أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سناء الموصلي - التعارض والاندماج بين التأثيرات الأوروبية والتراث الثقافي العراقي في الفنون التشكيلية العراقية بين 1930-1958















المزيد.....



التعارض والاندماج بين التأثيرات الأوروبية والتراث الثقافي العراقي في الفنون التشكيلية العراقية بين 1930-1958


سناء الموصلي

الحوار المتمدن-العدد: 1073 - 2005 / 1 / 9 - 09:46
المحور: الادب والفن
    


التعارض والاندماج بين التأثيرات الأوروبية والتراث الثقافي العراقي في الفنون التشكيلية العراقية بين 1930-1958. الجذور والمتطلبات الجديدة
بيّن الرعيل الأول من الفنانين (عبد القادر الرسام ومحمد صالح زكي وعاصم حافظ) الطريق الذي تبعه كثير أو قليل من الفنانين التشكيليين العراقيين في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين. وكان الكثير منهم ينتمون الى فكرة عكس المحيط الواقعي كما هو دون تغيير ولذلك شكل الفنانون الواقعيون أكبر مجموعة بين التشكيليين العراقيين. ورسم كثير منهم وجوه الأشخاص والمناظر الطبيعية والحوادث الاجتماعية. وتأثر كثير منهم بالمواضيع السياسية والاجتماعية. وجاءت موجة التطور الكبيرة الثانية في الثلاثينيات، فقد حط السياسي العربي البارز ساطع الحصري السوري الأصل رحاله في بغداد منفياً من الشام فأسس معهد الفنون الجميلة ومتحف الآثار فيها. وقد دعا الشباب المهتمين بالفن الى العمل مع المواضيع القديمة في الآثار العراقية وتطوير الاهتمام بالخلفية الثقافية الغنية للعراق. وحصل الحصري على لقب "المربي الكبير" في أوساط المثقفين العراقيين. ولكن السلطات البريطانية لم يعجبها نشاطه فأرغموه على الاستقالة من منصبه سنة 1941 وعينوا بدله العراقي سامي شوكت الممتثل لأوامرهم.
ولكن البذور الذي نثرها ساطع الحصري أعطت غلتها وساعدت على رفع الوعي الوطني والقومي. أن الاهتمام بالفن والثقافة العراقية والأجنبية استمر بالتزايد وأدى الى ازدهار الحياة الثقافية في العراق. وهذا ما أدى الى توسع نشاط اقامة المعارض الفنية، فنظمت كثير من المعارض الدائمة والمتجولة. وفي بداية الثلاثينيات سافرت أول دفعة من الشباب لدراسة الفن في أوروبا.
هذا وأقيمت عدة معارض زراعية– صناعية وفنية في الفترة 1936- 1939. ونظم معرض للفنان الانطباعي حافظ الدروبي سنة 1936 في بغداد. وفي سنة 1938 افتتح معرض للفنان سعاد سليم ضم لوحات زيتية وألوان مائية وكاريكاتورية. جذبت المعارض زوار كثيرون وأدت الى خلق جمهور يتابع الحركة الفنية في البلاد ويتمتع بذوق فني. كما قام المتحف الوطني بشراء وحماية كثير من الأعمال الفنية من الضياع والتلف.
وبعد عودة الفنانين من أوروبا حال انتهائهم من دراستهم الفنية هناك ومن بينهم تلامذة ساطع الحصري أسسوا معهد الفنون الجميلة في بغداد بتخصصين: الرسم والنحت. ولعب الفنانين البارزين جواد سليم وفائق حسن دوراً كبيراً في تكوين وترسيخ أساس فني وطني. وساهم فائق حسن بنشاط في تأسيس قسم الرسم في المعهد. ويعود له الفضل في تطوير وترسيخ دعائم الفن التشكيلي الحديث في العراق. وكان الفنان البارع – النحات والرسام والغرافيكي جواد سليم الذي عمل جنب إلى جنب مع فائق حسن أحد المبادرين لتأسيس قسم النحت في معهد الفنون الجميلة الذي ترأسه إلى آخر حياته سنة 1961. وكان جواد سليم أحد الذين عملوا بحماس من أجل تقدم الفن الوطني العراقي. واستخدم الاثنان قدراتهم وتأثيرهم لصياغة آراء وأفكار جيل الفنانين الشباب ورفع وعيهم واهتماماتهم تجاه تراثهم الثقافي.
تأثر العراق بالعواقب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية للحرب العالمية الثانية كونه جزءاً من الإمبراطورية البريطانية. ومن أجل تخفيف عبء هذه العواقب على كاهل الفنانين شعروا بالحاجة إلى توحيد أنفسهم ولذلك شكلوا أول جمعية لهم هي "جمعية أصدقاء الفن" في بغداد سنة 1941. ويكتب الفنان عيسى حنا ذكرياته في رسالة خاصة إلى مؤلف الكتاب بتاريخ 11 كانون الثاني(يناير) سنة 2002 من كندا: (موضوع جماعة أصدقاء الفن – بعد أن صار الفنانون يلتقون في المتحف "متحف الآثار القديمة" قال لي يوماً أكرم شكري لماذا لا نؤسس جمعية فنية أسوة بالعالم ومصر لها جمعية محبي الفن ونجعلها باسم أصدقاء الفن وعمل عريضة إلى وزارة الداخلية وكان يجب توقيع 3-5 أعضاء في الطلب للتأسيس فلم يقبل منهم أحد التوقيع خوفاً من المسؤولية عدا أكرم وأنا وصرنا محرجين، فرجونا أحد المصورين وهو كريم مجيد وكان مقدماً لبرامج الأطفال في الإذاعة وموظف في المتحف، فقبل أن يوقع معنا وتأسست الجمعية سنة 1941 بتوقيع أكرم شكري وعيسى حنا وكريم مجيد والوثيقة موجودة في وزارة الداخلية. أدخلنا في النظام الداخلي قبول المهندسين المعماريين والنحاتين والرسامين والخطاطين وأول من انتمى الجمعية هم: سعاد سليم وعبد الجبار محمود وعبد الكريم محمود وصبري الخطاط وعطا صبري وحافظ الدروبي وأكرم شكري وأنا من المؤسسين ومن المعماريين مدحت علي مظلوم وسعيد علي مظلوم وجعفر علاوي وناهدة الحيدري وعبد القادر الرسام ومحمد سليم ابو جواد ورشاد حاتم). وافتتحت جمعية أصدقاء أول معرض لها في 14 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1941. أظهر المعرض اتجاهات مختلفة في الفنون التشكيلية المعاصرة في العراق. وانعكس الانفجار في الحركة التشكيلية الأوروبية في القرن الماضي بشكل متأخر في العراق في الفترة 1940-1958. وانصب جل اهتمام التشكيليين العراقيين حول التجارب الانطباعية والانطباعية المتأخرة والتكعيبية في الفن. إن عملية تشرب وانعكاس الاتجاهات الأوروبية من القرن الماضي استمرت بالتطور في العراق في الأربعينات والخمسينات. وامتلأت الأعمال الفنية بمحاولات عديدة في الاتجاهات الفطرية والواقعية والانطباعية والتجريدية والانطباعية المتأخرة والسريالية واستعمال خصائلهما في الفن التشكيلي العراقي.
