أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد فيصل يغان - دور النموذج و الأسطورة في التاريخ















المزيد.....


دور النموذج و الأسطورة في التاريخ


محمد فيصل يغان

الحوار المتمدن-العدد: 3703 - 2012 / 4 / 20 - 01:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



مع كل المحاولات لعقلنة التاريخ و ترويضه, و تقديمه كمجال من مجالات النشاط الفكري الموزون, إلا أن الطبيعة الغامضة, الحميمية و الذاتية للتاريخ سرعان ما تطفو على السطح و تعيد نقل التاريخ من خانة العلم إلى خانة الإيمان, و سرعان ما يتحول الخطاب العقلاني إلى خطاب حدسي وجداني. فمن لغة في بداية أي بحث في التاريخ تهيمن عليها مفردات من مثل علم, قوانين, تغيير, تحكم, إدارة, إلى خطاب في المتن تهيمن عليه مفردات مختلفة تماما من مثل درس, حكمة, موعظة, سلف صالح, كرامة, سؤدد, تحفيز, احياء, عظمة, مشرٌف, مشرِق. هذه الطبيعة الحميمية و الذاتية المتأصلة في التاريخ و التراث, توحي للوهلة الأولى بأن إنشغالنا اللا محدود بهما ما هو إلا نرجسية متأصلة. و لكن و بنفس النظرة المحايدة, لا نجد مبررا للإفتنان بالذات. فالإنعكاس الذي يجب ان نراه ليس بذلك الجمال ألذي لا يخلو من مثالب و عيوب تميل النفس إلى دفعها للخلف و الإغلاق عليها في اللاوعي.
ما يشدنا إذن هو بالضرورة ليس صورة للحقيقة, بل متخيٌل مثالي لا يمت للواقع بصلة قوية و إنما ينتمي لعالم الخيالات المثالي الذي يخلقه الإنسان و يجعله موازيا للواقع. المتخيل المثالي أو السردية الكبرى أو الأسطورة المؤسِسة, كلها تسميات لشيء واحد, للقاعدة التاريخية التي نشيٌد عليها هويتنا المثالية. أما كيف نشيٌد هذه القاعدة, فمن خلال إستغلال القدرة المميزة للعقل البشري على التخيل و على خلق عالم موازي للواقع الطبيعي تشكله المثل و النماذج لتفسير هذا الواقع, و هي شِق من القدرة المزدوجة لهذا العقل, والتي يشكل الفكر الموزون شِقها الثاني. إذن فهذا المتخيٌل هو صنيعة العقل الحدسي أساسا و بغياب نسبي للفكر الموزون.
النماذج العقلية كمحاولة من العقل لتفسير الواقع عموماً تشترك مع الأساطير في جذورها, و النماذج بذلك تتحول إلى أساطير عند غياب التوظيف العلمي للفكر الموزون و سيادة الفكر الحدسي. و كذلك هي النماذج العقلية للتاريخ, تتحول هي أيضاً إلى أساطيرنتيجة لهذا الغياب للبحث العلمي في التاريخ و هيمنة الحدس و العاطفة التي تجيشها خصوصية و ذاتية التاريخ, خصوصاً في الظروف الإستثنائية للشعوب. و نلاحظ عمق الأسطرة للتاريخ و شدة التقديس له و هي تتزايد طرداً مع صعوبة و حساسية ظروف الواقع, و مع تأزم مسألة الهوية.
من النموذج إلى الأسطورة

نوضح تاليا كيف أن أصول الأسطورة عقلانية, و أنها في الأصل نموذج عقلي يتشكل خلال محاولة العقل سبر أغوار الواقع, كما نوضح كيفية تحول هذا النموذج العقلي إلى أسطورة لنتمكن تالياً من توظيف هذه الظاهرة لفهم موضوع التاريخ.
في مرحلة مبكرة من بدايات عملية البحث العقلي بموضوع ما, سواء كان جزءاً محددا من البيئة المحيطة أو البيئة ككل, يبدأ العقل في مستواه الأول بتلقي المعطيات الموضوعية المتعلقة بموضوع بحثه, ويبدأ بتفعيل ملَكَتَي التحليل والتجريد. يقود التحليل إلى تحديد العناصر الأولية المكونه للموضوع والعلاقات القائمة بين هذه العناصر بشكل تدريجي, مهيئا الأرضية والمادة الخام لملكة التجريد لإنتاج المفاهيم الأولية (الرموز) بصفتها انعكاسات أولية للموضوع في العقل.
