أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مجدي عزالدين حسن - الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة (2)















المزيد.....



الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة (2)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 3589 - 2011 / 12 / 27 - 17:18
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


أولاً: فقه الطاعة والخضوع: ثقافة الديمقراطية أم ثقافة الاستبداد
بادئ ذي بدء، لو بدأنا بطرح السؤال التالي: هل استطاع الفقه السياسي الإسلامي عبر تاريخه الطويل أن ينتج لنا أو يساعد في بلورة خطاب سياسي حديث في المسألة السياسية بعامة ونقد الاستبداد السياسي بخاصة؟ وفي سبيل الإجابة على هذا التساؤل، فمن المؤكد أن ما حدث من صراعات دموية في التاريخ الإسلامي الباكر، وفي ظل " اغتصاب الخلافة وتعاقب الخلفاء اللا شرعيين على عرش الدولة الإسلامية". وبسبب من الاستبداد الذي عاشته الأمة طويلاً( في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين وحتى اليوم)، كل ذلك " أوجد في الأمة حالةً من الرضا والتسليم بالحكم الديكتاتوري، وأصبحت الديكتاتورية من صميم نظم المجتمع واعتقاداته، واستغل الحكام هذا الوضع المتردي فأصبغوا على عروشهم صبغةً شرعية تمنعهم سخط الناس عليهم وتجعل المعارضين في موقف وكأنه معاد للأمة جمعاء كما حدث للإمام الحسين وللثورات المناهضة التي جاءت نتيجة لثورته في كربلاء... وانحصرت الممارسات الديمقراطية في نطاق ضيق ومحدود لا يسمح بانتشارها وصيرورتها جزءً من نظم المجتمع واعتقاداته وسلوكه العام، وأصبح القمع والإرهاب والاضطهاد من المظاهر المألوفة التي اعتاد عليها الإنسان العربي، ولم تشهد الأمة الإسلامية منذ اغتصاب الخلافة أي فترة عمت فيها معاني الحرية والتسامح والقبول بالرأي والرأي الآخر، بل كان التمييز الطائفي والتكفير وجميع سياسات الاضطهاد هي الغالبة"
في ظل ما سبق، لم يكن لأي نسق فقهي أن يسود سوى ما يحض على طاعة الحكام والخضوع لهم، ولذلك كانت السمة الغالبة للفقه السياسي الإسلامي هي أنه فقه (طاعة وخضوع). و" أصبحت الدكتاتورية متغلغلةً في كل شئون الحياة، في الأمزجة والعادات والتقاليد وفي جميع نظم المجتمع، ولم يعد المجتمع الإسلامي مؤهلاً للديمقراطية على الإطلاق" وهو الشيء الذي يجعلنا نقول بأنه لم يكن لنقد الاستبداد السياسي تاريخاً في الثقافة السياسية الإسلامية، فقد غلب على هذه الثقافة التشريع للدولة السلطانية والملك القهري حتى عُدّ الخروج على السلطان والتمرد عليه " رديفاً للمروق عن الدين وتهديد وحدة الجماعة وبيضة الجماعة لدى المسلمين في سائر أعصر الاستبداد"
قديماً مثل مذهب أهل السنة والجماعة التيار المحافظ الموالي والمعبر عن أشواق السلطة ومصالحها، وهو بذلك يكون التيار الرسمي للدولة المسلمة آنذاك، وتتكون قاعدته العريضة من جماهير المسلمين الذين كانوا يوالون الحكام رهبة أو رغبة، خوفاً أو طمعاً. ومن المعلوم أن (السياسة الشرعية) لم تكن في نظر القدماء علماً مستقلاً بذاته وإنما كانت مبحث من مباحث علم الفقه الإسلامي. وقد مثل فقه السياسة الشرعية في العصر الوسيط لحظة التأسيس الأولى للفقه السياسي الإسلامي، وقد تناول فقه السياسية الشرعية جملة من القضايا والمشكلات، مثل: وجوب تنصيب الإمام، والاختلاف في وجوب الإمامة: هل تجب بالعقل أم بالشرع؟ شروط الإمامة: ما هي الشروط التي يجب توفرها في الإمام؟ شرط القرشية: الخلاف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشياً أم أنه الأكفأ بغض النظر عن نسبه. أسلوب اختيار الحاكم، وواجباته وحقوقه، الشورى: الخلاف حول كنه الشورى، وهل هي معلمة أم ملزمة للحاكم؟ هل يجوز للرعية (المسلمين) أن تنزع البيعة من الحاكم أو تعزله؟ متى وكيف يكون عزل الحاكم؟ وكيفية محاسبتهم للحاكم؟ مسألة البيعة: الاختلاف حول هل تكون البيعة من أهل الحل والعقد ـ نيابة عن جميع المسلمين ـ لمن يرونه صالحاً للإمامة؟ أم تكون من عامة المسلمين مباشرةً؟ وهل يشترط رضا أهل الحل والعقد عند استخلاف الإمام لغيره من بعده؟..الخ.
