أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد الغني سلامه - التاريخ اليهودي بين الحقيقة التاريخية والرواية الدينية - الأخيرة















المزيد.....

التاريخ اليهودي بين الحقيقة التاريخية والرواية الدينية - الأخيرة


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3526 - 2011 / 10 / 25 - 14:22
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


في شباط 1994 اقتحم مستوطن يهودي ( باروخ جولدشتاين ) الحرم الإبراهيمي في الخليل، وفتَحَ نيران رشاشه على المصلين وهم ساجدون في صلاة الفجر، فقتل منهم العشرات، وبعد ذلك بعدة سنوات فتَحَ مستوطن يهودي آخر نيران رشاشه بشكل عشوائي على المارين في أحد أسواق مدينة الخليل، فقتل وجرح العشرات، وعند اعتقاله برّر جريمته: بأن أباه "إبراهيم" كان قد اشترى الخليل من سكانها ببضع شواقل قبل نحو أربعة آلاف سنة !! وطبعا لو سألنا "باروخ" - وهو طبيب عاش في أمريكا - عن دوافعه لارتكاب المذبحة، لأجاب دون تردد بأن أباه "إبراهيم" قد بنى هذا المعبد، وأوصى به خصيصا له، وعليه أن يتخلص من هؤلاء الدخلاء والغرباء الذين يتعبدون فيه بكل وقاحة !!

وليست هذه سوى أمثلة لحالات لا حصر لها من أشكال الصراع على التاريخ، والإدعاء بملكيته، وهي أن دلت على شيء، فهي أولاً تدل إلى أي مستوى ينغمس فيه هؤلاء بتفاصيل التاريخ، فيصبحون أسرى له، وإلى أي مدى ممكن أن يلغوا عقولهم - وهذا ينطبق على طرفي الصراع - فيتورطون بجرائم فظيعة تبدأ من تدنيس القبور ونبشها، إلى ارتكاب المذابح، أو تفجير الأماكن العامة والمطاعم والأسواق، حيث من المؤكد تواجد أطفال وأناس أبرياء لا دخل لهم بالصراع.

ومما لا شك فيه، أن العيش في كهوف التاريخ، بهذه القراءة الانتقائية المغلقة، سينتج عنه عقليات متعصبة عنصرية، وسيؤدي حتما إلى إلغاء الحاضر، والحكم بالإعدام على المستقبل، لأن هذه القراءة الماضوية والنظرة النرجسية للتاريخ، إنما تنطلق من رؤية دينية طائفية، تريد أن تحتكر الله والتاريخ والأرض لصالحها، ومن أجل ذلك، ستوظف كل النصوص والأيديولوجيات لمصلحتها فقط، وطبعا بعد أن تضفي عليه هالات من القداسة. أي بعبارة واحدة: ستجعل من حروبها الدنيوية حروبا دينية، لأنها أضمن وسيلة لتحويل البشر إلى حطب ووقود لهذه الحروب.

وقد دأبت الحركة الصهيونية ومنذ نشأتها على تصوير الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع ديني، مستندةً على إدعاءات دينية تاريخية معينة، وضعتها ضمن قوالب دينية غيبية، تجد ما يدعمها في نصوص التوراة وتفسيراتها المغلوطة، وهي بهذا الطرح تحقق جملة من الفوائد دفعة واحدة. وللأسف تتلاقى معها في هذا الطرح الحركات والفلسفات الدينية الإسلامية والمسيحية.

هذا الغلاف الديني / الغيبي الذي أحاطت به الحركة الصهيونية روايتها التاريخية - بالرغم من وهنه وزيـفه - كان ضرورياً بل وشرطا أساسيا لا يمكننا تصور نجاح هذا المشروع بدونه، فهو يوفر قوة دفع له، ويشكّل مثلاً أعلى للقيم المجتمعية الإسرائيلية، تُربي عليها الأجيال الجديدة بشكل خاص، وهاديا ومرشدا وناظما لعلاقاته الاجتماعية والسياسية، ومن خلاله يرى المجتمع الحالي صورته في الماضي السحيق، ويعبّر عن امتداده وتواصله التاريخي، وبالتالي فهـو رابط يجمع بين شتات اليهود في العالم، ودافعا ومبررا للهجرة إلى ما أسـموها " أرض الميعاد " ومسوّغا تاريخيا لاحتلال أرض الغير.

