أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل الشبيبي - من أشكال التجريب في السرد الروائي العراقي















المزيد.....


من أشكال التجريب في السرد الروائي العراقي


جميل الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3654 - 2012 / 3 / 1 - 09:21
المحور: الادب والفن
    


انطباع أولي
لابد لي قبل الدخول في القراءة التفصيلية لهذه الرواية المهمة تأكيد انطباع أولي يتجاوز كل الخطط والقراءات النقدية التي أحاول من خلالها الدخول إلى هذه الرواية الكبيرة . وهذا الانطباع يتركز على قوة التأثير الذي تمارسه الجمل السردية –المشهدية على قارئها فتثير انطباعا لديه أساسه الصدق الفني الكبير في سرد الإحداث وقوة وقعها وتأثيرها على كل الذوات المرهفة التي صورها الروائي بعفوية بالغة :فرجين الجميلة وباهرة المبتلاة بنتائج الحرب وزينة التي تطاردها الكلاب الآدمية في كل لحظة من لحظات حياتها وفضة وهي تواجه عالمها المضغوط وسط أدوات الزينة واكسسواراتها لاحتمال حياة ضامرة بسبب زوجها العاقر الدميم إضافة إلى صاحب اليد المقطوعة الذي يمثل الوعي الحاد بمجريات الحرب ونتائجها عليه وعلى مواطنيه كل هذا يجبر الناقد على التأمل في قراءته وكيف أنها ستكون قاصرة وضعيفة أن لم تستطع أن تجسد هذا الصخب المتواري خلف السطور وذلك الغضب العارم على من سبب الحرب وحوّل عدن من جنة إلى جحيم .
ورواية ( عدن الخاوية ) رواية حرب بامتياز ، وهي تتجاوز العديد من الروايات العراقية التي تناولت الحرب العراقية – الإيرانية ،وأسست عالمها على مجريات الحرب أو أجزاء خاصة منها ، إضافة إلى ميل واضح باتجاه تمجيد الحرب باستثناء روايات معدودة رصدت الانعكاسات الخطيرة للحرب على الذات العراقية ، في حين ترسم هذه الرواية عالم الحرب باختصار وتركيز شديدين من خلال اكتناز الجملة المشهدية-السردية بالعديد من المشاهد على شكل بانوراما متحركة تبدأ من نهاية الحرب – الهدنة عام 1988- وصولا إلى أعماق تحولاتها وإفرازاتها المهلكة على الشخصية العراقية في ميادين الحرب وفي المدينة . وقد حافظ الروائي فاروق السامر على حرارة الأحداث وكأنها تحدث أثناء حركة السرد بعد أن قام بمنتجة قاسية وكبيرة للأحداث التفصيلية التي نجد لها صدى واضحا في الجمل والمشاهد السردية التي شحنت بطاقة كبيرة من الحركة والتغيير في المكان والزمان عبر سياق سردي يحمل السطر الواحد منها أكثر من مشهد يتجسد أمامنا بأمكنة وأزمنة متنوعة .
إن الكتابة عن هذه الرواية الكبيرة التي استغرقت كتابتها أعواما عديدة منذ بدايات الحرب وحتى نهايتها وكأنها يوميات مركزة لكل الأحداث والانعطافات النوعية لهذه الحرب ، يحتاج إلى قراءة تفصيلية تتناول انجازات كاتبها في ما قدمه من جهد متميز في هذا العمل الروائي الكبير الذي يمثل شهادة صادقة على السنوات العجاف التي تجرع مرارتها وخساراتها وانعطافاتها العراقيون الجنوبيون بشكل خاص .
