -وربما أكون على خطأ- بأن الجناة كانوا من زبائن الضحية ، والدليل أنهم قتلوه !، حتى لا يقوم لاحقاً بالتعرف على وجوههم -رغم أنهم كانوا ملثمين- في التحقيقات الأمنية والوصول لهويتهم ، بينما في مِئات الحالات ألأخرى يكتفي الجناة بخطف المال والهرب دون إصابة الضحية ، وهم بهذا يضمنون عقوبة أقل بكثير من عقوبة القيام بالقتل فيما لو تم القبض عليهم بصورة من الصور لاحقاً ، وهذا ما حدث لي شخصياً في سنة ( 1999 ) وسأتطرق لذلك لاحقاً من خلال المقال .
بعض هذه الحوادث تعيد لرأسي مواقف السيد المسيح من أمور كهذه ، لأنه كان يعتبر ( القتل ) من كبائر الأمور ومن الخطايا المميتة جداً ، وبعكسه كانت نظرته إلى السرقة التي لم تكن تحظى بالكثير من إهتماماته ، رغم أنه لم يُصرح أبداً بإعفاء السارق من العقاب ، والكثيرين مِنا يتفقون مع رأي السيد المسيح بأن هناك مساحة شاسعة بين القتل والسرقة وحتى في أسبابهما !.
أكتب هذه السطور وعجلة الألم تطحنني وتسحقني ، كونَ صديقي ( فرج ) لم يكن أول عزيز وقريب إلى قلبي فقدتهُ في ظلمة أيام هذا الزمن الغادر ، أكتب وأنا أنوء تحت موجة مُغرقة من الألم والثورة والكآبة والسخط

أبحثُ عن سحابةْ
خضراءَ ، عني تمسح الكآبةْ
تحملني
إلى براري وطنيْ
إلى حقولِ السَوسنِ
تمنحني
فراشةً ونجمةْ
وقطرةً بها أبلُ ظمأي .. وكِلْمَةْ

وصل ( فرج ) إلى أميركا أعتقد سنة ( 1979 ) مع زوجته الطيبة ( بلسم ) وأطفالهِ الثلاثة الذكور ، تخرج في أميركا ( تجارة وإقتصاد ) ، لكنه وكغيره من ( بعض ) الخريجين الكلدان ، توجه للعمل في قطاع المحلات التجارية التي كان يملك غالبيتها وربما بنسة 90٪ أبناء جاليتنا من العراقيين الكلدان ، وخاصة في مناطق سكن الأفارقة الأميركان ، لأن أغلب محلات البيض في مناطق سكن الأفارقة الأميركان كانت قد أغلقت أبوابها أو أُحرقت أثناء عمليات العصيان المسلح ( Riot ) الذي قام به الأفارقة في مناطق سكنهم في مدينة ديترويت - ولاية مشيكان عام ( 1967 ) ، والذي أدى يومها إلى إحراق الكثير من معالم مدينة ديترويت وخاصة مواقع الأعمال التجارية التي يملكها البيض الأميركان الذين لم يعاودوا فتح ومزاولة أية تجارة في مناطق السود بعد الإضراب أو العصيان إلا في ما ندر !. وهنا نجد أن الفرصة كانت مواتية جداً للعراقيين الكلدان وبعض اللبنانيين في الهيمنة على أغلب مخازن مدينة ديترويت وتملكها والعمل فيها وتطويرها بحيث أصبحت مهنة ( إدارة المخازن التجارية ) الوجه الحقيقي للجالية العراقية الكلدانية في ديترويت مشيكان !، والمصدر الرئيسي جداً في حياتهم المادية والإقتصادية ، لكنها كانت على الدوام مهنة خطرة جداً جداً بسبب إرتفاع نسبة الجريمة في مناطق السود وخاصة في ديترويت التي كانت تعتبر ولحد الأن واحدة من أخطر المدن الأميركية في الجريمة وبصورة سلبية للغاية . وهنا كان على جاليتنا العراقية الكلدانية دفع ضريبة الدم سنوياً وبلا توقف ، فاللعنة لا زالت فاعلة على ما يبدو !!.
ولعلم القارئ فجاليتنا في مشيكان هي أكبر جالية عراقية خارج الوطن العراقي ، حيث يُقدر تعداد نفوسها بين ( 170 الف نسمة إلى 200 الف نسمة ) ، أما ثاني أكبر جالية لنا فهي في مدينة ( سانت دياكو - كاليفورنيا ) ويُقدر تعدادها بحوالي ( 50 إلى 60 ) الف نسمة ، وكذا الحال في أغلب الولايات الأميركية التي لا تكاد تخلو واحدة منها من عدة آلاف من العراقيين الكلدان الذين هاجروا وهُجِروا لسبب أو لآخر ، وبرغبةٍ حقيقية في الهجرة أو لأسبابٍ قسرية قد يطول شرحها !.

