أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر الكعبي - (الحاوية الزجاجيّة) لسِلفيا بلاث















المزيد.....

(الحاوية الزجاجيّة) لسِلفيا بلاث


حيدر الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 3572 - 2011 / 12 / 10 - 00:16
المحور: الادب والفن
    


الـحـاويـة الـزجـاجـيّـة

ســـِلـفيا بـلاث

ترجمة حيدر الكعبي



كان صيفاً غريباً قائظاً— صيفَ أعدموا أسرة الروزنبرغ بالصدمة الكهربائية. لم أكن أعرف ما الذي كنت أفعله في نيويورك، فأنا لا أفهم في الإعدامات، وفكرة الموت بالصدمة الكهربائية تصيبني بالغثيان. وكان ذلك كلَّ ما كان يمكنك القراءة عنه في الجرائد حينذاك—عناوين بارزة جاحظة تحملق بك من كل ركن وفي كل شارع، ومن أفواه الأنفاق العفنة الفائحة برائحة الفول السوداني. ومع أن الأمر لم يكن يعنيني، فلم يكن في وسعي إلا أن أتساءل تُرى كيف يشعر المرء وهو يُحرق حياً وتسري النار في أعصابه كلها.
وحدثتني نفسي أن ذلك كان، بلا شك، أسوأ ما في الكون.
وكانت نيويورك سيئة أصلاً وبما فيه الكفاية. ففي التاسعة صباحاً تكون الطراوة الزائفة المبتلة بندى الأرياف والتي كانت قد تسللت ليلاً، قد تبخرت مثل ذيل حلم لذيذ. والشوارع الساخنة تهتز تحت الشمس، وقيعان مجاريها الجرانيتية رمادية كالسراب. وسقوف السيارات تتفرقع وتلتمع. والغبار الشرري الجاف يهب على عينيّ ويدخل في حنجرتي.
ظللت أسمع عن الزوجين روزنبرغ في الراديو وفي المكتب حتى لم يعد بوسعي إخراجهما من رأسي. كان ذلك يشبه المرة الأولى التي رأيت فيها جثة. فلأسابيع طويلة، ظل رأس الجثة—أو ما كان قد بقي منه—يطفو فوق وجبة إفطاري المكونة من البيض والقديد، وفوق وجه بَـدي وِلَـرْد، المسؤولةِ الأولى عن رؤيتي إياها. وسرعان ما أحسستُ أنني كنت أحمل رأس الجثة معي حيثما ذهبت، مثل بالون أسود، بلا أنف، يفوح خلاً، يربطني به خيط.
كنت أدرك أنني لم أكن على ما يرام في ذلك الصيف، فتفكيري كان محصوراً في أسرة الروزنبرغ وفي مبلغ الغباء الذي أبديته حين اشتريت كلَّ تلك الثيابِ الغالية المزعجة التي تتدلى الآن من خزانة ملابسي باسترخاء كالأسماك، وفي كل تلك النجاحات الصغيرة التي كنت سعدتُ بإحرازها في الكلية، والتي اضمحلتْ وانتهت الى لاشيء خارج الواجهات المتراصّة على امتداد شارع ماديسون برخامها الأملس وألواحها الزجاجية.
كان المفترض أنني كنت أعيش أجمل أيام حياتي. كان المفترض أن أكون موضعَ حسدِ الآلاف من مثيلاتي من طالبات الجامعة في أمريكا كلها ممن لا يُردْنَ أكثر من أن ينطنطن هنا وهناك بنفس الأحذية الجلدية، قياس سبعة، التي كنت اشتريتها من محل بلومنكديل ذات ساعة غداء، مع حزامٍ جلديٍّ أسودَ، وكتيِّبٍ جلدي أسود ليناسبَه. وحين ظهرتْ صورتي في المجلة التي كنا نعمل فيها، نحن الإثنتي عشرة، وأنا أشرب المارتيني، مرتديةً صداراً مفضضاً، ضيقاً، شفافاً، مثبتاً فوق غمامة سمينة بيضاء من الحرير المشبّك، في مطعم ستارلايت روف، بصحبة عدد كبير من الشباب الأمريكيين حتى النخاع، المؤجَّرين أو المقتَرضين خصيصاً للمناسبة، كان الجميع يظنني أعيش دوامة حقيقية.
تراهم يقولون، أنظرْ ما الذي يمكن أن يحصلَ في هذا البلد. هذه فتاة عاشت تسعةَ عشَرَ عاماً في بلدة منزوية، فقيرة بحيث تعجز حتى عن شراء مجلة، ثم هاهي تحصل على منحة دراسية جامعية، وتفوز بجائزة هنا وأخرى هناك، وينتهي بها الأمر الى أن تقود نيويورك مثلما تقود سيارتها الخاصة.
إلا أنني لم أكن أقود أي شيء، ولا حتى نفسي. كنت أتخبط بين الفندق والعمل والحفلات، ومن الحفلات الى الفندق الى العمل مثل قطار كهربائي مخدر. أظن أنه كان ينبغي أن أشعر بالإثارة كسائر الفتيات، لكنني لم أستطع أن أُجبر نفسي على الإستجابة. كنت أُحسّـني جامدةً جداً، فارغة جداً، وهو ذاتُ الشعور الذي لابد أن عين الإعصار تحس به وهي تتنقل برتابة وسأم وسط الهرج والمرج المحيط بها.
كنا اثنتي عشرةَ في الفندق. كنا جميعاً قد فزنا بمسابقة أقامتها إحدى مجلاتِ الأزياء، بكتابتنا مقالاتٍ وقصصاً وقصائدَ وثرثراتٍ تخص الأزياء. وكانت الجوائز التي مُنحناها تتمثل في وظائفَ في نيويورك مدتُها شهر، مدفوعةِ التكاليف، وأكداسٍ وأكداسٍ من الهبات الإضافية، كتذاكر لحفلات باليه، وبطاقات دخول لعروض أزياء، وأخرى لتصاميم قص الشعر في صالون شهير وغالٍ، وفرصٍ للقاء أناس ناجحين في المجالات التي نرغب فيها، ونصائحَ حول ما ينبغي عملُه بلون بَـشَـرتنا.
ومازلت أحتفظ بطقم المكياج الذي منحوني إياه والمخصص لشخص ذي عينين بنيّتين وشعر بنيّ. وهو يتكون من مستطيل من صبغ الأهداب البنيّ، وفرشاةٍ بالغةِ الصغر، وجفنة مستديرة من مظلل العيون الأزرق، لا تكاد تتسع لغمس طرف اصبعك فيها، وثلاثةِ أقلام من أصباغ الشفاه، تتراوح بين الأحمر والورديّ، مرزومة جميعاً في العلبة الصغيرة المذهبة ذاتِها، مع مرآة على أحد الجوانب. هنالك أيضاً علبة بيضاء من البلاستك للنظارات الشمسية، خِيْطَتْ عليها أصدافٌ ملونة وأقراص لاصفة، ونجمُ بحرٍ أخضرُ من البلاستك.
كنت أدرك أنهم إنما كانوا يمطروننا بالهدايا لأن في ذلك دعايةً مجانية للشركات ذات العلاقة. ولكنْ لم يكن بوسعي أن أجاهر بانتقاداتي. فقد كان ذلك الشلالُ من الهدايا يسحرني. لقد أخفيتُ تلك الهدايا زمناً طويلاً. ثم، حين تماثلتُ للشفاء، عدتُ فأخرجتها، ومازلت أحتفظ بها في مكان ما في البيت. وأحياناً أستعمل أقلام الشفاه. وفي الأسبوع الماضي قطعت نجم البحر البلاستيكي من علبة النظارات الشمسية وأعطيته لطفلتي لتلهو به.
كان هناك إذن اثنتا عشرةَ منا في الفندق، في نفس الجناح ونفس الطابق، في غرفٍ منفردة، الواحدة تلي الأخرى. وقد ذكّرني ذلك بالقسم الداخلي في الكلية. فلم يكن فندقنا فندقاً بالمعنى الدقيق للكلمة—أعني لم يكن من الفنادق التي يختلط فيها الرجال والنساء في طابق واحد. فهذا الفندق—الأمازون—كان للنساء فقط. وكنَّ في معظمهن بناتٍ في مثل سنّي، أراد آباؤهنّ الأثرياء أن يضمنوا لهن العيشَ في مكان لا يصل إليه الرجال فيخدعوهنّ. وكنّ يَذهبْنَ الى مدارسَ للسكرتارية راقيةِ المستوى، كمدرسة كَيْتي جِبْز، حيث يتوجب عليهن دخول الصف بقبعاتٍ وجواربَ وقفازاتٍ. أو كنّ قد تَخَرّجْنَ تواً من أماكنَ مثل كَيْتي جِبْز، وأصبحن سكرتيرات لمدراء عامّين أو وكلاء مدراء، ورُحْنَ ببساطة يتسكعن في نيويورك في انتظار أن يتزوجن أحدَ رجال الأعمال.
كان يبدو على تلك الفتيات ضجر رهيب. كنت أراهنّ على سطح المبنى يتثاءبن ويصبغن أظافرهن ويحاولن الحفاظ على لون بشرتهن البرونزي، برونز برمودا، وقد بدا عليهن ضجر كالجحيم. تحدثتُ مع إحداهن، فوجدتُها قد ملتِ اليخوت، وملت التحليق في الطائرات، وملت التزحلقَ على الجليد في سويسرا في أعياد الميلاد، وملت الرجال في البرازيل. تلك الفتاة ومثيلاتُها يُشعرنني بالقرف، ويثرن غيرتي الى حدٍّ أعجز فيه عن الكلام. فطَوال تسعَ عشرةَ سنة لم أغادر نيو إنكلند إلا في هذه الرحلة الى نيويورك. فهذه هي فرصتي الكبيرة الأولى. وها أنا أتكيء مسترخية وأدعها تتسرب من بين أصابعي كالمياه.