بدءا من العنوان نلمح رؤيا كابوسيه وتشاؤمية يؤسسه عنوان الرواية قبل الدخول إلى عالمها المتشعب ، فعدن في التراث العربي الإسلامي جنة وارفة الظلال لا يدخلها إلا من امتلك مواصفات الإنسان الكامل ، وهي موصوفة في التراث الديني على أنها فردوس المتميزين من البشر ، غير أن العنوان يعطي انطباعا مخالفا أساسه أن عدن خاوية ، واختيار كلمة خاوية دون غيرها من الكلمات لها دلالات تشي بان لا أمل فيها لحياة طبيعية سعيدة ومترفة أما لماذا عدن خاوية فنجد الجواب على لسان السارد الواعي بمصيره ومصير الآخرين ذي الذراع المقطوعة الذي أدرك (بان كل شئ قائم في جميع الأحوال ولا سبيل إلى دفعه أو رده أو تصحيحه ، الموت قائم ،الخوف قائم ،الرعب قائم ،الآلام قائمة ،والحياة قائمة أيضا .لا جنة خاوية في هذه الحرب ، لا جنة خاوية في الجحيم إطلاقا ص225)
إن هذا التسليم بالقضاء والقدر عبر هذه الجمل الاسمية القارة يؤسس لوجهة نظر كابوسية تهتم بتأسيس مشاهد للرعب وانفراط الألفة والوحدة المخيفة ، التي تجسدت بشكل خاص بذلك الاحتماء في البيوت ، وعزوف الشخوص عن التواصل مع الآخرين سوى الأهل والأقارب المقربين ، وقد رسمت أجواء المدينة بغلاف من ضوء اصفر (يهيمن على المكان هيمنة مطلقة ويطلي سطوح الأشياء بنوره الكاسح ،كأن مئات المصابيح الخفية غير المرئية تساعد في خلق وولادة هذا الشعور المداهم .ص44)، وهيمنة اللون الأصفر في العديد من صفحات الرواية ، يمثل وحدة أساسية في تضافر العنوانات الفرعية لأجزاء الرواية باتجاه التماسك في البنية الروائية باتجاه عالمها الضاج بالمشاهد والشخوص والمصائر ، وانفتاح افقها بنفس الوقت على قراءات متعددة من أي عنوان من عناوينها .
اكتمال البنية الروائية وانفتاحها على تقنيات متنوعة
تنفتح رواية ( عدن الخاوية) على عالم الحرب ، وتسجل عبر افقها الدامي موقفا ضد الحرب ، بشكل مطلق ، عبر لوحة صادقة فنيا بمشاهد و مشاعر وأحاسيس ورهافة عالية وتعاطف كبير مع ضحايا هذه الحرب و اغلبهم من النساء كنماذج إنسانية تكشف مأساة هذه الحرب ووقع أحداثها الدامي على هذه النماذج والذوات ، وقد جرب الروائي فاروق السامر تقنيات مبتكرة لم تكن مستثمرة نسبة إلى تاريخ كتابة الرواية التي تأخر صدورها إلى عام 2010، وهي تقنيات منسجمة فنيا مع بنية تشكل الرواية وليست مفروضة عليها من خارجها فهي ضرورة فنية لتجلي أحداث هذه الرواية واكتمال بنيتها .ومن أهم هذه التقنيات
1- القصة القصيرة تقنية روائية :
تمثل القصة العراقية القصيرة منجزا متميزا في السرد العراقي والعربي القصير نسبة إلى الرواية ، وقد تفرد كتاب عديدون في هذا الانجاز منهم القاص والروائي فاروق السامر الذي حاز على جوائز عربية وعراقية في هذا المجال ، وقد وظف بعضهم تقنية القصة القصيرة في كتابة الرواية منهم القاص الرائد محمود عبد الوهاب في روايته(رغوة السحاب)بما يسمى بالرواية الإطارية التي يتشكل عالمها بمجموعة من الحكايات ،والروائي لؤي حمزة عباس في روايته(الفريسة)، وقد لاحظنا أيضا أن بعض الروايات قد وصفها كتابها على إنها قصص قصيرة ، في حين تثبت القراءة التفصيلية لها بأنها روايات إطارية ،تتكون فصولها من قصص قصيرة متضامنة في معناها ومبناها ، وقد قرأنا مجموعة (تيمور الحزين) للروائي احمد خلف على أنها رواية إطارية ،ويمكن عد مجموعة (رؤيا خريف)للقاص محمد خضير رواية بقصصها المتضامنة وهي تسرد تاريخ مدينة بصرياثا وحاضرها ومستقبلها،وبهذا المعنى نزعم أن الروائي فاروق السامر قد استثمر إمكانات القصة القصيرة كجنس أدبي وتوظيفه بشكل متقن ودقيق كتقنية روائية لبناء عالم روايته (عدن الخاوية)وقد وفر استثمار القصة القصيرة في هذه الرواية أفقا في الانفتاح على عالم أفقي واسع من الذوات التي اكتوت بنار الحرب ،وهي ذوات نسائية في معظمها وبنفس الوقت فأن،هذا الاستثمار قد عمق الإحساس بمأساة الحرب ووقعها على شخوص الرواية و باتجاه تعمق لوعة الذات وهي تحاور نفسها أو أمثالها كبناء عمودي يكثف الدلالات ،في أجواء الحرب الشرسة وشراسة وقعها على هذه الذوات البسيطة المعذبة .