عمَلَ الصديق الراحل ( فرج دلي ) في محله التجاري ( بيع الخمور بكل أنواعها والمواد الغذائية وكل أنواع السلع التجارية اليومية ) لمدة ( 30 ) عاماً ، وكان مثال الأخلاق والكرم والمساعدة والتفهم لكل الساكنين في تلك المنطقة من الزبائن السود الأميركان ، بحيث أن الكثير جداً من طيبيهم ومحترميهم من كلا الجنسين حضروا مآتمه يوم الأربعاء الثالث من شهر أيار ، كذلك حضروا القداس والجناز المقام له ومن ثم دفنه لاحقاً بعد القداس يوم السبت الخامس من شهر أيار في الكنيسة الكلدانية التي غصت وإزدحمت بمئات المشاركين والزوار . كذلك ظهر في يوم مقتله الكثير من السود الأميركان من زبائن الراحل فرج على شاشات التلفزيون ( قناة 2 و 4 و 7 ) وهم يبكون تأسفاً على فاجعة الرجل الطيب فرج أو ( فريدي ) كما كان يحلو لهم تسميته ، واحدة من زبائنه كانت تبكي بحرقة وتقول : فريدي ساعد الكثير مِنا وتساهل في أسعاره حين كانت جيوبنا شبه فارغة ، وكنا نستدين منه حين نفلس في نهاية الشهر ونحنُ بإنتظار شيكاتنا الحكومية ، وحتى حين كان يَضبِطُ بعض أولادنا متلبسين في سرقة بعض الحاجيات من محله ، فكان عادةً ينصحهم ويحاول إرشادهم وجعلهم يبتعدون عن أي نوع من الجريمة ، وغالباً ما كان يهبهم الحاجة التي سرقوها منه ، وخاصةً لو كانت ذات سعر بسيط كالحلوى وغيرها ، وكان يرفض أن يُسلم السُراق للبوليس إلا إذا كانوا من النوع الخطر .

كنتُ التقي بفرج هنا وهناك في مناسبات الفرح أو الحزن الخاصة بالجالية التي يعرف أغلب أفرادها بعضهم البعض وكأنهم قبيلة تربطهم ببعض جذور الأرض والتأريخ والدم العراقي ، وكان فرج على الدوام يحمل نفس روحيته وشخصيته الدافئة الودودة كما كان يوم تعرفت عليه في بغداد حين كان كِلانا قد تعدى سن العشرين بقليل ، ودوداً هادئاً مُحباً متفتحاً للحياة كوردة ( عين الشمس ) الجميلة ، وأكثر ما كان يُميز شخصيته الدافئة هو إبتسامة لا تُفارق شفتيه إلا لتبدأ بعدها إبتسامة أخرى وكأنها تموجات بحيرةٍ هادئة ، كان من القلة التي تحمل ما يُسمى بالإنكليزية ( Smiley Face ) .
وأعترف اليوم بأنني لم أكن أعرف مقدار محبتي لذلك الصديق الودود كما إكتشفتُ خلال هذه الأيام في دواخلي ، كان صديقاً نادراً سيفتقده كل من عرفه عن كثب ، وما أكتبه في حقه اليوم وحول سيرته ليس رثاءً أو نوعاً من التمجيد أبداً ، وليس مجاملة لأهلهِ وذويه وزوجته وأولادهِ ، بل هو أقل بكثير مما يستحق هذا الصديق الراحل بقسرية لئيمة فرضتها ذئاب الإنسانية المتخلفة حتى في مجتمعات أميركا التي يحكي الكل عن عدالتها وديمقراطيتها ، ولكن ليس عن أمنها الذي سيُسقِطها من عليائها يوماً لو لم تتدارك أمرها وتصرف بعض بلايينها على الأمن الداخلي وليس على الأمن الخارجي كما تدعي !!.