وكما جرت العادة لدى كل الغزاة، فقد جرى توظيف التاريخ لخدمة الأهداف السياسية التي تسعى لتحقيقها، وهنا أي في إعادة صياغة تاريخ فلسطين، لم يكن مجرد توظيف للتاريخ فحسب، بل ابـتداع لتاريخ جديد بكل معنى الكلمة. ولمتابعة ذلك لنلقي نظرة سريعة على مرحلة ما قبل اليهودية.

ما قبل بداية التاريخ اليهودي

إن كل ما بذلته التوراة من جهود لرسم صورة محددة لإسرائيل التوراتية أو لشعب إسرائيل وتاريخهم وقصصهم، منذ العصر البرونزي الوسيط حتى عصر الحديد، أي منذ ولادة إبراهيم ( عصر الآباء ) وحتى قيام دولة السامرة لم تكن أكثر من رواية خيالية معلقة في الفضاء، لا تجد لها أي سند مادي من خارجها، أو دليل تاريخي يسندها، بل إن جميع الشواهد والبينات والتنقيبات الأثرية تنفي بشكل نهائي أي إمكانية لظهور كيان سياسي أو إثني من أي نوع يمكن أن نطلق عليه اسم إسرائيل قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد ، أي عقب بناء دولة السامرة والتي سميت حينها مملكة إسرائيل.

وكما تنفي الشواهد الأركيولوجية المتوفرة من الفترة الانتقالية بين عصري البرونز والحديد رواية سفر القضاة وسفر يوشع واقتحام كنعان، ذلك لأن نتائج التنقيب الأثري في مواقع المدن التي يدعي النص التوراتي تدميرها كأريحا وعاي تُظهر عدم تطابق تاريخ تدمير تلك المدن مع التاريخ المزعوم في أسفار التوراة، ونتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمنطقة فلسطين، وتحديدا الهضاب المركزية التي قامت عليها فيما بعد مملكة إسرائيل، وكذلك منطقة يهوذا، تنفي بشكل نهائي أي إمكانية لظهور مجموعة إثنية واحدة في تلك المفترضة لعصر القضاة، وحتى نهاية القرن العاشر قبل الميلاد، كما تنفي وفود أي مجموعة إثنية من الخارج، بحيث تكون أثّرت في ثقافة المنطقة وتراثها، وجميع المواقع في فلسطين تُظهر استمرارية ثقافية محلية غير منقطعة، ولا تشوبها شائبة، فيما بين عصري البرونز والحديد، فجميع القرى في ذلك العصر إنما هي كنعانية، وأنه حتى ذلك التاريخ لم تتوفر القاعدة السكانية اللازمة والأساس الاقتصادي لقيام مملكة قوية، فإضافة للفقر المدقع في منطقة السامرة، فإن منطقة يهوذا كانت خالية من السكان تقريبا آنذاك، أما القدس فقد كانت مجرد بلدة متواضعة لا تصلح لأن تكون عاصمة لمملكة قوية.

أما دولة السامرة ( إسرائيل ) فقد قامت حقيقة عام 880 ق.م ، وكذلك دولة يهوذا فقد تأسست بالفعل عام 735 ق.م وكان نشوئهما بعد نضوج الظروف الذاتية اللازمة والضرورية لقيامهما، كعودة المناخ المطري لمنطقة الهضاب، واستمرار النـزوح الداخلي للقبائل باتجاه مناطق السامرة ويهوذا، واستمرار النشاطات الاجتماعية للسكان حتى اكتملت أخيرا القاعدة الاقتصادية لهما، وتهيأت الظروف الموضوعية، والتي ساهم في إنضاجها السياسة العليا للإمبراطورية الآشورية.

هاتان الدويلتان ( يهوذا وإسرائيل ) إنما كانتا دويلات فلسطينية محلية، نشأتا في البيئة الكنعانية وكانت لهجتهما هي الكنعانية، وتكتبان بالحروف الآرامية، وجميع آثارهما وفنونها ومخلفاتهما إنما تعكس نمطا كنعانيا، وحتى آلهتهما كنعانية، بما في ذلك يهوه، وطوال عمر هاتين الدولتين لم يكن هناك أي أثر لأي معتقد توراتي، أو ما يمكن تسميته ديانة يهودية. هاتان الدولتان لا يربط بينهما إلا أوهى الروابط وأضعفها، وقد عاصرتا بعضهما البعض لفترة قصيرة جدا من الزمن، إذ قامت يهوذا على أنقاض إسرائيل، ولم يسبق وجودهما أي مملكة موحدة، كما أنهما لا علاقة لهما بإسرائيل التوراتية. وكما نشأتا تباعا، فقد دُمِّرتا تباعا أيضاً، واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف.