والقراءة الفاحصة للقضايا والمشكلات التي أهتم الفقه السياسي الإسلامي بمعالجتها طوال تاريخه الطويل، تبين أن النفس الغالب على الثقافية الفقهية الإسلامية عبر الحقب التاريخية المختلفة هو التشريع للدولة السلطانية وللملك القهري. وعلى ذلك فقد جعل الفقه السياسي الإسلامي بؤرة اهتمامه وتركيزه منصبة على التقنين والتشريع لسلطة الخليفة وفي المقابل عمل على إهمال الدور الحيوي المنوط بالأمة في عملية تدبير شؤونها بما فيه حقها في اختيار من يحكمها وحقها في عزله والخروج عليه إن أرادت ذلك.
وإذا نظرنا إلى فقه السياسة الشرعية من خلال ثنائية ( السلطان/ الأمة) نجده قد أعطى الأولوية والأهمية للطرف الأول(السلطان) بينما تم تهميش الطرف الثاني(الأمة) وتغييبه لصالح توطيد دعائم سلطة الأول. وفي ظل سلطة الملك القهري المستبد كان لا بد من سيادة الفقه السلطاني الذي يصبغ الشرعية الدينية لحكام لا شرعيين اغتصبوا حق السيادة من الأمة قهراً وقوة، ليصبح اللا شرعي شرعياً، وكان لا بد من فقه يوجب على الأمة طاعة حكامها ويضمن خضوعها لحكمهم الجبري والصبر على جورهم وظلمهم وفسقهم! باختصار كان لابد من فقه (الطاعة والخضوع) الذي يضمن لهم إحكام سيطرتهم على الأمة وبالتالي استمرارية ملكهم وحكمهم. ويقوم فقه الطاعة والخضوع على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل الأساس النظري الراسخ الذي على أساسه تشيّدت المضامين والأنسقة الفقهية السنية المتعددة، وهي وإن تباينت على مستوى التخريج النهائي لأفكارها إلا أنها انطلقت من ذات المبادئ والأسس والتي جملناها في ثمانية مبادئ رئيسية. وإذا قمنا بتفحص هذه الأسس النظرية والمبادئ الأولية ومنهجيات التناول التي قام العقل السياسي الإسلامي طوال تاريخه بتطبيقها وبتوظيفها في إنتاج ثقافة سياسية محددة، فسنعرف حينئذ إلى أي مدى تناهض هذه المبادئ والأصول ثقافة الديمقراطية وفي المقابل تجذر وترسخ لثقافة الاستبداد. لنلقي نظرة على بعض هذه المبادئ الأوليةـ المتعلقة بموضوع بحثنا تحديداً ـ التي هي بمثابة أصول بالنسبة للفقه السياسي الإسلامي.
1/ مبدأ طاعة ولي الأمر:
يعتبر مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين من الأصول المجمع علي وجوبها عند أهل السنة والجماعة، حتى وإن جاروا وفسقوا وظلموا وفجروا. ويستدلون على وجوب الطاعة لأولى الأمر بقوله تعالى: " يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" سورة النساء: 59 وعند الإمام النووي " المراد بأولى الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم" وعند ابن تيمية: " أولوا الأمر صنفان الأمراء والعلماء" أي الفقهاء.