الشاعرة الأمريكية سلفيا بلاث (1932-1963) غنية عن التعريف. وأعلاه ترجمتي للصفحات الأولى من روايتها الوحيدة The Bell Jar






#حيدر_الكعبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهدي محمد علي : رحيل عام 2011
- من ديوان (هُنا، أَيَّتُها الرَّصَاصَة) لبرايَن ترنر
- ديوان مهدي طه
- ثُنائيِّةُ أَسَد بابل
- عَلَى عَتَبَةِ التَدْوين
- تعال نحلق فوق عش الوقواق
- عبد الحسن الشذر
- الخَلْق
- صور عائمة
- محمود البريكان ومسألة النَّشْر*
- أسطورة الغريق
- الكل لا يساوي مجموع الأجزاء
- أتَحَدَّثُ عنِ المدينة
- إلى من ينشرون باسم حيدر الكعبي


المزيد.....




- الكويت.. تاريخ حضاري عريق كشفته حفريات علم الآثار في العقود ...
- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...
- تونس.. مهرجان الحصان البربري بتالة يعود بعد توقف دام 19 عاما ...
- مصر.. القضاء يحدد موعد الاستئناف في قضية فنانة سورية شهيرة ب ...
- المغربية اليافعة نوار أكنيس تصدر روايتها الاولى -أحاسيس ملتب ...
- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...
- انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة  68 Yal? Capk? ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر الكعبي - (الحاوية الزجاجيّة) لسِلفيا بلاث