أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - هل الإجماع مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟















المزيد.....



هل الإجماع مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3463 - 2011 / 8 / 21 - 19:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الإجماع في اصطلاح علماء أصول الفقه: هو اتفاق جميع المجتهدين من الفقهاء المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على حكم شرعي في واقعة. فإذا وقعت حادثة وعرضت على جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية وقت حدوثها واتفقوا على حكم فيها سمي اتفاقهم إجماعا، واعتبر إجماعهم على حكم واحد فيها دليلا على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة، وإنما قيل في التعريف بعد وفاة الرسول، لأنه في حياة الرسول هو المرجح التشريعي وحده، فلا يتصور اختلاف في حكم شرعي ولا اتفاق إذ الاتفاق لا يتحقق إلا من عدد.

كثيرا ما نقرأ في كتب الفقه وكتب التفسير وغالبية كتب التراث الإسلامي قول الفقهاء والمفسرين في مسألة ما من مسائل الشريعة: (هذا بإجماع الأمة)، أو قولهم: (روى فلان الإجماع في هذه المسألة)، أو قولهم: (ولقد أجمعت الأمة على هذا) وغيرها كثيرا من العبارات التي يفهم القارئ منها أن إجماع الفقهاء على حِل مسألة ما من مسائل الشريعة، أو حرمتها، أو جوازها، أو منعها، هو مصدر من مصادر التشريع الديني في الإسلام، وهذا الفهم أو هذا الاعتقاد يعد جريمة وخطئا عظيما في حق الدين قد وقع فيه فقهاء أصول الفقه من حيث لا يشعرون، بل إن اعتبار إجماع الفقهاء المسلمين على رأي ما في مسألة من مسائل الدين مصدرا من مصادر التشريع الديني يعد سابقة سيئة وفرية عظيمة وغريبة لن نجد لها ما يثبت شرعيتها بنص ديني واحد في أي رسالة دينية على الإطلاق.

إنه لمن المعلوم ضرورة أن الدين أي دين والشرائع والأحكام الدينية لأي رسالة دينية مصدرها واحد لا ثاني له ألا وهو الله سبحانه، حتى النبي محمد عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء ليسوا مصدرا من مصادر التشريع الديني، وذلك أن الدين وشرائعه وأحكامه لا مصدر لها جميعا سوى الله وحده، وما الأنبياء والرسل إلا مبلغين عن الله وحاملين أمناء لرسالته إلى الناس دون زيادة عليها أو نقصان منها، وذلك لقوله تعالى: (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله)، ولقوله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل أألله أذن لكم أم على الله تفترون)، ومن هنا ومن خلال هذه النصوص وغيرها نعي جيدا ويثبت في يقيننا أن الدين بأحكامه وشرائعه لا مصدر له سوى الله سبحانه، وما كان لبشر حتى ولو كان نبيا أو رسولا أن يكون كلامه أو فعله أو إقراره مصدرا للتشريع الديني ما لم يكن يبلغ عن الله رسالة الله التي أمره الله أن يبلغها للناس من دون زيادة عليها أو نقصان.

إن خطورة اعتبار إجماع الفقهاء المجتهدين من المسلمين تشريعا دينيا تكمن في أن هناك مصادر أخرى للتشريع الديني سوى الله سبحانه، أو مع الله، فقد اعتبر القرآن الكريم أي مصدر آخر للتشريع الديني لم يأذن به الله، اعتبر هذا المصدر شريكا لله في التشريع الديني، قال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)، فكل مصدر للتشريع الديني لم يأذن له الله بتبليغ شرع الله إلى الناس فهذا المصدر قد نصب نفسه شريكا لله أو نصبه الناس شريكا لله في التشريع الديني.

فحين قمت بتتبع كتب أصول الفقه وما قاله علماء أصول الفقه حول الإجماع، وجدت أن هذا الخطأ الجسيم قد وقع فيه الفقهاء قديما وحديثا من التباس بعض النصوص القرآنية وبعض أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام على معظم الفقهاء في الماضي والحاضر، وأدى هذا الالتباس إلى اعتقاد الفقهاء أن إجماع الفقهاء المجتهدين في أي عصر من العصور على واقعة ما، أو حدث ما، يعد تشريعا دينيا يضاهي في قدسيته قدسية القرآن الكريم، وفي هذا المقال سنتناول قضية إجماع الفقهاء بالنقد والتحليل ومحاولة تتبع النصوص التي التبست على الفقهاء فظنوا أنها تجعل من إجماع الفقهاء تشريعا دينيا، وسوف نقوم بإعادة قراءة هذه النصوص مرة أخرى لمعرفة الأوجه الدلالية التي تم فهمها فهما خاطئا على مر عصور التاريخ الإسلامي.

## أركان الإجماع عند فقهاء الأصول:
لقد وضع فقهاء الأصول أربعة أركان لصحة انعقاد إجماع المجتهدين ليصبح إجماعهم تشريعا دينيا، ومن خلال هذه الأركان الأربعة سنكتشف مدى الخلل الفقهي والالتباس الذي وقع فيه فقهاء علم الأصول حين قرروا أن يجعلوا من الإجماع تشريعا دينيا يضاهي في مشروعيته القرآن الكريم، ومنه على سبيل المثال: أن الفقهاء اعتبروا أن وقوع بعض الحوادث الجديدة والفريدة التي لم تكن ولم تحدث في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام حين نزول القرآن الكريم، اعتبروا أن مثل تلك الحوادث تحتاج إلى تشريع ديني، فاعتبروا أنه بانتهاء نزول القرآن الكريم بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام فلابد من إيجاد مصدر للتشريع الديني يكون بديلا عن القرآن الكريم وعن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك المصدر هو الإجماع.