ولم يعثر على ذكر لكيان سياسي اسمه إسرائيل في جميع وثائق الشرق القديم قبل أواسط القرن التاسع ق.م، وقد بدأ هذا الاسم للظهور لأول مرة في السجلات العسكرية الآشورية للدلالة حصرا على دولة السامرة، وكذلك مملكة يهوذا لم يرد اسمها إلا في نهاية القرن الثامن ق.م. أي بعد أفول نجم إسرائيل، كما لا يوجد أي ذكر لهما بعد تدميرهما تباعا على يد الآشوريين والبابليين، إذْ لم تقم لهما قائمة بعدها، وتم ضمّهما إلى أرشيف التاريخ.

أما عن المملكة الموحدة المزعومة ( مملكة داوود وسليمان )، فإن المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية - التي من المفترض أن تكون نواة المملكة – هذا المسح ينفي وجود أي قاعدة سكانية / اقتصادية في هذه المناطق خلال القرن العاشر ق.م بحيث تسمح بقيام مثل هذه المملكة. فمملكة داود وسليمان ليست مستبعدة تاريخيا فقط، إنما مستحيلة الوجود، وما هي إلا شبح تاريخي، ناهيك عن نتائج التنقيب الأثرى في القدس نفسها، التي أكدت أن المدينة كانت حينها مجرد بلدة متواضعة، يُضاف إلى هذا عدم العثور على أي حجر، أو أثر مهما كان صغيرا، يدل على قيام هذه المملكة في فلسطين في يوم من الأيام.

وفيما يتعلق بالتنقيبات الأثرية في مدينة القدس ومحيطها، فقد بيّنت وجود سور يعود إلى العام 1800 ق.م وهو تاريخ بناء أورشليم لأول مرة زمن اليبوسيين، أي قبل الزمن المفترض لمملكة سليمان بثمانية قرون، كما عثرت التنقيبات على آثار هـدم وإصلاح للسور تعـود للعام 587 ق.م أي زمن السبي البابلي على يد نبوخذ نصر، وما بين هذين التاريخين فهو مفقود تماما، ولم يتم العثور على بنية واحدة أو حجر أو أية آثار تدل على وجود ما يسمى بمملكة سليمان، أو أي هيكل أو معبد ... أما الهيكل الذي بناه "زربال" قائد الدفعة الثانية التي رجعت من السبي البابلي عام 520 ق.م في عهد كورش الفارسي، فقد دمره القائد الروماني "تيطس" عام 70 للميلاد، ولم تعد له قائمة بعد ذلك التاريخ، والحقيقة المرة التي تتجاهلها الصهيونية هي أن مملكة داود التي امتدت من الفرات حتى البحر المتوسط لم تكن أكثر من وهم تاريخي، لم يعد يعني إلا أولئك الذين يستمدون آرائهم من النصوص التوراتية فقط، وما زالوا يحلمون بالعثور على وثيقة واحدة تدعم آرائهم، ولكن دون جدوى.

بداية تشكل التاريخ اليهودي

مع تشكيل الكيان اليهودي لأول مرة في أورشليم عقب عودة المسبيين من بابل في الفترة الفارسية تكون القصة التوراتية قد دخلت بالفعل عتبة التاريخ ، من هذا المنطلق يكون فهمنا لحادثة السبي البابلي على يد الملك الكلداني نبوخذ نصر عام 586 ق.م لرعايا مملكة يهوذا، كحادثة تاريخية من جهة، وكفكرة ملهمة في سياق القصة التوراتية من جهة أخرى.

فالقوى الكبرى ( الإمبراطورية الآشورية ومن بعدها البابلية والفارسية ) كانت قد دأبت على التحكم بحركة الشعوب وتهجيرها، وإعادة إسكانها، لتحقيق جملة أهداف، من ضمنها: تأمين الوصول إلى شواطئ المتوسط، وضمان أمن حدودها - بشكل خاص أمام المصريين - وخلق كيانات موالية وتابعة ومنفذة لسياساتها العليا، في هذا السياق يمكننا تفهم اهتمام كورش ومن بعده داريوس الفارسي بعودة المسبيين إلى أورشليم، وبناء هيكل لهم.

