أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - لطفي حجلاوي - من جديد... التربية قضية أستراتيجية















المزيد.....


من جديد... التربية قضية أستراتيجية


لطفي حجلاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3562 - 2011 / 11 / 30 - 22:22
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


التربية قضية إستراتيجية. وهذا ليس بجديد بالنسبة للدول الديمقراطية. ولكنها مسألة جديدة بالنسبة للمجتمع التونسي والعربي عموما. ومدخل الطابع الإستراتيجي في التربية هو كونها الرافعة الأساسية للبناء الديمقراطي الجذري. إذ لا مجتمع ديمقراطي بدون تربية ديمقراطية. فما هي دلالة التربية الديمقراطية؟ ثم ما العيب في نظامنا التربوي الحالي، حتى ندعو إلى استئناف النظر فيه، بغرض إعادة بنائه؟
بداية كثيرا ما تُغرينا بعض المصطلحات المركزية في الفكر المعاصر، بوضوحها الخادع، فنعتقد أننا نعرف دلالتها بدقة بالغة، في حين أننا نتوهّم ذلك. ومن هذه المصطلحات " التربية الديمقراطية". فأغلب الناس بمن في ذلك من يحملون زادا من الوعي النقابي والتوجّه اليساري عموما، يختزلون غاية نضالهم من أجل ديمقراطية التربية، في المساواة بين جميع أبناء الشعب في حصتهم من التربية العمومية والمجانية والإجبارية في بعض المستويات. وهو أمر فيه جانب من الحق، إلا أنه لا يستوفي معنى المفهوم. ذلك أن التربية الديمقراطية تعطف في معناها الشامل على مستويين متجاوري الدلالة، هما : ديمقراطية التربية وتربية الديمقراطية. الأول يتعلق بما يُعرف بالسياسة التربوية للدولة والثاني يتعلق بمضامين المواد وطرق تدريسها في الفصول.
إن التربية الديمقراطية بمعنييها، هي شكل من أنظمة التربية عبر التاريخ، لا تتميز إلا في كونها تضع الديمقراطية أولويتها القصوى والوحيدة. وحتى نكون أكثر وضوحا، نقول أنه إذا كان ليس من غاية للتربية الديمقراطية غير ذاتها كما يُعرّفها مشاهير مفكري التربية المعاصرين، فإن الديمقراطية يجب أن تكون الوجه الآخر "للعُمْلَةِ" التي نطلق علها مصطلح التربية. وعلى هذا النحو فإن تعريف التربية المؤسساتية الديمقراطية، هي في كونها مناسبة ليحيا من خلالها المتعلّم تجربة حقيقيّة في الحياة الديمقراطية. ومن أجل فهم هذه المسالة، نحتاج إلى استدعاء أداة تحليلية غاية في الوظيفية في هذا السّياق، عَنْينَا الفيلسوف الأمريكي المعاصر جون ديوي. فهذا الرّجل كان قد كتب أعظم كتبه جميعا حول مسألة الديمقراطية، وأعطاه عنوانا هو الديمقراطية والتربية Democracy and Education . ودون أن ندخل في استعراض لمفاصل هذا الأثر الموسوعي، حسبنا أن نذكّر باللحظات المركزية التالية في نظريّة التربية الديمقراطية لديوي:
ـ التربية غاية في ذاتها
ـ المدرسة في جوهرها مؤسسة اجتماعية
ـ على المدرسة أن تؤدي دورا اجتماعيا رئيسيا
ـ ما ينتظره المجتمع من المدرسة هو ما يحدد شكله المستقبلي
ـ أبرز ما يحرص المجتمع عليه الآن وفي المستقبل، هو ازدهار حياته الديمقراطية
ـ وضع المتعلمين في وضعيات تربوية ديمقراطية حقيقيّة، تُكسبهم " العادة الديمقراطيّة" المطلوبة
ـ تربية الديمقراطية لا تستثني أحدا من أفراد المجتمع ولكنها لا تبتذل نفسها
ـ التربية الديمقراطية لا تقوم على بناء ديمقراطي لغايات ومضامين المناهج الدراسية فحسب بل كذلك على ديمقراطية الوسائل التربوية وطرق التعليم.
ـ لا تختلف التربية عن الوسيلة التربوية أو عن غايتها. فالتربية والديمقراطية شيء واحد.
