|
أنصار و مهاجرين / خروج 3
غالب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3704 - 2012 / 4 / 21 - 12:33
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 36
وحيداً ، والأقدار ، ألا من دفاترٍ ، وبقايا أفكار ، أرضٌ غريبةٌ ، جبالٌ ووديانٌ وأشجار ، غادر الصديقُ والرفيقُ ، الحلمُ ، والأسفار ، لم يبقى سوى أشرار ، و " إيليا " * وسط النار ، ينشدُ قولي لي يا فتاتي ، أين ستجدين بعد ذلك ، الحبَ والأشعار ؟
شعورٌ طاغٍ من اليأسِ والأستسلام للقدر .
لأول وهلة ، في اللحظات الأولى بعد أصابتك ، لم يكن هناك سوى أنتظار رصاصة الرحمة . كان الرصاص ينهمر ، يتسابقُ مثلَ أسودٍ تطاردُ قطيعاً من الغزلان ، مثيراً التراب والحجر من حولك كأنك الطريدة . لكن الأنسان يبقى أنسان وأن كان في حالة هيجان . بحركة لا أرادية ، وأنت في حالة ترقب الموت ، حاولت أن تنفض بعضاً من الحجر الذي علِقَ بشعرك ، ولسان حالك يقول " يالله خلِّصونا أبناء الملاعين " .
سئمت الأنتظار ، ربما كان ذلك الترقب ثوانٍ ، لكنه ، في تلك الظروف ، بدا دهراً . كنت قد دفنت وجهك بالأرض ، كرد فعل غريزي في الدفاع السلبي كما تفعل بعض الحيوانات في الطبيعة عندما يواجهها الخطر أو كما تفعل الفتيات من الخجل أو الخوف . هل خطر في بالك أن اليأس يمنح ، أحياناً ، وهماً ، في الشجاعة . هكذا بدأت تتحسس جسدك ، تختلس النظر لتكتشف المكان ، غير عابئ بالخطر . لاحظت ، وسط النار ، أن رأسك كان محمياً بصخرةٍ ، كأن القدر وضعها هناك ، لتحميك من الحقد القادم من أعلى رغم أنها ، الصخرة ، لم تزد كثيراً عن حجم رأسك .
مع تأخر طلقة الرحمة ، بدأ الدفاع السلبي يتحول تدريجياً الى نوع من الرغبة في المقاومة ، في البحث عن مخرج لهذه " الورطة " . رويداً رويداً بدأت تعود أليك رباطة جأشك ، المفقودة ، وبدأ العقل بالعمل من جديد بعد أن توقف كلياً كما لو أصابته جلطة . بدأت أولاً بتعديل وضعية جسدك بشكل عمودي ، لصق الأرض ، خلف الصخرة ، وأنت تحاول في نفس الوقت تفهم الموقع الذي أنت فيه . شعرت بتحسن ، بنوع من الهدوء ، رغم أن الوضع لم يتغير . لم يكن هناك وقت كثير لتضيعه ، وأنت وحيد ، حتى الأفكار خذلتك . لكن ما العمل وأنت محاط بالمستحيلات ، فرأسك مهدد ، وجسدك مكشوف للنهش ، وذراعك محطمة ، والموت يفرش جناحيه يُريدُ ضمك ، وعيونٌ لا تراها تتربص بك . " أيها الموت ، لم يحن الوقت بعد " كان قرارك .