جمعية ( A.F.D ) وضعت مكافأة بمبلغ ( 50,000 ) الف دولار لكل من يدل على هوية القتلة ، وهذه الجمعية مكونة من أصحاب المحلات التجارية الغذائية في كل ولاية مشيكان ، وقد تشكلت منذ سنين عديدة لحماية أصحاب المخازن والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم وأمنهم . والجدير بالذكر أن الراحل ( فرح دلي ) كان رئيساً سابقاً لهذه المنظمة قبل عدة سنوات . وكان الأفارقة الأميركان من زبائن وسكنة المحل والموقع الذي قُتل فيه الراحل فرج قد صرحوا لوكالات الأنباء إنهم سيجدون القتلة بمكافأة أو بدون مكافأة !.

لم يكن محلي التجاري يُبعد كثيراً عن محل صديقي ( فرج ) ، كان مَحَلينا يقعان على شارعين متوازيين في إمتدادهما ولا يفصل بين توازيهما غير ميل أو ميل ونصف على أبعد تقدير ، وحدث في بداية صيف سنة ( 1999) أن إستطاع شخصين مسلحين كانا يتظاهران بالتبضع في داخل محلي أن يدخلا إلى موقعي في المحل وأنا أؤدي عملي خلف ( الكاش رجستر ) حيث يفصلني عن الزبائن الجدار الزجاجي المانع للرصاص - وهو مستعمل في 95٪ من المحلات التجارية نوعية ( لِكر ستور - Liquor Store ) ، وذلك حين قام العامل الأسود الذي كان معي في يوم الأحد وهو يوم لا يستدعي وجود أكثر من عامل واحد مع رب العمل لأنه يوم عطلة نهاية الأسبوع وليس فيه إستلام لأية بضاعة من الشركات الممولة لما نبيع ، فتح العامل الباب الجانبية القريبة مني والفاصلة بيني وبين الزبائن ، والتي لم يكن يُفترض بهِ فتحها إلا بموافقة مني !!، وفجأةً دخل علي شخصان لا أعرفهما ومسدساتهم مُشهرة في وجهي وهم يصرخون ويشتمون ويلعنون !، داهموني وفاجأوني قبل أن أتمكن من الوصول لسلاحي القريب جداً مني !!، ثم طرحوني على أرضية المحل بحيث أصبح وجهي مواجهاً الأرض في محاولة ذكية منهم لصرف عيني من النظر إلى ملامحهم لفترة أطول ، ولكي لا أتذكر تلك الملامح فيما بعد حين سيعرض البوليس عليَ مئات الصور للأشخاص المشتبه بهم في تلك الرقعة الجغرافية من المدينة .
وخلال دقيقة أو دقيقتين أخذوا مني مبلغ ( 12,000) دولار كانت موجودة في الخزنة الصغيرة على مقربة مني والتي فتحتها رغماً عني ومسدس واحد منهم ينام في أذني !، وقبل خروجهم سرقوا أحد مسدساتي الإثنين اللذين كنتُ أحملهما معي دخولاً وخروجاً من محلي التجاري لحماية نفسي وعمالي من خطورة المنطقة ، وبإجازة خاصة من البوليس يستطيع الحصول عليها كل صاحب محل يضطره عمله لحمل مبالغ كبيرة من وإلى البنك .