وتظهر القصة القصيرة كتقنية فنية في بناء عالم رواية ( عدن الخاوية) ،من خلال العناوين ،التي تضمنت ست عشرة لوحة قصصية باستثناء الافتتاح ببانوراما الأشباح والنهاية المسماة (زحل) ،وهذه اللوحات القصيرة تتمتع بخصائص القصة القصيرة منها:الوحدة التي تعني ، فكرة واحدة وشخصية واحدة ،وحدثا واحدا ، والتكثيف ،والدراما التي تخلق الحيوية والديناميكية والحرارة في العمل، وهي تشكل وحدات مستقلة ،تنفتح على قراءة خارج الترتيب الطباعي للرواية –أي القراءة من أي مكان فيها- ،فتعطي انطباعا بالمأساة والمصائر المفجعة في كل عنوان من هذه العناوين بنفس الاتجاه والانطباعات التي تولدها القراءة الخطية للرواية من بدايتها إلى نهايتها ،وقد أسهمت هذه التقنية الفنية المبتكرة في كسر التوقع الذي تؤسسه الكتابة الروائية المألوفة ، باتجاه انفتاح القراءة على عناوين متنوعة وهي بنفس الوقت تعنى أيضا باكتمال البنية وانضباط تفاصيلها باتجاه العالم الداخلي للرواية ثم قدرة هذا الشكل في الانفتاح على دلالات توفرها القراءة التراتبية من البداية والنهاية ، وبهذا المعنى فأننا نعد رواية (عدن الخاوية)انجازا تجريبيا في الرواية العراقية ، وفي رواية الحرب بشكل خاص.
ومن الانجازات المهمة لاستثمار تقنية القصة القصيرة كتقنية روائية في هذه الرواية :
- قدرة هذه التقنية على إشاعة التزامن في بنية الزمن الروائي وإيقاف حركته على تفاصيل الأحداث التي تجري في يوم واحد وساعة واحدة بما يسمى بالمؤاقتة في بنية الزمن ،الأمر الذي أسهم في الانفتاح على عالم واسع لا يمكن للقصة القصيرة أن توفره لوحدها بل أن ذلك من أساسيات البنية الروائية ،وقد أصبح هذا النظام احد العناصر الأساسية في توظيف القصة القصيرة كتقنية روائية ، وواحد من براهينه المهمة في هذه الرواية .
ومن أمثلة التزامن في هذه الرواية توقف الزمن عند الساعة السادسة عصرا في كل اللوحات القصصية وإشاعة جو من الخوف والترقب الذي ينظمه ويهيمن عليه (اللون الأصفر)الذي يحيل إلى الموت وترقب الموت :
- (كان العصر يعلن أبدية هذه الساعة الصفراء ،الجامدة الساكنة ، المتحجرة ،المطلية بماء الذهب البراق...ص21-حراء الدامي)
(فرفعت بصرها نحو الساعة المثبتة على الجدار ذات الإطار الساجي والميناء المذهب ،فوجدتها عاطلة رغم أن عقاربها كانت تشير إلى السادسة كما هو الوقت بالفعل بيض من رمل37).
