أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد حسن خليل - عندما يتقاطع مسار الثورة مع الانتخابات البرلمانية















المزيد.....



عندما يتقاطع مسار الثورة مع الانتخابات البرلمانية


محمد حسن خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3594 - 2012 / 1 / 1 - 11:42
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


بعد ما يقرب من عشرة أشهر على نجاح ثورة 25 يناير فى الإطاحة بمبارك ومجموعته الحاكمة تأتى أول انتخابات برلمانية فى ظل ظروف سياسية بالغة التعقيد: فاعتصام ميدان التحرير مستمر منذ صبيحة الهبة الجماهيرية الضخمة فى 19 نوفمبر احتجاجا على عودة صور القمع البائدة للثوار،

والانتخابات تتم فى ظل أغلبية مرحبة ومشاركة رغم اختلاف منطلقات المشاركة، وأقلية تدعو للمقاطعة. ويصر المجلس العسكرى على إتمام الانتخابات فى ظل تعهدات شديدة بتأمينها من قبل الجيش والداخلية، بينما يصر على إجراء الانتخابات أيضا الأخوان المسلمون والسلفيون وقوى الإسلام السياسى معتبرة أن تلك هى الانتخابات التى سوف تسلمهم السلطة، وأن أى محاولة للتأجيل أو الالتفاف عليها هو انتقاص من حقها المشروع فى السلطة! ثم تأتى نتيجة المرحلة الأولى للانتخابات بتصدر الإخوان المسلمين من حزب الحرية والعدالة للمشهد، وحصوله هو والسلفيين وحزب الوسط على ما يقرب من ثلثى الأصوات لتحبط البعض وتسر آخرين. ويمثل الليبراليون الجدد القوة الثانية فى الانتخابات من خلال تحالف الكتلة، بينما فشل الليبراليون القدامى وأبرزهم حزب الوفد فى الحصول على نسبة موازية من الأصوات، وحصلت الأحزاب الليبرالية معا على 25% من الأصوات. ومنيت مختلف قوى الفلول بهزيمة نكراء قياسا إلى سيادتها السابقة، ولم يحصل أى منها منفردا أكثر من 1% بينما حصلت فى مجموعها على حوالى 7%. أما تحالف الثورة مستمرة فقد حصل على حوالى 3.5% من أصوات القوائم ونال أربعة مقاعد غير عدد من المقاعد الفردية. ولكن تتبع منطق تلك الأحداث وتفسيرها هو ما يهمنا هنا لتحليل ميزان القوى واستخراج التكتيك والشعارات الموجهة لعمل الثوريين فى المرحلة القادمة.

الاستقطاب الثورى فى المجتمع المصرى

قبل أن نستطرد فى الكتابة نود أن ننوه إلى أن هناك أربع جهات أجرت استطلاعات للرأى فى مصر حول الثورة مؤخرا فى مصر، وتحمل نتائجها الكثير من الحقائق الهامة فى مجال بحثنا. تلك هى ثلاثة استطلاعات أجرتها جهات محلية مصرية (مركزالدراسات السياسية والاستراتيجية بصحيفة الأهرام، والمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء). كما أن هناك استطلاعات عديدة أجراها معهد جالوب العالمى فى مصر منها أربعة بعد ثورة 25 يناير ونشر بعض من نتائجها فى مجلة فورين بوليسى. وسوف نلجأ إلى عدد من نتائج تلك الاستطلاعات التى نراها ذات دلالة فى هذا العرض، بالذات فى المجالات التى تتفق فيها مع بعضها، أو فى بعض مجالات تميز أحدها، والتى تبرهن أيضا على تفسيرنا للأحداث. ومن الأرقام ذات الدلالة الهامة فى استطلاع رأى معهد جالوب أن نسبة المؤيدين من المواطنين (العينة الممثلة) للثورة والإطاحة بمبارك كانت 83% من المواطنين. أما نسبة من شارك فعليا فى أى شكل من أشكال الاحتجاجات بالمظاهرات أو الاعتصامات ..الخ فلم تتجاوز 11% (وهو ما يتفق مع استطلاع مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء بأن نسبة عدم المشاركة فى أى احتجاج بين العينة 88% أى 12% فقط مشاركين)! ورغم غرابة الرقم لأول وهلة إلا أن تلك هى طبائع الأمور: فقد تصدر مشهد الاحتجاجات المجموعة الواعية النشطة المضحية التى تبلغ حوالى تسع الشعب، بينما كان حولها ستة أو سبعة أتساع الشعب من المؤيدين السلبيين، وقد تمكنت تلك القوة من الوصول للكتلة الحرجة اللازمة للانتصار فى المرحلة الأولى للثورة. لقد كانت الشرطة تعرف أنه إذا وصل عدد المتظاهرين إلى المليون فسوف ينهار جهاز الشرطة، وهو ما حدث بالفعل. ولم يكن هناك سوى أحد بديلين كما قال مبارك للمشير طنطاوى وقتها: فإما أن يحمى الجيش الشرعية (مبارك يقصد بالطبع شرعية حكمة وهو ما يعنى قيام الجيش بسحق الثورة بدلا من جهاز الشرطة الذى انهار) وإما "أن تشيل أنت الشيلة" كما قال مبارك للمشير على حد قول هيكل. ومبارك هنا بالطبع لا يفقد حسة الاستراتيجى فى الدفاع عن مصالح الطبقة التى يمثلها، فإذا انهار جهاز الشرطة الذى يحميه ورفض الجيش حمايته فالحل ليس التنازل عن كل شيئ للثوار بل اللجوء إلى خط الدفاع الثانى وهو تخلى الرئيس وتولى مجلسه العسكرى الذى ينتمى إلى نفس النظام فلا نكون قد خسرنا كل شيئ أمام الثوار! وبالطبع من الواضح أن الصفقة قد تضمنت تأمين الرئيس بدليل نقله إلى شرم الشيخ بطائرة خاصة، وظل كبير ياورانه زكريا عزمى يتردد يوميا على القصر الجمهورى لإعدام المستندات بمعرفة المجلس العسكرى بالطبع، كما أعطى الأمان لكل رجاله المقربين ولم يمس أحدهم، بل ولم تتم إقالة وزارة شفيق التى حلفت اليمين أمام مبارك. إلا أن كل هذا قد تراجع بوضوح تدريجيا (وفى حدود رغم ذلك) تحت وطأة استمرار هجوم الثوار من أجل استكمال تحقيق مطالب الثورة، وهو الوضع الذى مازال مستمرا حتى الآن. ويوضح نفس الاستطلاع أن شعبية المجلس العسكرى وقتها كانت 90% من المواطنين، رغم ما أظهره استطلاع مجلس الوزراء من أن 37% لا يعرفون اسم المشير، و43% لا يعرفون اسم رئيس الوزراء، و77% لا يعرفون اسم نائب رئيس الوزراء و98% لم يشاركوا فى أى حركة سياسية قبل الثورة مثل 6 إبريل أو كفاية! وبالطبع سادت حالة من التفاؤل الشعبى الواسع بالمستقبل، ويدل على هذا استطلاع معهد جالوب فى إبريل، إذ أعرب 76% من المشاركين عن تفاؤلهم بأن إقالة مبارك سوف تؤدى إلى تحسن الأمورفيما لم يعرب عن عدم تفاؤله بتحسن الأمور بعد تنحى الرئيس سوى 14%.