ـ خطأ الأنظمة التربوية المعاصرة الآن، يتمثل في عدم إدراكها الواضح للدور الديمقراطي الجوهري للمدرسة ولوظيفتها الاجتماعية الأساسية.
وحتى لا يكون الكلام، مجرد شعارات للاستهلاك الخطابي، نذكر بأن جون ديوي كان قد قدّم جميع التفاصيل العملية، التي تتيح تحقيق تلك العناوين الكبرى لنظريّته في التربية الديمقراطية وخاصة في كتابه " مدارس المستقبل". ويكفي أن نشير إلى تجربته الشهيرة في " المدرسة المخبر"The laboratory school والتي كانت مُلحقة بقسم علم النفس والبيداغوجيا بجامعة شيكاغو. وهي المدرسة التي ترأسها ديوي وحاول أن يجسّد فيها تصوره الديمقراطي لدور المدرسة.
وإذا كان ما قاله المفكر فريدريك أنقلز صحيحا في هذا السياق من أنّ " مهمة المجتمعات المتقدمة هي أن تكشف للمجتمعات السائرة في طريق النمو مستقبلها الخاص" فإنه يبدو أن وظيفة نظرية ديوي في التربية الديمقراطية هي مساعدتنا، نحن التونسيون والعرب عموما، على الوعي بما يجب أن يكون عليه مستقبلنا الديمقراطي الخاص. ذلك لأنه إذا أردنا أن نبني كائنات إنسانية ديمقراطية المضمون والسلوك، تحيا فرديا وجماعيا على الإيقاع الديمقراطي، و من ثمة تحرص على الديمقراطية حرصها على أغلى ما تملك، فإنه ينبغي علينا البداية بالنظر إلى التربية كفعل إستراتيجي.
من جديد ما التربية الديمقراطية؟
التربية الديمقراطية هي مجهود جماعي منظّم يبدأ من المجتمع الديمقراطي وينتهي إليه. أي أن مجموعة ما من أبناء المجتمع الديمقراطي، مسؤولة ومؤتمنة غالبا، هي التي تتولى عملية تربية الأجيال الصاعدة على معيار ومثال اجتماعي ديمقراطي، يكون هو المثال المطلوب. وعلى هذا الأساس فالتربية الديمقراطية هي نوع من الفعل في الآخر على نحو يساعده على نمو شخصيته كاملة في اتجاه يخدم الأغراض الديمقراطية. وأول ما ينبغي الحرص عليه عند تحديد غايات النظام التربوي الديمقراطي الحقيقي، الذي يفرز هذا النمط من الشّخصية، هو مبدأ التوازن الذاتي للفرد المتعلّم نفسه. وهو توازن لا يتحقق إلا بتربية القدرة على السيطرة على الذات، و القدرة على بناء الحكم المستقل، واتخاذ القرارات المتعقلة، والمرونة في الأفكار والطّبع، والقدرة على تعديل الآراء، والتشبع بروح الاختلاف ونسبية الحقيقة، والاعتدال والوسطيّة. ثم ثاني ما ينبغي الحرص عليه في مثل هذا النظام التربوي الديمقراطي، هو أن لا تكون هناك غاية أسمى من التربية ذاتها، بمعنى أن الفرد نفسه هو أثمن مطالب التربية. وهو أمر يعنى التوفيق الصّعب بين الذاتي والموضوعي، أو بين مقتضيات الحاجات الداخلية للفرد وبين مقتضيات محيطه الخارجي، حتى لا تتم التضحية بالفرد تحت أي مُسمّى آخر حتى ولو كانت الدولة، كما نشاهد في أغلب الأنظمة الاستبدادية العربية، أو مقتضيات سوق العمل، كما نشاهد في بقية دول العالم بمن فيهم الديمقراطية ذاتها. وثالث ما ينبغي الحرص عليه، هو أن تكون التربية المؤسساتية مجرد مقدمة للتربية الذاتية التي لا تتوقف مدى الحياة. ذلك أن من أعمدة التربية الديمقراطية اجتهاد النّاس أنفسهم في تهذيب عقولهم ومداركهم ومشاعرهم وأرواحهم وسلوكهم وقيمهم، وهو ما ينبغي أن يُشجّع عليه المجتمع ويوفر كل شروطه. ثم رابعا، ينبغي الحرص كذلك، على تكوين إطار تربوي هو بحدّ ذاته مؤمن بأولوية الديمقراطية كرهان إستراتيجي لا يتفوق عليه رهان آخر. ثم خامسا، ينبغي الحرص على تأمين علاقة صحّية بين المدرسة ومحيطها من المؤسسات الاجتماعية الأخرى، وخاصة منها المؤسسات الثقافية عموما والإعلامية تخصيصا، حتى لا يكون الدور عبثي، فما تبنيه المدرسة تهدمه غيرها. فالتربية الديمقراطية تربية جماعية ومسؤولية مشتركة، ومستقبل المجتمع برمّته، يتوقف على مدى نجاحها. وأخيرا ينبغي الحرص في النظام التربوي الديمقراطي على تدعيم العناصر الرمزية في الثقافة الاجتماعية وإعلاء قيمة المعرفة والاجتهاد وتزكية روح البحث الذاتي وتثمين النزاهة والشفافية في الوصول إلى الإجازات العلمية.