ولقد ورد في تعريف الإجماع كما جاء في كتب أصول الفقه أنه: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر على حكم شرعي، ومن هذا يؤخذ أن أركان الإجماع التي لا ينعقد شرعا إلا بتحققها أربعة هي:
الأول: أن يوجد في عصر وقوع الحادثة عدد من المجتهدين، لأن الاتفاق لا يتصور إلا في عدة آراء يوافق كل رأي منها سائرها، فلو خلا وقت من وجود عدد من المجتهدين، بأن لم يوجد فيه مجتهد أصلا أو وجد مجتهد واحد، لا ينعقد فيه شرعا إجماع، ومن هذا لا إجماع في عهد الرسول لأنه المجتهد وحده.

الثاني: أن يتفق على الحكم الشرعي في الواقعة جميع المجتهدين من المسلمين في وقت وقوعها، بصرف النظر عن بلدهم أو جنسهم أو طائفتهم، فلو اتفق على الحكم الشرعي في الواقعة مجتهدو الحرمين فقط، أو مجتهدو العراق فقط، أو مجتهدو الحجاز، أو مجتهدو آل البيت، أو مجتهدو أهل السنة دون مجتهدي الشيعة لا ينعقد بهذا الاتفاق الخاص إجماع، لأن الإجماع لا ينعقد إلا بالاتفاق العام من جميع مجتهدي العالم الإسلامي في عهد الحادثة، ولا عبرة بغير المجتهدين.

الثالث: أن يكون اتفاقهم بإبداء كل واحد منهم رأيه صريحا في الواقعة سواء كان إبداء الواحد منهم رأيه قولا بأن أفتى في الواقعة بفتوى، أو فعلا إن قضى فيها بقضاء، وسواء أبدى كل واحد منهم رأي على إنفراد وبعد جمع الآراء تبين اتفاقها، أم أبدوا آراءهم مجتمعين بأن جميع مجتهدو العالم الإسلامي في عصر حدوث الواقعة وعرضت عليهم، وبعد تبادلهم وجهات النظر اتفقوا جميعا على حكم واحد فيها.

الرابع: أن يتحقق الاتفاق من جميع المجتهدين على الحكم، فلو اتفق أكثرهم لا ينعقد باتفاق الأكثر إجماعٌ مَهما قل عدد المخالفين وكثر عدد المتفقين لأنه ما دام قد وجد اختلاف وجد احتمال الصواب في جانب والخطأ في جانب، فلا يكون اتفاق الأكثر حجة شرعية قطعية ملزمة.

هذه هي الأركان الأربعة التي وضعها فقهاء الأصول ليكون الإجماع صحيحا من وجهة نظرهم، ويصبح ما تم الإجماع عليه حكما وتشريعا دينيا يضاهي في إلزامه للناس وقدسيته إلزام وقدسية القرآن الكريم، ولكن ما قد خفي على فقهاء الأصول حين جعلوا من الإجماع مصدرا من مصادر التشريع الديني في الإسلام، أنهم بذلك قد اعتبروا من حيث لا يشعرون أن المصدر الأوحد للتشريع الديني الذي هو القرآن الكريم هو مصدر غير كاف وغير واف ولا يمكنه استيعاب ما سيستجد من حوادث وأمور قد تحدث في المستقبل، وهذا اتهام صريح منهم للقرآن الكريم، بل واتهام ربما غير مقصود منهم لمن أنزل القرآن بأنه لم ينزل فيه ما يمكنه استيعاب ما قد يستجد ويحدث من أمور وحوادث في المستقبل، مما استدعي البحث عن مصادر أخرى للتشريع الديني لسد هذا النقص واستيعاب مستحدثات الأمور ومستجدات المستقبل.

## نقض حجية الإجماع:
حين بدأ فقهاء أصول الفقه مناقشة حجية وبراهين الإجماع لم يلتفتوا إلى أنهم وقعوا في تناقض كبير وخلط عظيم بين ما سينتج عنه إجماع الفقهاء من أحكام هي في الأساس مجرد اجتهادات بشرية، وبين جعلهم هذه الأحكام الاجتهادية أحكاما وتشريعات دينية، ومن الغريب في هذه المسألة أن من ناقشوا ووضعوا قواعد ومنهج أصول الفقه اعترفوا صراحة أن إجماع الفقهاء على الموافقة أو على المنع في حكم مسألة من المسائل أو واقعة من الوقائع، ما هو إلا محض أراء للفقهاء الذين عقدوا الإجماع على ذلك، وما لم ينتبه له واضعوا قواعد أصول الفقه أن إجماع الفقهاء بآرائهم في أي مسألة من مسائل الدين تبقى محض آراء بشرية لا يمكن بحال من الأحوال أن تتحول هذه الآراء أو هذا الإجماع إلى حكم ديني أو تشريع ديني، بل إن واضعي علم أصول الفقه جعلوا من إجماع الفقهاء بآرائهم ليس حكما شرعيا دينيا فحسب بل جعلوه واجب الاتباع ولا يحق لمسلم مخالفته أو الخروج عليه، بل إنهم منعوا الفقهاء الذين سيأتوا في العصور القادمة (في المستقبل) منعوهم من إخضاع نفس الحوادث التي سبق الإجماع عليها في العصور الماضية لاجتهاد جديد أو مراجعة الإجماع القديم، وكانت مبرراتهم في ذلك أن الأحكام التي أقرتها الإجماعات القديمة هي أحكام شرعية لا مجال لمخالفتها أو نسخها.