إلا أن الأمور لم تستمر على هذا النحو المتفائل أمام الصعوبات الفعلية التى واجهت شعبنا بعد الثورة. لقد كان من الطبيعى أن ينتفض النظام القديم دفاعا عن نفسه وقد تضاعفت شراسته عشرات الأضعاف بعد الإطاحة برأسه. وتمثل هذا فى مظاهر عديدة أبرزها النشر المتعمد للفوضى وافتقاد الأمن، والمعاناة الاقتصادية للمواطنين حيث زادت وطأة غلاء الأسعار وتضاعفت أعباء المعيشة فى وقت لم تزد فيه الأجور إلا زيادات بالغة التواضع للحدود الدنيا فقط. وترك الإخوان المسلمون تحالفهم المؤقت مع الثورة تدريجيا حتى وقفوا مدافعين بنشاط فى صفوف المعسكر المحافظ. ورفع المجلس العسكرى بإصرار فى أحاديثه فزاعة الأمن وفزاعة الانهيار الاقتصادى وأدان بشدة ما سماه بالاحتجاجات الفئوية وأهدافها الضيقة والتى تساهم فى الانهيار الاقتصادى.

وتبلور الاستقطاب فى جمعة الغضب الثانية فى 27 مايو التى حققت نجحا كبيرا رغم مقاطعة الإخوان لها، ثم برز الاستقطاب المجتمعى الجديد بشكل أكثر تبلورا خلال يوليو فى أعقاب مليونية 8 يوليو والاعتصام الذى أعقبها: فقد تبلور الاستقطاب الثورى فى المجتمع بين قوى الثورة والقوى المحافظة. فقد أصرت قوى الثورة على استكمال مسارها لتحقيق الأهداف الثورية التى لم تنجز بعد من جدول لانتقال السلطة للمدنيين، وديمقراطية حقيقية تستبعد المحاكمات العسكرية للمدنيين وتجريم أشكال المطالبة بالحقوق الاجتماعية من إضراب وتظاهر، غير مطالب العدالة الاجتماعية المتمثلة فى نظام عادل للأجور وربط الأجور بالأسعار وحصول التعليم والصحة على نصيب عادل من الموازنة العامة للدولة (40% بدلا من 15% حاليا) وعلى حساب تقليص مزايا الأغنياء من خلال تحديد حد أقصى للأجور لا يزيد عن عشرة إلى عشرين ضعفا، وإقرار ضرائب تصاعدية لا تقل عما كان موجودا فى مصر قبل تعديلات يوسف بطرس غالى (44%) أو الموجود فى أمريكا (45%) أو السويد (62%). ومثل هذا التيار العريض فى الانتخابات تحالف الثورة مستمرة كما يدل الاسم بوضوح.

أما المعسكر المحافظ الذى كان شعاره الاستقرار أولا فقد ضم فى القلب منه الثورة المضادة ولكنه اتسع لقطاعات شعبية رأت الاكتفاء بما تحقق من الإطاحة بمبارك ورجاله القريبين رغم عدم تحقق باقى الأهداف، وناصرت بقاء الحال على ما هو عليه رفضا لمطالب العدالة الاجتماعية أو خضوعا للابتزاز بفزاعة الانهيار الاقتصادى والأمنى. لقد تمثلت الثورة المضادة فى قمم التيار المحافظ فى المجلس العسكرى ومختلف تيارات الإسلام السياسى وبالطبع فلول الحزب الوطنى، وكذلك بعض الاتجاهات الليبرالية. كما تحلق حولها قطاعات محافظة فى المجتمع غير مؤيدة لاستمرار الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات فى مختلف القطاعات، وتستعجل العودة للاستقرار والأمان على أمل حل باقى المشاكل تدريجيا.

