وليد احمد الفرشيشي
الحوار المتمدن-العدد: 3717 - 2012 / 5 / 4 - 17:58
المحور:
الادب والفن
-1-
كلّ ليلة...
كانت تجلس إلى مغزلها...
تلك الأمّ التي ضاع منّي إسمها مرّتين...
يوم حبلت بالشيطان...
و يوم قطعت حبله السرّي بأسنانها...
باكية...
على صدره الموحش كالقبر...
تلك الأمّ التي نسيت إسمها...
في قريتي المطروحة كالجثة على سفح الجبل...
خلعوا عليها إسما عامرا بالخبث...
و العهر...
و الدّجل..
"المرأة التي حبلت بالشيطان"...
ذاك كان إسمها...
و قد نسي الناس إسمها...
يوم أخذوه منها...
في تلك القرية الغائمة...
التي ترشم أسماء مواليدها حول عنقها...
كما ترشم أسماء كلابها على أطواقها الحديدية...
تلك الأمّ التي نسي الناس إسمها...
كلّ ليلة...
كانت تجلس إلى مغزلها...
تخيط لوليدها الذّي أخذوه منها...
مئزرا من الدموع و الآهات
حتى لا يشعر في منفاه بالبرد...
-2-
قيل لي...
انّ نساء قريتي..
كنّ يسمعن عويلها في الليل...
و نواحها الذّي يقرض القلوب الموحلة...
بالمكر و الخديعة...
قيل لي..
و أنا أعود للقرية المظلمة كالفجيعة...
هشّا...كالخبز...
و خائفا...كرؤوس السنابل...
و ملعونا...كالموت...
أنّ تلك الأمّ التي نسي الناس إسمها...
كانت تنكش الخرائب...
و المقابر...
و الضجيج الصامت في العيون...
و تحت لسانها ألف لعنة...
عن شيطانها الوليد...
الذّي حملته الأيدي المغموسة في الروث...
و الصّديد...
و أسنانه تمضغ حلمتها المطحونة كالسكّر...
قيل لي...
أنّها كانت ترابط عند النهر الصغير...
و ملاءتها السوداء...
تسلق الليل الذّي ينزل سرواله...
ليلج الخدر الحائر في المفاصل...
تحدّثه عن الجسد الأحمر المسترسل كشعر الملائكة...
و العينين المفتوحتين على البؤس...
و الخواء الذّي ينزّ من الشوارب المعقوفة...
عن قرني غزالها الشّريد و الطريد...
التّي تنطح...
صلف النخوة الكاذبة على أفواه التماثيل...
عن ذيله...
- قالت لي إمرأة صالحة و مسنّة..
انّ وليدها كان له ذيل-
نعم ذيله...
المرفوع كالسياط...
و هو يجلد المناقير المطلّة من القلوب المؤمنة...
و الأيدي المؤمنة...
و الارجل المؤمنة...
و الشفاه المؤمنة...
داخل الجلابيب التّي مزّقها الانحناء...
قيل لي...
أنّها كانت تحدّث الماء...
عن ولد...
يبكي إذا ما رأى الدمّل في الوجوه...
التي تخرج بيضاء بعد كلّ مجزرة...
و يضحك للفراشات التي ترقد...
راضية مرضيّة...
على شفاه الخرفان الضالّة...
عن ولد لا يشبه الحوافر المهترئة...
من الركض داخل الذلّ...
بل يغرز نواجذه...
في ضوضاء الملائكة القديمة...
-3-
كنت أسأل كثيرا...
عن الأمّ التي نسي الناس إسمها...
بعد ان أخذوا الحقّ من أحشائها...
عن وليدها...
عن سرّه المدهون بالحزن....
ما شأنه؟ ما خطبه؟
هل القموه اليمّ قبل ان يلوي الاعناق الآيلة للسقوط؟
قبل ان يرى القلوب المترفة بالجهل و العبوديّة...
تطحن تحت مطارق لغته التي لم تنطق...
و ترمى كالرماد في البحر...
قبل أن يخيط انوف الماعز...
بالشعر و الحكمة...
حتى لا يسيل المخاط منها...
على الجدران المخصيّة....
هل غرزوا في جسده الصغير...
آلاف الخناجر...
حتى يتوزّع دمه بين القبائل...
التي ترفع رؤوس أنبيائها على اسنّة الرماح؟
كنت أسأل كثيرا...
لكنّ كلماتي المغموسة في اللّهب...
كانت تودع في صدور الضفادع...
كانت تمسح في العرق...
و تنسخ في الغبار...
-4-
مرّت ليالي طويلة...
و أنا اقف ذليلا عند بابها...
تلك الأمّ التي ضاع منّي إسمها مرّتين...
تلك الأمّ التي نسي الناس إسمها...
تلك "المرأة التي حبلت بالشيطان"...
و دموعي تسدّ المنافذ في جسدي...
الاحمر ...
لأحدّثها...
عن الرعب...
و البئر المعتّمة الآسنة...
حيث يتسلّخ الجلد من الدود الناتئ في المحاجر...
و ترعف سحابة من الشوك على القرنين المالحين...
و السحالي المخطّطة بالجريمة...
تناصبني العداء...
لأحدّثها عن الرماح التي تحدق بي...
و الايادي تنقلني من قافلة إلى قافلة...
و من منفى إلى منفى...
حيث في كلّ خطوة..
.في كلّ سعلة...
في كل أحتكاك بقلبي الخائر...
في كلّ ذكرى بعيدة لحلمة دامية مضغتها كالوردة...
أضمّد عمري الممصوص كاللفافة بالقش و التراب...
عاري الذيل و الفخذين...
مرّت ليالي طويلة...
و أنا اقف ذليلا عند بابها...
تلك الأمّ التي ضاع منّي إسمها مرّتين...
و الحزن يومض كالبرق...
في الذاكرة...
و الكلمات الحبيسة تنفخ في اللّهب داخلي ...
لتشتعل الشهوة ...بالبكاء...
مرّت ليالي طويلة...
و لكنّي في كلّ مرّة ألتفّ حول حزني
كالرضيع الذّي كنت...
و أغادر...
لأنّ دموعي مشتعلة...
اكثر ممّا يجب...
-5-
لقد نسيت...
و الزورق النيّء يخبّ بي رضيعا...
نحو بلاد حزين و بعيدة...
شكل الحلمة...
و مذاق الحليب المغضّن...
و رائحة الدم المتسرّب من ملاءتها السوداء...
لقد نسيت...
الشيطان الذي نبت كالبذرة في حقلها...
و هو يشدّ الزنابق من غدائرها...
لقد نسيت...
الشتائم و اللعنات الصفراء كالسلّ...
و الايادي التي ترفعني إلى أعلى المقت...
تبعدني عن الأمّ التي ضاع منّي إسمها...
الذّي يرابط في قلبي...
كالحمائم المجندلة...
لقد نسيت...
البلاد...
و الخناجر المتلألئة كعيون الذئاب...
تمزّق قماطتي...
وتطعمني للبئر...
حيث احصي النجوم في السماء...
و الدود في القاع....
و لكن...
-6-
إنّي ألمح مغزلا قديما يذكّرني...
بالحلمة الميّتة في الربيع...
بالدم الذّي يطفر في الوجوه...
التي تلبس الذلّ مع الدمّل...
وقلوب هائجة تحمل المشاعل...
المحشوّة بالإثم و الذهب...
إنّي ألمح أمّا...
تجلس إلى مغزلها...
تلك الأمّ التي ضاع منّي إسمها مرّتين...
تلك الأمّ التي بصقت في احشاء قريتنا...
يوم حبلت بالشيطان
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