ويستدل أهل السنة والجماعة على وجوب هذا المبدأ بمجموعة من أحاديث الرسول (ص) منها: ما رواه البخاري: " حدثنا مسدد حدثنا يحيي بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" وفي الحديث الذي رواه مسلم: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فأسمع وأطع"
وأورد البخاري في صحيحه حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" ويورد أيضاً في باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): " اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"
وعن عبد الله رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: " السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصيةٍ فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة"
وفي الأحكام السلطانية للماوردي: " فرض الله علينا طاعة أولى الأمر فينا وهم الأئمة المتآمرون علينا. وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: (سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فأسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم)" ويصل هذا المبدأ إلى أقصى مدى يمكن أن يبلغه مع الإمام الغزالي (ت505هـ) الذي رأى " إن الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة الإمام لا تزيد على الطاعة المشروطة على الأرقاء والعبيد في حق ساداتهم، ولا على الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله ... وما من شخص يقدر مخالفته في أمر من الأمور إلا وهو بعينه إذا انتهى إلى العتبة الشريفة• صفع على الأرض خاضعاً وعفّر خده في التراب متواضعاً، ووقف وقوف أذل العبيد على بابه، وانتهض ماثلاً على رجليه عند سماع خطابه، ...، فأية طاعة في عالم الله تزيد عن هذه الطاعة! وأية شوكة في الدنيا تقابل هذه الشوكة!"
2/ القرشية كشرط مسبق ومحدد للحاكم:
رأت المؤسسة الفقهية السنية أن خليفة المسلمين يجب أن يكون من قبيلة قريش، وقد تحدث الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية عن شروط الإمامة، وكان شرط القرشية هو الشرط السابع الذي أورده، بقوله: " النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه... لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي (ص): (الأئمة من قريش). فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا (منا أمير ومنكم أمير) تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء)... وليس مع هذا النص المسلم به شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له "
وأورد البخاري في صحيحه: كان محمد بن جبير بن مُطعم يُحدّثُ أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفدٍ من قريش أن عبد الله بن عمرو يُحدّثُ أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يُحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثرُ عن رسول الله (ص) وأولئك جُهّالكم فإياكم والأماني التي تُضلُّ أهلها فإني سمعتُ رسول الله (ص) يقولُ: " إنّ هذا الأمر في قريشٍ لا يُعاديهم أحد إلا كبّهُ اللهُ في النار على وجهه ما أقاموا الدين" وأيضاً، يأتي في ذات السياق حديث ابن عمر عن رسول الله (ص): " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان"
ويعلق فرج فودة على شرط القرشية، بقوله: " نصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشياً)، وقد تتعجب من أن ينادي البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذي يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذي لا يعطي فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحاً، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي"
في مقابل المؤسسة الفقهية السنية الموالية، نجد أن العقيدة السياسية للخوارج تساوي بين جميع المسلمين عرباً كانوا أم عجماً، أحرار أم أرقاء، دون تمييز في الحقوق والواجبات. ويرون أن معيار التفاضل قوله تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات. وعلى أساس هذا المبدأ قرروا قاعدتهم الثورية في أصول الحكم: لكل مسلم الحق في الخلافة بغض النظر عن جنسه أو لونه، سواء أكان عربياً أو غير عربي، حراً أو عبداً. وعلى ذلك فهم معارضون لفقهاء السنة الذين حصروا الخلافة في قبيلة قريش وحدها. " وقد أخذ عن معبد الجهني غيلان بن مروان الدمشقي فقال بالقدر خيره وشره: إنه من العبد، وقال في الإمامة: إنها تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها، وإنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. وكانت نهاية أمره أن أخذه هشام بن عبد الملك بن مروان فأمر بقطع يديه ورجليه"
على ذلك فإن شرط القرشية يتنافي مع أبسط المبادئ الديمقراطية الحديثة التي تكفل الحق لأي فرد من أفراد الشعب بأن يتمتع بحق ترشيح نفسه لرئاسة الدولة مهما كان عرقه أو لونه أو عقيدته أو جنسه أو آراؤه السياسية.