وبلور اعتصام شهر يوليو الذى بدأ فى أعقاب مليونية 8 يوليو هذا الاستقطاب المجتمعى بشكل جلى، فقد أيدته القوى الثورية بينما هاجمة الإخوان المسلمون ومعظم قوى الإسلام السياسى. وانعكست صورة الانقسام والاستقطاب المجتمعى بالطبع فى الاستفتاءات المتكررة: فقد أوضحت الاستطلاعات المتكررة لمعهد جالوب فى شهور فبراير، وإبريل، وأغسطس وسبتمبر الانخفاض التدريجى للمتفائلين بأن إقالة مبارك ستحسن الأمور من 76% إلى 51%، بينما زادت نسبة المقتنعين بأن الأمور ستسير للأسوأ من 14% إلى 21% فى نفس الفترة. وانخفضت نسبة الثقة فى قدرات المجلس العسكرى (وفقا لاستطلاع رأى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية) على القيام بمهام المرحلة الانتقالية بخصوص توفير الظروف المناسبة للانتقال الديمقراطي (89.4% فى سبتمبر مقابل 92.8% فى أغسطس)، ونقل السلطة لحكومة مدنية (88.3% مقابل 99.2%)، وإجراء انتخابات حرة (91.7% في أكتوبر مقابل95.7% في أغسطس) ومحاكمة رموز النظام السابق الي (78.9% مقابل86.1%). ولعله مما يلفت النظر بشدة أنه رغم ارتفاع الثقة فى المجلس العسكرى حتى بعد انخفاضها التدريجى، إلا أن نسبة الثقة فى كفاءة المجلس العسكرى أقل من هذا بكثير، فقد انخفضت نسبة المواطنين الذين يعطون تقدير جيد جدا لأداء المجلس الاعلي القوات المسلحة الى 40.6% خلال اكتوبر مقارنة بــ44.6% خلال أغسطس! ولعل التفسير يكمن فى عنصر آخر: فالمواطنون يشعرون بأن فقدان الثقة فى المجلس العسكرى يدعهم بلا ظهر، ولا يبقى فى البلد ما يدعو للاطمئنان، وإلا فما التفسير لتلك النسب المرتفعة فى الثقة (79% فى أقل الأحوال) رغم الثقة المتدنية فى حسن الأداء (41%)؟! ألا يمثل الفارق دلالة شديدة على حيرة وتردد الكثير من المواطنين وبالتالى تفضيلهم لمعسكر الاستقرار؟

أسباب نجاح تيارات الإسلام السياسى

إلا أن الانقسام المجتمعى لا يقدم تفسيرا مباشرا لنسبة التصويت الضخمة لصالح الإخوان والسلفيين فى أعقاب ثورة لم يشارك فيها السلفيون (بل وحرموا الخروج على الحاكم قبلها رغم ظلمه وجرموا الاشتغال بالسياسة فى عهده) وشارك الإخوان فى احتجاجات عام أو أكثر قليلا فقط من الفترة السابقة على الثورة، ولم يشاركوا فى الثورة من بدايتها يوم 25 يناير، وشاركوا فى 28 يناير دون رفع شعار إسقاط مبارك، حتى اندمجوا مع الثورة وكانوا من قواها الفاعلة رغم مسارعتهم للإمساك بالعصا من المنتصف بقبول المفاوضة مع عمر سليمان نائب الرئيس مما يعنى الموافقة ضمنا إذا ما ساءت الأمور على قبول استمرار الرئيس ونائبه!

لكن السبب الرئيسى فى هذا التأييد الجماهيرى الانتخابى للإسلام السياسى يعود إلى عامل آخر وهو أزمة الهيمنة الإيديولوجية التى تمر بها الطبقة السائدة فى مصر. لقد كان نموذج المواطن المصرى العادى بعد ثورة 1919 وفديا مقتنعا بأن شعارات الاستقلال والدستور هى ما تمكن من صنع مستقبل لمصر. وبرز الإخوان فى فترة وزارات الأقليات الديكتاتورية (وزارة القبضة الحديدية لمحمد محمود سنة 1928 ووزارة اسماعيل صدقى الأولى ودستوره عام 1931). وإذا كانت الفترة بين نهاية الحرب العالمية الثانية فى 1945 وعام 1952 قد تميزت بتصاعد شديد لوتيرة النضال الديمقراطى والوطنى فقد كان وجهها الآخر هو تراجع الإخوان المسلمين إذ نقصت منظماتهم من 2000 إلى 1500 فى عموم القطر كما انخفضت عضويتهم بنسبة الثلث!

وأمام ظروف وتحديات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد حزب الوفد، حامل شعار الاستقلال والدستور- هو الممثل الوحيد للرأسمالية القومية الناشئة فقد برز اتجاه آخر جسده اتحاد الصناعات: اتجاه يضع آماله على القائد الجديد للرأسمالية العالمية، الولايات المتحدة الأمريكية، بدلا من انجلترا. ويتخلص من روابطه مع كبار الملاك الزراعيين ويدعو إلى إصلاح زراعى من أجل توسيع السوق لمواجهة الكساد فى فترة ما بعد الحرب. ويختلف هذا الاتجاه عن لبرالية الوفد التاريخية بسخطه على الحركة الجماهيرية النشطة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتى أدت إلى إضراب عمال شبرا الخيمة لمدة خمسة أشهر مع تشكيل اللجنة الوطنية للطلبة والعمال عام 1946، وإضراب البوليس ثم الجيش أعوام 1947 و1948، ثم بدء الكفاح المسلح ضد الإنجليز فى منطقة القنال. وأدى هذا إلى تخلى هذا الاتجاه عن هامش الديمقراطية المتحقق وترويجه لفكرة المستبد العادل. وكان هذا البرنامج الذى دعا إليه اتحاد الصناعات وعبر عنه أحد أبرز أعضائه، صبحى وحيده، فى كتابه الأشهر "فى أصول المسألة المصرية" هو الاتجاه والبرنامج الذى تبناه الضباط الأحرار فى 23 يوليو وعملوا على تحقيقه تدريجيا انتهاء بتصفية الهامش الديمقراطى بعد أزمة مارس عام 1954.

