أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب بولس - وداعًا يا معلّم















المزيد.....

وداعًا يا معلّم


حبيب بولس

الحوار المتمدن-العدد: 3589 - 2011 / 12 / 27 - 09:56
المحور: الادب والفن
    


وداعًا يا معلّم
طاهر الأثواب، مرفوع الهامة، مضيت
د. حبيب بولس

أبا السّعيد،
أيّها النّبيذ المعتّق، يا ابن شعبك، ويا ابن وطنك، علّمني سرّك، علّمني.
علّمني كيف ينبت إنسان من لبّ الفقر فيغار الشّموخ منه.
علّمني كيف يعود رجل من صحبة النّجوم، فينفرط عقدها على قدميه.
علّمني كيف يقطف إنسان النّصر، ثمّ يخرج من دائرة الضّوء إلى الظّل، فيؤجّ الظّل وهجًا.
علّمني كيف يعايش إنسان الظّلم والقمع والقهر وينتزع من خاصرة هذه الجراح مساكب الأمل.
علّمني كيف يستلّ من دخان الحرائق بساتين الفرح.
أبا السّعيد،
يا معلّم هذا الجيل، لم استعجلت الرّحيل وتركتنا في حيرة؟!
أبا السّعيد،
يا معلّم الجيل، من الشّعب إلى الشّعب كانت، الرّحلة، من العتمة إلى الضّوء كانت المسيرة، ولأنّ الرّحلة شائكة، شائقة، لأنّ المسيرة ملوّنة، غنيّة، يكون فيك هذا الكلام.

ولكن من أين أبدأ فيك رحلة كلامي، وأنت الكلام كلّ الكلام؟! من أين أبدأ وأنت متعدّد المواهب، كثير الاهتمامات، واسع المجالات؟! أأبدأ من سالم المفكّر، أم من سالم القائد السّياسيّ والاجتماعيّ، والمعلّم؟ أم من سالم رجل الصّحافة المتميّز، والكاتب المميّز؟ أم من سالم الشّاعر الشّاعر، شاعر الأرض والمقاومة؟ من أين أبدأ وأنت مفرد بصيغة جمع؟ فباللّه عليك، كيف جمعت كلّ ذلك؟ وكيف اندغمت فيك المتناقضات؟ كيف جمعت بين رقّة الشّاعر، وصلابة المقاوم، كيف جمعت بين الفكر والعمل السّياسيّ المضني؟ كيف وفّقت بين عناد المبدئي وحرفة إقناع الغير؟

أبا السّعيد، أيّها الأصيل،المعلّم، الّذي قضى حياته من التّواضع إلى التّواضع! أبا السّعيد،أبا المواهب الّذي لم يتغيّ مركزا، ولا تشهّى منصبا، ولا لهث وراء لقب، ولا تشوّف إلى مادّة، بل أتته المراكز منقادة تجرجر أذيالها.
أبا السّعيد، الّذي ركل صلعة هذا الدّهر، وأثبت في مستنقع القهر رجله، وقال لها من تحت أخمصك الحشر. أيّها الجريء، الشّجاع، المقاوم، المتحدّي، القانع على كِبْرٍ،الهادئ على ثورة، لماذا رحلت؟ أيّها المعلّم الّذي شحذنا على جذعه الصّلب الطّيّب الأصيل المناقير حتّى استنسرنا، لماذا رحلت؟

كم سنفقدك في هذا الزّمن العاهر، وأنت معلّم جيلنا الّذي عنه أخذنا، ومنه تعلّمنا، فكم قوّمت مسارنا ومسيرتنا، بقلمك، بمقالاتك، بندواتك ومحاضراتك! وكم صحّحت جملة لنا كانت عائمة! ورسّخت فكرة كانت لنا غائمة أثناء تحريرك للغد وللجديد وللاتّحاد! وكم هذّبت تلعثمنا بفكرك النّيّر المنفتح! وكم علّمتنا حبّ الأرض والوطن والنّاس والتّواضع والتّمسّك باللّغة وبالتّراث بأشعارك الوطنيّة الصّادقة المغروفة من القلب!