بالتوازي مع عمليات تلقي المعطيات والتحليل والتجريد, يبدأ العقل بتفعيل ملكة التركيب في محاولة منه لنظم الانطباعات و المفاهيم الأولية المتشكلة ضمن نسق عقلي (نموذج) ذي مغزى. في هذا الخضم المتلاطم من العناصر والانطباعات الأولية, ينجح العقل في لحظة ما, هي لحظة الحدس, في تصور نسق للمفاهيم أولي, يشكل انعكاسا بدائيا للموضوع في العقل الباحث, ويتبدى هذا النسق كنقاط متباعدة تنقصها كثير من خطوط الوصل فيما بينها. أي من خلال الحدس تتحدد الأسس الأولية والرؤية الأولى للعقل, و هذه الرؤية-النموذج لا تاريخية كونها نتيجة لفعل التعالي, بمعنى أنها قائمة بذاتها في عالم المثل و هي تجاوز و مفارقة للواقع, أما التاريخي فهو الحوادث في العالم المادي التي تحدث و يمكن ان تُدرج في إطار النموذج و بمقتضياته. هذه اللاتاريخية هي الخاصية الأسطورية الاولى للنموذج و شرط داخلي لتحول النموذج إلى أسطورة سواء كان في العلوم الطبيعية او الإنسانية. تقول آرمسترونغ (كارين آرمسترونغ, تاريخ الأسطورة ) (.. إن الميثولوجيا, بصفتها صياغة فنية, قادرة على الإشارة إلى ما وراء التاريخ و إلى ما هو غير زمني في الوجود البشري, و تساعدنا في التعرف على ما وراء التدافع الفوضوي للأحداث العشوائية, وفي تبصر جوهر الحقيقة), و هذه هي ذات النظرة الأسطورية للتاريخ من أصحاب الفلسفات المثالية أمثال شبنغلر و توينبي, حيث يقول الأخير (توينبي، الفكر التاريخي عند الإغريق) (أما في المعنى الفلسفي، فإن الحضارات كانت، وما زالت، وسوف تظل متعاصرة الواحدة مع الأخرى) .
في إطار البحث العلمي, ومن خلال جدلية الرؤية – المنهج (العلمي), تتجدد المعطيات مع تفاعل العقل جدليا مع المحيط (فكر – عمل / نموذج - تجربة) وينتقل العقل إلى لحظة من الحدس أرقى من الأولى من خلال نقد النموذج القائم وإنتاج نموذج جديد متفوق, وهكذا تستمر عملية إنتاج المعرفة (العلمية) من خلال خلق النماذج ونقدها بالتجربة. وللتوضيح, فان العقل لا يقوم من خلال خلقه للنماذج النظامية (بإسقاط) النظام على الواقع, بل يقوم (بتقطير) ما اكتشفه من نظام في الواقع. إذن فالنموذج يتحدد أصلاً بالحدس (وهذا شرط داخلي للتحول إلى أسطورة), والأسطورة هي كذلك حدسية (.. لقد قدمت الأساطير تفاصيل, من حيث الشكل و الصياغة, عن الحقيقة التي يتحسسها الناس بحدسهم و غريزتهم) (كارين آرمسترونغ, تاريخ الأسطورة ) و ما يميز الأسطورة عن النموذج العلمي, أن الأخير هو رؤية أولية تتطور بجدلية الفكر والعمل, ما يترسب منها ويثبت يصبح بديهيات وما يتغير منها يكون مقدمات بمستوى الفرضية حتى تفعل التجربة فعلها فتؤكدها أو تعدلها أو تنفيها. حتى البديهيات في بعض المنعطفات التاريخية للمعرفة تصبح موضعا للشك وموضوعا للفحص, ويصبح تجاوزها شرطا ضروريا لاستمرار عملية إنتاج المعرفة, و كون البديهيات لها ما للأسطورة من سطوة و قدسية في العقل البشري, نجد التحفظ و العدائية من المحيط لأي محاولة تمس في البديهيات, فها هو غاليليو يعاني من مساسه بالبديهية التي أسسها النموذج البطليمي للنظام الشمسي من كون الأرض هي مركز هذا النظام و العدائية التي جوبه بها لقوله بمركزية الشمس و دوران الأرض. بالإجمال, فإنَّ عناصر المعرفة المشكلة للرؤية والمبدأ هي غير مكتملة, وتبقى حدسية مهما ارتقت واكتملت في سياق التفاعل الجدلي للفكر والعمل مع الواقع طالما أنَّ هناك دائماً لحظة معرفية أرقى منها. وهذه الحقيقة هي القوة الدافعة لتطور المعرفة العلمية , وهي خلف التوتر المستمر الذي يعيشه الباحث العلمي في مقابل الإطمئنان الذي ينعُم به المؤمن بالأسطورة.