وما يخصنا هنا فى مجال بحث أزمة الهيمنة الإيديولوجية هو أن انتصار الاتجاه المعادى للديمقراطية فى طبقة الرأسمالية القومية وتحقيقها لنجاحات فى تصفية الهامش الديمقراطى الموجود فى أعقاب ثورة 1919، وتحقيقها لما سمى ب"تأميم الصراع الطبقى" وتصفية كل المنظمات الجماهيرية من أحزاب ونقابات وكل أشكال التنظيم الجماهيرى منذ الخمسينات، إن كل هذا قد صفى البديل الديمقراطى ولكن طرحت الناصرية إيديولوجيتها التى لفت الشعب وراءها ومؤداها الحلم ببناء بلد حديث وتحديث الصناعة وبناء السد العالى وتطوير التعليم والعلاج والعداء للاستعمار وتأميم قناة السويس والبنوك والمصالح الأجنبية. وهكذا كان نموذج المواطن المصرى وفديا بعد ثورة 1919 وأصبح ناصريا فى الخمسينات والستينات حتى جاءت هزيمة يونيو 1967. ومن المعتاد فى التاريخ أن هزيمة سلطة ما كثيرا ما تعطى الراية للمعارضة، ولكن المعارضة الديمقراطية كانت قد تم تصفيتها وحل جميع أحزابها وتنظيماتها المتنوعة. وبما أنه "ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان"، وأن الإيديولوجية أو الأفكار السائدة حول المجتمع والدنيا هى احتياج رئيسى للبشر لهذا فإن إفلاس الناصرية بالهزيمة مع عدم وجود البديل الديمقراطى الذى تم تصفيته وتصفية منظماته سابقا على أيدى نفس النظام الناصرى قد أديا إلى "الرجوع للأصول" وإعادة إحياء وانتشار الفكر الدينى وكافة الانتماءات التقليدية. ويعد ذلك صحيحا فى مصر بقدر ما هو صحيح فى العالم العربى حيث أدت هزيمة الفكر القومى بعد أن كان قد أنهى أو كاد الفكر الديمقراطى وصادر أدواته التنظيمية، أدى كل ذلك إلى تقوية التيارات الدينية بمختلف اتجاهاتها وأبرزها الإخوان المسلمين.

ولكن هذا السبب الهام والذى نراه السبب الرئيسى لا يفسر وحده بطبيعة الحال كل هذا النجاح فى الانتخابات البرلمانية فى مصر. فإذا كانت الانتخابات البرلمانية عموما تكسبها القوى الاقتصادية المتنفذة، فالإخوان المسلمون قسم من الطبقة المالكة المستثمرة الكبيرة ولديهم الكثير من الاستثمارات بالذات التى بنوها فى المملكة العربية السعودية منذ هجرة الكثير منهم هناك هربا من اضطهاد الناصرية منذ عام 1954 وفتح المملكة الأبواب لهم والفرص ليغتنوا. كما تطور هذا الوضع لإنشاء التنظيم الدولى للإخوان المسلمين والمساندة المادية لبعضهم فى المناسبات.

ولكن لا يجب أن يحجب هذا عنصر آخر فى منتهى الأهمية: وهو الضخ المتواصل لمليارات الجنهيات من قبل الرجعيات الملكية الخليجية لقوى الإسلام السياسى. إن تلك القوى تتحسس عروشها وتدرك مغزى معركة الوجود التى تخوضها. لقد أتت موجة التيارات القومية فى الخمسينات بالهزيمة والسقوط لملكيات وعروش وأنظمة "جمهورية" استبدادية وتابعة فى الكثير من البلدان العربية مثل العراق وليبيا واليمن وغيرها. والموجة الحالية من الثورات الديمقراطية الأكثر جذرية تهدد بشكل أكبر، فى حال استمرارها ونجاحها، باستئصال العروش الاستبدادية التى تنتمى للقرون الوسطى. لهذا تحارب تلك الملكيات بشراسة المعارك المتقدمة دفاعا عن وجودها ذاته بتدخلها السافر فى بلادنا وتمويل كل القوى المحافظة والرجعية. وكا ن المرشد العام الحالى للإخوان المسلمين، محمد بديع، قد صرح مؤخرا بأن الإخوان قد قدموا 150 مرشحا فى انتخابات مجلس الشعب عام 2005 ورصدوا لكل منهم 10 ملايين جنية ميزانية انتخابية فنجح منهم 88 عضوا (!)، أى أن ميزانيتهم فى انتخابات عام 2005 كانت مليار ونصف! إذن فكم تبلغ ميزانيتهم فى الانتخابات الحالية التى تقدموا فيها بحوالى 400 مرشح وتجرى فى ظروف ثورة تهدد كل معسكر المحافظين المحلى والرجعية العربية؟ وتحدث أحد التقديرات عن أن ميزانية الإخوان والسلفيين فى المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب فى هذه الدورة (والتى تجرى على ثلث المقاعد فقط) تقدر بستة مليارات جنية! وهو ما نراه منطقيا ومنسجما مع كم الإنفاق الرهيب على الدعاية التلفزيونية وكم اليافطات والمطبوعات والسيارات والمواكب والرشاوى الانتخابية بتوزيع اللحمة ومواد البقالة على المواطنين غير شراء الأصوات بطبيعة الحال.