وسوف أقدم للقارئ فقرة قمت بنقلها حرفيا من أحد كتب أصول الفقه تؤكد ما ذكرناه حول جعل الإجماع تشريعا دينيا، وقمت باقتباس هذه الفقرة من كتاب: (أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف) كما يلي: (إذا تحققت أركان الإجماع الأربعة بأن أحصي في عصر من العصور بعد وفاة الرسول جميع من فيه من مجتهدي المسلمين على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطوائفهم، وعرضت عليهم واقعة لمعرفة حكمها الشرعي، وأبدى كل مجتهد منهم رأيه صراحة في حكمها بالقول أو بالفعل مجتمعين أو منفردين، واتفقت آراؤهم جميعا على حكم واحد في هذه الواقعة كان هذا الحكم المتفق عليه قانوناً شرعيا واجباً اتّباعه ولا يجوز مخالفته، وليس للمجتهدين في عصرٍ تالٍ أن يجعلوا هذه الواقعة موضع اجتهاد، لأن الحكم الثابت فيها بهذا الإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا لنسخه). انتهى.

وقد ساق فقهاء أصول الفقه بعض الآيات القرآنية للبرهنة على حجية وشرعية الإجماع فقالوا: والبرهان على حجية الإجماع ما يأتي: أن الله سبحانه في القرآن كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله أمرهم بطاعة أولى الأمر منهم، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [النساء : 59] ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، وأُولي الأمر الدنيوي هم الملوك والأمراء والولاة وأولو الأمر الديني هم المجتهدون وأهل الفتيا. وقد فسر بعض المفسرين على رأسهم ابن عباس أُولي الأمر في هذه الآية بالعلماء، وفسّرهم آخرون بالأمراء والولاة، والظاهر التفسير بما يشمل الجميع وبما يوجب طاعة كل فريق فيما هو من شأنه. فإذا أجمع أولو الأمر في التشريع وهم المجتهدون على حكم وجب اتّباعه وتنفيذ حكمهم بنص القرآن، ولذا قال تعالى { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83]، وتوعد سبحانه من يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، فقال عز شأنه { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [النساء : 115]، فجعل من يخالف سبيل المؤمنين قرين من يشاقق الرسول) انتهى.

والآيات الثلاث التي ساقها فقهاء أصول الفقه للتدليل على مشروعية الإجماع وجعله مصدرا من مصادر التشريع الديني في الإسلام ليس فيها ما يشير من قريب أو بعيد أن إجماع الفقهاء يعد تشريعا دينيا يجب على الناس اتباعه، وسوف ألقي الضوء على هذه الأدلة في السطور التالية.

## مناقشة حجية الإجماع:
زعم فقهاء أصول الفقه ما يلي: (أن الله سبحانه في القرآن كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله أمرهم بطاعة أولى الأمر منهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء : 59] ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، وأُولي الأمر الدنيوي هم الملوك والأمراء والولاة وأولو الأمر الديني هم المجتهدون وأهل الفتيا. وقد فسر بعض المفسرين على رأسهم ابن عباس أُولي الأمر في هذه الآية بالعلماء، وفسّرهم آخرون بالأمراء والولاة، والظاهر التفسير بما يشمل الجميع وبما يوجب طاعة كل فريق فيما هو من شأنه. فإذا أجمع أولو الأمر في التشريع وهم المجتهدون على حكم وجب اتّباعه وتنفيذ حكمهم بنص القرآن) انتهى.

والآية السابقة طبقا للقائلين بوجوب طاعة (أولي الأمر) كوجوب طاعة الله وطاعة رسوله، انطلاقا من هذه الآية، إلا أن الفقهاء والمفسرين قد تخبطوا كثيرا في تحديد من المقصود بأولي الأمر، فطائفة قالت: هم الأمراء والملوك والحكام، وطائفة قالت: هم المجتهدون وأهل الفتيا، وطائفة قالت: هم الاثنان معا وكل في مجاله، فتجب طاعة الحكام والملوك والأمراء في شئون الحكم والدنيا، وتجب طاعة العلماء والفقهاء وأهل الفتيا في الأمور الدينية، لكنهم لم يخبرونا ماذا لو تعارضت طاعة الحكام والأمراء مع طاعة الفقهاء وأهل الفتيا؟، فهل يطيع الناس الفقهاء وأهل الفتيا ويعصوا الأمراء والحكام؟، أم هل يطيعوا الأمراء والملوك ويعصوا الفقهاء وأهل الفتيا؟، وألا يمكن أن يحدث ذلك انشقاقا وربما اقتتالا بين أنصار الملوك والأمراء وبين أنصار الفقهاء وأهل الفتيا؟ هذه الأسئلة وغيرها لم يجب عنها فقهاء أصول الفقه وتركوها فراغا من أي مناقشة أو تحليل أو جواب. وكذلك لم يذكر لنا فقهاء أصول الفقه ما هي حدود طاعة أولي الأمر؟، هل هي طاعة مطلقة؟، أم مقيدة؟، وهل إيجاب طاعة أولي الأمر يجعل من أحكامهم وتشريعاتهم أحكاما وتشريعات دينية تضاهي أحكام الله؟، وإذا لم تكن أحكامهم وتشريعاتهم أحكاما وتشريعات دينية يحق للمرء الأخذ منها والرد عليها فلماذا أوجب الله على المؤمنين طاعتهم؟، مع الأخذ في الاعتبار أن أولي الأمر سواء كانوا أمراء وملوك أو فقهاء وأهل فتيا هم أناس غير معصومين من الخطأ، بمعنى أنه من الممكن ومن المتوقع أن يصدر منهم الظلم والجور والخطأ، فكيف يوجب الله طاعة من يمكن أن يصدر منهم الخطأ والظلم والجور؟،