أجرى الناقد الفني العراقي أحمد حسين المقيم في الدنمارك بحث ممتع عن الفنانين البولنديين الذين قدموا إلى العراق مع الجيش البولندي المسمى ب"جيش كراجوفا" والذي أنزل في العراق خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1941. وكان من بينهم فنانين مشهورين هم يوسف جابسكي ويوسف جاريما. وعرف هذين الفنانين بسبب أعمالهم النشطة في الاعلام البولندي والانجليزي في بغداد ولقائآتهم في "مقهى البرازيلية" الواقعة في شارع الرشيد ببغداد مع الفنانين العراقيين. وكانوا قد أسسوا ورشة فنية في "عكد النصاري" المتفرع من شارع الرشيد في منطقة رأس القرية ببغداد. وكان لهم صلات مع المثقفين العراقيين وخاصة مع الفنان الراحل جواد سليم. وتكونت علاقة صداقة خاصة بين الفنان البولندي يوسف جابسكي وجواد سليم. ولم يكن يوسف جابسكي فنان فقط ولكن كان كاتباً وناقداً فنياً معروفاً. وأقام الفنانون البولنديون معرضاً فنياً في بغداد سنة 1943 ولكن مع ذلك لم تترك الصلات القريبة مع الفنانين البولنديين أثراً مهماً في الفن العراقي.
يكتب نزار سليم في كتابه الموسوم "الفن العراقي المعاصر- الكتاب الأول ، فن التصوير" مايلي: "وكان التقاء الفنانين العراقيين بزملائهم (ويقصد بهم البولنديين) الحسنة الوحيدة التي جادت بها الحرب على الحركة الفنية، إذ زاد هذا الاحتكاك من حماس الفنانين للعمل والبحث الدؤوب. وقد بالغ بعض النقاد فيما بعد في اعطاء أهمية لدور الفنانين البولنديين خلال هذه الفترة، وكأن تواجدهم هذا كان نقطة تحول في الفن العراقي المعاصر ما كانت لتحدث لولاهم. والحق أن وجود هؤلاء الفنانين لم يكن سوى عامل مساعد في العمل على ابراز ما كان يعتلج في نفوس الفنانين من تساؤلات. ورغم أن أسلوب البولنديين قد طغى في تلك الفترة على أعمال الفنانين حتى أن الاستاذ فائق حسن أدخل ذاك الاسلوب الانطباعي التنقيطي، أسلوب جورج سوراه (1888) وبول سي?ناك (1906) وغيرهم، في معهد الفنون الجميلة، إلاّ أن ذلك لم يكن إلاّ مؤشراً لروح التجربة والمغامرة الواعية في اقتحام الطريق التي كانت تحف بها المصاعب من كل جانب في عملهم الابداعي وتهيئة الجمهور للفهم والتذوق". وهنا لابد من الاشارة الى أن سوراه Georges Seurat (1859-1891) بدأ باستعمال هذا الاسلوب حينما كان عمره 29 سنة في حين أن سي?ناك Paul (1863-1935) Signac استخدم هذا الاسلوب في وقت متأخر حيث بلغ 43 عاماً.
وبذل الفنانين العراقيين جهداً كبيراً في نشر الثقافة الفنية وسط الناس ؛ في مجال تدريبهم على الرسم والتقنية الفنية. وأدى هذا إلى أن كثير من الفنانين المحترفين والهواة شاركوا في المعارض الفنية. ومن الجماعات الفنية التي تشكلت نتيجة لهذه المعارض كانت "جماعة الرواد" التي تأسست سنة 1950 في الأوساط الفنية وقادها الفنان الراحل فائق حسن. وكانت عقيدتهم فيما يخص الخطوط والألوان تتبع المذاهب الفطرية البدائية. وركز أعضاء الجمعية على الطبيعة العراقية والحياة في المدينة والريف. أن هوية جماعة الرواد تعبر عن انصهار العمل الفني في صميم الحياة الاجتماعية الانسانية اليومية والثقافية معاًن كما تركز على التداخل بينهما. ولقد استمر فائق حسن في تطوره البدائي ضمن الرواد في الخمسينات ولكن الرؤية العامة للجماعة لم تعد تعني بالاسلوب الانطباعي كالسابق، بل اصبحت تعني بجميع الأساليب التي انبثقت من مبدأ تحوير الشكل الخارجي للطبيعة المرسومة مثل مدرسة الوحشية والتعبيرية ولدرجة ما التكعيبية والتجريدية.