3/ الشورى معلمة وليست ملزمة للحاكم:
مبدأ الشورى في الإسلام كان ولا يزال موضع خلاف بين علماء وفقهاء المسلمين، ولا يزال الجدال دائرا حوله وخاصة في المسألة المتعلقة بإلزامية الشورى من عدمها، والتي يمكن التعبير عنها بالسؤال: هل الشورى ملزمة للحاكم؟ هذا السؤال يعبر عن واحدة من أهم القضايا المتعلقة بمبدأ الشورى في الإسلام وهي قضية إلى أي مدى يمكن أن تكون الشورى ملزمة للحاكم؟ هذا التساؤل بدوره يتفرع إلى سؤالين: فمن جهة أولى: هل يجب على الحاكم أن يستشير؟ ومن جهة ثانية: إذا استشار الحاكم، فهل هو ملزم بالأخذ بما تُفضي إليه الشورى من نتائج أم أن الأمر يرجع إلى تقديره وتدبيره وإلى رأيه وإن كان مخالفاً لما أفضت إليه الشورى؟
هناك من الفقهاء من قال بأن الحاكم ملزم بأن يستشير ولكنه في نفس الوقت غير ملزم بإتباع ما تؤول إليه الشورى من نتائج! " وهو رأي الأغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم بإتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم" وفي ذات السياق، يقول الإمام النووي: " ينبغي للمتشاورين أن يقول كل منهم ما عنده، ثم صاحب الأمر يفعل ما ظهر له مصلحة" يقول القرطبي: " الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولاً إلى كتاب الله والسنة إن أمكنه. فإذا أرشده الله إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلاً عليه"
في المقابل، ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن الحاكم ليس ملزماً بأن يستشير من الأساس! وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية: " وإذا استشارهم، فإن بيّن له بعضهم ما يجب إتباعُه من كتاب الله وسنة رسوله، أو إجماع المسلمين، فعليه إتباع ذلك" والمتفحص لقول ابن تيمية يلاحظ أن يُعطي الحاكم خيار أن لا يستشير أصلاً وهو ما نقرأه بكل وضوح في افتتاحية عبارته "وإذا استشارهم" فهذه الصيغة لا توجب الشورى كمبدأ إلزامي على الحاكم أن يأخذ به في تدبيره لكل صغيرة وكبيرة من شئون المسلمين. فعبارة ابن تيمية السابقة تسكت عن تساؤل آخر: وإذا لم يستشرهم؟! بطريقة أخرى يمكن أن نفهم عبارة ابن تيمية على النحو التالي: الحاكم ليس ملزماً بأن يستشير، ولكن إذا استشار، فعليه الإتباع. وهناك من يرى أن " القول بإلزامية الشورى يُذهب بمعنى الخلافة، ويسلب الإمام حقه الذي قرره الشارع له، وحديث رسول الله (ص) يؤكد حق الخليفة ويوضحه، وهو أن الخليفة له السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية"
ما سبق يبين لنا بما لا يدع مجال للشك بأن الشورى كمبدأ ليست ملزمة للحاكم في أدبيات الفقه الإسلامي القديم، ولا نلمس لها أي مضمون إيجابي ولا أثراً عميقاً على مستوى الممارسة السياسية في تاريخ المسلمين. وهي الحقيقة التي يلحظها المفكر الإسلامي المعاصر حسن الترابي، ويصيغها على النحو التالي: " أن ميراثنا السياسي لا يحتوي من الشورى في انتخابات الولاة وتقرير السياسات العامة إلا تلك السُّنن المحدودة لعهد الصحابة رضي الله عنهم، وإلا ما يمثله مفهوم الإجماع في الأحكام الفقهية وما يمثل مفهوم أهل الحل والعقد الذي كان حظه في الواقع أدنى بكثير من حظ الإجماع" وعلى ذلك فإن الشورى كمصطلح لم تأخذ مضموناً عميقاً وبعداً فاعلاً في أدبيات الفقه السياسي القديم، ولم تكن لها قيمة ذات شأن ولم تُعطى أية أهمية، ويرجع سبب ذلك إلى أن: " الممارسة السياسية الشورية لم تكن واسعة ولا ذات خطر في التاريخ الإسلامي... فكلمة الشورى اليوم تثير معنى أكبر وأخطر مما تثيره في الفقه التقليدي حيث كانت تشير إلى إجراء عفوي، أن يشاور المرء من اتفق ممن عنده ثم يدبّر أمره كيف شاء إلا أن يستأنس بالرأي الآخر، ولم يكن معناها السياسي هو المتبادر، إذ هي أكثر استعمالاً في المعاملات الاجتماعية والشؤون الشخصية"