ألقيتَ بنفسكِ من أعلى السفح وكأنك تلقي بها للهاوية . تدحرج الجسد المنهك والجريح ، جارفاً الأحجار والأعشاب ، والأحزان والخيبة ، تاركة بصماتها على كامل جسدك المشظى ، وبقايا نفسك المعذبة . أرتطمت بحجر كبير تشكل في أسفله ما يشبه الحفرة بساتر طبيعي ، فكانت بمثابة المكان الذي سيستريح فيه الأنصاري الأخير ، الى الأبد ، هكذا فكرت . فمع قطرات الدم المنزلقة فوق جبينك المدمى ، وتباطئ لهاثك ، شعرت بالبرد وبرغبة شديدة في النوم . ياه ، مَن يغطيني ، بجسده ؟ تدريجياً بدأ يخفت صوت أطلاق الرصاص ، أو هكذا بدا لك ، غشاوة من الضباب أو الدخان حجبت الضوء ولم تعد تستطيع مقاومة النعاس . أوه ، شعرتَ بخدرٍ في رأسك و بضيقٍ في صدركِ ، فأغمضت عينيك :
" خذها لا أريدها " كُنتَ ترتجفُ ، تتنفسُ بصعوبةٍ بالغةٍ وكأنك تشهق ، وأنت ترى أبوك ، العامل الفقير ، المنهار من شدة ألم الفقر واليأس ، يقفزُ ويبصقُ نحو السماء وكأنه أراد أن يتأكد من وصول رسالته . كانت قفزاته مصحوبة بصياح كالزئير وهو يردد بأعلى صوته " خذها لا أريدها " ثم ليعلن بصوتٍ مبحوحٍ من شدة الصياح " أوتسمي هذه عيشة ". لم تكن تعرف ، وقتها ، سبب غضب أبوك . لكنك ، عندما أحتميت في حضن أمك وشعرت بأنفاسها المتسارعة وهي تنحب بصمت ، راودك شعوراً بأن أمراً عظيماً أثار غضب والدك . في تلك اللحظات المرعبة عرفت معنى رسالة أبوك لخالقه : لم أعد أحتمل الظلم . كانت الأم ، هي الأخرى ، تشهق من الخوف ، في الحقيقة مرتين ، مرة من رب العباد ومرة من رب الأولاد . ما دام في صدري قلب ينبض ، لن أنسى لمسات يدها تلك ، المرتعشة من رهبة الأيمان . آه لو تأتي وتمسح على رقبتي للمرة الأخيرة . شعور طاغٍ بالألم وضيق شديد في التنفس ورغبة عارمة في البكاء . ، مكسور الذراع و الفؤاد ، أغمض رجل من الأنصار عينه مستسلماً لقدره !
عندما يجتمع اليأس والألم وخيبة الأمل ، فلا حدود للضياع ، كالفضاء ، وتصبح الأشياء ، كلها ، فراغ هائل . هكذا كانت مشاعرك عندما فتحت عينيك وشاهدت أثنين من رسل الموت يقفون عند رأسك . عندما تلاقت العيون أنتابك أحساس مباغت بالغثيان والأشمأزاز " هل هذا عزرائيل ؟ " كُنتَ مُمداً ، والدماء والكدمات تركت بصماتها في كل موضع من جسدك ، تسندُ يدك المهشمة ، تئن من الألم ، وشبح الموت ينظر من زاوية في المكان ، بأنتظار الأوان . أدركت أنك أصبحت أسيراً ، في الجحيم .
كُنتَ على وشك أن تخلع " البشتين " ** لتجعل منه رباطاً يحمل ساعدك المكسور .
" للبشتين يا حضرة الرفيق الملحق أحدى وعشرين فائدة " قهقه بهجت ، عالياً ، منتشياً بهذا الأكتشاف . كان بهجت ، من فصيل مدفعية المقر ، مُغرماً بالأحلام والخيال وبالنساء مثل بقية أبناء جلدته من الفقراء . كان يوزع المناصب على الرفاق ، أذاما تسلم الحزب السلطة ، حسب ما يراه فيهم من مواهب وقدرات ، فقادة الحزب وزراء ( لكنه عين أحدهم بائع لبلبي عند مقر الحزب ) وهو سيكون حارساُ في أحدى سفاراتنا في الخارج . أما أنا فكان من نصيبي وظيفة " الملحق الثقافي " في سفارة العراق في أنكلترا . كان يحلم بزيارة لندن حتى أنه في نوبات حزنه العميقة ، والتي كانت تنتابه بين الحين والآخر ، كان ينظر للسماء بتجهم ويدمدم " لو خلقتني كلباً في أنكلترا " .
ثم أردف ، بهجت ، قبل ان يسمع تعليقاتي ، محاولاً لفت أنتباه بقية الرفاق " يمكنك أن تستخدم البشتين كوسادة ، هكذا ، ستارة مثلاً هكذا ، لفافاً ، يمكن أن تجعل منه حبلاً للف الحطب ، هكذا " ثم أشار برأسه نحو أسفل الوادي " لتثبيت الحمولة على البغال " وخنق ضحكة كادت أن تكشف سر أشارته تلك . ثم سكت ، وبحركة درامية ، كأنه يلقي قصيدة أمام جمهور ، لفّ البشتين حول رقبته " أذا نفذت ذخيرتك ، رفيقي الملحق ، وحاصرك العدو يمكنك أن تجعل منه أرجوحة للمجد ، هكذا " ورفع قبضته نحو السماء .