(كان الضوء الأصفر يهيمن على المكان هيمنة مطلقة ويطلي سطوح الأشياء بنوره الكاسح ، كأن مئات المصابيح الخفية غير المرئية تساعد في خلق وولادة هذا الشعور المداهم –العنزة الذبيحة ص44)
( كانت السماء صفراء بلون الذهب البراق يمتد من الأفق إلى الأفق على شكل عباءة واسعة مترامية الأطراف ص90)
(وقلب ناظريه في السماء المغاظة ،كانت ذهبية صفراء بلطخات داكنة ص101-102)
- الانفتاح على عالم مشخص وكثيف الدلالة لشخصيات نسويه على الأغلب تأثرت بأجواء الحرب بشكل مباشر مما شكل أزمة شخصية لها واثر في ديمومة حياتها واتضاح علاقاتها مع غيرها من الشخوص النسوية في هذه الرواية وانشغالها في نفس الآن في دفع ضرر الحرب على نفوسها الحساسة ويتضح ذلك بالعنوان الرئيسي لكل لوحة قصصية وهي تحكي مأساة حياتها أو حياة صديقة لها :
ففي قصة (بيض من رمل)تظهر باهرة (خائفة خوفا جارفا ، ومرتعبة ارتعابا مريعا،وقلقة قلقا لا يضارع ص31)وهي تنتظر قدوم صديقتها (زينة)التي ستجلب لها دواء يساعدها على إسقاط الجنين الذي تشبث في أحشائها في وقت غير ملائم ،وهي عندما تتذكر لحظة الإحساس بهذا الحمل تشعر (بهيام سحري جارف لحظة الفعل الخارق بلذته القصوى، بما يشبه الفرصة السريعة الملاطفة أو ضربة الدبوس المفاجئة ص35)لكن زوجها يرفض هذا الحمل رفضا قاطعا قائلا (إنها الحرب وإنجاب طفل وسط الآلام والفوضى والدمار غباء أنساني لا حدود له ص35)ثم يضيف بصوت خافت هادئ:(الرجال في الجبهات ولا يعرف ما الذي سيحل بهم وليس في المدن إلا سحالي الغرباء وأفاعيهم وعناكبهم وسوف يتقولون بأشياء كثيرة في المستقبل عن الذين سيولدون الآن .إنني أناشدك إرجاء هذا الأمر حتى تتوضح الأمور ص35-36)غير أن الأوان كان قد فات ، وهي تنتظر صديقتها (زينة) من اجل إسقاط هذا الجنين ومن اجل إدامة التزامن أو التواقت في هذه الرواية نلاحظ استعداد باهرة لذلك من خلال إعداد قالب (من الكيك المحلى بالسكر تحسبا لحضور (زينة)عصر هذا اليوم ، وقد نشرت بفوضى عارمة على مائدة الطعام بكراسيها الستة المدفوعة تحت جوانبها ، عدتها وموادها الكثيرة ص32)وبنفس هذا الوقت يرصد السارد العليم حركة (زينة)وهي تستعد للحضور إلى بيت صديقتها باهرة في قصة ( العنزة الذبيحة) (نضت عنها ثيابها ورمتها على السرير الفاره الموحش فتكشف لها جمالها على حقيقته صارخا،مضيئا ،متحررا،منتفضا وكانت موجات الضوء الأصفر الفائرة المنبعثة عبر سيم الشباك مقتحمة عري الغرفة ووحشتها قد زادتها لمعانا وإشراقا ، وجعلت جسدها المغري الناصع يغلي بالذهب المذاب المتقد ص47).
وهناك دلائل نصية ترفد تزامن الحضور بين شخوص القصة على الرغم من تحقق وجودهم في أماكن مختلفة ويظهر ذلك جليا من تواتر أسماء الشخوص في اللوحات القصصية في القصص الأخرى وبالشكل الذي يشي بالعلاقة الخاصة التي يوفرها المكان الواحد أو الذي يوفره نظام الصداقة بين الشخصيات وقد اتضح ذلك في أكثر من قصة في هذه الرواية ، فشخصية الرجل ذي الذراع المقطوعة او الرجل الشاحب ، او الرجل الشارد ترد في عدة قصص منها ظهوره في قصة (حمامة أم غراب):(واقتربت من السياج دون وعي وراحت تطلطل من وراء ثغرات عين البزون ، حابسة أنفاسها ، فاكتشفت أن الرجل الشارد قد غادر مكانه وما عاد يرى ص79)وفي صفحة 84(وطلطلت من جديد علها ترى (الرجل الحزين)مبتور الذراع ، لكنها لم تبصر سوى باب الحديد المنخب وصفار الدنيا من حولها )إضافة إلى وجود الشاحنة الصفراء ثلاثية الهيكل وبعجلات كثيرة وهي تغلق الدرب لنقل أغراض بيت (عرفات) إلى بغداد ص101) في عدة قصص كبرهان مضاف الى تقنية التزامن في هذه الرواية .