كل هذه الأسئلة وغيرها تركها فقهاء أصول الفقه دون جواب، وترك الجواب على هذه الأسئلة منذ قرون طويلة قدم لكثير من الأمراء والحكام مبررات مشروعة ومسوغات دينية في ظلم الناس وقهر الشعوب مستظلين في ذلك بوجوب طاعة ولي الأمر فيما يقول وفيما يفعل، وكذلك شرعن لكثير من فقهاء الدين عبر العصور الإسلامية إلزام الناس بأحكام وفتاوى وتشريعات عدوها أحكاما وتشريعات دينية، وهي محض آراء بشرية فيها الصواب وفيها الخطأ. إذ لا يمكن أن يأمر الله بطاعة أولي الأمر طاعة مطلقة في كل آرائهم، سواء الصواب منها أو الخطأ، بل ومن المحال أن يظن عاقل مجرد الظن أن آراء أولي الأمر وفتاواهم التي لا تتعدى كونها اجتهادا بشريا من المحال أن تكون أحكاما دينية أو تشريعات دينية تضاهي تشريعات وأحكام الله ورسوله كما قال بذلك فقهاء أصول الفقه.

ولو قلنا إن الآية تفرض على الناس طاعة أولي الأمر، وأن طاعتهم واجبة كطاعة الله ورسوله، فالأمر لا يتعدى أن تكون طاعتهم واجبة في تنفيذ طاعة الله ورسوله، بدليل أن الله لم يذكر في الآية (وأطيعوا أولي الأمر منكم)، وإنما قال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، مما يدل على أن الطاعة الواجبة والمفروضة هي في الأساس طاعة الله ورسوله، أما طاعة أولي الأمر فتكون في تنفيذهم لطاعة الله ورسوله، ونظير ذلك في العصر الحالي في وجوب التزام أولي الأمر وبقية الناس بالقانون، والناس في ذلك واجب عليهم طاعة ولاة الأمر في تطبيقهم وتنفيذهم للقانون، أما إذا خرج ولاة الأمر عن القانون العام الذي ارتضاه الناس لحكمهم فعندها لا طاعة لولاة الأمر على الناس، وفي الآية أمر مهم آخر ألا وهو كلمة (أولو الأمر) فقد جاءت في الآية للجمع وليست للمفرد، فلم يقل (وولي الأمر منكم)، إنما قال: (وأولي الأمر منكم) فجمع ولاة الأمر يدل على أنه يجب أن يكون ولاة أمر الناس جماعة وليس فردا واحدا، أو بالمعنى المعاصر (مؤسسة) للحكم أو عدة (مؤسسات)، ويدل هذا على الشورى بين ولاة الأمر، فليس الأمر حكرا على شخص واحد يصدر قانونا وتشريعات بمفرده ثم يقوم بتنفيذها وإلزام الناس بها بمفرده، وكذلك قوله في الآية: (منكم) يدل على أن ولاة الأمر (مؤسسات الحكم) تكون منكم أي من اختياركم وبرضاكم ومشورتكم، لأن ولاة الأمر (مؤسسات الحكم) لو لم تلي أمر الناس برضى الناس واختيارهم واتفاقهم عليهم فكيف ساعتها يقال: (وأولي الأمر منكم) وهم لم يلو أمر الناس باختيار الناس ورضاهم واتفاقهم عليهم، بل وكيف يطلق عليهم وصف (منكم)؟.

## في ماذا يكون الرد إلى أولي الأمر؟:

قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (83_ النساء)
اعتمد جمهور الفقهاء والمفسرين في الماضي والحاضر على هذه الآية في إثبات حجية الإجماع، حيث اعتبر جمهور الفقهاء والمفسرين أن إجماع الفقهاء في أي عصر من العصور على حكم حادثة ما من الحوادث والاتفاق فيما بينهم على حكم معين فيها يعد ذلك الحكم تشريعا دينيا، ومن الآيات التي استند إليها الفقهاء في إثبات حجية الإجماع آية النساء هذه، حيث رأوا أن الله من خلال هذه الآية أمر جموع المسلمين بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر فيما يجد من أمور وحوادث كي يقوم أولو الأمر بإصدار أحكامهم التشريعية فيها، ويصبح ما يتفق عليه الفقهاء من حكم في أي مسألة حكما شرعيا دينيا لا يجوز مخالفته أو العمل بغيره، هذا ما قال به الفقهاء والمفسرون منذ قرون طويلة ومازال المسلمون في شتى بقاع العالم إلى يومنا هذا يعتقدون أن الإجماع وفقا لهذا الفهم للآية السابقة يعد مصدرا من مصادر التشريع الديني في الإسلام.