نقطة أخرى هامة لتفسير تفوق التيارات الدينية، حيث تحتاج انتخابات مجلس الشعب بالذات إلى تغلغل واسع لتنظيمات تتبع الأحزاب السياسية فى مختلف أرجاء الوطن، فما هى قاعدة كل تيار من التيارات السياسية الرئيسية فى مصر فى الوقت الراهن وما مدى تغلغلها، خصوصا ونحن قادمون من فترة طويلة من مصادرة الديمقراطية والتنظيمات الجماهيرية؟ لا شك أن قاعدة التيارات الدينية هى الجمعيات الخيرية والمستوصفات الإسلامية ولجان الزكاة وغيرها وهى تنتشر فى معظم الأحياء والمدن والقرى. وتستند الأحزاب الليبرالية وغيرها لنفوذ العائلات الغنية وتعمل بالطبع على تحقيق مصالح طبقتها، وهذه القاعدة بالطبع مشتركة بينها أحزاب الفلول ويدور الصراع بينهم على ممثلى تلك العائلات، وهذا هو أساس اشتمال الكثير من الأحزاب بما فيها أحزاب الكتلة الليبرالية والوفد على أفراد من الفلول على قوائمها.

أما الأحزاب اليسارية والتقدمية والديمقراطية فلا يمكن تصور منظمات قاعدية جماهيرية لها غير النقابات المستقلة ومواقع التجمع العمالى ذات التاريخ النضالى والجمعيات والمنظمات التقدمية. وبالطبع فالعدد الكلى لتلك المنظمات ومدى تغلغلها فى مختلف الدوائر بالقرى والمحافظات والأحياء هو مستوى بالغ المحدودية بحكم الأوضاع الاستبدادية القائمة قبل الثورة. ولعل مثال النقابات المستقلة يعطينا دلالات هامة: فلم يوجد قبل الثورة سوى ثلاث نقابات، وهى الآن أكثر من 140 نقابة: وهو معدل هائل للتطور فى أقل من عشرة أشهر، ولكنه عدد محدود إذا ما قيس بمصر التى تحتوى على 27 محافظة و256 مدينة وأربعة آلاف قرية! إن الانتشار فى أرجاء القطر والتوجه لكل الطبقات الشعبية والدعاية والتحريض بينها وتنظيمها فى مختلف أشكال التنظيم هو مهمتنا الرئيسية التى يجب أن نركز عليها، ولكن تلك المهمة مثل كل مهمة أخرى تتم فى الزمن وتحتاج للتراكم الضرورى لخلق أساس قوى للنفوذ الثورى.

المجلس العسكرى والموقف من الثورة والثوار

ينتمى المجلس العسكرى بالطبع إلى النظام القديم ويعد ركنا أساسيا من أركانه، حتى لو كانت له تحفظاته على لجنة السياسات وجمال مبارك ورجاله واندفاعهم الرهيب فى الخصخصة، مع معارضتهم بالطبع لمشروع التوريث الذى يريد أن يأتى بأول رئيس من خارج المؤسسة العسكرية لمصر، فضلا عن أنه لم يثبت خلال توليه مقاليد الأمور الداخلية من خلال وزارة نظيف المعروفة بوزارة رجال الأعمال المؤلفة من رجال البزنس التابعين له –لم يثبت سوى شيئ واحد هو نجاحه الساحق فى إثارة سخط الجماهير ومعارضتها المتنامية حتى الثورة. ولكن كل سمات النظام القديم من ناحية التفاوت الضخم فى الدخول وسيادة الأساليب الاستبدادية فى التعامل وفى اختيار القيادات وفى الإدارة وغياب أى مراقبة ومحاسبة كانت موجودة فى المجلس العسكرى. وهناك نقطتان فقط سمحتا للمجلس العسكرى بتولى السلطة مؤقتا وبمباركة شعبية أولاهما الامتناع عن ذبح الثورة وتفضيل تنحية الرئيس فى مواجهة ثورة الشعب، وثانيهما تعهدهم بالولاء لأهداف الثورة والعمل على تحقيقها.

ولكن المجلس العسكرى التجأ إلى الإسراع الشديد فى استعادة النظام من خلال خطته فى استعادة المؤسسات وإجراء انتخابات (كانت خطته الأولية الانتهاء من الدستور ومجلس الشعب والرئاسة خلال ستة أشهر) بما يصب فى مصلحة القوى الجاهزة لاستلام الحكم وهم الفلول والتيارات الدينية، مع إجهاض الفرصة أمام القوى الثورية فى التبلور مع الامتناع عن تحقيق أهدافها الثورية بالذات فى مجال العدالة الاجتماعية. وكما سبق التوضيح فلم يقدم المجلس العسكرى تنازلات فى مجال حل كيانات النظام القديم (وزارة شفيق، اتحاد العمال، الحزب الوطنى، المحليات...الخ) إلا بالقطارة وبعض ضغوط مليونيات شديدة، محافظا بأكثر ما يستطيع على كيانات النظام القديم. وبرز هذا بصفة خاصة فى حفاظه على أجهزة الأمن الخاصة بالنظام القديم كاملة، حتى إن ما تم الإعلان عن حله وتطهيره اقتصر فى حالة أمن الدولة مثلا على نقل 400 من ضباطه البالغ عددهم 1500 ضابط مع تغيير اسم الجهاز، ثم قام بإعادتهم ثانية إلى مواقعهم بعد شهور قليلة!