نسي بهجت أن " البشتين " يمكن له أن ينقذ حياتك أيضاً . كان بينك والموت خطوة ، لحظة ، آه لو كنت قد نزعته لكانت نهايتك المحتّمة ، فقد كنت تخفي تحته حزاماً معبئاً بالأوراق النقدية ، هي مالية الحزب ، ولو كان هؤلاء قد أكتشفوها عندك ، أثناء الأسر ، لكانت لهم غنائم ، أما أنت فاليرحمك الله .
لكنك أردتَ شيئاً وأراد الله غيره ، كما قال رجلٌ من الأنصار للنبي *** .
يتبع خروج 4
د . غالب محسن ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* إيليا هو أحد أشهر أنبياء بني أسرائيل ، ظهر في عهد الملك آخاب وزوجته أيزابيل (حوالي القرن التاسع قبل الميلاد ) حيث عاد العبرانيون لعبادة الأوثان وخالفوا شريعة موسى ووصاياه لهم ...الخ وهو نفسه ألياس عند المسلمين كما جاء في القرآن (سورتي الأنعام والصافات ).
** البشتين هو قطعة قماش طويلة نسبياً ، في الغالب عدة أمتار ، تلف حول الخصر في طويات عديدة وتعتبر جزءاً من اللباس التقليدي الكردي .
*** كما جاء في السيرة الحلبية عن حادثة رجل من الأنصار أمره النبي ، عند فتح مكة ، بأن يذهب ويخبرخالد بن الوليد أن لا يقتل أحداً ، لا يقاتله ، من أهل مكة . فقام هذا الأنصاري وأخبر خالد بأن النبي يأمره أن يقتل كل من يلقاه من أهل مكة الى آخر القصة فبعث النبي في طلبه ، بعد أن قتل خالد أكثر من سبعين رجلاً من المكيين ، وسأله لماذا فعلت ذلك ، فقال الأنصاري أنت أردت شيئاً وأراد الله غيره ، فسكت النبي .
#غالب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهاجرين وأنصار / خروج 2
-
أنصار و مهاجرين / جزء 1
-
تأملات في بيان الحزب الشيوعي حول الذكرى 78 لتأسيسه
-
في ذكرى رحيل المناضلة نعمي أيوب رمو
-
مرة أخرى مع أطيب التحيات للمؤتمر التاسع
-
محنة العقل في التوحيد / جزء 2
-
محنة العقل في التوحيد / جزء 1
-
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 3
-
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 2
-
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 1
-
صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء / تأملات 25
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 4
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل // جزء 3
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 2
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 1
-
الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي مع أطيب التحيات
-
عندما يكون العنف طريقاً للحق / جزء 2
-
عندما يكون العنف طريقاً للحق / جزء 1
-
تأملات في تقييم الحركة الأنصارية / جزء 2
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 16 / تأملات في تقييم الحر
...
المزيد.....
-
-كما لو كنت جالسا مع الطرف الآخر-.. أول اتصال هاتفي بالتقنيا
...
-
-كل مكان نذهب إليه نجده أسوأ من الذي قبله-
-
عائلة يزيدية في العراق تقاضي أم حذيفة أرملة أبو بكر البغدادي
...
-
ما الذي حدث لمشروع -جزر العالم- العملاق في دبي؟
-
شبكة -إن بي سي-: إدارة بايدن تدرس إبرام صفقة أحادية مع حماس
...
-
دراجون عراة يجوبون شوارع مكسيكو سيتي مطالبين بطرق آمنة
-
تنبيه هام من سفارة السعودية في مصر
-
الخارجية الروسية تعلن ضرورة تعديل ميزانية منظمة معاهدة الأمن
...
-
بسرب من المسيرات.. -حزب الله- يكشف تفاصيل هجوم شرق نهاريا (ف
...
-
بوتين: السجناء يجب أن يعيشوا في ظروف طبيعية
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|