وكذلك الحال على مستوى أدبيات الإسلام السياسي الحديث وهو الأمر الذي يؤكده يوسف القرضاوي بقوله: " رأينا ممن ينتسبون إلى الفقه في عصرنا، ومن يُحسبون ضمن فصائل الصحوة الإسلامية، من يقول: إن الشورى معلمة لا ملزمة، وإن من حق ولي الأمر أن يستشير ليستنير، ثم يضرب برأي أهل الشورى عرض الحائط إن شاء وينفذ رأيه هو! وإنه الذي يعين مجلس الشورى، ثم يقره إن شاء، ويحله متى شاء!" وهاهو تيار من تيارات الإسلام السياسي المعاصر يقول في إحدى منشوراته: " المشرِّع إنما هو الله، وليس الأمة. وصاحب الصلاحية في تبني الأحكام التي تلزم لرعاية شؤون الناس وتسيير الحكم إنما هو الخليفة وحده، فيأخذ الأحكام من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله بناءً على الدليل الأقوى باجتهاد صحيح. ولا يجب على الخليفة أن يرجع لمجلس الأمة لأخذ رأيه فيما يريد تشريعه من أحكام، وإن كان يجوز له ذلك،... فإذا رجع الخليفة إلى مجلس الأمة لأخذ رأيه في الأحكام التي يريد أن يتبناها، فإن رأي المجلس لا يكون ملزماً له، ولو كان بالإجماع أو بالأكثرية"
4/ الثورة على الحاكم الجائر أساس كل شر وفتنة:
أجمع فقهاء أهل السنة والجماعة على أن الخروج على الحاكم الجائر والظالم حرام شرعاً، وذلك لأن هذا الخروج يترتب عليه فساد كبير وشر عظيم لما فيه من الفتن وإراقة الدماء. وهو أصل من أصول أهل السنة والجماعة. وعلى ذلك يرون حرمة الخروج على الحاكم الجائر ولا يجوزونها إلا في حالة واحدة وهي إذا صدر أو ظهر منه كفر بواح عليه من الله برهان! ولا يدخل في دائرة الكفر البواح: ارتكاب الكبائر باستثناء كبيرة الشرك، ولا يدخل ظلم الحاكم للرعية، ومصادرة حقوقها، واضطهادها، كل ذلك لا يُدخل في دائرة الكفر البواح، وبالتالي لا يجوز الخروج على الحاكم! وإن أخذ مالك وضرب ظهرك بالسياط! قال ابن القيم: " الإنكار على الملوك والخروج عليهم أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" ويقول ابن تيمية: " نهى النبي (ص) عن القتال في الفتنة وكان ذلك أصل من أصول السنة وهذا مذهب أهل السنة والحديث وأئمة المدينة من فقهائهم وغيرهم... ومن أصول هذا الموضع أن مجرد وجود البغي من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم بل لا يبيحه بل من الأصول التي دلت عليها النصوص أن الإمام الجائر الظالم، يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه ولا يقاتلونه كما أمر النبي (ص) بذلك في غير حديث، فلم يأذن في دفع البغي مطلقاًً بالقتال بل إذا كانت فيه فتنة نهي عن دفع البغي به وأمر بالصبر... فلهذا نهى النبي (ص) عن قتال الأئمة إذا كان فيهم ظلم لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم" ويقول أيضاً في كتابه منهاج السنة: " ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج عن الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بدون قتال ولا فتنة. فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته"
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال (ص): " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فراه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة" وعلى ذلك فإن منطق مذهب أهل السنة والجماعة هنا يتمثل في أنه لا يجوز إزالة الضرر بضرر أكبر منه، ومن شروط تغيير المنكر ألا يؤدي إلى منكر أكبر منه. يترتب على هذا القول نتيجة فحواها أن الخروج على الحاكم الجائر فتنة، بمعنى آخر: الخروج على الحاكم الجائر بقصد إزالة فساده وظلمه لا يؤدي في الواقع إلا إلى فساد أعظم وشر أكبر، ولذلك وحتى نتقي الفتنة فيتوجب علينا الصبر. وتحمل جور الحاكم وظلمه أفضل من فتنة الخروج عليه، لأن قتاله فيه فساد أعظم من فساد ظلمه وجوره.