بالمماثلة مع نموذج محمود أمين العالم لعقلانية إبن رشد (محمود أمين العالم, مواقف نقدية من التراث) و هذه العقلانية بالمناسبة هي أسطورة حسب تعريفنا, يمكن القول بأن النموذج هو فرضية أنطولوجية, مشتقة من المرجعية الإبستيمولوجية للباحث بهدف خدمة جانب عملي. و النماذج في معظمها (إن لم تكن كلها) قائمة على الإستنساخ, فالعقل يلجأ و من خلال آلية المماثلة و هي آلية الحدس الأولى إلى إستنساخ نموذج قائم على ظاهرة سابقة و توظيفه لفهم الظاهرة الجديدة, و هذه القابلية للإستنساخ هي خاصية أسطورية أخرى للنموذج و شرط آخر داخلي لتحول النموذج إلى أسطورة, و التي كذلك تفسر المدى الإيحائي للرمز و مرونة توظيفه. باستعارة نموذج الأسرة في اللاهوت مثلاً, يصبح الأب رمزاً للسلطة الإلهية و علاقته بالإبن رمزاً لعلاقته بالإنسان, و نظرية الخطيئة الأولى اللاهوتية ما هي بالواقع إلاٌ إستنساخ لهذا النموذج لعلاقة الأب الصارم مع الإبن العاق, و في العلوم الطبيعية نجد إستعارة نموذج كوبرنيكوس الفلكي لتفسير الظواهر المرتبطة بالذرة في نموذج بوهر, و بذلك يصبح المدار الدائري مثلاً رمزاً للإنتظام و النظام الطبيعي. هكذا نجد أن النسيج الداخلي للفرضية الأنطولوجية - النموذج يمكن أن يقوم على العلية أو الغائية, أو خليط من الإثنتين كما تقرره المرجعية الإبستمولوجية التي وفرت نموذجا مسبقاً للإستنساخ. وفي حالة البحث (العلمي), فإن التطبيق في الجانب العملي, أي التجربة, يجب أن يقدم تغذية راجعة للمستوى الإبيستيمولوجي و المستوى الأنطولوجي و بالتالي إعادة الكرٌة مرة وأخرى حتى تتم تلبية الحاجة العملية, أي تطابق التجربة مع النموذج ضمن المقياس العلمي المعتمد. أما إذا كانت الحاجة العملية هي تبرير وضع قائم, فيتحول الإبيستيمولوجي إلى ايديولوجي, و كما يقول عبد الإله بلقزيز بخصوص فكرة الحداثة (عبد الإله بلقزيز, العرب و الحداثة) (بدأت فكرة و انتهت إلى أيديولوجيا) و الأنطولوجي كذلك يتحول إلى أسطورة, و ممارسة التجربة إلى طقوسية سحرية (.. إن الميثولوجيا لا تنفك عادة عن ممارسة الطقوس) (تاريخ الأسطورة) و الطقوس ما هي إلا خروج من الواقع المادي و خلق لواقع وهمي يتطابق مع معطيات الأسطورة. و نتيجة هذا التحول, و القدسية التي يحظى بها النموذج المؤسطر بنصوصه و رموزه, تنتعش آليات التأويل و نظرياته لغاية الحفاظ على الأسطورة وتبريرها.