وإذا كانت هذه البراهين النصية تؤكد تضامن اللوحات القصصية مع بعضها وانعطاف أحداثها باتجاه البنية الداخلية لرواية (عدن الخاوية) ، فأن ذلك لا يمنع من التأمل في العالم الخاص الذي ترصده كل قصة قصيرة ،وما فيها من تنوع في وجهات النظر واللغة القصصية التي اغتنت بتفاصيل ثرة عن حياة النساء في هذه القصص وقدرة مؤلف الرواية ومعرفته التفصيلية بما يحيط ويؤثث العالم النسوي ،وفي هذا المجال سنكتفي بما شخصه الكاتب المبدع بنيان صالح حين لاحظ ذلك خلال الاحتفاء الذي أقامه اتحاد الأدباء في البصرة مع مجموعة من أدباء البصرة حين أكد على (وجود شخصيات نسائية برزت العمل وخرجت به عن إطار الحرب والدمار...السيدات في الرواية ، ست سيدات وخمس رجال هؤلاء هم اللاعبون الاساسيون في الرواية وابتداء نلاحظ إن للسيدات كانت أجمل الأسماء زينة درة فضة فرجين باهرة وأخيرا زحل وهذه إحدى الخواص الهامة لهذه الرواية. كما نلاحظ إن الكاتب كان من الإحاطة الشاملة بعوالم المرأة ضليعا بتقلباتها النفسية والعاطفية عارفا بملابسها الداخلية والخارجية وأقراطها وحليها وعطورها مما جعل كفة النسوة أثقل في الوجود واثبت تأثيرا من دمار الحرب وعذاباتها ، وحدهن السيدات كن فاعلات يمارسن ما يغري فاروق بمواصلة كتابة الرواية ومتابعة تحمل قراءتها بالنسبة لنا نحن القراء.)
2-استثمار تقنيات السينما
من التقنيات المهمة التي استثمرها الروائي فاروق السامر في روايته تقنية سينمائية – مشهدية في القسم الأول من الرواية الموسوم ببانوراما الأشباح أبدع فيها حين استدعى من عمق بدايات الحرب وصولا إلى الهدنة في نهاية الثمانينيات ،أحداثا وشخوصا مدماة تحمل جراحاتها في مشاهد بانورامية –كتلوية ،وهي تعبر ممرات الحرب والموت باتجاه حياة مجهولة ، وبنفس الوقت وعبر زمن اللحظة المشهدية هذه خطى خطوات حاسمة وبكثافة عالية نحو ساحات الحرب كاشفا أهوالها وتآمر آمريها على الجنود والمراتب ، وبهذا المعنى كثف الروائي عبر هذه التقنية أحداثا ومصائر متنوعة استمرت عشر سنوات بصفحات محدودة ، ونحن نلاحظ أن هذا التكثيف جاء ضاجا وعنيفا ، بعباراته النارية والوصف الأخاذ الذي جسد تلك المشاهد ، وقد استنفر الروائي جميع الصفات الدالة على الوحشية والهمجية والخسران وضخها في تفاصيل المشاهد الحية باستثمار تقنية المونتاج الكتابي والتكثيف العالي لإنارة فترة زمنية طويلة ، تعرضت فيها هذه الرواية إلى حذف العديد من أحداثها واستقرارها على الشكل الجديد والمؤثر .
ونلاحظ في بنية بانوراما الأشباح تجسدها في جمل اسمية ،تعنى أساسا برسم مشهد لكتلة من البشر تبدو ساكنة ولكنه يطلق حركتها حالما تظهر كصورة مرئية ، باستثمار أفعال مختبئة في الجمل الاسمية ،إضافة إلى استثمار الصفات ذات النبرة العالية في المعنى لشحن طاقة الجملة المشهدية بعنصر الانفعال والإحساس الحاد بما جرى في هذه الحرب :
(وبأعجوبة خارقة غامضة ،ظهر الجميع على الفور في المشهد:القادة والمخططون ،النواب والرؤساء،القضاة والعارفون،الشعراء والمفكرون،الفنانون والمغنون،ضاربو الطبل وعازفو الناي(.....)المغامرون والمهربون،الطلاب والمعلمون،البلهاء والمهتمون(....)كلهم ظهروا على الشاشة المرتجفة الراعشة ن بلحاهم النابتة ، وشواربهم المشوشة ،وهندامهم المبهدل،غارقين في خبر الهدنة تلفهم الحيرة والدهشة والاستغراب ،وهم يحدقون في الآفاق المعتمة المجهولة ص7).