"لقد كان الشعور بعدم الاستقرار كالذي سببته الحرب العالمية الثانية قد أصاب العراق بعض الشيء. ومع أن ذلك القلق لم تسببه الحرب الفعلية بل علاقاتها، فالحرب لم تستمر على أرض العراق إلا لفترة قصيرة تقرب من الشهر، ولكن مع ذلك انعكس بلا شك على العمل الفني بل على الأسلوب الفني التشكيلي الذي أصبح هو الآخر أسلوباً مختزلاً لمشاعر الفنان ورهافة الإحساس باللون والخط والشكل، وانعكاسه على طبيعة العلاقات الانسانية وظروفها الاقتصادية والاجتماعية" كما يؤكد ذلك شاكر حسن آل سعيد في كتابه "فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق" الصادر في بغداد سنة 1983. أن تقبل الاسلوب الانطباعي وما بعده أصبح بمثابة انعكاس تلقائي للقلق وعدم الاستقرار الذي ألهب من الوعي الاجتماعي والوطني، بل وحتى من التباين في الحالتين الطبقية والاقتصادية أيضاً. واعتمد انتشار الوعي بهذه الأسلوب في الفنون التشكيلية العراقية على عوامل نفسية وحضارية كالانصراف إلى تأمل جمال الطبيعة في بيئة زراعية لم ترسخ جذورها الصناعية الحديثة بعد وذات مناخ شبه صحرواي يتأثر نوعاً ما بمناخ البحر الأبيض المتوسط. وكذلك مواصلة طليعة من الرسامين الشباب الذين لم يكملوا دراستهم في أوروبا بسبب الحرب الآنفة الذكر إكمال ثقافتهم الفنية المدرسية والحديثة. هذا بالإضافة إلى أن نظام الحكم الملكي القائم وقتذاك قد بدأ يهتم بالقيم الثقافية الديمقراطية كما هي موجودة في المجتمع الرأسمالي ومن ثم تشجيعه للثقافة الفنية بشكل عام. أن الأساليب الفنية المتبعة آنذاك كانت تعكس العلاقات بين التغيرات المادية من جهة والتغيرات الأيديولوجية من جهة أخرى. ومن هنا فإن الركون إلى الاستقرار النسبي في سنوات مابعد الحرب العالمية الثانية وما رافقه من اتساع الهوة في التناقض الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وتمزق الشعور الانساني بسبب الاستعمار. أدى كل ذلك إلى تغير جذري في العلاقات الانسانية.
أن الفترة الزمنية المحصورة بين 1945 وثورة 14 تموز 1958 كانت مسرحاً للصراع بين قوّتين: الأولى- الحكم الملكي القائم آنذاك وأسلوبه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والثانية- قوى المعارضة وأسلوبها الانساني الذي تبلور في اتحاد ثقافي واع جمع التيارين الاجتماعي- الحسي للاشتراكيين التقدميين؛ والتيار الحضاري الثقافي للقوميين والوطنيين. وكانت انتفاضة سنة 1948 ومعركة الجسر التي رمز لها بالإمرأة العراقية بهيجة التي استشهدت اثناء الانتفاضة وجعفر الجواهري الذي أبنه أخيه الشاعر المرحوم محمد مهدي الجواهري في قصيدة طويلة أضحت فيما بعد يتناولها الثوريون في العراق؛ كل هذا وحد قوى المعارضة ضد الحكم الملكي في ثورة تموز الذي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم. وازدادت حدة الصراع في هذه الفترة بين التقاليد الزائفة والقيم الجديدة الذي انعكس في بوضوح في الفن التشكيلي العراقي. فأصبحنا نجد تجدد الرغبة في مواصلة البحث عن أساليب تشكيلية جديدة تعقب الانطباعية وما بعدها. وبذلك بدأ العمل التشكيلي يتجه نحو الأكثر حداثة، بسبب أن الحرص على اكتشاف وسائل فنية جديدة ومعاصرة كانت تمثل الصيغ الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأكثر جدوى في تحقيق الملامح الحضارية والوطنية لثقافة الانسان العراقي.
فإذا كان من نتائج تأثير الحرب العالمية الثانية على الانسان أن عمقت شعوره بانسانيته بواسطة تعريفه على العالم أجمع من خلال متابعة أخبار الحرب في كل المعمورة وبذلك قد خرج من عزلته وتأثر بطبيعة العلاقات الإنتاجية-الاجتماعية التي خلفتها الحرب؛ فإن الفترة التي تلت الحرب نجحت في انتشار شعور الانسان بإنسانيته بواسطة تعرفه على نفسه بالدرجة الأولى ومن ثم على حضارته ومجتمعه ومحيطه.
جماعة الرواد:
إن ظهور جماعة الرواد سنة 1951 وعلى رأسها فائق حسن ومن ثم تطورها من مرحلتها الأولى في الأربعينات إلى مرحلة النضوج جاء تعبيراً عن موقف فني جديد اقترن بالدعوة إلى استخدام الأساليب الحديثة التي انتشرت في بداية ومنتصف القرن العشرين في أوروبا الغربية. وكانت هوية الرواد تعبر عن انصهار العمل الفني في صميم الحياة اليومية الاجتماعية والثقافية. استمر فائق حسن في تطوره البدائي ضمن الرواد في الخمسينات ولكن الرؤية العامة للجماعة لم تعد تعني بالأسلوب الانطباعي وحده ولكن صارت تعني بكل الأساليب التي انبثقت من مبدأ تغيير الشكل الخارجي للطبيعة المرسومة كمدرسة الأنبياء والوحشية والتعبيرية وبشكل ما التجريدية والتكعيبية. وعبرت معارضها عن هذا المبدأ حتى نجده في أعمال فائق حسن ومن ثم أصبحت تجربته الفنية طيلة الستينيات سلسلة من التجارب لتطبيق نظرته التبسيطية على عدد من الأساليب الحديثة. واستمرت هذه المرحلة حتى خروج فائق حسن من الجماعة في بداية الستينيات وانضمام فنانين جدد ذوي اتجاهات ووجهات نظر مختلفة. ترأس الجماعة بعد خروج فائق حسن منها إسماعيل الشيخلي التي أصبحت في عهده تتمتع بكيان جديد يختلف عن السابق وتنحو نحو التعبير عن حالة جديدة هي الاستقلال برؤية معاصرة، كما جاء في حوار مسجل بين شاكر حسن آل سعيد ونوري الرواي يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1980.