الزجاج الواقي من الرصاص كان يقسم محلاتنا إلى قسمين منفصلين ، الأول .. وهو الخارجي فيه الثلاجات التي تحمل وتعرض البيرة والواين والمشروبات الغازية والعصائر وأنواع مشتقات الحليب وكل ما يفسد لو عُرض خارج الثلاجات ، كذلك كان الجزء الخارجي يحوي الرفوف المعدنية التي عليها أنواع البضائع الغذائية وغير الغذائية ، أما القسم الداخلي فكان يحوي أكثر من ماكنة واحدة ( كاش رجستر ) كذلك ماكنة ال ( لاتري الحكومية لبيع أوراق اليانصيب ) ومعدات أخرى لخدمة طبيعة عمل المحل ، كذلك تحوي هذه الجهة أدراج على طول المحل لعرض المشروبات الكحولية الغالية الأثمان والأدوية والحاجات الغالية الثمن التي نحتفظ بها جميعاً في القسم الداخلي حفظاً عليها من أيدي السراق الذين "يسرقون الكحل من العين" كما يقول المثل البغدادي ، وكان هذا الجزء من المحل يؤدي عادة إلى الغرفة الخلفية ( Bake Room ) التي تحوي كل الخزين الإضافي للمواد التجارية على إختلاف أنواعها .
أما التعامل بيننا وبين الزبائن فيتم من خلال فتحات دوارة ( سوزِن ) مبنية من نفس الزجاج المضاد للرصاص ، وتكون بيننا وبين الزبائن ومن ضمن الجدار الزجاجي الواقي للرصاص ، وفي هذه الفتحات الدوارة يضع الزبون ما إنتقاه من بضاعة من القسم الخارجي من السوزِن الدوارة ، ونظيف له ما يُريد شراؤه من القسم الداخلي ولا نُدير فتحة ال ( سوزِن ) إلا بعد أن نستلم المبلغ الكلي ونعيد للزبون بقية المبلغ مع ورقة البيع .
بعد عملية السطو المسلح عليَ بأشهر معدودة قمتُ ببيع المحل مع عمارته بمبلغ بخس لا يُساوي ثلثَي المبلغ الذي كان يستحقه المحل يومذاك ، وإشتريتُ محلاً لنوعية عمل يختلف عن الأول في المنطقة البيضاء حيث أسكن ويسكن غالبية العراقيين الكلدان ، وتقاعدتُ عن العمل نهائياً بعد الأزمة الإقتصادية الأخيرة قبل أربعة سنوات ، ولأنني كنتُ في سن تستحق الراتب التقاعدي الحكومي .

في بداية تعرفنا أنا وأعضاء الجمعية أو النادي المسيحي أو ما كُنا نسميه ( الأخوية ) بصديقنا ( فرج دلي ) في بغداد ، كان يومها طالباً في ال ( سِمنير ) يَدرِسُ الكهنوت ليصبح كاهناً خلال سنوات إعدادهِ لذلك ، ثم ترك بعد مدة زمنية دراسة الكهنوت لعدم تواصل قناعاته في أن يكون كاهناً ، لكنه بقيَ في تربيته وسلوكهِ وأخلاقهِ تلميذاً مخلصاً ونجيباً لتعاليم السيد المسيح ، كذلك كان -كغالبية أبناء جاليتنا الكلدانية- مواطناً صالحاً في العراق وفي أميركا ، ودافِعْ ضرائب ثقيلة لم يتهاون في تسديدها كل شهر وكل موسم وكل سنة ، وبقي حبه وإخلاصه لوطنه الأم العراق صليباً ثقيلاً حمله طوال حياته ، بحيث كُنا كلما إتصلنا هاتفياً نتطرق رغماً عنا لموضوع الوطن العراقي وآلامِه ومحنته وجراحهِ التي كُنا نُشبهها بجراح وآلام السيد المسيح وهو يخترق درب الآلام صعوداً إلى جبل الجلجلة .