هل تتوفر هذه المقتضيات الديمقراطية الأساسية، في النظام التربوي التونسي أو العربي الحالي؟
جوابي المباشر عن هذا السؤال، كلا.
ولكن البعض قد يعترض على كلامي هذا بالقول أن سِفر البرامج الرسميّة، يحتوى على غايات ديمقراطية أساسية، أو أن البرنامج التنفيذي لمدرسة الغد في تونس لسنة 2002 احتوى بدوره على مثل تلك الغايات والقيم، مثل: توازن الشخصية، وغرس الروح النقدي، وتدعيم استقلالية الإرادة، وتنمية مبدأ الاجتهاد الذاتي، وتزكية التعقل، وتهذيب ملكة الحكم الأخلاقي والفني والجمالي. بل قد يذهب البعض أيضا الى أنّ إصلاح 1991 الشهير قد استمد روحه وغاياته من التوجّهات الوطنيّة الديمقراطية المخلصة من عرّابوه الأساسين وخاصة من إرادة المرحوم محمد الشرفي وفريقه العريض من الأكاديميين وغيرهم. ردّنا على هذا الاعتراض هو بكل اختصار، من يستطيع في المقابل أن يقدّم لنا دليلا واحدا أن تلك المبادئ والشعارات النظرية قد تحولت في يوم ما، إلى مثال هندسي فعلى لبناء الدرس التربوي في القسم؟ لا أحد باستطاعته تقديم برهان واحد على ذلك. ولعلّه من الموضوعي القول أن كل مضامين مواد التدريس الحالية في تونس وفي الوطن العربي وأدواتها ووسائلها إلا فيما ندر ونحن على إطلاع على أغلبها، متعارضة تماما مع التربية الديمقراطية. ويمكن تقديم القرائن اللازمة بكل إسهاب في سياق آخر غير هذا المقال.
شخصيا تمّ سؤالي من قبل بعض زملائي في التدريس عن الوسائل العملية، التي ينبغي أن تقوم عليها التربية الديمقراطية من الناحية التطبيقية. وكان جوابي أنه من الضروري بداية الوعي باشتراط أساسي في التربية الديمقراطية، وهو أن تكون جميع مواد التدريس وإطاره المؤسساتي، ووسائله البيداغوجيّة، منسجمة ومتعاونة ومتناغمة مع بعضها، ومستوحاة جميعها من نفس المبدإ والغاية والرهان أي أولوية الديمقراطية نفسها عن أي غاية تربوية أخرى. فبناء الدرس في أي مادة اجتماعية مثلا، مثل مضمون تلك المادة، ينبغي أن يتحدّدا بناء على مسلمة قبلية في ذهن المربي، هي أنه يجب أن تكون مناسبة الدّرس مساحة لتجربة حقيقيّة وغير مفتعلة للحياة الديمقراطية. ثم سالت زملائي الذين كانوا يشاركونني الحوار ساعتها، ما إذا كان أحدنا قد وضع يوما ما، هذه الأولوية في ذهنه قبل بنائه لدرسه، فأجابني الجميع بالصمت الإنكاري.
وفي اعتقادي لا يتعلق الأمر بالمدّرسين بمفردهم، ولكنه يتعداهم إلى المشرفين البيداغوجيين ثم يتعدّاهم إلى المسؤوليين عن النظام التربوي، ليصب في الأخير عند ذهنية المسؤولين السياسيين المباشرين أمام الشعب. فجميع هذه السلسلة لم تضع، أو في الأقل أغلبها، الديمقراطية كأولوية مطلقة للدرس التربوي، وهذا يجد تفسيره الكامل في كل الذي كان يحدث ويطبع العملية السياسية، قبل 14 جانفي 2011.