وكان الأساس الذي نشأت عليه جماعة الرواد في البداية هو بدائية الرؤية، وكما هو معروف فإن المدرسة التشكيلية الوحشية هي التي أكدت على ذلك. واتصفت هذه المدرسة بتهشيم اللون ومعاملة الخطوط في مجال التقنية. وبالنسبة للبدائيين العراقيين إذا أمكننا أن نقول ذلك من باب المجاز؛ فهي حالة جديدة وخاصة تكونت بسبب جهود وشخصية فائق حسن من جهة وظروف الحرب العالمية الثانية وحالة الاغتراب التي عايشها المثقف العراقي آنذاك من جهة أخرى. فقد طور فائق حسن أسلوبه في الخمسينات إلى أبعد من تجربته التعليمية كما يعتقد شاكر حسن آل سعيد "إذ أن منهجه في البحث الفني والذي ابتدأه حينما رسم الطبيعة في العراق بأسلوب رومانسي - واقعي على غرار كورو Corot سرعان ما تطور به الى الأسلوب الانطباعي وبالتالي الى الأسلوب الوحشي حيث صب اهتمامه على الخط واللون من أجل رصد ملامح الطبيعة في العراق". ولكن سرعان ما أخضع تقنيته الفنية وبتأثيرات من المدرسة التكعيبية إلى رؤيته الفطرية جاعلاً من الأشكال البشرية بسيطة إلى أقصى ما يمكن دون استخدام مبدأ ازدواجية الرؤية أو البعد الرابع، راصداً السمات الانسانية ومختزلاً صفاتها المتميزة الى أقصى درجة ممكنة.
أما ما يخص زيد صالح زكي، فإن تجربته الشخصية في الرؤية الفطرية للتشكيل منذ بداية الخمسينات وبعد رجوعه من بريطانيا انتهج دراسة فنية ذات طابع حر. واطلع على مختلف الأعمال الفنية التي عمقت من ثقافته الذاتية العصرية من خلال تعرفه على محمود صبري وفائق حسن. وكان قد تأثر بأسلوب المدرسة الوحشية بعد الانطباعية الذي أصبح فيما بعد أكثر عضواً في جماعة الرواد مهتماً ومتمرساً بها بعد فائق حسن. ولا يخفى تأثره بتعاليم وتجربة أبيه الفنان محمد صالح زكي في التشكيل، فقد كان نشطاً في تعلقه بالرؤية البدائية الجديدة التي كساها فائق حسن لباساً ثقافياً أكثر تعبيراً عن الثقافة الأوروبية منها عن الثقافة العثمانية المتأثرة بالغرب والتي كان أبوه متأثراً بها. ويعتبر زيد صالح زكي أكثر إدراكاً لمعنى الرؤية الفنية بعد فائق حسن من خلال تطبيقها على حياة جماعة الرواد البدائيين. فإذا كان فائق حسن يكتفي بأن يمنح المشاهد لأعماله التشكيلية شعوراً بالمادة والكتلة، فان زيد صالح يمنح المشاهد شعوراً بتفاعل الكتلة مع الفراغ الذي يحيطها. ومن هنا فإن بدائية زيد تظل أكثر اقتراباً من الثقافة الأكاديمية لجميع الأساليب التي درسها في حين بدائية فائق حسن أكثر اخضاعاً لها لمعرفته هو بالذات دونما تقييد إلا بما يحاول أن يبدعه من ثقافة أكاديمية خاصة به. وتبقى أعماله أعمالاً منهجية قياساً الى الدور الذي لعبته جماعة الرواد في فترتها البدائية أو فيما بعد بالنسبة لتقاليدها العريقة. فإذا كانت تجربة فائق حسن في الأربعينات تحمل طابع ثقافته الأكاديمية حينما كان يخضعها لحسه المحلي، فإن تجربة زيد صالح زكي كانت شاملة ومملوءة بالروح البدائية وتمتعت بأسلوب انساني انطباعي يستند على أسس علمية. وهذا ما يوضح لنا حجم اختباراته في الاسلوب والتقنية. ذلك أن أقصى ما توصل اليه في البحث خلال الخمسينات كان هو الرسم بأسلوب المدرسة الوحشية وبعض من تأثيرات ماتيس Matisse وتولوز لوتريك Toulouse Lautrecكي يستقر بعد ذلك على نوع من الانطباعية الفطرية نتيجة دراسة عميقة لطبيعة الضوء وعلاقة اللون بالشكل. في حين تمكن فائق حسن من مناقشة أسلوب ما بعد التكعيبي كي يستقر في نهاية المطاف على شكل من الأسلوب الأكاديمي الذي اختاره لنفسه والذي هو محصلة جمع جل مختلف تجاربه السابقة، كما يؤكد ذلك فائق حسن آل سعيد في كتابه الموسوم "فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق".
أما ما يتعلق باسماعيل الشيخلي فان فلسفة عمله قبل سفره الى باريس للدراسة كان ملخصها أنه يمكن الرسم بكافة الاساليب؛ ولكن يبقى أسلوباً واحداً هو الأكثر تعبيراً عن الذات، ألا وهو الأسلوب التوفيقي الذي يضمن له تحقيق الهدف في تطوير الذوق الفني التشكيلي عند الجمهور وممارسة التشكيل الحديث في نفس الوقت. وبعد عودة الشيخلي من فرنسا حيث درس في معهد البوزار، كان الرواد في أشد حماسهم للتجريد. وأضاف محمود صبري منذ سنة 1950 اعتقاده لتقاليد الرواد، يتلخص في أن دور الفنان أكثر من أن يعيش مغترباً في مجتمعه قانعاً بحياته في محيط عائلي مثقف على مستوىً جيد من الانسانية والوعي. إذ يجب عليه أن يخرج بتجاربه في التشكيل الى مجتمعه المدني الواسع في المدينة ولا يقتصر على رسم مجتمع الريف فقط. ونرى من كل هذا مساهمة محمود صبري واسماعيل الشيخلي في التعبير اجتماعياً من خلال تصوير الحياة اليومية العراقية قبل غيرهما من الفنانين التشكيليين، ضاربين بالحائط الرؤية البدائية لجماعتهم. وخير دليل على ذلك هو أعمالهما الفنية في بداية الخمسينات ونهاية الستينات.