لكن، عند إمعان النظر قليلا في الآية، وحين نعيد قراءتها من جديد نجد أن الآية لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى اعتبار الإجماع مصدرا من مصادر التشريع الديني في الإسلام، وكذلك لا تشير هذه الآية على الإطلاق إلى أن ما يصدره أولي الأمر من أحكام تعد أحكاما تشريعية دينية تضاهي تشريعات الله سبحانه، بل الأمر غير ذلك تماما، فعندما نعيد تلاوة الآية مرة أخرى على النحو التالي: قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (83_ النساء). سنجد أولا: أن الآية تتحدث عن أولي الأمر هنا بوصفهم الحكام والأمراء وليسوا بوصفهم الفقهاء أو المفسرين أو المفتين أو رجال الدين أو الدعاة.

ثانيا: الآية تتحدث عن بعض الناس الذين يعلمون بمجيء أمر من الأمن أو الخوف فسرعان ما يقومون بإذاعته وإشاعته بين عموم الناس من دون تروي أو توثيق لهذا الأمر لمعرفة صدقه من كذبه وحقه من باطله، أي مجيء وحدوث أي أمر من أمور الدنيا أو أمور الحكم أو أمور القتال والحروب، فأمر الله في هذه الآية المسلمين أنه عند علم أحدهم أو بعضهم بأمر ما سواء من الأمن أو الخوف بعدم إذاعة أو إشاعة هذا الأمر على عامة الناس، بل عليهم أن يقوموا برد هذا الأمر إلى الرسول أو إلى أولي الأمر لاستنباطه ومعرفة حقيقته، حتى لا تسود الفوضى والتذبذب والتوتر والجلبة والبلبلة في المجتمع، فالآية تنص على من يعلم بمجيء أمر من الأمن أو الخوف أن يرده إلى الرسول في حال وجود شخص الرسول، أو إلى أولي الأمر في حال غياب شخص الرسول، وأولي الأمر المقصودين في الآية هم الحكام والأمراء وليسوا الفقهاء والمفتين كما يظن معظم الناس.

ثالثا: ليس في الآية بأي حال من الأحوال ولا بأي وجه من الوجوه أي دلالة على هذا الفهم الذي قال به الفقهاء والمفسرون، ولا يوجد في الآية على الإطلاق ما يشير إلى أن إجماع الفقهاء في أي عصر من العصور على حكم معين في حادثة بعينها يعد هذا الحكم تشريعا دينيا لا يجوز الخروج عليه وعدم الامتثال به، بل ولم تشر الآية على الإطلاق إلى السماح لأولي الأمر سواء كانوا من الحكام والأمراء أو من الفقهاء والمفتين بأن يشرعوا ويصدروا أحكاما تشريعية دينية من دون الله، فهذا الفهم للآية من قبل الفقهاء في الماضي والحاضر هو كارثة دينية تدعو إلى الشرك بالله، هذا في حال كان أصحاب هذه الدعوة متعمدين السماح لأي أحد بأن يشرع أحكاما من عند نفسه ومن دون الله ثم ينسبها إلى الدين، فهذا هو الشرك بعينه والتحريف الواضح لنص الآية وتحميله ما لم يحتمل وتقويله ما لم يقل، لأن ما لا يجهله أحد أن التشريع الديني تحديدا هو خاصية من خصائص الله وحده الذي لا يشاركه فيها ملك ولا نبي ولا رسول، فكيف بمن هم دونهم من الناس.

وكذلك من الآيات التي استدل بها الفقهاء في إثبات حجية الإجماع الديني قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115]، فقد قال الفقهاء: إن الله في هذه الآية توعد من يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين بالنار يوم القيامة، فجعل من يخالف سبيل المؤمنين قرين من يشاقق الرسول.

أقول: هذه الآية كذلك ليس فيها أي وجه للدلالة على جواز إجماع الفقهاء على حكم أو تشريع واعتباره حكما أو تشريعا دينيا، فالآية تنص على أن من يشاقق الرسول _أي يناوئه ويعاديه ويحاربه_ من بعد ما تبين له الهدى سيكون مصيره النار يوم القيامة، وهذا الهدى هو المتمثل في القرآن الكريم وهديه عليه الصلاة والسلام فحسب، وهذا الهدى هو الذي اتخذه المؤمنون سبيلا لهم، إذ لا يمكن لعاقل أن يتصور على الإطلاق أن المؤمنين لهم سبيل آخر يتبعونه سوى القرآن الكريم وهدي النبي عليه الصلاة والسلام، فأين المنطوق الحقيقي لهذه الآية من مفهوم الإجماع الذي فهمه الفقهاء منها؟.

## ضعف أحاديث حجية الإجماع وتناقضات الفقهاء:
لقد ساق فقهاء أصول الفقه بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة لإثبات حجية الإجماع، قال عبد الوهاب خلاف في كتابه (أصول الفقه) ما يلي: (أن الحكم الذي اتفقت عليه آراء جميع المجتهدين في الأمة الإسلامية هو في الحقيقة حكم الأمة ممثلة في مجتهديها، وقد وردت عدة أحاديث عن الرسول، وآثار عن الصحابة تدل على عصمة الأمة من الخطأ، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجتمع أمتي على خطأ"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة"، وقوله: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"، وذلك لأن اتفاق جميع هؤلاء المجتهدين على حكم واحد في الواقعة مع اختلاف أنظارهم والبيئات المحيطة بهم وتوافر عدة أسباب لاختلافهم دليل على أن وحدة الحق والصواب هي التي جمعت كلمتهم وغلبت عوامل اختلافهم) انتهى.