يمكن للمواد الاجتماعية جميعا أن تكون مناسبة حقيقيّة ليحيا فيها التلميذ تجربة اجتماعية في الديمقراطية. ولدينا تصورات مفصّلة تتعلق بمضمون كل مادة وبآليات تعليمها، وبصفة تنظيم الفضاء المدرسي وهندسة العلاقات الاجتماعية داخله وصياغة قوانينه وانظمته الدّاخلية... على نحو يكمّل وحدة الغاية الديمقراطية الأساسيّة. غير أنّ البعض من الحاضرين في هذا الحوار كان قد أثار قضية جدّية تتمثل في كيفية تعليم المواد العلمية والفنية، ورأى أنه من الصعوبة إقحامها في الغرض الديمقراطي. فقد إفترض أنه فضلا عن صعوبة التوفيق بين الغاية الديمقراطية والهدف المعرفي للحصة العلمية، فإن من محاذير هذا الإقحام أن يَفقد الدرس العلمي حياديته العلمية ويصير أي شيء مصطنع آخر.
لا يمكن في جميع الأحوال أن نقلل من قيمة هذا الاعتراض، فهو جدّي وله سنداته المهنية السليمة، مثل الحرص على بلوغ الدرس العلمي هدفه المعرفي كاملا. ونحن ندرك تماما هذا الحرص ونزاهة النيّة الكامنة خلفه، غير أنه من واجبنا أن نذكّر بأن ليس على درس العلوم أن يزودنا فقط بالحقائق العلمية، كما ليس عليه أن يخلق منا مهرة في الحساب أو القيس أو التجريب أو حساسين للاستنتاج والربط بين المعطيات والافتراض والحدس وغيرها من الأهداف النوعية للدرس العلمي. ذلك لأنه من أبرز عيوب الدرس العلمي الحالي، كونه يزودنا بمادة ما نلبث أن ننساها في المستويات الدراسية الموالية، كما لا نستخدمها في الغالب في مجال حياتنا الاجتماعية. ومن هنا فإن اهتمامنا نفسه بالمادة العلمية غالبا ما يكون اهتماما مصطنعا وظرفيا محكوما برهان النجاح المرتبط بمسألة العدد فقط. ثم وهو الأخطر في نظرنا لا تزودنا حصص العلوم الحالية في الغالب سوى بمادة تجعل منا متعلمين وليس مثقفين، أو تجعل منا أصحاب ذاكرة مليئة وعقول خاوية. وهو أمر نشاهده بمجرد أن نُخرج الطالب عن إطار ما تعلمه في الفصل و بالذات في تلك المادة بعينها، حتى نرى مدى ارتباكه وفقره للتفكير الذاتي وإبداع الحلول المتلائمة مع مقتضيات الوضعية الجديدة.
لا نريد أن ندخل في جدال تفصيلي في سياق هذا المقال المحدود. ولكننا نريد أن نقدم فرضية للجواب عن سؤال زميلينا عن كيفية تربية الديمقراطية من خلال درس علمي. فنقول أنه بديهي أن لكل اكتشاف أو اختراع علمي إطار إنساني حدث فيه. وهو إطار عادة ما يتم عزله عن الاكتشاف أو الاختراع ذاته، ويتم إخفاؤه كما لو أنه يُنقص من عظمة الاكتشاف أو من نقاوته الفكرية. إن كل اختراع أو اكتشاف علمي هو نتيجة حاجة إنسانية أصلية كانت قد دفعت إليه، وخلقت اهتماما جديا في العقل العلمي نحوه، ومن النادر أن نعثر في تاريخ المعارف العلمية على نتائج تم التوصل إليها عن طريق الصدفة أو اللّعب. ولهذا فإن خلف كل نظرية علمية تكمن ذات أو مجموعة من الذوات، دفعتها الحاجة الإنسانية العادية وحرّكتها للبحث. والتعرّف على طبيعة الشروط الاجتماعية والنفسية والثقافية والاقتصادية التي دفعت تلك المجموعات العلمية إلى بلوغ غايتها من التقدم المعرفي يُنمى في ذات المتلقي شعورا بالطابع الإنساني للعلم، وبقرب المتعلّم من روح المكتشف أو المخترع الإنسانية، كما يُساعده على إدراك فعالية التفكير العلمي الأساسية باعتباره محاولات ومجهود متكرر وسيرورة إخفاق ونجاح، وليس مجرد ضربة حظ . وإذا ما نقلنا الى ذهن الطالب مثل هذه المعاني بإعتبارها شروطا ابستمولوجية وثقافية وإجتماعية للمعطيات العلمية المحضة، نكون قد ساعدناه على إدراك أن مسألة بناء المعرفة العلمية تعنى أن هناك وزر في البحث العلمي غالبا ما تضطلع به المجموعات العلمية باشتراك بين جميع أفرادها. فليس من حقيقة علمية لم تنتج عن حوار حقيقي ورصين وعلمي وصريح وموضوعي بين المكونين للجماعات العلمية، وعن اقتسام لمجهود البحث، أسفر عن لعب كل واحد دور ومساهمة في بناء النتائج الناجحة.
