أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلام حمدان - فليتسيا لانغر..ذكريات خاصة














المزيد.....

فليتسيا لانغر..ذكريات خاصة


سلام حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3659 - 2012 / 3 / 6 - 12:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    



أقلام حرة
عرفتها حين كنت طفلة صغيرة في منتصف السبعينيات، عندما كنت أذهب لزيارتها، في مكتبها في القدس الغربية، برفقة أمي وأختي المريضة. ذكرياتي حولها غائمة بعض الشيء، حيث كنت لا اتجاوز الخامسة او السادسة من عمري، بيد اني لا أزال أذكر بوضوح وجهها المرح واللون الزهري الفاقع على شفتيها الذي كان يجذب انتباهي في تناقضه الملفت مع بشرتها الشقراء التي لوّحتها شمس البحر على مهل ومع شعرها العسلي الموّشح بخيوط فضية. كانت فليتسيا لانغر تستّل زهري الشفاه من حقيبتها، وترسم به على شفتّي مداعبة، لتتخلص من تحديقي المفتون بوجهها، بداية، ثم لتصبح عادة وتواطؤ خاص وحميمي بيننا، لاحقا.
حين ضربت اسرائيل الجبهة الوطنية، في منتصف السبعينيات، بيد من حديد، اعتقل والدي من بين المئات وأودع السجن الاداري لستة شهور، وليتم تجديدها دواليك. هكذا ودون أي محاكمات قد يقضي السجين السياسي الفلسطيني سنوات عديدة وطويلة في الانتظار، لا يعرف متى يخرج وان كان سيفعل أبدا! وفي كل مرة يتجشأ الحاكم العسكري فيها كلمة "تمديد"يتلقاها السجين، الذي لا يمتلك حقوق الدفاع، كما لو كانت حكما مؤبدا.
كان والدي يقبع في سجن الخليل، في حين كان خالي يرزح بدوره تحت وطاة السجن الاداري في رام الله. قضى الاول عامين وقضى الثاني أربعة اعوام، مع زمن دائري كمشنقة . وكنا ثلاثتنا: أمي وأنا ، وأختي على كرسي من عجلات، نتنّقل بين السجنيّن، جنوبا وشمالا، واما الوقت ما بينهما فكنا نعّرج به على مكتب فليتسيا في القدس.
فليتسيا كانت تؤّمن لنا زيارات خاصة داخل السجن، نظرا لوضع اختي المتدهور، والتي أوجزت تقارير مستشفى هداسا حالتها بالاحتضار. كان لنا ان نمد ايدينا مباشرة الى وجه والدنا، بعد ان كنا نمد له اصابعنا الصغيرة عبر شبك ثقيل، مجدول بخشونة، ليقبّل أطرافها سريعا. وكان لنا ان نجلس في حجره ونشم رائحته، وقد كان ذلك امتيازا كبيرا وفرّته لنا فليتسيا، زهرية الشفاه والقلب.
في احدى الزيارات الخاصة، حين كنا نجالس أبي براحة، في مكتب مدير السجن في الخليل، راح الأخير ينبش في كيس الصوف، المعتاد، الذي كانت تجلبه امي في كل زيارة، لوالدي ولرفاقه في غرفة السجن، ليجد هذه المرة منشورا للحزب الشيوعي الأردني. انتهت الزيارة على عجل ولوّح الضابط قبضته بغضب في وجه أمي. صرخ بالكثير الذي لم افهمه، مهددا ومتوعدا، ثم هدأ فجاة وقال بما يشبه الهمس "كيف تجازفين بغباء ومعك هذه الطفلة المحتضرة؟"
حين ركبنا سيارة الاجرة طلبت امي من السائق ان يتوّجه مباشرة الى القدس الغربية بدلا من بيتنا. "سنذهب الى فليتسيا وسيكون كل شيء بخير" تمتمت امي. فليتسيا المنقذة. هكذا كنت أراها آنذاك.
بعد ان تداولت فليتسيا مع امي في غرفة مغلقة، ما بدا لي وقتا طويلا جدا، وقد تركتانا بعهدة موشيه (أحد مساعديها) الذي راح يقلد لنا أصوات الحيوانات، ويذهب الى أقصى حدود التهريج حين تنتاب أختي بوادر نوبة ألم، عادت فليتسيا وقرفصت قرب كرسي العجلات وقالت لي ولأختي أن الجنود الذين انتزعوا والدنا قبل عام من فراشه قد يعودون الليلة من أجل أمنا، وكل ما علينا ان نفعله هو ان نتشبث بها ونطالب بالذهاب معها ولا نتركها مهما حصل، واضافت بان علينا ان لا نقلق وانها ستاتي لأجلنا جميعا بالسرعة الممكنة. ولا أعرف لماذا كان يهيأ لي أن أولئك الجنود يخشون فليتسيا فعلا، وانها قادرة على خلق حلول وتهوين الصعاب. لم ننم تلك الليلة بانتظار القرع العنيف على بابنا، في حين كنت اتساءل بعقلي الطفولي "هل سيأخذوننا الى غرفة ابي في الخليل ام الى غرفة خالي في رام الله؟" وكنت اتوق الى كليهما.
لم يات الجنود ولم ينتزعوا امي. حّلت الرحمة في قلب الضابط الذي قبض على منشور الحزب المدسوس في صوف السجناء، ورأى أن ما حلّ بنا من مصائب يكفي.
تدهوّر حال أختي سريعا، وقامت فليتسيا "المنقذة" بجلب خالي، هذه المرة، لزيارتها في البيت، قبل رحيلها بأيام قليلة. بات شارعنا ثكنة عسكرية، وانتشر الجند في كل مكان. وكان على الخال المحب أن يصوغ كلمات خطاب وداعه على عجل، مدركا انه يراها للمرة الأخيرة، ليعود بعد دقائق قليلة الى سجنه الاداري، حيث مشنقة الانتظار الكئيب.
نظمت فليتسيا حملة عالمية، وصلت الى مجلس الشيوخ الامريكي، لاخراج أبي من السجن قبل وفاة اختي بوقت قليل، وتكللت حملتها بالنجاح. خرج والدي من زنزانة الانتظار لتقضي أختي مباشرة بين يديه.
وانتقلت فليتسيا الى قضية أخرى، بل قضايا أخر لسجناء فلسطينيين ينتظرون على حافة الوقت، الى زمن غير معلوم، لا لذنب سوى حب الوطن.
عانت الكثير، كما كانت تشكو لأمي، من مجتمع عنصري حولها ، كان يجدها خائنة تدافع بلا هوادة عن "قبضة من المخربين"! كان جيرانها يرشقون بيتها بالحجارة، ويلقون بنفاياتهم على عتبة بابها. لم تحتمل فليتسيا طويلا، وغادرت البلاد الى المانيا، ليس لما كان يفعله جيرانها العنصريون فقط، بل لأن قلبها الزهري لم يحتمل حلكة سواد العنصرية التي تلّف أرض الميعاد، التي هربت اليها مع ذويها، بعد النجاة من اتون محرقة النازية!



#سلام_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نورمان فينكلستاين، ليس متضامنا فحسب!
- مصر التي في خاطري
- كلام لا يسقط في الهواء!
- ما الذي يعيق تطورنا الاجتماعي في فلسطين؟
- وقفة مراجعة حول-المجتمع المدني- الفلسطيني


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلام حمدان - فليتسيا لانغر..ذكريات خاصة