نلاحظ هنا تماثل آلية صنع النماذج كأداة للفهم, و اعتمادها على المعلومات المتوفرة حتى اللحظة للباحث, مع ما تقول به الفلسفات التأويلية عن عملية صنع الفرضية بغرض فهم الموضوع بناء على (التجربة المعاشة) للباحث, مع تعظيم المدارس التأويلية المثالية لدور الحدس على حساب الفكر الموزون كنتيجة طبيعية للمزاج المثالي, و نتيجة أيضاً لطبيعة العلوم الإنسانية بالذات ألتي هي خلفية فلاسفة التأويل (و مصدر النموذج المستنسخ), مع الفارق الكبير المتمثل بكون النموذج في حالة البحث العلمي هو فرضية قابلة للنقض و الإستبدال بنموذج جديد, في حين أن الفكر المقيد أيديولوجياً يقدس النموذج المؤسس و يلتف على فشل هذا النموذج من خلال إعادة تشكيل الواقع, هكذا نفهم تحول التأويل إلى أدة أيديولوجية لإعادة التشكيل (التزوير) هذه.
مع ما يثيره إعادة التأويل للأسطورة و عناصرها (نصوص و رموز) من صراعات بين أتباع الأيديولوجيا الواحدة, إلا ان النتيجة على المدى الطويل لا تتغير, فالثمرة كما يقال لا تسقط بعيداً عن الشجرة, و كذلك إعادة التأويل لن ينجح في تجاوز مصيدة النموذج الأصل و إنتفاء صلاحيته لتفسير الواقع الجديد و المتجدد أبداً.
بتحول النموذج إلى أسطورة, تكتسب الأسطورة وجوداً و حياة خاصة بها, و تصبح بنيتها الصورية و العلائقية الداخلية مصدراً للحقائق لا إنعكاساً لها, و يجهد المؤل في الخوض في التأويل كل مرة من زاوية جديدة أملاً بإستنطاق الأسطورة (أو النص أو الرمز) للوصول لتطابق مع الحقيقة التاريخية كما يراها. التأويل باختصار هو منهجية قائمة على المحتوى الأسطوري للنموذج الموروث (و الموروث عموماً) وتوظف هذه المنهجية بشكل رئيسي في خدمة الأيديولوجيات القائمة على الإيمان بأسطورية و لا تاريخية التاريخ نفسه (باعتباره نموذجاً), والتأويل هو محاولة تلفيقية لتوفيق تاريخية الأحداث مع لا تاريخية الأسطورة, و نؤكد هنا أن النصوص و الرموز هي من نسيج النماذج و ينطبق عليها ما أوردناه, و بالتالي فإن التقدم, بمعنى الإنتقال من وضع مغلق متناقض إلى وضع مفتوح على المستقبل و قادر على تفسير الواقع, يحتاج لا لإعادة تأويل ما مضى, بل تجاوز قدسية الأسطورة و إعادة تعريفها كنموذج عقلي مرحلي قابل للتجاوز من خلال النقد لا التأويل, أي النظر إلى الأسطورة على أنها نموذج عقلاني تاريخي يعكس و اقعاً ثقافياً معيناً أنشأهُ العقل البشري لتوصيف و فهم الواقع كما ترائى له في تلك اللحظة التاريخية بالذات و من ثم و لاحقاً لعملية النقد, خلق نماذج/نصوص جديدة, و نتيجة لهذه العملية المتواصلة, يتحول الجزء المتجاوَز من المعطى الأسطوري إلى تراث و من ثم إلى فولكلور. الفقرة الأخيرة هي تلخيص لكل حركة تنويرية نهضوية, تماماً كما حصل في عهد التنوير الأوروبي مثلا, فقد تم إثبات عدم صلاحية النموذج الكنسي و اللاهوتي و تحويله إلى فولكلور, و من ثم توجه المفكرون الأوروبيون إلى إنتاج نماذج و نصوص و رموز عقلانية مؤسِسة جديدة و التي تحولت بدورها إلى تراث و لاحقاً إلى فولكلور (الحداثة مثلاً).