فإذا ما بنينا الدرس العلمي في سياقه الإنساني وربطنا على هذا النحو بوضوح بين الحقيقة العلمية وشروط بلوغها، نكون قد غنمنا في الواقع غُنمين، هما : الغنم المعرفي من ناحية، والغنم الأعظم وهو زرع الروح الديمقراطية من خلال درس في العلوم.
ونظرا لالتزامنا بمقتضيات المقال الذي نحن بصدده، وخاصة مقتضى الدقة والاختصار، فإننا نشير برقيا إلى الحجة على أهمية ما ذكرناه، وهي حجة تجد سندها النظري فيما اضطلع به الفيلسوف الألماني الشهير هوسرل رائد المدرسة الفينومينولوجية المعاصرة، ببحثه في "أسس أزمة العلوم الأروبية الحديثة" والتى أرجعها إلى أزمة غياب المعنى، أي فصل العلوم عن الذات التي أنتجتها وذهابها بعيدا في هذا الانفصال، حتى صارت العلوم الأوروبية الحديثة عقلية جدا، ورياضية جدّا، وناجعة جدّا، لكنها بدون معنى إنساني يكون أساسها الضامن والموحّد. كما نشير إلى ما كان قد إشتغل عليه ديوي من فكرة ضرورة الرّبط بين العلوم الحديثة وشروطها الإنسانية التي تقف خلف كل تقدمها وتجددها. فلا وجود لعلوم مبتورة نزلت من سماء العقل النظري الراهب أو الزاهد في صيغة هبات إشراقيّة، بقدر ما هي نباتات أزهرت في تربة الحاجات النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمع الحديث نفسه. ومن هنا فإن فهم المعرفة العلمية واستيعابها، ومن ثمة نقلها إلى الآخرين أو تعليمها، يقتضى الإحاطة بشروطها الإنسانية وعدم الفصل بين المعلومة العلمية وبين شروط إنتاجها الاجتماعية. ويبدو أيضا مما فهمناه عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران وتحديدا في كتابه " إصلاح التفكير" الصادر في 1999، أنه من الضروري إعادة النظر في مبدإ عزل العلوم عن بعضها وعن حاجاتها الإنسانية، لأن ذلك فساد عظيم وخطأ جسيم هو في الواقع مسؤول عن أزمة التعليم في المدرسة والنظام التربوي الفرنسي المعاصر.
وفضلا عن ذلك ها أنّ الخطابات الإبستمولوجية المعاصرة وخاصة منها "المدرسة البنائية" وتحديدا مع لموانيه، صارت تؤكد ان عمل العقل العلمي ذاته لا ينفصل عن محفزاته ومطالبه مثل النجاعة والآداء في الواقع العملي للمجتمعات المعاصرة. حتى أن فهم منتجات هذا العقل صار لا ينفصل عن فهم مبرراته التليولوجية التي انطلق منها، وقادته إلى بناء معارفه علمية. وبالتالي فإن من يريد أن يفكر بمنطق كلاسيكي من أن العلم يُطلبُ لذاته، والحقيقة العلمية من النزاهة والنصاعة والنقاء بحيث تتعالي عن جميع الأغراض والحاجات النفعية ، هو بعيد تماما عن فهم روح و نسق عمل العقل العلمي المعاصر.