ولا تتوقف الصورة على حاضر السرد (الهدنة)بل أن المشهد البانورامي يتحرك باتجاه الأيام التي سبقت الهدنة وهي تصور حالة المدينة أيام القصف المدفعي عليها :
(كانت المدينة قد ضربت من وراء الشط القريب بالقنابل والراجمات بضراوة لا حدود لها ،وطرقت طرقا متواصلا كطرق الحداد على الحديد (....)وكان بين هزة وهزة ،ورعدة ورعدة،يتهاوى سقف ضعيف او يتهافت سياج دائخ او تنهار ستارة ركيكة لأحد البيوت ،وقد جن جنون المدينة ،وجن جنون الناس في الصور التفصيلية اللاحقة وراحوا يفقدون الصبر والقوة ورباطة الجأش ص8).
وبنفس هذه التقنية ،تتوقف الصورة قليلا أمام عين المتلقي ثم تتحرك وتختفي فاسحة المجال إلى صور أخرى ، تشترك جميعها في بناء شريط سينمائي متحرك ببطء ،أساسه الجملة الاسمية المشهدية ،التي تعتني ببناء بانوراما مكثفة لما جرى للمدينة وما وقع عليها من أهوال ،من خلال التجسيد الصوري المقرب (اللقطات السينمائية الكبيرة) وبهذه التقنية استطاع الروائي فاروق السامر أن يحيط بمجريات زمن طويل من الحرب امتد عشر سنوات بتكثيف شديد ونبرة عالية من الإحساس بالمأساة .
3- تقنية اللوحة التشكيلية
ولم يكتف الروائي فاروق السامر بالتقنية التي تستفيد من منجزات السينما في بانوراما الأشباح في القسم الأول من الرواية بل استثمر تقنيات أخرى أهمها تقنية اللوحة والتأمل في تفاصيلها ونثرها على شكل حكايات دالة على مصائر إنسانية معذبة وطموحة للارتقاء إلى عالم عادل وقد وظف لذلك بعض اللوحات العالمية (لوحة المتقامران لسيزان –الصيد القبيح –آلكريفو-حقل القمح والغربان فان كوخ- مذبحة ساقز- دولاكروا )التي تستشرف واقعها لآفاق إنسانية واسعة وعمد إلى نثر أجزائها ، وتفسير محتواها بشكل يتلاءم مع وجهة نظر مجموعة الساردين في القصص القصيرة الموظفة توظيفا فنيا باتجاه بناء روائي متكامل ، وبالخصوص صاحب الذراع المقطوعة الذي يمثل وعيا متقدما بالحرب وماذا أفرزت وسحقت وأدمت ،وقد جاء الفصل الأخير على شكل محاورة بينه وبين (زحل)التي ظهرت على شكل فتاة رائعة الجمال تحاول استدعاءه إلى فضاء أرحب بعيدا عن منغصات الحياة التي يعيشها والمجاميع البشرية التي تحيط به .
وتتحقق هذه التقنية في توزيع مفردات اللوحة وألوانها على فضاء طباعي واسع مع إضافات إلى فضاء اللوحة ،تستفيد من فضاء الحلم في تغيير مفردات اللوحات الفنية من عالم الاغتراب والخوف والتهميش إلى فضاء التفاؤل وتجاوز الألم والخوف ، ففي اللوحة الأولى (المتقامران لسيزان)تنثر تفاصيل اللوحة بشكل رجلين (يجلسان إلى مائدة ضيقة في خمارة صاخبة ويتقامران ويكرعان النبيذ بشغف ص238) وفي اللوحة الثانية (الصيد القبيح ل ال كريفو )وعل جريح تهاجمه مجموعة من الكلاب وتحاصره بنادق الصيادين ،لكن وجهة نظر زحل تتوقف عند لوحة الفنان (دولاكروا- مذبحة ساقز)التي يستوحي الروائي فاروق السامر من فضائها الأصفر ذلك الجو المتزامن في لوحاته القصصية الذي اشرنا إليه ،فالدنيا في هذه اللوحة تبدو (صفراء بلون الخردل ، وكان روح الموت يصعد من ظلماته الباردة ليلامس بإطراف أصابعه المعقوفة أديم الأشياء والموجودات ص238) ،أما تفاصيل هذه اللوحة فيجسدها الروائي بالصوت والصورة والحركة حين نتحسس أنين الجرحى والمحتضرين ، العويل والدماء ،رجال ينزفون بغزارة (وهم يتكئون على أكتاف نسائهم )نساء متفاجئات من هول الصدمة ، طوابير عوجاء طويلة من الرجال يؤخذون إلى (حفر واسعة عميقة ويعدمون بالرصاص ) أجساد ممزقة ونازفة لنساء (وقد درج الأطفال نحو أثدائهن الميتة الباردة للارتواء وإطفاء الغليل)صبايا هائجات منتفضات ، ممزقات الثياب عاريات الصدور ص239).