5/ القهر والاستيلاء طريقاً للحكم:
استنبط الفقهاء من الطرائق التي بواسطتها تم اختيار الخلفاء الراشدين قواعد للكيفية التي يتم بها تنصيب الخليفة وهي: أن يتم اختيار الخليفة من أهل الحل والعقد (خلافة أبو بكر الصديق نموذجاً). أو أن يعهد الخليفة لمن يختاره للخلافة (خلافة عمر بن الخطاب نموذجاً). وبعد خلافة عثمان بن عفان " وقع خلل في التزام السُّنن الشورية وكاد التاريخ الإسلامي أن يخلو من الإجراءات الشورية المطلقة في تعيين الولاة، وما كان من الشورى لم يكن عن حرية ورضى وضبط.... أما السُّنة الأغلب في الممارسة السياسية الإسلامية فالذي يغلب عليها هو ولاية العهد وميراث الخلافة واستلاب الأمر بالانقلاب أو التمكّن" ولما تحولت الخلافة إلى ملك عضوض أجازت المؤسسة الفقهية السنية أن يعهد الخليفة لابنه من بعده أو أخيه، كما أجازوا أن يعهد لأكثر من واحد من أبنائه بعد ترتيب الخلافة بينهم. كذلك أجازوا الخلافة لمن ينالها بالقوة والغصب حتى ولو كان من ينالها فاجراً لكيلا يبيت المسلمون بغير إمام! وبذلك يكون فقهاء أهل السنة والجماعة قد جعلوا ثبوت البيعة بالقوة والغلبة والقهر طريقاً ثالثاً بجانب تقلد الإمامة بطريق العهد وبطريق الاختيار. وفي ذات السياق، يقول الإمام النووي( ت676هـ): " أما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعاً للشرائط بأن كان فاسقاً أو جاهلاً، فوجهان: أصحهما انعقادها لما ذكرناه وإن كان عاصياً بفعله" وقد جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني(ت852هـ): " أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء"
ويعلق باحث إسلامي معاصر بقوله: " إن الاستبداد والاستيلاء على حق الأمة بالقوة ـ وإن كان يحقق مصلحة آنية ـ إلا أنه يفضي إلى ضعف الأمة مستقبلاً وتدمير قوتها وتمزيق وحدتها، كما هو شأن الاستبداد في جميع الإعصار والأمصار، وأن ما يخشى من افتراق المسلمين بالشورى خير من وحدتهم بالاستبداد على المدى البعيد، وهذا ما تحقق اليوم" ومن الواضح أن المؤسسة الفقهية السنية الرسمية تُفهم وظيفتها تاريخياً في إضفاء الصبغة الشرعية لما يحدث على أرض الواقع بقوة السلطان وذلك من خلال العمل على تطويع النصوص وتأويلها حتى تتفق مع طبيعة السلطة الحاكمة. ومعلوم أن مبدأ القهر والاستيلاء كطريق موصل للحكم ( بلغة اليوم الوصول إلى السلطة بواسطة الانقلاب العسكري) يتنافى مع مبدأ الانتخاب ومبدأ التداول السلمي للسلطة وهما من أهم المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية كصيغة للحكم. فبواسطة آلية الانتخاب الحر النزيه يتسنى للشعب انتخاب رئيس الدولة أو رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان. ويستطيع من خلال هذا الأسلوب الديمقراطي السلمي نفسه تغيير حكومته.
6/ مبدأ الصبر على جور الأئمة وعدم الخروج عليهم:
لا يجوّز مذهب أهل السنة والجماعة الخروج على الحاكم، ويعتبرون أن الصبر على جوره أصل من أصولهم. وفي هذا الصدد، يقول الإمام الطحاوي: " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" ونقل الإمام النووي الإجماع على عدم الخروج على الإمام الجائر بقوله: " وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته، وأجمع أهل السنة إنه لا ينعزل السلطان بالفسق"
وجاء في السنة النبوية: عن ابن عباس قال: قال النبي (ص): " من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارقُ الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية"
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: " ستكون أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم".