وسواء كان مع العائدين بعض المسبييّن من "يهوذا"، أو بقايا من رعايا المسبيين ،من "إسرائيل" إلى جانب شعوب أخرى فقدت ارتباطها بأوطانها الأصلية بعد مرور وقت طويل على اقتلاعها منها، وقبائل أخرى كانت تبحث عن حظوظ جديدة في المناطق التي تخطط الإمبراطورية لإعادة تعميرها، فضلا عن القبائل التي كانت ما زالت تسكن فلسطين وتعاني من أوضاع اقتصادية ومعاشية مزرية، ولا تمانع في العيش في ظروف أفضل، ومهما كان الشعب الذي نُقل أو أُعيد إلى فلسطين، قصرا أو طوعا، فهم بكل تأكيد لم يكونوا إسرائيليين (بالمعنى التوراتي) لا إثنيا ولا روحياً، ورغم ذلك أصبح الفُرس يعتبرونهم "إسرائيليين"، وأصبحوا هم يعتبرون أنفسهم سكان "إسرائيل المفقودة" منذ زمن، والعائدين إلى "أرض إسرائيل" من منفى مرير، بعد أن خلّصهم سيدهم ومنقذهم "كورش". وهكذا بمساعدة الفُرس تم تحديد الهدف: إعادة ديانة "يهوه" القديمة.

هذا الخليط غير المتجانس عرقيا ولا إثنيا ولا حتى ثقافيا، وجد نفسه أمام خيارين: إما القبول بشريعة الملك الفارسي، والتكيف مع القوانين الجديدة، أو مواجهة أقصى العقوبات – كما ورد في رسالة داريوس إلى أهل أورشليم – ولا شك بأن المجتمع الأورشليمي الجديد قد أخذ بالخيار الأول.

وكعادة رجال الدين على مر العصور، الذين يجدون مبرر وجودهم، ويستمدون امتيازاتهم ومكتسباتهم من خلال التركيز على وحدة الطائفة، والعزف على الوتر الديني، والفكر اللاهوتي الغيببي، فقد أخذ كهنة أورشليم المهمة على عاتقهم في ابتكار رابطة طائفية لهذه الجماعة الجديدة، وابتكار أصل وتاريخ وتراث لها، وغيرها من المبررات الأيديولوجية اللازمة لنشوء مجتمع ودين جديدين، وبذلك انكبّوا على تدوين التوراة، وابتداع هذا الدين اليهودي الجديد، فهذا الذي تم إحياؤه في "أورشليم" لم يكن إحياء ليهوذا القديمة، أو لإسرائيل القديمة، ولا استمرارا لهما بأي حال من الأحوال، بل هو خلق جديد، لمجتمع قوامه فئات اجتماعية مختلفة ومتعددة، تحاول أن تخلق لنفسها كيانا جديدا، بدعم من الإمبراطورية الفارسية ،بعد أن تقاطعت مصالح الطرفين.

ومنذ نشأتها وضعت دولة يهوذا أو إسرائيل نفسها في إطار الدور الوظيفي كمحمية فارسية تؤدي دورا معينا، وفيما بعد متحالفة مع كل الغزاة الذين تعاقبوا على البلاد، الأمر الذي جعل منها كيانا غريبا وطارئا، يفتقر للعمق الحضاري، وذو تركيبة سكانية غير منسجمة مع النسيج الاجتماعي، ومتقاطعة مع الدور الحضاري للسكان الأصليين، وبالتالي ضعفت الأواصر التي تربطها بالأرض، وتلاشت بسهولة فيما بعـد.

والآن نستطيع التأكيد بكل ثقة، بأن اليهودية التوراتية التي نشأت في العهد الفارسي في بابل، واستُكملت في القدس على يد كهنة أورشليم، لا تمت بأي صلة من قريب أو بعيد بديانة التوحيد التي جاء بها موسى قبل هذا التاريخ بنحو ثمانية قرون من الزمان، وأن ديانة موسى كانت امتدادا طبيعيا لدعوة الفرعون اخناتون للتوحيد، وقد نشأت في بيئة مصرية خالصة، على يد نبي مصري، وكُتبت تعاليمها بالحروف المصرية الهيروغليفية، ولم تكن حكرا لطائفة معينة دون أخرى، والألواح التي قيل أنها نزلت عليه لم تُحفظ، واختفت تماما، ولا يوجد لها الآن أي أثر، أما التوراة البابلية فقد كتبها البشر ولم تكن أبدا كتابا سماويا .

