نهرو عبد الصبور طنطاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3487 - 2011 / 9 / 15 - 15:16
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُوا) (3_ النساء).
هذه الآية تثير بعض الحيرة والقلق لدى كثير من الناس، وسبب هذه الحيرة وهذا القلق هو أن كثيرا منا لا يرى أية مناسبة أو ملازمة أو رابط بين قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) وبين قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء). وظنها البعض أنها أشبه بـ (سمك، لبن، تمر هندي)، فتسرع البعض بلي عنق النص وتحميله ما لم يحتمل وقال فيه برأيه بغير علم فزاد الأمر غموضا واضطرابا، وسارع البعض الآخر باتهام القرآن بأنه ليس بكلام الله وإنه من كلام البشر، وقال: لو كان من كلام الله لما كان فيه هذا الخلط وهذا الغموض والاضطراب وعدم الترابط بين جمله وعباراته. والسؤال الآن: هل في هذه الآية أي رابط بين أولها وآخرها؟؟.
الجواب كالتالي: مجيء حرف العطف (و) في بداية الآية (وإن خفتم) ومجيء كلمة (اليتامى) في (ألا تقسطوا في اليتامى) يدل دلالة يقينية على أن هذه الآية معطوفة على الآية التي قبلها وترتبط بها ارتباطا وثيقا لا شك ولا ريب فيه، والآية التي قبلها تقول: (وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً). (2_ النساء). ومما قد يخفى على معظمنا أن الآية فيها إيجاز بليغ يحتاج كشفه إلى رسوخ في علم اللغة، فالآية عبارة عن جملة شرطية، والجملة الشرطية تتكون من ثلاثة أركان: أداة الشرط، وفعل الشرط، وجواب الشرط، فأما أداة الشرط فهي (إن) وأما فعل الشرط فهو قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)، وأما جواب الشرط فهو قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)، وهنا قد يجد السامع أو القارئ للوهلة الأولى أن جواب الشرط ليس له أي ارتباط بسؤال الشرط، فيسأل: ما علاقة الخوف من عدم القسط في اليتامى بالأمر بنكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع؟؟.
تفصيل ذلك كالتالي: أولا السورة اسمها سورة النساء أي تتناول عددا من قضايا النساء، ثانيا: الآية (2) من السورة تحدثت عن الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم والنهي عن أكل أموالهم إلى أموالنا، ثالثا: الآية (3) من السورة والمعطوفة على الآية التي قبلها وحديثها عن اليتامى ونكاح ما طاب من النساء في سياق واحد متصل يدل دلالة قطعية عن أن اليتامى في قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا بين اليتامى) يراد بهم (يتامى النساء)، وبالتالي نعلم أن بين عدم القسط في يتامى النساء وبين الأمر بنكاح النساء ارتباطا قطعيا لا محالة، وإلا لكانت الجملة الشرطية ضرب من العبث واللغو والسفه، لا يمكن أن يقع فيه عربي جاهلي أمي يرعى الغنم في مكة فضلا عن أن يقع فيه خالق السموات والأرض، أو يقع فيه حتى محمد لو كان القرآن من تأليفه كما يدعي البعض، بل والأدهى والأمر أن يمر هذا العبث وعدم الترابط على جميع العرب الذين آمنوا بمحمد وجميع العرب الذين كفروا به ولم ينتبه واحد منهم لهذا الخلط والعبث اللفظي أو يكتشفه، ويظل متواريا حتى نكتشفه نحن اليوم وبعضنا لا يستطيع خط بضعة أسطر باللغة العربية السليمة إلا بشق الأنفس، بل وبعضنا لا يجيد تلاوة أية واحدة من القرآن تلاوة صحيحة!!!.
فمضمون الآية يقول: إن خفتم ألا تقسطوا في النساء اليتامى اللاتي تتولون أمرهن بألا تعطوهن نصيبهن المتعارف عليه والمقدر لهن من المهر أو الصداق الذي يليق بهن إذا أردتم نكاحهن، إن خفتم ألا تفعلوا هذا فانكحوا ما طاب لكم من النساء غيرهن مثنى وثلاث ورباع، ويؤكد هذا الفهم مجيء كلمة (القسط) في قوله: (تقسطوا) فالقسط يختلف في دلالته عن الحق وعن العدل، القسط يكون في توزيع الأنصبة والحقوق وتمليك الأملاك وفي الكيل والأوزان، فهو يدل على النصيب، أي نصيب الشخص وحقوقه في الأشياء، وسمي (الميزان) بـ (القسطاس)، قال تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم)، ويقابله (الجور)، والجور هو أخذ جزء أو انتقاص شيء ولو يسير من نصيب شخص لصالح شخص آخر، فمجيء كلمة (تقسطوا) في قوله: (إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) أي إن خفتم أن تبخسوهن نصيبهن وحقهن في المهر اللائق بهن استغلالا لكونهن يتيمات أو طمعا في أموالهن التي بحوزتكم فانكحوا ما طاب لكم من النساء غيرهن مثنى وثلاث ورباع.
وهنا قد يسأل سائل ويقول: وكيف عرفت أن اليتامى في الآية مقصود بهم النساء اليتامى؟، أقول: من قام بقرء كتاب الله حق قرئه لما سأل هذا السؤال، ففي نفس السورة (سورة النساء) الآية رقم (127) تقول: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن). (النساء: 127). فقوله تعالى: (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن). أين ما يتلى علينا في الكتاب في يتامى النساء سوى الآية (3) من سورة النساء التي تقول: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ). (3_ النساء). فلو بحثنا القرآن الكريم كله عن آية تتحدث عن يتامى النساء والقسط في نكاحهن فلن نجد سوى الآية (3) من سورة النساء.
ويؤكد هذا بصورة قطعية كذلك ما ورد في البخاري: (عن عروة بن الزبير عن عائشة في هذه الآية _الآية (3) من سورة النساء_ قالت: "هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشارَكه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطي غيرها، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ. ثم إنّ الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن). (النساء: 127). (أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء).
فقول الله تعالى: (وترغبون أن تنكحوهن) [النساء: 127] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلاّ بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال.
وعليه فتكون الآية قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقّها البنات اليتامى من مهور أمثالهنّ، وموعظة الرجال بأنّهم لمّا لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة للنساء اللاتي لا مرغِّب فيهنّ لهم فيرغبون عن نكاحهنّ، فكذلك لا يجعلون القرابة سبباً للإجحاف بهنّ في مهورهنّ. وأنّ الله وسّع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى خوفا من الإضرار بهنّ في الصداق، وقد اشتملت الآية كذلك على إدماج لحكم شرعي آخر في خلال حكم القسط لليتامى ألا وهو تحديد تعدد الزوجات والعدل بينهن وإلا فالاكتفاء بواحدة.
نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
موبايل : 0164355385 _ 002
إيميل: [email protected]
#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