الراحل المغدور ( نبيل زوما ) كان أحد أصدقائي المقربين جداً لقلبي في بداية السبعينيات حين وصلتُ إلى أميركا وتعرفتُ بهِ وبعائلتهِ الكريمة ، ثم أصبح أحد أعضاء فرقتي المسرحية ( فرقة المسرح العراقي للتمثيل ) التي أسستها سنة ( 1975 ) كتواصل لحبي وهوايتي للمسرح وكتابة وإخراج المسرحيات التي بدأتها في بغداد في ( أخوية الصليب المقدس ) في السنتر - حيث كان تَجَمُعْ الشبيبة المسيحية من كلا الجنسين في مركز القديس يوسف ( السنتر ) في منطقة العلوية .
قتلوا صديقي ( نبيل زوما ) في نهاية السبعينيات أو ربما بداية الثمانينيات ، ضربوه بطلقة لئيمة في صدره داخل محله التجاري في عملية سطو مسلح غادرة ، ولم يكن قد مضى على زواجه غير سنتين ، وكان أبنه الرضيع بعمر أشهر معدودات !. بعدها قام أحد أخوته بشراء وإدارة محلهِ التجاري ، وتشاء الصدف العاثرة أن يتم قتل الأخ في نفس المحل قبل سنوات قليلة !!.
وكُنا أنا وفرج نتحدث عبر الهاتف ذات يوم ، وتطرقنا لفجيعة ومآساة آل ( زوما ) ولا زلتُ أذكر أن فرج قال لي أو سألني : هل هناك فرق بين أن يُقتل الإنسان وهو يؤدي واجبه ووظيفته الحياتية اليومية التي يرتزق وعائلته منها وبين أن يُقتل ويسمى شهيداً وهو يُدافع عن الوطن ؟ ، والحق لا أذكر ماذا كان جوابي أو نتيجة نقاشنا يومذاك !، لكني شبه مقتنع اليوم أن الشهادة هي هي ، دفاعاً عن الوطن والأرض أو دفاعاً عن رزق وكرامة الإنسان وعائلته .

يتملكني الحزن بصورة لم تحدث لي في السابق إلا في مرات معينة ، حزين لحال كل العراقيين الذين يتعقبهم الموت أينما حلوا منذ ثورة تموز ولحد اللحظة ، فهم يُقتَلون على كل الأرض العراقية ، ويُقتلون في أميركا حيث لا تمر سنة تخلو من شهيد عملٍ أو أكثر !، وأذكر تواجدهم المكثف في لبنان في السبعينيات وكيف قامت الحرب الأهلية هناك ، واليوم الآلاف منهم في سوريا التي تنتهكها حرب بين الحاكم والمحكوم والراكب والمركوب وآلاف العراقيين في الوسط لا يعرفون إلى أي بلد يتوجهون !، فالظاهر أن الموت واللعنة الأبدية في أعقابهم إين حلوا وأين رحلوا !.
أبكي بصمتٍ جميع شهدائنا وصوتُ الشاعر يُطارِدني ويُسائِلني :

أهكذا نموت بهذه الأرض اليبابْ ؟
ويجفُ قنديل الطفولة في الترابْ ؟
أهكذا شمس النهارْ
تخبو ، وليس بموقد المشردين نارْ ؟

أهكذا تمضي السنونْ
ويُمزق القلب العذابْ ؟
ونحنُ من منفى لمنفى ومن بابٍ لبابْ ؟
نذوي كما تذوي الزنابق في الترابْ
منفيينَ يا قمري نموتْ
وقطارنا أبداً يفوتْ !.