يترتب على كل ما ذكرناه أن تعليم المواد العلمية للتلاميذ يقتضي في نظرنا تعليمهم الشّروط الحافة بكيفية بناء الحقيقة العلمية. وهو الأمر الذي لا يستجيب فقط لأغراض بيداغوجية صرفة، بل هو استجابة لشروط الموضوعية والأمانة والنزاهة العلمية في نقل وتعليم المعلومة العلميّة. لأن جزءا من المعلومة ذاتها كامن في طريقة اكتشافها أو بالأحرى في شروط بنائها كما ذهب أينشتاين إلى قول ذلك. فإذا ما بنينا الدرس على هذا المبدإ فسوف نلاحظ أن تلاميذنا حينها لن يتعلموا القوانين العلمية فحسب، والتي سوف ترسخ في ذاكرتهم لمدة أطول، وإنما سوف يتعلمون معها كيف يتم الاشتراك والتعاون في بناء أفكار تصير موضوع اتفاق إنساني في النهاية، على أنها صحيحة مؤقتا. وهنا جوهر الثقافة الديمقراطية كتعاقد اجتماعي.
قادنا مطلب التوضيح إلى التفصيل والإسهاب في الحديث عن بعض الجزئيات في التعليم الديمقراطي، وأهملنا مؤقتا فكرة بناء النظام الديمقراطي التربوي ككل. واستعادةً لهذا المطلب، نذكّر بتلك العناصر التي حددناها كخطوط أو علامات بارزة في نظريّة جون ديوي. فالنظام التربوي الديمقراطي الذي ينبغي أن تشرع مجتمعاتنا الديمقراطية العربية الفتيّة في بنائه، هو ذاك الذي يستلهم هندسته وغاياته وقيمه من فهم جدّي وجديد لطبيعة المدرسة الديمقراطية في المجتمع الديمقراطي، ومن ماهية التربية باعتبارها ليست مجرّد إعدادا للحياة الديمقراطية، بقدر ما هي الحياة الديمقراطية نفسها. كما على نظامنا التربوي الجديد أن يستلهم نفسه من وعيه بهذا الدور الإستراتيجي للتربية، وهو الدور الذي يعني عمليا أن نجاح المشروع المجتمعي الديمقراطي ككل، والذي نريده لمستقبلنا، يظل حتميا رهن نجاح المشروع التربوي الديمقراطي. وأخيرا على نظامنا التربوي الجديد أن يستلهم روحه من روح الشعب ذاته، وهي روح ثائرة وطامحة إلى تغيير جذري يقود مجتمعاتنا إلى التواجد فعليا في الفضاء الكوني المعاصر للإنسانية الديمقراطيّة الحيّة. وهو مطلب يبرهن لماذا قلنا منذ البداية أن التربية هي من جديد قضية إستراتيجية؟



المصادر :
- فتحي التريكي ـ كريستوف فولف ـ جاك بولان: التّربيــة والدّيمقراطية : أقطار عربية

ومسلمة وأوربيّة تتحاور، دار المتوسطيّة للنشر، بيروت تونس، الطّبعة الأولى 2010
- جون ديوي وافلين ديوي، مدارس المستقبل، ترجمة عبد الفتاح المنياوي، مكتبة النهضة المصريّة ( دون تاريخ)
- لطفي حجلاوي: فلسفة التّربيــة الإشكاليات الرّاهــنة، دار التنوير، بيروت 2009
ـ الخطّة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007 نشر المركز الوطني البيداغوجي، جوان 2002
- Edgar Morin ; La tête bien fête ; repenser la reforme reformer la pensée, éditions du seuil, Paris 1999
- Jeans Louis-lemgoine, Le constructivisme T 1, Ed. l’Harmattan, Paris 2002
- John Dewey, Democracy and Education, in the middle works, 1899-1924, Vol. 9, ed. Jo Ann Boydeston, Carbodale, southern University Press 1980 (PDF)



#لطفي_حجلاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر
- جمعية مغربية تصدر بيانا غاضبا عن -جريمة شنيعة ارتكبت بحق حما ...
- حماس: الجانب الأمريكي منحاز لإسرائيل وغير جاد في الضغط على ن ...
- بوليانسكي: الولايات المتحدة بدت مثيرة للشفقة خلال تبريرها اس ...
- تونس.. رفض الإفراج عن قيادية بـ-الحزب الدستوري الحر- (صورة) ...
- روسيا ضمن المراكز الثلاثة الأولى عالميا في احتياطي الليثيوم ...
- كاسبرسكي تطور برنامج -المناعة السبرانية-
- بايدن: دافعنا عن إسرائيل وأحبطنا الهجوم الإيراني


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - لطفي حجلاوي - من جديد... التربية قضية أستراتيجية