بالنتيجة, فإن تحول النموذج إلى أسطورة هو متطلب أيديولوجي يتم تحقيقه من خلال تسخير الشروط الداخلية للأسطرة المتوافرة أصلاً في النموذج و توفير الشروط الخارجية للأسطرة من سعة إنتشار و انغراس و تعظيم لسلطتة المرجعية (أي النموذج) في الأذهان, و هذا يقودنا إلى أمكانية تعريف الأيديولوجيا بكونها النسخة الشعبية لفلسفة و فكر ما, و تأثير هذه الفلسفة لا يصبح حاسماً في حياة الشعوب إلا بعد ان تترشح أيديولوجيا العامة من فلسفة الخاصة. من ناحية أخرى و كما أوضحنا سابقاً, فإن تجاوز النموذج وخلق نموذج جديد هو متطلب علمي, و من هنا المصادمات الدورية للعلم مع الأيديولوجيات السائدة ومع التراث.
من عصر التنوير الأوروبي نجد مثلاً في العلوم الطبيعية, أن نموذج/أسطورة الخلق التوراتي قد حل مكانه النموذج التطوري لدارون, و النموذج/الأسطورة البطليمي للفلك ترك مكانه لنموذج كوبرنيكوس مع ما رافق هذا التجاوز من صدام مع الأيديولوجيا السائدة, بالمقابل و في إطار العلوم الإنسانية, نجد أن كثيراً من النماذج قد تحولت إلى أساطير مؤسِسة لمدارس فكرية مغلقة, فنموذج فرويد والمستنسخ من معطيات حياة و تجربة فرويد الشخصية, و(الذي لا يصلح إلاٌ لمعالجة فرويد نفسه) قد تحول إلى اسطورة مؤسِسة لمدرسة في التحليل النفسي لأجيال متعاقبة, و كأي أسطورة, فقد حققت الشروط الداخلية و الخارجية (التزمت الفكتوري و يهودية فرويد) الضرورية لتشكلها و بقائها, و في السنوات الأخيرة و نتيجة للعمل العلمي النقدي, تحولت إلى تراث و ربما في نظر البعض من المتخصصين إلى فولكلور .
الأسطورة كنموذج و نص و رمز مقدسة, فهي بمفارقتها للواقع أصبحت من المطلق و عنه, فإذا كان المطلق إلهاً, كان النموذج وصفاً لدوره وعلاقته بالوجود, و كان النص كلامه المباشر أو موحاً منه, و كذلك الرموز هي تجليات لإرادته. و تتباين اهمية المطلق و مدى سلطته من الإله إلى النبي إلى الزعيم و البطل القومي إلى مفكر إستكملت نماذجه الفكرية شروط الأسطرة.
الأسطورة إذن لا تقتصر على المرحلة البدائية للحضارة الإنسانية, فهي موجودة كامنة في النماذج التي نتصورها لتفسير الواقع, و يتم إنتاجها إلى يومنا هذا بالآلية المذكورة أعلاه, و اختلاف البنية والشكل لأسطورة اليوم عن الأساطير القديمة من مثل استبدال الرموز الإلهيه في الأساطير القديمة برموز اكثر بشرية (في مجال التاريخ) أو برموز اكثر مادية (في مجال العلوم الطبيعية) في الأساطير اللاحقة (استبدال العناية الإلهية المسيرة للتاريخ بالعقل الكلي أو الروح مثلاً) لا يجوز أن يخفي المضمون المشترك فيها.
بالنتيجة, إذا كانت الأسطورة في فجر الحضارة قد تشكلت من نموذج الإنسان البدائي المفترض لتفسير و فهم العالم و مكانته فيه, أي النموذج الذي يعرف به هويته الإنسانية, فهي اليوم ومع تشكل الوعي التاريخي لدى الإنسان, أصبحت تعبيراً عن الوحدة الشاملة بين الإنسان و العالم و التاريخ, وإطاراً تعريفياً لهويته الحضارية. و من جانب آخر, و مع تطور الوعي العلمي, إنحسر الطابع الأسطوري للنماذج لصالح الطابع العلمي من خلال عملية أشبه ما تكون (بطرد الأرواح).