عدد الناس الذين حضروا قاعة التعازي وقداس الكنيسة كان كبيراً جداً بحيث ضاقت بسياراتهم ساحة وقوف السيارات ، أما الورود التي أرسلها المحبين والأصدقاء للراحل فرج فكانت تبتدأ من جانبي التابوت المفتوح وتصل للباب الخارجي للقاعة المؤدي إلى ساحة وقوف السيارات !!، وهل كل ذلك إلا لأجل إنسان طيب أحبه وأحترمه الجميع ؟
أحد الأصدقاء الطيبين همس بعد القداس في أذني : ((فرج كان بطلاً )) . الحق لم أُبدي رأياً في الموضوع ، لكني فكرتُ وبكل صفاءٍ ذهني في أن البطل في كل مجتمعات العالم لا يُسمى بطلاً إلا إذا تحول إلى ضحية مجانية أحياناً !، وبرأيي المتواضع أن صديقي فرج ليس بطلاً لأنه قُتِلَ أثناء تأديتهِ لواجبه ووظيفتهِ الحياتية ، بل هو بطل لأنه إستطاع وبدقة ومثابرة وإصرار على أن يبني عائلة متماسكة محترمة مسالمة متفهمة خدمت مجتمعها بكل الوسائل الشريفة الممكِنة ، وهنا برأيي تكمن بطولة أي إنسان ، أن يكون قدوة ومثالاً جيداً لعائلته ومجتمعه ووطنه وللكرة الأرضية التي بحاجة لمن يخدمها في سبيل ديمومة وبقاء الجنس البشري ، وللعلم فأنا لا أتحدث عن ذلك من خلال الوعظ والمثاليات التي يفرضها أحياناً الموقف العاطفي عند حدوث المآساة أو الفاجعة .

أن ما يجب أن يُدان دائماً هو العنف والجريمة ، وقد يتعجب بعضكم لو علم أن جاليتنا العراقية الكلدانية في مشيكان لوحدها قد خسرت لحد اليوم ضحايا لأعمال الجريمة والسطو المسلح يُقدر عددهم ب ( 120 ) شهيداً !!، بينما نجى من القتل عدة آلاف أنا واحدٌ منهم .. وبصورة عجيبة أحياناً بسبب إكتفاء المجرمين بالحصول على النقود أو هرباً من المواجهة المسلحة مع العراقيين الكلدان الذين كان لبعضهم فرصة للدفاع عن أنفسهم كما حدث ولمرتين متواليتين لأحد أخوة زوجتي السيد ( علاء نعيمي ) صاحب ( سوبر ماركت ) في الجانب الغربي من ديترويت والذي إستطاع في كِلا المرتين من إصابة أحد المهاجمين برصاصة في صدره دفاعاً عن النفس !، وفي المرة الثانية -قبل عدة أشهر- هرب المسلحان ولجأ المصابُ منهما في نفس الليلة إلى إلمستشفى طلباً للعلاج مما أدى إلى القبض عليه وعلى رفيقه !. وتستطيعون مشاهدة الفيديو أدناه عن ذلك الحادث
Store owner shoots robber | News - Hom


قبل أكثر من سنة إلتقيتُ صديقي فرج في واحدة من حفلات أعراس جاليتنا ، وبعد العشاء جلسنا بعيداً عن عوائلنا وصخب الإحتفال ، مع صديق ثالث السيد ( ساعد أورو ) من أعضاء الشلة القديمة ( أخوية الصليب ) في بغداد ، وكنا أنا وساعد نسأل فرج عن أحواله وأعماله وأموره ، يومها قال لنا ما معناه : أنا متعب جسدياً وفكرياً ، وأحلم ببيع محلي التجاري بأقرب فرصة ممكنة ، ولكن … ليس هناك مشتري معقول لأن أغلب من يتقدم لشراء المحل لا يُريد أن يدفع غير مبلغ زهيد جداً وبأقساط طويلة غير مضمونة أبداً ، كذلك لم يعد هناك من يُجازف بالعمل في مدينة ديترويت إلا البعض المحتاج جداً أو الذي لا يستطيع بيع محله مثلي ، لأن إغلاق أي محل سيكون خسارة كبيرة لصاحب المحل تقدر بنصف مليون دولار أو عدة ملايين وبحسب حجم المحل ونوعيته وموقعه ونجاحهِ وقدرته على ضخ المال !. كذلك قال وهو بين مازحٍ وجاد : أحلم أن أكون وعائلتي على سواحل الباسفيك أو اليونان أو أي بحر كبير يسعني ، أحلم ببيتنا في بغداد وأيام الخير والسلام ومنطقة الكرادة داخل وخارج ، والشجرة القريبة من الدار والعصافير تُناديني وتزقزق قرب نافذتي صباحاً ، أحلم أن أنام لمدة سنة لأريح جسدي المتعب !.