وعن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: " ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" " الأحاديث توجه إلى الصبر على مفسدة أمراء الجور، وترك قتالهم لما يترتب عليه من الفتنة الكبيرة والشر المستطير، قال ابن تيمية: " فأمر ـ مع ذكره لظلمهم ـ بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة، ... فقتال ولاة الأمور إن فيه فتنة وشراً أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر"
ويقول ابن تيمية عن الفتنة ما يلي: " ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر، فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر. فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر ترك المأمور"
يقول باحث إسلامي معاصر: " في الخروج على الظالم مصلحةُ عزله وتوليةُ العدلِ، وإشاعة الصلاح، وإزالة الفساد، إلا أنه لما يؤول إليه ويفضي من استباحة دماء أهل الإسلام، وحصول الفتن في مجتمعات المسلمين، وغير ذلك من أسباب ـ أمر النبي (ص) بالصبر على جور الأئمة، وعدم منابذتهم أو الخروج عليهم"
وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه والبزار من حديث ابن عمر عن النبي (ص) أنه قال: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم، كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر"
7/ مبدأ الدعاء للإمام الجائر بالصلاح ومناصحته:
يؤكد أبو الحسن الأشعري على هذا المبدأ بوصفه أصل من أصول أهل السنة والجماعة الذين " يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة"
ويورد ابن تيمية في معرض حديثه عن ضرورة الإمارة: " ولهذا روي ( إن السلطان ظل الله في الأرض)، ويقال: ( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان) والتجربة تبين ذلك، فإن الوقت والمكان الذي يعدم فيه السلطان بموت أو قتل، ولم يقم غيره، أو تجرى فيه فتنة بين طائفتين، أو يخرج أهله عن حكم سلطان، يجري فيه من الفساد في الدين والدنيا، ويفقد فيه من مصالح الدين والدنيا ما لا يعلمه إلا الله. ولهذا كان السلف ـ كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم ـ يُعظِّمون قدر نعمة الله به، ويرون الدعاء له ومناصحته من أعظم ما يتقربون به إلى الله تعالى، مع عدم الطمع في ماله ورئاسته، ولا لخشية منه، ولا لمعاونته على الإثم والعدوان" وقد قال رسول الله (ص): ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه أمركم) وقال: ( ثلاث لا يغلُّ عليهن قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: ( الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقال الإمام أبو محمد البربهاري: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فأعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت رجلاً يدعو للسلطان بالصلاح فأعلم أنه صاحب سنة إنشاء الله" وبذلك يصبح الدعاء للسلطان سمة دالة ومؤكدة على الانتماء لأهل السنة والجماعة، والعكس صحيح فكل من يدعو على السلطان فهو صاحب هوى!
8/ مبدأ السيادة: الله مصدر السلطان لا الأمة
حاولت الأنظمة المستبدة عبر التاريخ الإسلامي، استغلال الدين بتطويع نصوصه من أجل أن يمنحها ذلك غطاءً شرعياً يستر عوراتها ويداري سوءاتها ويكسبها الشرعية التي تفتقدها، خاصة وأن هذه الأنظمة المتسلطة لم تأتي برضا وموافقة المسلمين عليها وإنما استولت على الحكم بالغصب والقوة والشوكة والقهر. وبالرغم من أن هذه الأنظمة المستبدة قد فرضت سلطانها على الأمة المسلمة إلا أن مسألة لا شرعية سلطتها كانت مصدر خوف وإزعاج وقلق لها، ولذلك كان همها الدءوب في البحث عن سُبل تستطيع بواسطتها تحصيل المشروعية المفقودة، ولم يكن هناك أفضل من سبيل الدين لأداء هذه المهمة. ولذلك نجد في ميراثنا الفقهي من يرى أن الاستيلاء على الحكم بالقوة والقهر لا يقدح في صحة انعقاد الخلافة.
