أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عفيفى - لا شىء مراوغ ... أكثر من حقيقة واضحة














المزيد.....

لا شىء مراوغ ... أكثر من حقيقة واضحة


أحمد عفيفى

الحوار المتمدن-العدد: 3535 - 2011 / 11 / 3 - 17:54
المحور: الادب والفن
    


كنت صغيرا لحوحاً كثير التساؤلات، تلوح لى دائما فكرة أن أبي قد يكون هو الله، بلحيتة البيضاء المهيبة وبنيانه القوي المتين وورعه وطيبته، وحب الناس الشديد له وحفظه للقرآن وإمامته لهم في الصلاة. يضحك ضحكته الصافية ويخبرنى إنه ليس هو الله وليس لبشر أن يكون. ألتف حول ظهره المقابل للقبلة وهو مسبل جفنية فى خشوع يتمتم بآيات مأثورات يختم بها صلاته، أبحث عن الله في تلك الكوة المقعرة في جوف المسجد ، أنظر إليها فى انبهار كمن تكشف له سر الأسرار، وأتوقع أن يكون الله في تلك القبلة التي يتجمع حولها المصلون، سوف يظهر الآن، ويبتسم. يبتسم أبى ويحيطنى بيديه ويربت على رأسي ويقبلها ويهمس في أذنى: "هو موجود، لكن لن تراه، هو فقط يراك"، أتعجب من حقيقة الكشف وتستدير عيناىَ الواسعتان ليملئهما أبى، وتملؤنى رهبة ورغبة أن يكون أبى هو الله ولا يرغب أن يخبرنى، يقرأ ما في عقلي على مرآة براءتى وشفافية بصيرته؛ فيحملنى ويضعنى فوق قدميه ويقبلنى ثانية ويواصل تسبيحه. أستسلم للتسبيح والتحميد. ولا أرى سوى وجهه ولا أسمع سوى دقات قلبة المطمئنة، وهو يحملنى كريشه بجلبابى الأبيض وأنا أسقط فى النعاس كما تعود وكما أحب.

أنتفض لصلاة الفجر وأنتظر. يقولون إن الله يقترب من الأرض في الثلث الأخير من الليل، أصلي وأخشع وأدعو وأنظر إلى السماء الصافية وأنتظره، تلفح النسمات الباردة وجهي بريح طيبة أجهل مصدرها، يقترب أبى. أتشمم رائحة المسك في يديه، بعدما زالت الريح الطيبة عنى، يمد أبى لي يده المتماسكة القوية ويردف:
هيا يا شيخ!
أتعجب من اللقب وأتحسس ذقنى الصغير وأبحث عن لحيتى، فلابد للشيخ من لحية ولا أجد. أتتبع منابت الشعر في ذقنى وأتعجلها؛ ربما لو أصبحت شيخا أرى الله.

"الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض"، تنزل تمتمات أبى على قلبى بردا وسلاما، وآنس بحديث الله وصوته، وأكمل بصوتى الطفولى "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم"، أنظر بين أيدينا أنا وأبي، وأنظر خلفنا وكأننا المعنيون بالأمر؛ فلا أجد شيئا، أنظر لوجه أبى الذى تخرج التمتمات من ثغره الباسم وتقترب خطواته حتى تلاحقها خطواتى الصغيرة المتسكعة في حضرته التي أحب التواجد دوما بها.

بعدما مات أبى، كنت أذهب إلى تلك الحفرة التي دفن بها، أتعجب، كيف لأبى أن يرقد فى حفرة مثل تلك، وماذا يحدث له الأن، وماذا سوف يحدث له بعد ذلك، وإلى متى سوف ينتظر فى ذلك المكان الكئيب البارد، ألِأجلٍ غير مسمى، أبى، أبى أنا، ذلك الرجل الطيب القوى المؤمن، الذي كنت أعتقد أنه الله، يموت هكذا ببساطة، ويرقد فى حفرة مقبضة مظلمة، ويغلق عليه باباً، ويصير وحيدا، بعد أن كان يملأ الدنيا علينا بحضوره ووجوده وحديثه واهتمامه. أبى يسكن تلك القبور المقفرة التي ترتع بها أشباح وتُقبض فيها أرواح.

كنت أحب الذهاب إلى قبره، أزوره وأستجدى أياما خلت كان موجودا بها، كنت أجالسه وأؤانِسُه فربما إحتاجنى أو أحتاج شيئا، وربما لم يمت واستيقظ ينادى عليّ كعادته؛ فأهرع إليه، أخرجه من تلك الحفرة البغيضة المقبضة مجهولة المصير، كنت لا أعبأ بالليل والخوف، أنا لم أكن أخاف، خاصة فى حضرته، هو كان قويا، لا يصدق ولا تقنعه أو ترهبه قصص الأشباح والأرواح، حتى لو تجلت له، كنت أجلس أمام باب قبره، أكلمه كما لو كان حيا، أخبره بكل شىء حدث، أكلمه عن حالنا وحياتنا، أستشيره وأستفتيه .. وأنتظر رده، كنت أطرق باب الحفرة الغبية التي تحتضن جسدة الطيب، علّه يعرف أننى بالخارج .. أنتظره؛ فيجيب. كنت لا أَملّ من زيارته والحديث معه، علَّه يشفق على ويصحو، كنت أتكلم وأضحك وأبكى وأحيانا أنام وكأننى أنام فى صدره، كنت مخلصا فى كل ما أفعل، موقنا أن إيمانى بأبى سوف يعيده إلى، راجيا أن تعيده إلى السماء ، فحاجتى إليه على الأرض، أكبر من حاجة السماء اليه، لن تنقص السماء بدونه، ولن يختل ناموس الكون بعودته، سوف ينتظم ناموسى أنا إذا عاد وعاش، لم يستجب القبر لندائى، ولم ترق السماء لدعائى، وكأنما كانت سماءً صماء لدعاء لا يستجاب. وصمتت السماء وعاد الدعاء ولم يعد أبى.

من رواية " ثالوث " للكاتب



#أحمد_عفيفى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عزازيل - سيرة ذاتية 1
- محمد يحكم من قبره
- حب الموت وكراهية الدنيا
- مناعة شرسة أم قناعة شرسة
- لعنة الله
- المرأة مقدسة والجنس ليس غول
- إعادة قراءة للدين والحياة


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عفيفى - لا شىء مراوغ ... أكثر من حقيقة واضحة