في النموذج و كقاعدة عامة, يتوارى المحرك ذو الطابع المطلق (القوى الغيبية اوالإله الوثني, القوى الفيزيائية) خلف الشيئ المادي (الظاهرة الطبيعية من خصب أو رياح أو برق, الأجسام المادية المتحركة و المتفاعلة) و يمنحه قدسية. في التوجه نحو الأسطرة, يتم تعميق المفارقة ما بين المطلق و المقدس و يُعزى الفعل للمطلق و رد الفعل للمقدس. فالرياح و الأمطار التي تحملها مقدسة كونها تجلياً لفعل الإله بعل, و المواسم الزراعية مقدسة كونها تمثل تجلياً لفعل الألهة ديميتر. أما الطابع العلمي و( طرد الأرواح) الذي يمارسه العلم فيتجلى بتشييئ المطلق و استبدال (و استبعاد) الإله بعل مثلاً بعوامل المناخ من حرارة و ضغط إلخ, و بالتالي نزع صفة القداسة عن ظاهرة الرياح و المطر. و في التاريخ, يتم استبدال القوى الغيبية بقوى أكثر إنسانية مثل النشاط الإقتصادي و الفكري البشري, و التي و إن كانت أكثر مادية من سابقتها إلا أنها ما زالت عُرضة للأسطرة خدمة لأيديولوجيا قائمة. نجد أن نفس الآلية مطبقة في العلوم الطبيعية حيث تتم عملية طرد الأرواح و تشييئ القوى. في بدايات الفكر الفيزيائي مثلاً, كانت حركة الجسم المنتظمة على سرعة ثابتة تُعزى لتأثير قوة ما, و لاحقاً تم فصل تأثير القوة هذا عن الحركة و تشييئها من خلال نسبتها إلى الجسم ذاته (العطالة) و اقتصار القوة على حالة التسارع, وفي نموذج هيغل للتاريخ أيضاً حل المطلق (العقل الكوني) المفارق القائم في اللامكان خارج الكون المادي, حل في الكون المادي ذاته والكون الروحي التاريخي و في حيثياته, و أصبح تطور التاريخ و الكون (حركتهما) نتيجة هذا العقل –العطالة. و في الفيزياء تم تشييئ القوى بافتراض جزيئات ممثلة لهذه القوى (الغرافيتون في نظرية الكم أو بوزون هيغز في النظرية القياسية) كخطوة نحو إسقاط الطابع السحري و الغامض عن القوى الفاعلة.
كون العلم لا يثبت عدم وجود المطلق, بل يثبت عدم صلاحية النموذج القائم على هذا المطلق لتفسير الظواهر, فإن العديد من النماذج القديمة و عناصرها المطلقة تستمر في الوجود خارج دائرة العلم ولكن في دائرة الإيمان. فالعلم كان قد أثبت مثلاً عدم صلاحية نموذج الأثير لتفسير ظاهرة إنتقال الضوء ولكنه لم يثبت عدم وجود هذا الأثير, و بالتالي ما زال العديد من الفيزيائيين يؤمن بفكرة الأثير ويجهدون لإستنباط نموذج أثيري قابل لتفسير الظاهرة الضوئية.
بالنتيجة, كلما تعمقت المفارقة ما بين المطلق و المقدس, كلما تعمقت الطبيعة الأسطورية للنموذج و الطابع السحري و الطقوسي للجانب التجريبي, و بعد ما تترسخ الاسطورة, و كما يقول يونغ, (تأخذ مكانها فى تركيبة عقلية محددة، وبناء على ذلك فأنه، فى النهاية، سوف تتجلى الأسطورة أكثر اتساقا من التاريخ)



#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مبدأ العلية
- في الفن
- في مبادئ العقل
- في مفهوم الملكية
- جدلية العقل و الوحي


المزيد.....




- السعودية.. ظهور معتمر -عملاق- في الحرم المكي يشعل تفاعلا
- على الخريطة.. دول ستصوم 30 يوما في رمضان وأخرى 29 قبل عيد ال ...
- -آخر نكتة-.. علاء مبارك يعلق على تبني وقف إطلاق النار بغزة ف ...
- مقتل وإصابة مدنيين وعسكريين بقصف إسرائيلي على ريف حلب شمال غ ...
- ما هي الآثار الجانبية للموز؟
- عارض مفاجئ قد يكون علامة مبكرة على الإصابة بالخرف
- ما الذي يمكن أن تفعله درجة واحدة من الاحترار؟
- باحث سياسي يوضح موقف موسكو من الحوار مع الولايات المتحدة بشأ ...
- محتجون يقاطعون بايدن: -يداك ملطختان بالدماء- (فيديو)
- الجيش البريطاني يطلق لحى عسكرييه بعد قرن من حظرها


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد فيصل يغان - دور النموذج و الأسطورة في التاريخ