ونلاحظ في نثر أجزاء لوحة (مذبحة ساقز)تناصها بشكل خاص بالمأساة التي خلفتها الحرب العراقية –الإيرانية ، وهي تتعاضد مع بانوراما الأشباح التي تجسد بكثافة عالية وقائع الحرب الدامية على ذوات بريئة ومندهشة من هذا الدمار الذي أصابها ، ومن اجل كسر أفق وحشية الحرب والدمار الذي خلفته يعمد الروائي في الفصل الأخير من الرواية إلى (مسح تام) لأثارها بيد الكائن الأسطوري زحل ونثر تفاصيل تلك اللوحات في فضاء آخر خال من أدوات العسف ورجاله :(لم تكن ترضيها مجزرة الأبرياء التي تراها متجسدة أمامها بهذه الوحشية والهمجية والتطرف ، فتبدلت مشاعرها فجأة إلى نوع من الغضب والتوعد والثار ص240)فعمدت إلى :فك وثاق الفتيات المربوطات إلى قوائم الخيول والعجلات وأمرتهن بالإسراع بالهرب (وأخذت يد الطفل الراجفة المتشبثة وقربتها من ثدي أمه الناحل الذي طفح الآن بالحليب،وأفرغت قبضة ماء في فم الرجل الفاغر الذي كان يحتضر في حضن امرأته البائسة فاخذ يعود إلى الحياة ...ص240)وفي اللوحات الأخرى :حطمت كؤوس الشاربين ثم هشت على غيمة الغربان (المحومة فوق حقل القمح المذهب ، ففرت من أمامها مذعورة (...)وصفرت مصفقة بيديها نحو الكلاب الرقطاء التي تهاجم الوعل الجريح فريستها ، فاختفت هاربة مولية الإدبار نحو عمق الغابة وهي تعوي من الخوف ص240-241).
لقد استثمر الروائي فاروق السامر خياله الخصب في تفعيل تفاصيل اللوحات ،أولا بنثرها في فضاء الرواية مستعيضا عن اللون والصورة الدالة الجامدة ، بقوة الوصف المطعم بالصفات الدالة على الإحساس بالألم والغضب والتعاطف مع الضحايا فيها ،كما أضفى عليها حركة هي من أساسيات تحويل الصورة إلى سرد ، أما الإضافة المهمة الأخرى فهي تخريب جو الحرب في لوحة دولاكروا ومسح أثار الحرب عنها وإعادة الصفاء والألفة إليها ،وطرد الكلاب والغربان من اللوحتين الأخريين .
وإعادة تشكيل اللوحة بتفاصيل جديدة خالية من أدوات القتل والتعذيب هو ابتكار تقني يحسب كمنجز فني للروائي ،وهو بنفس الوقت تمثيل جمالي لوجهة نظر الروائي التي تدين الحرب وأهوالها ،وتكرس الانسجام والعلاقات المتآخية بين البشر.
---------------------------------
من بحوث المؤتمر التأسيسي الأول للرواية العراقية الذي انعقد في مدينة البصرة في 6 تشرين الأول 2011



#جميل_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في رواية مدينة الصور
- من بحوث المهرجان الثاني للشاعر كاميران موكري – السليمانية
- ذاكرة جيل الحرب تفتح نافذة على :
- الروائي إسماعيل فهد إسماعيل ونزعة التجديد في تقنيات السرد ال ...
- قراءة في ديوان اغاني موسم الجفاف
- مجازات وصور مبتكرة من عالم الطفولة
- موعد النار واسئلة الوجود المحيرة
- التطبيق على تقنية ( المشهد ) في القصة القصيرة /عربة تحرسها ا ...
- قراءة في قصيدة عاشقة الليل
- في جماليات النص الروائي


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل الشبيبي - من أشكال التجريب في السرد الروائي العراقي