ولكن المجلس العسكرى بالطبع ليس مطلق اليد فى عمل ما يريد بالكامل لأنه يعى إلى حد معقول توازن القوى الذى يتحرك من خلاله. وإذا كانت نقطة البدء عند تولى المجلس العسكرى هى سيادة مزاج ثورى بين صفوف الشعب مع إحساس الشعب بالقوة والكرامة الناتج عن نجاحه فى تحقيق الإطاحة بمبارك ثم بعصابته، وإذا كان المجلس العسكرى كقوة محافظة من أركان النظام القديم يسعى إلى استعادة النظام بأسرع شكل وبأقل قدر من التنازلات، فعليه اللجوء لحلفاء. وبدأت العلاقة بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين منذ ما قبل الإطاحة بمبارك، واتضحت جليا منذ استفتاء 19 مارس حيث كان الإخوان المسلمون وتيارات الإسلام السياسى الأخرى فى قلب المعسكر المحافظ المؤيد لتكتيك المجلس العسكرى فى الإسراع ببناء هياكل النظام ومعارضة اللجوء لأساليب الكفاح الجماهيرى التى أتت بالثورة مثل المظاهرات والاعتصامات والإضرابات وغيرها.

وهكذا تبلورت التيارات الرئيسية على الساحة الداخلية المصرية فى خمسة تيارات رئيسية:

1. المجلس العسكرى الممسك بالسلطة التشريعية والتنفيذية، حيث لم يترك لأى وزارة إلا مساحة بالغة المحدودية لحرية الحركة بدءا من وزارة شرف الأولى وانتهاء بوزارة الجنزورى رغم الوعود بعكس ذلك مع كل تشكيل وزارى.

2. تيارات الإسلام السياسى الأقوى تنظيما بحكم ما سبق شرحه من أساسها الاجتماعى وعناصر قوتها وتاريخها فى مصر.

3. فلول الحزب الوطنى من أركان النظام القديم وأصحاب المصلحة فى القضاء على الثورة والاحتفاظ بأكبر قدر من الامتيازات التى تمتعوا بها وحماية ما يملكون من المساءلة عن مصادره وعن علاقاتهم الاقتصادية والسياسية بالنظام البائد. ويستفيد هؤلاء، بالذات الأعضاء المزمنين فى مجلس الشعب عن الحزب الوطنى، من علاقتهم الوثيقة بالبلطجية وزعمائهم فى دوائرهم الانتخابية بالضبط كما يرتبط هؤلاء البلطجية بأقسام الشرطة والداخلية ومباحث أمن الدولة. واتضح كل هذا جليا فى معركة الجمل فى 2 فبراير الماضى، ولكن تقاعس المجلس العسكرى عن التطهير الجدى للداخلية وترك البلطجية لترويع المواطنين كان مرتبطا بتكتيك استخدام التفريغ الأمنى من أجل تيئيس الشعب من الثورة والثوار كما سبق وأن أوضحنا.

4. التيارات الليبرالية الطامحة لمكاسب الديمقراطية فى حدودها الرسمية فيما يسمى بتداول السلطة، ونقطة قوتها الرئيسية تتمثل فى أنها المقبولة نسبيا من المجلس العسكرى وأحيانا تتقارب وكثيرا ما تتباعد مع الإخوان ولكن يصب فى نصيبها القدر المتاح من الديمقراطية التى تنجح فى انتزاعها نضالات القوى الثورية. فهى لم تحصل من قبل على حريات فى النشر والتنظيم الحزبى أيام مبارك بفضل نضالها هى بل بالأحرى بفضل توازن القوى الذى صنعه نضال القوى الثورية.

5. الشعب الثائر وكافة قواه الثورية والتيارات الديمقراطية الحقيقية والثورية والتى تجمعت معظمها فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة تحت شعار استمرار الثورة.

واتضح جليا انتماء كل من المجلس العسكرى، وتيارات الإسلام السياسى المختلفة، وبالطبع فلول النظام السابق إلى التيار المحافظ وانتماء قياداتهم الواعية كلهم إلى تيار الثورة المضادة. كما اتضح إصرار الجمهور الثورى وشباب الثورة والقوى المنظمة والواعية إلى معسكر استمرار الثورة. أما الليبراليين فقد تراوحوا بين القطبين حسب الأحوال بتحالفهم أو تحالف بعضهم (حزب الوفد مثلا) مع الإخوان والقوى المحافظة، وبقاء بعضهم الآخر معظم الوقت مع المطالب الديمقراطية بإصرار، وتراوح الباقين بين القطبين. ومثل هذا الاستقطاب جوهر الانقسام البارز بالذات منذ شهر يوليو الماضى مع تراوح قطاعات من الشعب وتزايد أنصار معسكر القوى المحافظة إلى نصف الشعب أحيانا تحت وطأة الغموض والابتزاز بفزاعات الاستقرار ومخاطر انهيار الأمن والانهيار الاقتصادى.

وكل طرف من الأطراف الثلاثة الأساسية فى المجتمع، أعنى المجلس العسكرى وتيارات الإسلام السياسى وتيار استمرار الثورة، لم يبلغ من القوة ما يمكنه من فرض إرادته بالكامل، ولكنه يبلغ من القوة ما يجعله مصرا على عدم تجاهله فى المعادلة. وإذا كان المجلس العسكرى يغازل معسكر الإسلام السياسى منذ ما قبل انتصار الثورة فى 11 فبراير وظهر تكاتفهم معا فى مختلف المناسبات السياسية، فإن ذلك لا ينفى التناقضات التى تنشأ بين الحلفاء أحيانا. وظهر هذا جليا بالذات بعد المليونية الإسلامية فيما عرف بجمعة قندهار فى 29 يوليو الماضى حينما تسبب رفع شعارات الدولة الدينية بل ومبايعة البعض للمشير بالإمارة من إحراج للمجلس العسكرى بالذات أمام أمريكا والغرب.