وقد تركت الوحشية (Fauvism) انطباعاً قوياً على الفنانين العراقيين. ومن الجدير بالذكر أن الوحشيين استمد بدورهم الالهام من الفن الزخرفي الاسلامي والنقوش الاسلامية، إذ امتصوا وعالجوا مبادئ التشكيل الفني الاسلامي.واستلهموا بهجة المعالجات اللونية والتسطيحية في الفن الاسلامي. أن مأثرة وفضل الوحشيين تتلخص في أنهم نقلوا هذه المبادئ على مسرح الفن العالمي. أن هذه المبادئ الزخرفية أضحت بدورها قريبة من الذهنية الشرقية للفنانين العراقيين. وانطلاقاً من تاريخ التطور الثقافي للفنانين العراقيين كانت ذهنيتهم ميّالة لاستقبال هذه المبادئ، وغياب المقاييس الثلاثة للمكان. لقد استعار وتأثر الفنانين العراقيين من المدارس الفنية الأوروبية.
أن جمود وثبات الأشكال في المذهب التنقيطي والتنقيطية وعدم حركتها لم يلهم الفنانين العراقيين بشيء ما ولذلك لم يؤثر عليهم. كما أن مذهب (آرت نوفو) الذي حول أشكال العالم الخارجي الذي حولنا الى أشكال حلزونية لم يؤثرعليهم ولم يترك انطباع لديهم. أن المبادئ الفنية لهذه الحركات والمذاهب كانت غريبة على ذهنية الفنانين العراقيين المتشبعة بالذهنية والثقافة الفنية الاسلامية المحسوبة على المبادئ الرياضية وصورة الكون المتماثلة وتناسق الوجود.
أقيم أول معرض للرواد في بيت الدكتور خالد القصاب يوم 22 كانون الأول/ديسمبر سنة 1950 وقد ساهم فيه جواد سليم وزوجته لورنا سليم.
ويمكننا أن نلاحظ وضوح الرؤية الاجتماعية-الانسانية والبدائية في معارض الجماعة منذ البداية. ففي الوقت الذي استمر فيه زيد صالح زكي في أسلوبه الوحشي مستوحياً ديران Derain. A وماتيس Matisse. H ، كذلك فعل خالد القصاب، إذ رسم على طريقة Vlaminck M. ، في حين نرى أن محمود صبري ركز على رسم مواضيع إنسانية بأسلوب تعبيري يعكس فقر الطبقات المسحوقة اجتماعياً مثل جواد سليم في الأربعينات، آخذاً بنظر الاعتبار أكثر المشاهد الاجتماعية حزناً وبؤساً، فعلى سبيل المثال مشهد "المبغى العام". كما كان اسماعيل الشيخلي يحذو حذو فائق حسن في ملائمة التكعيبية لأهدافه الاجتماعية ومستلهماً التراث العراقي في الموضوع الشعبي والإيقاعية التكرارية معاً. ومع حلول سنة 1956 المفعمة بالأحداث السياسية والاقتصادية الساخنة كالاضرابات العمالية المطالبة بتشريع قوانين العمل ورفع الأجور وتحسين ظروف العمل والحياة الاجتماعية بالاضافة الى المظاهرات الجماهيرية بسبب العدوان الثلاثي على مصر حتى بدأت معالم الرؤية البدائية التي التزم بها فائق حسن بالانحسار أمام الزخم الجديد للمطاليب الاجتماعية بالتعبيرعنها كما فعل كل من محمود صبري المعروف بميوله الشيوعية واسماعيل الشيخلي.
كان المعرض السادس للرواد سنة 1956 انعكاساً لما بلغته الجماعة من مستوىً في دعواها الجديدة غير المعلن عنها. واستناداً الى المقال النقدي الذي كتبه سجاد الغازي حول المعرض والذي أشار اليه شاكر حسن آل سعيد في كتابه الموسوم "فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق" حيث يستطيع المرء أن يجد فيه وصفاً لأعمال عيسى حنا بميله نحو الصور الشخصية واهتمام سوزان الشيخلي بالمناظر الطبيعية التي تنبع من جوهر الحياة الشعبية والاجتماعية، وميل اسماعيل الشيخلي الى التكعيبية المدعمة بقوة التعبير ومن ثم ميل قتيبة الشيخ نوري الى البساطة والانطباعية في الاسلوب. أما مايخص زيد صالح زكي فانه يثني على قدراته الكبيرة في التقنية ونزعته البدائية التبسيطية كما يثني على براعة خالد القصاب في استخدام الفرشاة وكذلك على لوحات محمود صبري التي كانت ذات نبرة اجتماعية. أما أعمال فائق حسن فانها امتازت بمراعاة النواحي النفسية في التلوين والتعبير. أن مواضيع أعمال المعرض السادس للرواد تميزت برصد البيئة والطبيعة العراقية والمواضيع الانسانية-الاجتماعية. أما المواضيع التي انتابت فترة الستينات فقد جمعت مابين البيئة والمغزى الاجتماعي في آن واحد.