كم كنت تدهشنا ونقول: من أين لسالم كلّ هذا؟
حتّى اكتشفنا فيك السّر. اكتشفنا أنّك منذ بداية وعيك أدركت أنّ الإنسان لا يأتي إلى هذا العالم اعتباطا، بل لهدف/ لغاية/ لرسالة، من هنا رأيت في الإنسان مشروعا كبيرا، طاقة خلاّقة مبدعة لا مشيّأة، ومن هنا رأيت أنّ رعاية الإنسان وتوعيته منذ بداية وجوده أمر ضروريّ وذلك كي ينمو سليما، معافى فكرا ونهجا وأخلاقا ومبادئ. أدركت أنّ الإنسان ثروة هذا العالم، بل كنزه الأثمن، لذلك نذرت حياتك كلّها لبناء إنسان عصاميّ/ محبّ لوطنه/ لأرضه/ لشعبه/ لتاريخه /حريص على تراثه ولغته/ فخور بانتمائه وبهويّته.

حملت لأجل قضيّة الإنسان الكبرى وقضّيتنا صليبك بلا تعب ولا كلل ولا ملل وسرت به نحو الجلجلة مرفوع الهامة، موفور الكرامة، في رحلة نضال شائكة شائقة، لا تلين، ولا تستكين/ لا تداهن ولا ترائي/ لا تتلوّن ولا تنافق/ لا تتذمّر ولا تتشكّى. فكانت من جرّاء ذلك معارك وطنيّة وفكريّة كثيرة خضتها بحرارة وخرجت منها أشدّ عودا وأصلب فكرا، لأنّك كنت مؤمنا بمبادئك/ واثقا من نفسك/ متأكّدا من طريقك.

سرت في رحلة عطاء شائكة شائقة تقدّم عصارة فكرك، وذوبَ روحك ودفق مشاعرك لأجيالنا ليروْا معك سواء السّبيل. تعمّدت في جرن الكرامة، وتسربلت ثوب العزّة، وامتسحت بميرون المحبّة والوفاء، فجاء نضالك عنيدا ينزف كرامة ويقطر عزّة وينزّ إخلاصا.

رضعت منذ بداية تكوينك أصالة أهلك وصمود شعبك وإباء بلدك فجاءت مواقفك أبيّة، عصيّة، تبشّر بالفجر الآتي. آمنت بالفرج بعد الشّدّة، وبالغيث وراء السّحاب، فصغت حياتك جداول فرح، وبحيرات أمل، وأنهارا تدفق حبّا. عشقت لغتك، وهمت بتراث شعبك، فكان حديثك جزلا قويّا جمعت فيه عمق القدامى ورقّة المحدثين.

جمعت الرّقّة والصّلابة/ العذوبة والجزالة/ الشّفافيّة والقوّة/ العناد والدّماثة، فتلوّنت شخصيّتك وتنوّعت حياتك، تتنقّل فيها من محطّة إلى محطّة بين مدارج ذات قوام واحد: الصّبر والثّبات/ الصّمود والتّحدّي/ النّضال والعراك/ العزم والعزيمة/ الإرادة والحقّ.

هكذا كنت أبا السّعيد، كنت إنسانا احترف عشق بلده، وأدمن عل حبّ لغته، وامتهن حرفة الهيام بشعبه، وتولّهَ بتراثه، فصاغ من كلّ ذلك مواقف مشرّفة، وملحمة نضاليّة تشهد لك حيّا وميّتا بالوعي النّاضج والرّؤية الثّوريّة الثّاقبة. ولكنّك قبل أن تصل إلى ذلك كلّه، فتّشت عن بوصلة ترود طريقك الشّائك ورسالتك السّامية. فكانت بوصلتك وليدة فلسفة تقول: إنّ الحياة أخذٌ وعطاء/ كفاح ونضال، ولأنّها كذلك يصبح الفرد خارج الجماعة إنسانا فارغا. فالتّاريخ لا يصنعه الفرد بل الجماعة/ الأمّة/ الطّبقة. هذه الفلسفة دفعتك نحو بديل ثوريّ يتصدّى ويحقّق الإنجازات ويعزّز النّضال من أجل التّمسّك بالأرض وبالوطن وبالهويّة. فوجدت بحسّك الثّوريّ الأصيل البديل، وجدته في الحزب الشّيوعي أوّلا ثمّ في الجبهة فالتزمت بهما فكرا وممارسة، وانطلقت من الضّيّق إلى الرّحابة والشّموليّة، والتزمت الإنسانيّة جمعاء بهمومها وآلامها وجعلت الإنسان سيّد العالم فَتَبَوْأر نضالك عليه وحوله تمحور وتمركز.