هذه الأحاديث التي ذكرها فقهاء أصول الفقه لإثبات حجية الإجماع كلها ضعيفة وموضوعة كما ذكر ذلك علماء الحديث، فحديث (لا تجتمع أمتي على خطأ) وفي رواية: (على ضلالة)، فقد علّق محقّق كتاب: (سنن ابن ماجة)، نقلاً عن كتاب «مجمع الزوائد»، للهيثمي: في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطا، وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر. قال أبو عيسى (الترمذي): هذا حديث غريب من هذا الوجه.

أما حديث: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) فقد قال عنه الشيخ عطية صقر في إحدى فتاويه ما يلي: (هذا الحديث ليس من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود، أى حديث موقوف غير مرفوع، رواه أحمد فى مسنده، وقال العلائى عنه: لم أجده مرفوعا فى كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو موقوف على ابن مسعود) انتهى.

## تناقضات الفقهاء في إثبات حجية الإجماع:
لقد وقع فقهاء أصول الفقه في العديد من التناقضات وهم يحاولون إثبات حجية الإجماع وأنه _أي الإجماع_ مصدر من مصادر التشريع الديني، فمثلا قال جميع فقهاء أصول الفقه أنه إذا: (اتفقت آراؤهم جميعا _أي الفقهاء_ على حكم واحد في هذه الواقعة كان هذا الحكم المتفق عليه قانوناً شرعيا واجباً اتّباعه ولا يجوز مخالفته، وليس للمجتهدين في عصرٍ تالٍ أن يجعلوا هذه الواقعة موضع اجتهاد، لأن الحكم الثابت فيها بهذا الإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا لنسخه) انتهى.

ثم تناقض بعد ذلك الفقهاء مع كلامهم هذا حيث اشترطوا كما ذكر عبد الوهاب خلاف في كتابه: (أصول الفقه) (أن يكون الحكم الشرعي الذي سيصدر عن الإجماع لابد أن يكون قد بني على مستند شرعي لأن المجتهد الإسلامي له حدود لا يسوغ له أن يتعداها، وإذا لم يكن في اجتهاده نص فاجتهاده لا يتعدى تفهم النص ومعرفة ما يدل عليه، وإذا لم يكن في الواقعة نص فاجتهاده لا يتعدى استنباط حكمه بواسطة قياسه على ما فيه نص أو تطبيق قواعد الشريعة ومبادئها العامة، أو بالاستبدال بما أقامته الشريعة من دلائل كالاستحسان أو الاستصحاب، أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة، وإذا كان اجتهاد المجتهد لابد أن يستند إلى دليل شرعي، فاتفاق المجتهدين جميعا على حكم واحد في الواقعة دليل على وجود مستند شرعي، يدل قطعا على هذا الحكم، لأنه لو كان ما استندوا إليه دليلا ظنيا لاستحال عادة أن يصدر عنه اتفاق، لأن الظني محال حتما لاختلاف العقول. وكما يكون الإجماع على حكم في واقعة يكون على تأويل نَص أو تفسيره وعلى تعليل حكم النص وبيان الوصف المنوط به) انتهى.

وردا على هذا التناقض أقول: إذا كان الإجماع لابد وأن يستند إلى دليل شرعي (آية قرآنية أو حديث نبوي) فما جدوى الإجماع في وجود الدليل الشرعي (الآية أو الحديث)؟. إذن فالإجماع على حكم واقعة في وجود الدليل الشرعي (آية أو حديث) لا قيمة له سوى تحصيل الحاصل وتقرير المقرر، فما معنى أن نقرأ في كتب الفقه وكتب التفاسير قول الفقهاء والمفسرين: (أجمع الفقهاء على حرمة الزنى). وقولهم: (أجمع الفقهاء على حرمة السرقة). وقولهم: (أجمع الفقهاء على حرمة القتل). وقولهم: (أجمع الفقهاء على وجب الصلاة والصيام والزكاة والحج). فهل لهذه الإجماعات أي فائدة تذكر أو معنى أو مغزى مع وجود نصوص قطعية تحرم هذا وتوجب هذا؟!!.
أما قولهم أن الإجماع قد يكون على استنباط حكم أو فهم نص، فإنهم بذلك يكونوا قد جعلوا من فهم الفقهاء للنصوص القرآنية الذي لا يتعدى كونه فهما بشريا يحتمل الصواب والخطأ إلى تشريع ديني يضاهي أحكام القرآن الكريم، وهذه جريمة كبرى. أن يتحول فهم الفقهاء لنصوص الدين إلى أحكام دينية شرعية لا يجوز مخالفتها.

## الفقهاء يقرون بتعذر انعقاد الإجماع:
لقد أقر معظم الفقهاء بتعذر واستحالة انعقاد الإجماع لكثير من الصعوبات والعقبات التي تواجه إمكانية التحقق من إجماع جميع الفقهاء والمجتهدين في العالم الإسلامي، بل إن من الفقهاء من أقر بأنه لم يحدث أن انعقد إجماع بهذه الشروط على الإطلاق منذ وفاة الرسول وحتى وهذه اللحظة، وقد ذكر أحد الفقهاء المعاصرين (عبد الوهاب خلاف) إمكانية انعقاد الإجماع عن طريق الحكومات في دول العالم الإسلامي، وسوف أقدم للقارئ أقوال ومذاهب الفقهاء حول إمكانية أنعاقد الإجماع وتعذر ذلك، فقد ذكر الدكتور (عبد الوهاب خلاف) في كتابه: أصول الفقه ما يلي:

(قالت طائفة من العلماء منهم النظّام وبعض الشيعة: إن هذا الإجماع الذي تبيّنت أركانه لا يمكن انعقاده عادة، لأنه يتعذر تحقق أركانه، وذلك أنه لا يوجد مقياس يعرف به إذا كان الشخص بلغ مرتبة الاجتهاد أو لم يبلغها، ولا يوجد حكم يرجع إليه في الحكم بأن هذا مجتهد أو غير مجتهد، فمعرفة المجتهدين من غير المجتهدين متعذرة.