لم تستند جماعة الرواد على أساس نظري يعتمدون عليه في شرح وجهات نظرهم وتطوير أعمالهم. أن أرائهم كانت تبدو مجرد تعليقات على هامش جهودهم. ففي المقدمة التي كتبها اسماعيل الشيخلي لدليل المعرض السادس سنة 1958 يقول مايلي: "إذا أجاز أن ننسب للرواد بعض التقاليد الفنية، فانه من الواضح جداً أنهم عكسوا انتاجهم الفني الذي قدموه خلال هذه الفترة انعطافاً قوياً للتعبير عن محيطهم وارتباطاً وثيقاً بالتربة التي ترعرعوا فيها، وادراكاً عميقاً للعصر المضطرب الذي يعيشون فيه ....". كانوا يبحثون عن التعبير الحر لطبيعة الأرض والناس الذين يعيشون عليها. ويمكن اكتشاف وجهة نظر تتلخص في التأكيد علة ذاتية التعبير وحرية ابراز الانسان والطبيعة كظواهر مادية في عالمنا الذي نعيش فيه. لقد خلط الرواد ما بين النظرة الشخصية (الفردية) والنظرة الجماعية، وهذا ما شكل نقطة ضعفهم قياساً الى جماعة بغداد للفن الحديث التي تنظر للمسألة بالعكس. إذ لا يوجد خلل في التزام الفنان بوجهة نظر جماعية في حين يحتفظ بوجهة نظره الشخصية، فالنظرة الجماعية لا تلزم الفنان بأسلوب عام وإنما على الفنانين الاسترشاد بالخط العام للجماعة. لقد عملت جماعة بغداد للفن الحديث على التوصل الى طريقة عامة في إستيحاء التراث وإضفاء الطابع الوطني على الطريقة الحديثة، أما جماعة الرواد فلم تمتلك هدفاً من هذا النوع إلا في بداية طريقها، إذ حرص فائق حسن على أن يدمج ما بين الحياة الاجتماعية والعمل التشكيلي مضيفاً اليه روحاً بدائية. وقد تمادى أعضاء جماعة الرواد في شرح بدائيتهم بحيث قضوا على نظرتهم الجماعية، أي أنهم اكتشفوا لا يتمكنون من الوصول الى هدفهم الجديد بسبب نظرتهم الفكرية بسبب اعتقادهم أن وضوح النظرة الجماعية خطئاً كبيراً. أنهم يرون أن النظرة الجماعية هي بمثابة الفكرة السابقة التي تؤدي بالفنان الى محاولة تطبيقها في أعماله التشكيلية في حين أن العمل التشكيلي هو مجرد انعكاس لوجود مادي، معنى ذلك أن التشكيل كفكر يأتي بعد التطبيق وليس قبله.
أن النظرة الجماعية في الحقيقة هي التزام اجتماعي وثقافي تساعد الفنان التشكيلي في اصطفاء موقف معين بصدد مشكلة ما أو ظاهرة ما ولتكن فنية أو انسانية أو اجتماعية أو سياسية وهي لا تحدده برأي معين. ولذلك فان أي شكل من أشكال التجمع الفني التشكيلي هو بالأساس حضور اجتماعي وانساني. وهو بهذا الأمر فكرة تسبق العمل الفني التشكيلي وأكثر شمولية من الفنان نفسه، إذ تساعده في اكتشاف ذاته وشخصيته وهي لا تتمكن من فرض نظرتها عليه ولكنه يحتاج اليها في صهر أفكاره. فهي كالبودقة التي تنصهر فيها جميع الأفكار لتكون الأساس المادي التي تستند عليه الجماعة، ولكن يتمتع الفنان فيها بالاستقلال الذاتي في نهاية المطاف.
لقد لعبت جماعة الرواد دوراً مهماً في الحركة التشكيلية العراقية عبر مساهمتها الفعالة مع بقية الجماعات التي عاصرتها مثل جماعة بغداد للفن الحديث وجماعة الانطباعيين العراقيين في مجال التعبير عن ما يجري في المجتمع العراقي الذي كان هو محور كل الجماعات الفنية بالدرجة الأولى. ولقد قامت الجماعة بتأدية دورها الايجابي في الكشف عن ماهية البيئة العراقية ولولبها الأساس- الإنسان العراقي بكل ما يحلم به وبكل ما تمر به من محن سياسية واجتماعية واقتصادية.
أعضاء جماعة الرواد:
فائق حسن، زيد صالح زكي، اسماعيل الشيخلي،سوزان الشيخلي، كاظم حيدر، محمود صبري، خالد القصاب، عيس حنا، قحطان المدفعي، غالب ناهي، سعاد العطار، تركي عبد الأمير، حسن عبد علوان، سامي ابراهيم حقي، ماهود أحمد، فالنتينا أحمد، نعمت محمود أحمد، غازي السعودي.
جماعة بغداد للفن الحديث جماعة بغداد للفن الحديث
وكان النحات جواد سليم في الوقت نفسه غير راض من نفسه على أن يستلهم أفكاره من المثل العليا لجماعة الرواد فقط، لأن اهتمام جواد سليم بالفن كان في وقت مبكر نظراً لانحداره من عائلة فنية ودراسته للفن في باريس في الثلاثينات حينما كانت مثل الانطباعية المتأخرة منتشرة هناك وبعد ذلك في روما حيث درس فن النحت الكلاسيكي الإيطالي. ولكن الحرب العالمية الثانية اضطرته للرجوع إلى بغداد والعمل في متحف الآثار العراقي في تجديد الآثار القديمة. وهناك حصل على فرصة مناسبة بلمس الأشياء الأثرية القديمة من حضارة بلاد وادي الرافدين وتعرف عن قرب على المنقوشات والمنحوتات العراقية والعربية الموجودة في المتحف. أدى هذا إلى أن يربط جواد سليم في نهاية الأربعينيات الاتجاهات الرئيسة الثلاثة للفن العراقي المنحدرة من عناصر النحت الرافديني أولاً ومدرسة يحيى الواسطي للمنمنمات ثانياً والفن الشعبي العراقي ثالثاً ويعمل بنفسه في طرق جديدة. وانطوى سليم يعمل بنشاط في الحياة الثقافية، إذ أراد تجديد الفن العراقي بإعطائه نفحة جديدة من خلال اصالته ومصادره الرافدينية. وتنطوي فكرته على إحياء التراث الثقافي الوطني من العهود السومرية والبابلية والآشورية وكذلك المجتمع الإسلامي العراقي. وسافر بعد الحرب الى لندن حيث أصبح اهتمامه منصباً على ابداعات النحات الانجليزي المعروف هنري مور. وغالباً ما زار العراق في نفس الوقت وشارك بنشاط في الحياة الفنية هناك. وأسس في العام 1951 مع النحات محمد الحسني وشاكر حسن آل سعيد "جماعة بغداد للفن الحديث". أراد جواد سليم عند اختياره لكلمة بغداد كي تكون اسماً لجمعيته، هو التركيز على الدور القيادي الذي لعبته مدينة بغداد خلال مئات السنين في الثقافتين العربية والإسلامية. وقد دعمت أسرة سليم، أخوه نزار وأخته نزيهه وزوجته لورنا الفكرة وساهموا بنشاط في تنظيم وإقامة المعارض لجماعة بغداد للفن الحديث منذ البداية. أن مكانة الانسان في المجتمع العراقي الحديث والشخصيات ذات التاريخ الغني والخلفية الثقافية كانا محور الاهتمام الذي جمع الفنانين.