في قاعة التعازي التي كادت تنفجر من كثرة الزوار والمودعين لجثمان الصديق ( فرج دلي ) للمرة الأخيرة ، رأيتهُ ممدداً في تابوته الأنيق في رقدتهِ الأخيرة وحوله أروع باقات الزهور ، لكن إبتسامته المعهودة لم تكن هناك ، أطفأوا له إبتسامته إلى الأبد .
ها قد نلتَ بعض أحلامكَ يا صاحبي ، الأن بإمكانك أن تنام .. ولن تُزعجك منغصات هذه الحياة التي واجهتَها بكل شجاعةٍ وعناِد وإصرارْ .
نم قرير العين وتمتع بكل أحلامك ، وبالسلام الذي كان جزءً من شخصيتك الفذة .
نعم ……… لقد آنَ لهذا الفارس أن يترجل .

غداً إذا غرد في بستاننا عصفورْ
وفَتَحَت زنبقةٌ أجفانها للنورْ
وسالت العطورْ
على قبور شهداء الوطن المقهورْ
سنلتقي على تخوم العالم المسحورْ
سنعبر الجسورْ
معاً نُغني
وإلى بلادنا نطيرْ
في فجرِ يومٍ أزرقٍ مطيرْ
معاً سنصطاد الفراشاتِْ
معاً سنقطف الزهورْ
غداً …. إذا غردَ في بستاننا عصفورْ
وإندكَ هذا السورْ

شكراً لكل من شاركنا وجدانياً وقرأ هذا السِفر المؤلم الحزين ، فمآسينا واحدة كلما أدمعت عين الوطن لفقد أحد أحبابهِ ومحبيه ، عائلة صديقي الراحل فرج دلي ستقرأ كل كلمة تُسطرها أياديكم الخيرة ، كذلك سيقرأ المقال آلاف العراقيين في أرجاء الأرض الأربعة .
+++++++++++++++
الشعر في بداية المقال للشاعر أحمد مُطر
بقية الأشعار ( وبتصرف ) للشاعر عبد الوهاب البياتي
تحياتي لكل القراء ، وأتمنى أن تكون رحلة حياتكم جميعاً محمولة على أجنحة السلام والمحبة والسعادة والأمان .



#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجذور التأريخية لتحريم العمل في السبت اليهودي
- هل حررتنا أميركا حقاً ؟
- -أكيتو- .. عيد الربيع البابلي ، جذوره ، أيامه ، عائديتهِ
- حكاية ... لم تلفظها الأمواج بعد
- المسطرة الجنسية بين الحلال والحرام
- نقد النقد ، حول مقال السيد سيمون جرجي الناقد لمقال الحكيم ال ...
- الكلمات النابية الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة
- رحلة إلى تركيا والأراضي المقدسة - القدس
- جذور إقتباسات الأديان التوحيدية -- الجزء الأول
- شجرة عيد الميلاد ، بين دمعةٍ وإبتسامة
- نقد لسلبيات موقع الحوار المتمدن
- هل الأرض مُختَرَقة فضائياً ؟
- يَرمازية وجراد .. ووطن
- كان يا ما كان في بغداد
- هوسات وأهازيج شعبية عراقية .......... 1956 - 1963
- عالم النكتة في العراق
- ظواهر إجتماعية البول للحمير !!!
- بابا نويل لا يزور مدن الفقراء !!.
- من داخل القمقم # 3 ( نذور ونهر )
- من داخل القمقم # 2 ( عرائس النار )


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية / هاشم نعمة
- من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية / مرزوق الحلالي
- الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها ... / علي الجلولي
- السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق ... / رشيد غويلب
- المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور ... / كاظم حبيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟ / هوازن خداج
- حتما ستشرق الشمس / عيد الماجد
- تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017 / الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
- كارل ماركس: حول الهجرة / ديفد إل. ويلسون


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - الحكيم البابلي - اللعنة التي تُلاحق العراقيين !.