فيما يخص شعار "شعـب الله المختار" فإن السياقات التاريخية التي دفعت محرري التوراة لإطلاق هذا الشعار وتثبيته على لسان أنبياء عصر الآباء، وهو شعار استفزازي استعلائي عنصري، ينم عن عقلية متعصبة، أنتجتها فئة منغلقة على ذاتها، وضعت نفسها فوق باقي الأمم، والله سبحانه أسمى من أن ينحاز إلى عرق، أو أن يفضّل ملّة على أخرى، وقد قال سبحانه في محكم التنـزيل "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

وفي نهاية القرن التاسع عشر الميلادي يتم إنتاج أسطورة التاريخ اليهودي مرة أخرى، وذلك بعد تفاقم المسألة اليهودية، وتقاطع ذلك مع التحول الكولونيالي في الفكر السياسي الأوروبي، الذي دفع بها إلى احتلال أجزاء واسعة من العالم، والتفكير جديا بإنشاء كيان موالي لها في وسط الوطن العربي، ذو دور وظيفي محدد.

ومن الجدير بالذكر أن إنشاء الحركة الصهيونية كان استجابة لهذا التحول الأوروبي بالدرجة الأولى، ولم يكن تعبيرا عن مصالح اليهود، ولا عن آلامهم ومأساتهم، ولم يكن حلا لمشكلتهم المتفاقمة، إذ أن التصور اليهودي للحل كان يتراوح بين اتجاهات عدة، من بينها الاندماج، أو التدين، أو الهجرة، أو انتظار المسيح، أو بعث القومية اليهودية ... ويبدو أن حلول الاندماج والهجرة كانت الأكثر عملية، إذْ هاجر إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية ملايين اليهود، والقلة القليلة هاجرت إلى فلسطين، وتيار الاندماج كان في البداية كاسحا بشكل ملحوظ.

دلالة على وهن العلاقة العضوية بين اليهود وأرض فلسطين، فإن موضوع الهجرة إلى فلسطين بقي ولقرون عديدة خارج نطاق التفكير الجماعي لليهود، ومقتصرا على المستوى الفردي فقط، على الرغم من أنها ظلت مفتوحة للحجيج ومتاحة للراغبين من اليهود للإقامة فيها طوال عهـد الدولة الإسلامية، إلا أن عدد اليهود المقيمين فيها عام 1880 لم يتجاوز ال 25 ألف فقط، مقابل ملايين اليهود في العالم .

بقي أن نقول أن أسطورة "نقاء الشعـب اليهودي عـرقيا" و "وحـدة الأصل" و "التاريخ المتصل" ما هي إلا خدعة ابتكرتها الدعاية الصهيونية، ولا يمكن لها أن تصمد في وجه حقائق التاريخ، أو أبجديات المنطق وعلوم الاجتماع، أو حتى العلوم البيولوجية، فكيف لطائفة متعددة الأصول والمنابت أن تصبح فجأة ذات أصل نبيل ؟ وكيف لها أن تحافظ على هذا النقاء في منطقة خبرت الفاتحين والغزاة ؟ حيث كانوا يتعاقبونها تباعا، وبالتالي ستتداخل البنى الاجتماعية، وستذوب حدود الأعراق البيولوجية على مذبح حركة التاريخ، التي تبقى دوما في دينامية لا تعرف التوقف.

أما الكذبة الممجوجة التي سرعان ما تُشهر الصهيونية سيفها في وجه كل باحث عن الحقيقة، أو شاهدا للحق، والتي يسمونها "اللاسامية" فإذا ما صح هذا التصنيف، فالعرب هم أصل السامية، وهم ساميون قبل اليهود بآلاف السنين، وبالتالي كيف لهم أن يعادوا عرقهم ! واليوم في عصر العولمة وانفتاح الشعوب على بعضها فإنه لمن العار أن تبقى هذه الكذبة تنطلي على عقول البعض، ونحن في مستهل الألفية الثالثة من عمر الحضارة الإنسانية.