وفي المعرض الأول الذي أقامته الجماعة في متحف الأزياء القديمة ألقى شاكر حسن آل سعيد البيان الفني الأول للجماعة بعد محاضرة ارتجالية لجواد سليم حول ذوق الجمهور العراقي والفن التشكيلي وجهل 97% من الجمهور لعالم الفنان ويعجز عن قراءة الرموز التي يستعملها لايصال صوته الى العالم. كما أدان النقاد الفنيين والزمرة التي تدعي تذوقها للفن التشكيلي آنذاك والتي كانت تفرض ارادتها على الفنان بصورة عجيبة: (هؤلاء يريدونا أن نرسم تفاحة ونكتب تحتها «تفاحة» أو منظر الغروب على دجلة وتحته «الغروب»). وجاء في البيان: «وهكذا نعلن اليوم ميلاد مدرسة جديدة في فن التصوير، ستستمد أصولها من حضارة العصر الراهن بما تمخضت عنه من أساليب ومذاهب في الفن التشكيلي، ومن طابع الحضارة الشرقية الفذ، ولسوف نشيد بذلك ما انهار من صرح فن التصوير في العراق منذ مدرسة (يحيى الواسطي) أو مدرسة الرافدين في القرن الثالث عشر الميلادي، ولسوف نصل بذلك السلسلة التي انقطعت، منذ سقوط بغداد على أيدي المغول، عن بذلها من أجل حضارتنا ومن أجل الحضارة العالمية والتي تتعاون الشعوب لانمائها.
وليكن رائدنا تراث العصر الحاضر ومدى وعينا للطابع المحلي.
وليكن عوننا ما ننتظره من الجمهور من تتبع وحسن تذوق وتشجيع.
أن ميلاد مدرسة جديدة في فن التصوير نعلنها اليوم نحن (جماعة بغداد للفن الحديث) من أجل حضارتنا، والحضارة العالمية» (نزار سليم، الفن العراقي المعاصر، الكتاب الأول- فن التصوير، ميلانو، ايطاليا، 1977، ص 101).
ويصف برنامج الجماعة المعلن وجهات نظرهم بالشكل التالي: "سوف يطور الفنانون الأشكال التي تربط نفسها بطابع وهوية الفن العراقي دون قطع العلاقات البلاغية والأيديولوجية مع الفن العالمي". وحصلت فكرة جواد سليم الى جانب دعم عائلته دعماً من شاكر حسن آل سعيد ومحمد الحسني والمهندس المعماري قحطان عوني ونزار علي جودت ومحمود صبري والناقد الفني جبرا ابراهيم جبرا. امتلك هؤلاء الفنانون مختلف الميول والاتجاهات ولكن حصيلة أعمالهم ساعدت كثيراً في تطوير الفن التشكيلي المعاصر في العراق. أن جوهر النظرة الجماعية التي استندت عليها الجماعة هي أسلوبية العمل الجماعي من حيث المبدأ أما الواقعية فظلت من اجتهاد الفنان نفسه. فقد تمسك الفنان التشكيلي العراقي منذ الأربعينات بالموقف الجماعي الانساني للتعبير عن النظرة الحضارية والاسلوبية في آن واحد، وهذا ما نجده بالذات في نظرة جواد سليم الشخصية.
وكان عدد الفنانين الذين شاركوا في المعرض الأول تسعة هم : جواد سليم، لورنا سليم، شاكر حسن آل سعيد، محمد الحسني، قحطان عوني، جبرا ابراهيم جبرا، نزار علي جودت، محمود صبري وريتشارد غناده. وبعد مرور ثلاث سنوات ازداد عدد الفنانين الى تسعة عشر فناناً تشكيلياً.
وفي العام 1955 أصدرت الجماعة بياناً ثانياً كتبه جبرا ابراهيم جبرا. ومن أهم الأمور التي ركز عليها البيان هي: "تتألف جماعة بغداد للفن الحديث من رسامين ونحاتين لكل منهم اسلوبه المعين، ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الأسلوب. فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد، يحدد ادراكهم وملاحظاتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد. انهم لا يغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق اشكال تضفي على الفن العراقي طابعاً خاصاً وشخصية متميزة" (نفس المصدر السابق، ص 102-103).

وفي واقع الحال أن ظهور جماعة بغداد انسجم مع تطور الوعي السياسي والاجتماعي في العراق في الفترة الزمنية الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وثورة 14 تموز 1958. فقد شهد العراق مخاضاً عسيراً للحركات والأحزاب السياسية المتمثلة في حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي، إذ أخذت على عاتقها مهمة توعية الجماهير وتحريضها ضد الاستعمار والتبعية لبريطانيا وحلف بغداد. فكانت الأحزاب العلنية منها تحصل بين فينة وأخرى على حرية في ممارسة نشاطها، ولكن بعد فترة وجيزة تقوم الحكومة بتجميدها. وتوصلت هذه الأحزاب الى تشكيل جبهة وطنية كان من ضمن مهماتها تنظيم النشاط السياسي والاضرابات العمالية والمظاهرات، ولكنها الحكومة قامت بحلها سنة 1954 وأغلقت صحفها والنقابات العمالية والمهنية بالاضافة على الجمعيات الثقافية. وفي العام 1957 تشكلت جبهة وطنية ضمت الأحزاب الآنفة الذكر بالاضافة الى حزب البعث العربي الاشتراكي، في حين عقد الحزب الشيوعي العراقي جبهة ثنائية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بسبب معارضة حزب البعث على دخول الديمقراطي الكردستاني الى الجبهة الوطنية. وكان من أهم نتائج ثورة تموز 1958 هي الخروج من منطقة الاسترليني التي كان يرتبط بها الدينار العراقي وكذلك الخروج من حلف بغداد سنة 1959 في يوم 24 آذار/مارس.