ولو فرض أن أشخاص المجتهدين في العالم الإسلامي وقت حدوث الواقعة معروفون فالوقوف على آرائهم جميعا في الواقعة بطريق يفيد اليقين أو القريب منه متعذر، لأنهم متفرقون في قارات مختلفة، وفي بلاد متباعدة، ومختلفو الجنسية والتبعية فلا يتيسر سبيل إلى جمعهم وأخذ آرائهم مجتمعين، ولا إلى نقل رأي كل واحد منهم بطريق يوثق به.

ولو فرض أن أشخاص المجتهدين عرفوا، وأمكن الوقوف على آرائهم بطريق يوثق به، فما الذي يكفل أن المجتهد الذي أبدى رأيه في الواقعة يبقى مصرا عليه حتى تؤخذ آراء الباقين؟ ما الذي يمنع أن تعرض له شبهة فيرجع عن رأيه قبل أخذ آراء الباقين؟ والشرط لإنعقاد الإجماع أن يثبت اتفاق المجتهدين جميعا في وقت واحد على حكم واحد في واقعة.

ومما يؤيد أن الاجماع لا يمكن انعقاده: أنه لو انعقد كان لابد مستنداً إلى دليل، لأن المجتهد الشرعي لابد أن يستند في اجتهاده إلى دليل، والدليل الذي يستند عليه المجمعون إن كان دليلا قطعيا فمن المستحيل عادة أن يخفى، لأن المسلمين لا يخفي عليهم دليل شرعي قطعي حتى يحتاجوا معه إلى الرجوع إلى المجتهدين وإجماعهم، وإن كان دليلا ظنيا فمن المستحيل عادة أن يصدر عن الدليل الظني إجماع، لأن الدليل الظني لأبد أن يكون مثاراً للاختلاف.

وقد نقل ابن حزم في كتابه "الإحكام" عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قوله:
سمعتُ أبي يقول: "وما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، ومن ادعى الإجماع فهو كذاب، لعل الناس قد اختلفوا ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا" .

وذهب جمهور العلماء: إلى أن الإجماع يمكن انعقاده عادة، وقالوا: إنما ذكره منكرو إمكانه لا يخرج عن أنه تشكيك في أمر واقع، وإن أظهر دليل على إمكانه فعلا، وذكروا عدة أمثله لما ثبت انعقاد الإجماع عليه مثل: خلافة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدات السدس، وحجب ابن الإبن من الإرث بالإبن وغير ذلك من أحكام جزئية وكلية.

وقد رجح الدكتور عبد الوهاب خلاف: أن الإجماع بتعريفه وأركانه التي بيناها لا يمكن عادة انعقاده إذا وكل أمره إلى أفراد الأمم الإسلامية وشعوبها، ويمكن انعقاده إذا تولت أمره الحكومات الإسلامية على اختلافها، فكل حكومة تستطيع أن تعين الشروط التي بتوافرها يبلغ الشخص مرتبة الاجتهاد، وأن تمنح الإجازة الاجتهادية لمن توافرت فيه هذه الشروط، وبهذا تستطيع كل حكومة أن تعرف مجتهديها وآراءهم في أية واقعة، فإذا وقفت كل حكومة على آراء مجتهديها فى
واقعة ,واتفقت اراء المجتهدين جميعهم في كل الحكومات الإسلامية على حكم واحد في هذه الواقعة، كان هذا إجماعا، وكان الحكم المجتمع عليه حكما شرعيا واجبا اتّباعه على المسلمين جميعهم.

## إقرار الفقهاء بعدم انعقاد الإجماع في العصور الإسلامية:

قال الدكتور عبد الوهاب خلاف في كتابه: (أصول الفقه) (هل انعقد الإجماع فعلا بهذا المعنى في عصر من العصور بعد وفاة الرسول؟ الجواب: لا، ومن رجع إلى الوقائع التي حكم فيها الصحابة، واعتبر حكمهم فيها بالإجماع يتبين أنه ما وقع إجماع بهذا المعنى، وأن ما وقع إنما كان اتفاقا من الحاضرين، ومن أولي العلم والرأي على حكم في الحادثة المعروضة، فهو في الحقيقة: حكم صادر عن شورى الجماعة لا عن رأي الفرد.