المصادر :
1. الموسوعة الفلسطينية، هيئة الموسوعة الفلسطينية ، دمشق 1985 ج 1 ~ ج 4
2. آرام دمشق وإسرائيل ، فراس السواح، دار علاء الدين ،ط 1 ، دمشق 1995
3. الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، فراس السواح ، دار علاء الدين ط2، 1993
4. الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، روجيه جارودي، دار الغد العربي، ط 1، القاهرة 1996
5. اختلاق إسرائيل القديمة، كيث وايتلام، ترجمة د. سحر الهنيدي، عالم المعرفة،الكويت 1999 .
6. التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، توماس طومسون، ترجمة صالح سوداح، بيسان للتوزيع، ط 1 ، بيروت 1995 .
7. أوهام التاريخ اليهودي، جودت السعد، الأهلية للتوزيع، ط 1، عمان 1998.
8. العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة، العربي للطباعة والتوزيع، ط 6 دمشق .
9. إسرائيل/ فلسطين الواقع وما وراء الأساطير، ميخائيل هرسيغور، موريس سترون، مشاعل للصحافة والدراسات، ط1، رام الله 2000.
10. اللغة والهوية في إسرائيل، تحرير د. محمد أمارة، مدار للدراسات الإسرائيلية ، ط1 ، رام الله، 2002
11. القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، اتحاد الجامعات العربية، د. شاكر مصطفى ج 1.
12. أورشليم وأرض كنعان د. إبراهيم الشريقي
13. فلسطين تاريخا ونضالا، نجيب الأحمد ، عمان
14. عروبة فلسطين في التاريخ ، محمد أديب العامري
15. شؤون فلسطينية العدد 76 دراسة أحمد صدقي الدجاني
16. الهجرة اليهودية والمشروع الصهيوني، ندوة فكرية، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، عمان 1991 ط 1 .



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسطين بين الروايتين: التاريخية والدينية - الصراع على التاري ...
- فلسطين بين الرواية التاريخية والرواية الدينية - الصراع على ا ...
- 1 مقابل 1000 - من المنتصر في صفقة شاليط ؟!
- لمن نكتب !؟؟ وعن ماذا !؟
- عن جدوى صفقة شاليط، وأسئلة أخرى
- كيف كبرت أحزاب الإسلام السياسي ؟! ولماذا تعاظم دورها ؟!
- الإسلام السياسي والإرهاب
- ثقافة الموت وعوامل إزكاء العنف والتطرف
- كيف انفجر مرجل الإرهاب في مصر؟ وكيف انتشر لبقية العالم؟
- الإخوان المسلمون العباءة التي خرجت منها التنظيمات الأصولية
- الحرب المزعومة على الإرهاب
- حديث في العنف والإرهاب والتطرف
- الخطاب المغلق - من أنماط التفكير لدى العقل السياسي العربي
- المجتمعات العربية في عيون الآخرين
- ما المميز في خطوة أبو مازن وخطابه في الأمم المتحدة ؟!
- هل تسهم مدارسنا في تكريس التخلف ؟؟ الرياضة والفن والموسيقا م ...
- نماذج من القهر الاجتماعي - النساء والأطفال ضحايا تخلفنا
- الأب البطريرك - جرائم تربوية بحق أطفالنا
- جرائم تربوية بحق الأطفال
- وأد البنات بالزواج المبكر


المزيد.....




- فيديو رائع يرصد ثوران بركان أمام الشفق القطبي في آيسلندا
- ما هو ترتيب الدول العربية الأكثر والأقل أمانًا للنساء؟
- بالأسماء.. 13 أميرا عن مناطق السعودية يلتقون محمد بن سلمان
- طائرة إماراتية تتعرض لحادث في مطار موسكو (صور)
- وكالة: صور تكشف بناء مهبط طائرات في سقطرى اليمنية وبجانبه عب ...
- لحظة فقدان التحكم بسفينة شحن واصطدامها بالجسر الذي انهار في ...
- لليوم الرابع على التوالي..مظاهرة حاشدة بالقرب من السفارة الإ ...
- تونس ـ -حملة قمع لتفكيك القوى المضادة- تمهيدا للانتخابات
- موسكو: نشاط -الناتو- في شرق أوروبا موجه نحو الصدام مع روسيا ...
- معارض تركي يهدد الحكومة بفضيحة إن استمرت في التجارة مع إسرائ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد الغني سلامه - التاريخ اليهودي بين الحقيقة التاريخية والرواية الدينية - الأخيرة