ومن تأثير الوضع السياسي السابق الذكر هو زيادة الوعي لدى الفنانين التشكيليين والتفكير في الدخول في جبهة واحدة من أجل صمودهم أمام تحديات القوى الخارجية وإبطال تأثير المواقف الفنية التشكيلية الرجعية المتمثلة في الآراء التقليدية في الفن التشكيلي التي تؤيد أسلوب مبدأ المحاكاة الذي كان يقف عقبة كأداء أمام التعبير بصدق في المواقف الاجتماعية وتحول دون اكتشاف الفنان التشكيلي لأسس شخصيته الحضارية الحديثة وانصهاره في بيئته الاجتماعية.

جماعة الانطباعيين
تركت المدرسة الانطباعية تأثيراً واضحاً على الفنانين التشكيليين العراقيين. واستمر هذا التأثير كقاعدة أساسية في الاستعمالات اللونية رغم تعدد الاتجاهات والمدارس الفنية والأساليب وبداية البحث عن الطابع المحلي الذي يتفق مع الاصالة ويتجاوب مع زخم الألوان التراثية والفولكلورية.
فكان من البديهي أن تعلن جماعة من الفنانين يتصدرهم حافظ الدروبي سنة 1953 عن تأسيس "جماعة الانطباعيين". وجاء هذا نتيجة ميل الفنان العراقي الى رسم الطبيعة الذي نراه واضحاً عند الفنانين الأوائل مثل عبد القادرالرسام ومحمد صالح زكي والحاج محمد سليم وعاصم حافظ وعبد الكريم محمود، ذلك لأن الاهتمام برسم الطبيعة يشكل انعكاساً تلقائياً عند سكان المناطق السهلية والصحاري كما هو الحال في وادي الرافدين. وكان هذا منطق التدرج من رسم المنمنات الى رسم الطبيعة قبل الكائن البشري بسبب أن الموقف الثقافي الكلاسيكي في المجتمع العربي الاسلامي كان يمنع الفنانين التشكيليين من رسم الأشخاص ولكن يعطيهم الحرية في الزخرفة والنقش على الحجر والخشب. وهذا ما نراه في انتعاش هذا الجانب الفني عند الفنان العربي والاسلامي في القرون الوسطى.
ومن الواضح أن ظهور جماعة الانطباعيين كان نتيجة للشعور الداخلي عند الفنان التشكيلي العراقي لرسم الطبيعة العراقية. وكان هدف الجماعة من ذلك هو معرفة ردود الفعل في المجتمع العراقي تجاه الفنان وما يحمله الأسلوب الانطباعي من موقف لرسام الطبيعة وليس رسام الصورالشخصية(البورتريه).
فمن دراسة التقنيات والخلفية الثقافية لأعضاء الجماعة المؤسسين يمكننا أن نلمس ذلك، فعلى سبيل المثال ضياء العزاوي كان يرسم انطلاقاً من حسه الآثاري لبلاد الرافدين بجميع مراحله التاريخية من السومريين والآشوريين والبابليين حتى العباسيين باحثاً عن كنوزهم الحضارية من تحت الأنقاض والشاعر الشعبي مظفر النواب مازجاً بين الطبيعة الأدبية للحس الشعبي العراقي والجمال الفني للبيئة العراقية وكان سعد الطائي يستوحي أعماله من المواضيع الشعبية الحياتية اليومية في الريف العراقي أما الدكتور خالد الجادر فعلى الرغم من عدم انتسابه الى جماعة الانطباعيين فانه في الواقع فنان انطباعي قبل كل شيئ. واعتمد حافظ الدروبي في بداية عمله التشكيلي الأسلوب الأكاديمي في التعامل مع اللون والريشة. ولذلك خلق احتكاكه بالفنانين البولنديين الانطباعيين منهم الذين كانوا في بغداد أبّان الحرب العالمية الثانية وكذلك دراسته للفن التشكيلي في بريطانيا تطوراً ملحوظاً في أعماله وكانت حصيلة ذلك هو تشكيله جماعة الانطباعيين.
ولم يقف حافظ الدروبي عند الانطباعية فحسب، ولكن طموحه وبحثه وأحساسه الفني دفعه الى المدرسة المستقبلية(Futurisme) والذي عقب في حينها على منتقديه بما يلي : (ولكن هذا لا يعني انني وقفت عند مدرستي هذه فحسب ... ولكني كفنان أرسم بما أشعر به ولا يؤثر فيّ الانتماء الى مدرسة معينة). ولهذا فقد ارتبط بالمدرسة الواقعية العراقية فنانون تشكيليون آخرون مثل حياة جميل حافظ والدكتور علاء بشير وسعدي الكعبي.
ملاحظة: أن هذه المقالة هي جزء من كتاب "تطور الفنون التشكيلية في العراق من عبد القادر الرسام وحتى الآن" الذي أقوم بكتابته في الوقت الحاضر



#سناء_الموصلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غربان الشؤم تطير الى أوكرانيا
- نظرة على الانتخابات الاوكرانية
- يوم تصبح نظرية مالثوس صحيحة على الرغم من خطئها
- تعليق على مقالة فاتن نور في العدد 1006 بتاريخ 03.11.04
- سلام عبود في روايته السادسة - زهرة الرازقي
- النومينكلاتورا -الطبقة التي حكمت الاتحاد السوفيتي
- المعيشة المقننة في ظل النومينكلاتورا
- اسماعيل فتاح الترك لم يرحل عنا
- وأخيراً كشر الشيشان عن أنيابهم في قضية الشعب العراقي
- الأجر المنخفض في ظل اطالة وقت العمل وتكثيفه
- نزار دعنا- شهيد الصحافة الحرة


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سناء الموصلي - التعارض والاندماج بين التأثيرات الأوروبية والتراث الثقافي العراقي في الفنون التشكيلية العراقية بين 1930-1958