فقد روي أن أبا بكر كان إذا ورد عليه الخصوم ولم يجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما يقضي بينهم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمعوا على رأي أمضاه، وكذلك كان يفعل عمر، ومما لا ريب فيه أن رؤوس الناس وخيارهم، لأنه كان منهم عدد كثير في مكة والشام واليمن وفي ميادين الجهاد، وما ورد أن أبا بكر أجّل الفصل في خصومة حتى يقف على رأي جميع مجتهدي الصحابة في مختلف البلدان، بل كان يمضي ما اتفق عليه الحاضرون لأنهم جماعة، ورأي الجماعة أقرب إلى الحق من رأي الفرد، وكذلك كان يفعل عمر، وهذا ما سماه الفقهاء الإجماع، فهو في الحقيقة تشريع الجماعة لا الفرد، وهو ما وجد إلا في عصر الصحابة، وفي بعض عصور الأمويين بالأندلس، حين كونوا في القرن الثاني الهجري جماعة من العلماء يستشارون في التشريع، وكثيرا ما يذكر في ترجمة بعض علماء الأندلس أنه كان من علماء الشورى.
وأما بعد عهد الصحابة، فيما عدا هذه الفترة في الدولة الأموية بالأندلس فلم ينعقد إجماع، ولم يتحقق إجماع من أكثر المجتهدين لأجل تشريع، ولم يصدر التشريع عن الجماعة بل استقل كل فرد من المجتهدين في بلده وفي بيئته.
وكان التشريع فرديا لا شوريا، وقد تتوافق الآراء وقد تتناقض، وأقصى ما يستطيع الفقيه أن يقوله: لا يُعلم في حكم هذه الواقعة خلاف.

## أنواع الإجماع كما ذكرها الفقهاء:
أما الإجماع من جهة كيفية حصوله فهو نوعان:
أحدهما: الإجماع الصحيح: وهو أن يتفق مجتهدو العصر على حكم واقعة، بإبداء كل منهم رأيه صراحة بفتوى أو قضاء، أي أن كل مجتهد يصدر منه قول أو فعل يعبر صراحة عن رأيه.
وثانيهما: الإجماع السكوتي: وهو أن يبدي بعض مجتهدي العصر رأيهم صراحة في الواقعة بفتوى أو قضاء، ويسكت باقيهم عن إبداء رأيهم فيها بموافقة ما أبدي فيها أو مخالفته.
أما النوع الأول وهو الإجماع الصريح فهو الإجماع الحقيقي، وهو حجة شرعية في مذهب الجمهور.
وأما النوع الثاني وهو الإجماع السكوتي فهو إجماع اعتباري، لأن الساكت لا جزم بأنه موافقة، فلا جزم بتحقيق الاتفاق وانعقاد الإجماع، ولهذا اختلف في حجيته، فذهب الجمهور إلى أنه ليس حجة، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض أفراد من المجتهدين.
وذهب علماء الحنفية إلى أنه حجة إذا ثبت أن المجتهد الذي سكت عرضت عليه الحادثة وعرض عليه الرأي الذي أبدي فيها ومضت عليه فترة كافية للبحث وتكوين الرأي وسكت، ولم توجد شبهة في أنه سكت خوفاً أو ملقاً أو عياً أو استهزاء ، لأن سكوت المجتهد في مقام الاستفتاء والبيان والتشريع بعد فترة البحث والدرس ومع انتفاء ما يمنعه من إبداء رأيه لو كان مخالفا، دليل على موافقته الرأي الذي أُبدي إذ لو كان مخالفا ما وسعه السكوت.
والذي أراه الراجح: هو مذهب الجمهور؛ لأن الساكت من غير المجتهدين تحيط بسكوته عدة ظروف وملابسات منها النفسي ومنها غير النفسي، ولا يمكن استقصاء كل هذه الظروف والملابسات والجزم بأنه سكت موافقة ورضا بالرأي، فالساكت لا رأي له ولا ينسب إليه قول موافق أو مخالف، وأكثر ما وقع مما سمي إجماعا هو من الإجماع السكوتي.
وأما الإجماع من جهة أنه قطعي الدلالة على حكمه أو ظني، فهو نوعان أيضا: أحدهما: إجماع قطعي الدلالة على حكمه، وهو الإجماع الصريح:
بمعنى أن حكمه مقطوع به ولا سبيل إلى الحكم في واقعته بخلافه، ولا مجال للاجتهاد في واقعة بعد انعقاد إجماع صريح على حكم شرعي فيها.
وثانيهما: إجماع ظني الدلالة على حكمه وهو السكوتي بمعنى أن حكمه مظنون ظنا راجحا ولا يخرج الواقعة عن أن تكون مجالا للاجتهاد لأنه عبارة عن رأي جماعة من المجتهدين لا جميعهم.

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
موبايل : 0164355385 _ 002
إيميل: [email protected]



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرية كذبة كبرى
- هل الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟؟
- وماذا بعد سقوط حسني مبارك ومحاكمته؟
- المواقيت الصحيحة للإفطار والسحور
- لا دية لأسر شهداء 25 يناير
- النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الثاني
- النظام المديني وزوال الديمقراطية – الجزء الأول
- من أجل إنقاذ مصر
- الدعاء في سجن (مزرعة طرة) مستجاب
- ويل لمن تنكروا لفضل الرئيس مبارك عليهم
- ثورة 25 يناير ثورة إسلامية بلا خوميني
- حقيقة حياد الجيش وقراءة أخرى في المشهد المصري
- العلاقة المشبوه بين البابا شنودة والرئيس مبارك
- ثورة مصر: ثورة طاهرة في بيت دعارة
- احذروا أيها المصريون: هؤلاء يتآمرون عليكم
- شعوب تستلهم خلاصها من المنتحرين والمحروقين والغائبين
- البطولة الزائفة للمنتحر التونسي (محمد بوعزيزي)
- الطائفية الريفية والإجحاف بالمسيحيين
- مسيحيو مصر ليسوا سواء
- متى يعتذر المصري المسلم عن انتمائه للإسلام؟


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - هل الإجماع مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