وفي سبيل تحقيق المشروعية تم أيضاً توظيف نظرية الحق الإلهي ومقولة السلطان ظل الله في الأرض في السياق الإسلامي التي تذكرنا بمقولة الخليفة الراشد عثمان بن عفان في رده على الثوار المسلمين الذين طلبوا منه اعتزال الحكم: ( لا والله، لن أنزع رداءً سربلنيه الله)، الذين أخذوا بهذه المقولة ـ وهم الغالبيةـ رأوا " أن الله تعالى هو الذي يولّي الخليفة، ومن ثم فلا حق للرعية في نزع الإمام من مكان رفعه الله إليه" في حين رأت أقلية أن الأمة هي مصدر السلطة، وبالتالي هي التي تولى وهي التي تقيل. ف" في الإسلام السيادة للشرع وليست للأمة، فالله هو وحده المشرِّع" ويُجري تيار من تيارات الصحوة الإسلامية المعاصرة تمييزاً بين مصدر السيادة وبين مصدر السلطة، فالسيادة تكون لله وبالتالي لشرعه لا للأمة، في حين أن السلطة للأمة، إلا أنه يضيف في إحدى منشوراته قائلاً: أنه على الرغم من " أن الشرع قد جعل السلطان للأمة تُنيب عنها من يحكمها بطريق البيعة، إلا أنه لم يجعل لها حق عزل الحاكم، كما هو في النظام الديمقراطي"
كذلك تم توظيف حديث (الأئمة من قريش) توظيفاً سياسياً ليصبح شرط القرشية واحد من الشروط اللازم توفرها لشغل منصب الخليفة. من ناحية أخرى، شاع وانتشر في الثقافة السياسية الإسلامية مع بدايات الملك العضوض لبني أمية القول ب(القضاء والقدر) والقول ب(الجبر) وهو ما نلمسه في قولة معاوية بن أبى سفيان حينما عزم على تولية ابنه يزيد الحكم من بعده، ووجد معارضة شديدة من كبار الصحابة آنذاك، فرد عليهم: " إن أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم"، ومنذ ذلك التاريخ بدأ فقهاء بني أمية يشيعون أن سلطانهم (قدر إلهي) يجب التسليم به وقبوله بكل رضا، كما يتم التسليم بقضاء الله وقدره دون أي اعتراض. فهذه مشيئة الله وليس على المسلم الاعتراض على المشيئة الإلهية، بل يتوجب عليه الخضوع والطاعة والامتثال فذلك خير له. أستفتى بعض المسلمين الحسن البصري في الخروج على الحجاج بن يوسف، فرد عليهم بقوله: " أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافهم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" ومقولة البصري هذه ترينا إلى أي مدى أسهم الفقهاء في نشر وترسيخ فكر (الجبر السياسي) في أذهان عامة المسلمين، وهي الفترة نفسها التي شهدت تباين واختلاف تأويلات الفرق والمذاهب الإسلامية حول قضية: التسيير والتخيير وقد عرفت أيضا بمشكلة القضاء والقدر والتي تمحورت حول السؤال هل الإنسان مسير أم مخير؟ حيث تفرعت منها عدة اتجاهات. فالاتجاه الذي ذهب إلى أن الأفعال كلها لله عرف باسم الجبرية، في مقابل القدرية التي تبنت الرأي القائل بأن الإنسان خالق قدره خيره وشره. واللافت للنظر أن الخط الفقهي الرسمي للدولة تبنى (الجبرية) وروج لها حتى سادت وانتشرت، في حين تبنت التيارات المعارضة لحكم بني أمية أفكار القدرية " وقد أخذ عن معبد الجهني غيلان بن مروان الدمشقي فقال بالقدر خيره وشره: إنه من العبد، وقال في الإمامة: إنها تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها، وإنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. وكانت نهاية أمره أن أخذه هشام بن عبد الملك بن مروان فأمر بقطع يديه ورجليه" وهو السبب الذي يجعلنا نفهم لماذا بطشت السلطة الأموية بأنصار القدرية بكل عنف حتى وصل بها الأمر إلى قتلهم وذبحهم ـ كما تم ذبح القدري الجعد بن الدرهم ـ بعد أن تم تكفيرهم وإخراجهم من الملة الإسلامية من جانب المؤسسة الفقهية المتحالفة آنذاك مع حكام بني أمية. وفي نفس الفترة شاع وانتشر فكر (الإرجاء) والذي عمل على تحييد أغلبية جماهير المسلمين من ما كان دائراً من صراع حول السلطة، واستغله حكام بنو أمية وروجوا له وسط عامة المسلمين حتى شاع القول بعدم جواز تكفير الحاكم مهما صدر منه ومهما ارتكب من المعاصي والكبائر، وترك وإرجاء الفصل في أمره لله تعالى وحده يوم القيامة، مع وجوب طاعته والتسليم والانقياد والخضوع له في الدنيا.
كل ما سبق ذكره، أدى إلى ترسيخ مقولة أن الحاكم يستمد سلطته من الله ولا يستمدها من المحكومين، وطالما أن الأمر كذلك فإن طاعته من طاعة الله ومعصيته من معصية الله، فالسلطان ظل الله في الأرض. خطب الخليفة المنصور العباسي في الناس فقال: " أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني عليه قفلاً إن شاء فتحني وإن شاء أغلقني"



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الفلسفة وسؤال النهضة والحرية والتنوير الغائب في العالم العرب ...


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مجدي عزالدين حسن - الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة (2)