ولكن إذا كانت العلاقة بين المجلس العسكرى وتيارات الإسلام السياسى تعرف بعض التوترات فى إطار الخلافات الوقتية بين الحلفاء فإن علاقتها بتيار الثورة أولا أو تيار استمرار الثورة تختلف، فالمجلس العسكرى يصر على استعادة النظام بأكثر ما يمكن من أركان النظام القديم وأقل ما يمكن من تنازلات للثورة، واتضح هذا فى كل المناسبات التى أجبر فيها على تقديم تنازلات فى أعقاب مليونيات. ولكن الأمر يتعدى هذا إلى شيئ آخر، فإن الحفاظ على النظام فى رأى المجلس العسكرى يتضمن آلا يتسع النظام لآليات ديمقراطية تفرض إرادة الشعب مثل التظاهر الواسع بالمليونيات وأشكال التعبير الجماهيرى لفرض إرادته فى مواقف الاختيارات الحاسمة. لهذا يبدو إصرار المجلس العسكرى على اتخاذ خطوات عنيفة يقصد منها كسر إرادة الثوار بحيث يمتنعون طوعيا عن أشكال الاحتجاجات الواسعة لتنفيذ مستحقات الثورة التى لم تتحقق بعد سواء فى مجال ديمقراطية الجماهير التى تتجاوز فكرة المجلس والقوى الليبرالية (حصر الديمقراطية فى النتخابات البرلمانية والرئاسية) لتصل إلى الإقرار القانونى بحريات التعبير والاعتصام والتظاهر والإضراب السلميين، أو فى مجال العدالة الاجتماعية.

ويبدو سلوك استعادة "النظام" أو ما يسمونه "هيبة الدولة" جليا فى مناسبات ممارسة أشكال عنيفة من القمع بالذات القمع غير المتناسب إطلاقا مع حجم ونوع الاحتجاجات. وتكرر هذا مؤخرا فى أربع مناسبات شهيرة: موقعة العباسية فى 23 يوليو الماضى، ومذبحة ماسبيرو فى 9 أكتوبر، ومذبحة شارع محمد محمود وبدايتها فى 19 نوفمبر، وفى مذبحة مجلس الوزراء الأخيرة التى بدأت فى 15 ديسمبر. لم تكن معركة العباسية سوى البروفة الأولى لهذا القمع السافر، والتى كشف سرها دون أن يدرك اللواء الروينى حينما صرح قبل المذبحة بساعتين على قناة الجزيرة مباشر بأن مظاهرة انطلقت من ميدان التحرير باتجاه العباسية متوجهة للمجلس العسكرى وأنه قد بلغه أن بلطجية مسلحين بالأسلحة البيضاء وقنابل الملوتوف ينتظرونهم فى ميدان العباسية. وارتبك اللواء عندما سأله المذيع السؤال البديهى "ولماذا إذن لا تقبضون على البلطجية؟" فقال أن سياستنا عدم التدخل حتى لا يقولون أن المجلس يقبض على المواطنين! وكانت نتيجة ميدان القتل حينما حوصر التظاهرون بين الجيش الذى يقطع الطريق إلى المجلس العسكرى من الأمام والبلطجية الذين يضربونهم من الخلف هى قتيل واحد وأكثر من ثلاثمائة جريح.

ثم أصبح هذا هو التكتيك المعتمد فى المذابح الثلاثة التالية فى 9 أكتوبر (ماسبيرو) و19 نوفمبر (أحمد محمود) و15 ديسمبر (مجلس الوزراء والقصر العينى): فلابد من انتهاز فرصة أضعف لحظة للمحتجين (مسيحيين فى وجود تعصب من بعض القطاعات فى ماسبيرو، معتصمين من مصابى الثورة لا يتجاوزون 12 خيمة وأقل من 150 معتصما فى التحرير فى 19 نوفمبر، توقيت الفجر وقلة عدد المعتصمين فى اعتصام مجلس الوزراء). يلى هذا بلطجية مندسون يقومون بالتخريب وأحيانا يضربون الطرفين لكى يوفروا حجة التدخل لحماية البلد سواء دفع لهم فلول الوطنى أو ساهم فى هذا المعرفة مع التجاهل أو التواطؤ من قبل الجيش أو الداخلية كما أفشى اللواء الروينى السر فى معركة العباسية، ثم أخيرا التدخل السافر بالقمع العنيف من الجيش و/أو الشرطة! وبالتالى تتزايد أعداد القتلى لتصل إلى العشرات، وتتزايد أعداد الجرحى لتصل للمئات أو تتجاوز الألف! وحتى فى أحداث ديسمبر الأخيرة أوضح التسجيل الذى أذاعه اللواء فى المؤتمر الصحفى الذى عقده يوم 19 ديسمبر أن أمن الدولة الذى غير أسمه ولم يغير جلدة ولا وظيفته يقوم باستئجار البلطجية بالمشاركة مع التحريات العسكرية، مما أحرج اللواء فطالب بالإسراع بالشريط عندما فضح نفسه بغير روية أيضا! واستمرت تلك الموجة القمعية الأخيرة ستة أيام لتكون آخر حملة قتل فجر الثلاثاء 20 ديسمبر ومات فيها وبسببها 3 من الشباب. وانتفض كل الثوار والقوى الحية فى المجتمع احتجاجا على القتل والقمع وانتهاك الحرمات ليجبروا المجلس العسكرى على التراجع والاعتذار وإنهاء الهجمة فى بيانهم الثانى خلال الأحداث مساء الثلاثاء 20 ديسمبر. بالطبع لن تكون تلك الهجمة هى الأخيرة فالهدف الخاص بكسر إرادة الثوار مازال قائما والتحضير الإعلامى قد بدأ، ولكن استبسال الثوار وقوى المجتمع الحية فى كسر كل هجمة يخرجهم أكثر قوة ويفضح المجلس العسكرى وحلفائه رجال الإسلام السياسى أمام قطاعات أوسع من شعبنا ويساهم فى دفع ورص قوى الثورة.