مواقعك ابا السّعيد تعدّدت والقضيّة واحدة- مواقعك تعدّدت بعدد همومنا وأوجاعنا، حملت روحك على راحتيك وسرت باستقامة نحو الأمل تحدوك همّة لا تشيخ، لن يذهب العمل سدى، دفعت المهر غاليا، لا بأس، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. خانتك المحطّات لا بأس، سنكمل المشوار، عائلة وأصدقاء ورفاقا وبلدا وشعبا.

أبا السّعيد، هل انتهت القصيدة برحيلك؟ لا لن تنتهي القصيدة. فقصيدتك ستظلّ تتفوّر وتتوهّج فينا.

أبا السّعيد، أيّها المنوّر الموسوعيّ والمتنوّر، كم تظلّلنا بمعرفتك، وتفيّأنا بظلّ أفكارك. لم يمهلك هذا الزّمن، لا بأس، ولكن ثق أنّ البذرة التي غرستها ورفاقك بسقت ونمت وها هي تناطح قرون الوعل.

أبا السّعيد، يا عاشقا بلده/ يا عاشقا شعبه/ يا عاشقا لغته/ يا عاشقا تراثه/ يا عاشقا تاريخه/ يا عاشقا انتماءه/ ليتنا نتصاغر اليوم لنصبح باقة ورد، ضمّة حبق نضعها اليوم على ضريحك عرفانا منّا بالجميل.

نَم قرير العين- حتما سنجترح المعجزة، حتما سنشرخ وجه الشّمس- وحتما سنصل الواحة حيث هناك بانتظارنا أعراس السّنابل، وجداول الفرح، وضجّة الأضواء، ولن ننساك أبا السّعيد فنم قرير العين.

يكفيك شرفا ورفاق دربك أنّ هذا الجيل من صنع أيديكم. مضيت أبا السّعيد وكأنّ قولة أبي تمّام قد فصّلت عليك تفصيلا:
مضى طاهر الأثواب لم تبق زاوية بأرض حديقة إلاّ اشتهت أنّها قبر. فنم قرير العين.
اللّه أسأل أن يكلأك برعايته وأن يسكنك فسيح جنّاته وأن يتغمّدك بواسع رحمته.
وداعا سالم جبران



#حبيب_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدكتور سليم مخولي .. شاعر وفنان أصيل، وداعا
- سالم جبران شاعر الأرض والمقاومة
- ضحك على ذقون القتلة - للشّاعر طه محمّد علي
- الدكتور إميل توما والثّقافةّ العربيّة الفلسطينية في البلاد
- النّقد الّذي نريده
- الواقعيّة الإشتراكيّة الواقع والمصير
- موضوع للنّقاش: الحوار والتّعايش أم المقاطعة؟
- كونوا الضّربة، كونوا وعد الشّمس
- للرئيس تحيّة
- ما عندنا وما عندهم
- العناصر الأسلوبية في سرد مارون عبود القصصي
- محمود درويش باق فينا
- حنّا أبو حنّا بين ديوانين:- نداء الجراح- و - تجرّعتُ سُمّك ح ...
- النقد الأدبي وإبداع الشباب
- الأرض في قصص محمد نفاع
- أصحاب المهن في كتب الأدب
- مسيرة الإنتاج الأدبي المحلي وواقع القراءة
- أبو سلمى: -زيتونة فلسطين-
- اضافات اميل حبيبي للجانر القصصي
- القصّة/ الأنا المثقف المؤنث/ رجاء بكرية/ نموذجا


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب بولس - وداعًا يا معلّم