مستقبل الثورة وتكتيكات الثوريين

لم يكن طريق الثورات فى يوم من الأيام قصيرا يعد بالأيام أو بالأسابيع فقط، ولا كان طريق الثورات معبدا بالورود. إن الهدف الضخم للثورة فى هدم النظام القديم وبناء نظام جديد لابد وأن يمر بمخاض عسير ومعارك صغيرة وكبيرة. وقد انطلقت الثورة المصرية ونجحت فى الإطاحة بمبارك فى 11 فبراير، ثم نجحت عبر مسار شاق فى إبريل ويوليو فى القبض على عصابته المقربة وأولها أنجال الرئيس ورجاله المقربين مثل رؤساء مجالس الشعب والشورى والوزارة وعدد من كبار أركان النظام، وفى تحقيق بعض المكتسبات. وبالطبع كان لابد وأن يفجر هذا كل طاقات الثورة المضادة فى مصر وفى الوطن العربى والعالم. وارتكز نشاط تلك القوى إلى كل قوى الضعف فى مجتمعنا سواء من ناحية تواضع مستوى التسييس وغياب الأحزاب الجماهيرية الكبيرة وذات التوجه الديمقراطى الجذرى والثورى، أم من ناحية زيادة نسبة المهمشين وسكان العشوائيات والقطاعات الرثة من المواطنين (وهم الأساس الاجتماعى للبلطجية والمخربين) أم من ناحية انتشار الفقر وانتشار الإيديولوجيات الدينية ذات التفسيرات القدرية والمحافظة بطبعها. وتم ضخ المليارات من مليونيرات الداخل وأموال الخليج وغيرها لتمويل الثورة المضادة. إلا أن كل ذلك، رغم بعض نجاحاته فى توجيه بعض الضربات لبعض أشكال الاحتجاج الثورية، إلا أنه لم يكسر إرادة الثوريين. لقد وسع من دائرة نشاطهم لكى تمتد عبر القرى والأحياء والمدن التى لم تتغلل فيها الثورة بعد، وحول التيار الديمقراطى والثورى إلى تيار شعبى جماهيرى لأول مرة فى بلادنا منذ عقود طويلة.

ولاشك فى أن معارك كثيرة تنتظرنا من أجل تطوير وعى الجماهير وأدوات تحركها التنظيمية الحزبية والنقابية والأهلية. ولا شك أيضا أن هذا يقتضى من الثوار الوعى بتحليل ميزان القوى المتغير وتحديد العدو فى كل لحظة واستنفار الجمهور، كما يقتضى الالتفات إلى شعاراتنا وترتيب الرئيسى فيها والذى يتغير مع ميزان القوى فى كل لحظة. ولقد أبرز شباب الثورة شعارات تدين قمع المجلس العسكرى وتطالب برحيل العسكر سواء تحت شعار مجلس رئاسة مدنى أو ذو أغلبية مدنية، أو تحت شعار حكومة إنقاذ وطنى بديلا عن حكومة الجنزورى. وواضح أنه رغم نجاح معسكر الثورة فى كسر هذه الهجمة القمعية المعادية للثورة فإن القوى الثورية أضعف من أن تحقق فى ميزان القوى الراهن هدف رحيل العسكر فى المدى المباشر مما يجعلها شعارات دعائية يهدف طرحها إلى تعبئة القوى فى اتجاهها. إلا أن هذا لابد وأن يرتبط بشعارات أقرب يمكن الظفر بها من أهداف الثورة بالذات فى مجال التحقيق الفورى العدالة الاجتماعية وفى مجال تأمين الديمقراطية للشعب. لابد من رفع شعار إقرار حد أقصى للأجور (شاملا البدلات وعائد الصناديق الخاصة) فورا، ولابد من الشفافية فى الكشف عن عائد تلك الصناديق وإجمالى الأجور المليونية وإلى أى مدى توفر إمكانية رفع الأجور للحد الأدنى 1200 جنية. كما لابد من رفع مطلب زيادة الموارد الحكومية الحالية من الطبقات الغنية برفع شرائح الضرائب التصاعدية على الأغنياء بدلا من زيادة معاناة الفقراء بفرض ضرائب غير مباشرة على البنزين والسولار. ولابد من الإقرار القانونى بحقوق الديمقراطية للجماهير من خلال تقنين حق الاضراب والاعتصام والتظاهر السلميين وإدانة كل محاولة للقمع والتنكيل ومحاكمة المسئولين عنها. إن قوى الثورة المضادة ترتكز لكل ما هو متخلف فى المجتمع تماما بقدر ما ترتكز قوى الثورة إلى ثقتها فى امتلاكها لعدالة قضيتها وقدرتها على صنع المعجزات وتفانيها من أجل ممارسة حقها فى صنع المستقبل الديمقراطى العادل لوطننا مصر.



#محمد_حسن_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتخابات مجلس الشعب تحت شعار استمرار الثورة
- مستقبل الثورة: قراءة فى ميزان القوى الراهن


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد حسن خليل - عندما يتقاطع مسار الثورة مع الانتخابات البرلمانية