عبد الجبار الغراز
كاتب وباحث من المغرب
(Abdeljebbar Lourhraz)
الحوار المتمدن-العدد: 3456 - 2011 / 8 / 14 - 11:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ألم تر كيف فعل الشباب المصري الواعد برئيسه المخلوع ؟ ألم يجعل كيده في تضليل و جعله ، أمام العالم بأسره ، كعصف مأكول ، رهينة قفص حديدي هو و ابناه و ثلة من أعوانه ؟ رئيس استحق كل هذا الذي جرى له ، لأنه باع البلد و خان الأمانة و تحالف مع العدو و حاصر غزة الأبية وأهلها الشرفاء الطيبين . نعم ، لقد شاهدنا ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر : رئيس دولة عربي من العيار الثقيل في قفص الاتهام إ و عشنا ، بالفعل ، مع الحدث غير المسبوق في تاريخنا السياسي العربي و الإسلامي ، عرسا حقيقيا .
لقد أحدث , بفعل ذلك فينا ، هذا الشعب الشجاع ، هزة نفسية و في عقولنا ، عصفا ذهنيا خلخل كل ثوابتنا و أزاحها عن مركزها ، و تركنا نعيد النظر في مرجعياتنا و أسسنا المعرفية و السياسية . إنه شيء لا يصدق هذا الذي فعله هذا الشعب برئيسه السابق .. فما كان بالأمس القريب مستحيلا أصبح الآن ، شيئا ممكن الحدوث . لكن .. هذه هي الحقيقة و هذا هو الواقع ، و هذه هي قوانين التاريخ التي حاول هذا الرئيس المخلوع و باقي الحكام العرب إلغاءنا بقوة الحديد و النار.
و الآن ، و بعد أن هدأت النفوس و لم تنم على الجنب الذي يريحها بعد ، خوفا على مصير ثورتها ، و حتى لا نتمثل نحن ، هذه المحاكمة التاريخية و كأنها مسلسل عربي مشوق ، و تستبد بوجداننا الأشجان ، و تسيطر علينا تلك النشوة العابرة و تلك النزوة الرخيصة التي تخلقها فينا ، عادة ، فضائياتنا السمعية البصرية عند نهاية كل حلقة من حلقاته ، و في انتظار استكمال أطوار هذه المحاكمة و ما ستخفيه من مفاجئات ، يحق لنا أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية ، نعتقد أن أجوبتها ستكون ، و لا شك ، مفيدة نستخلص منها العبر و الدروس و هي كالتالي :
ماهو منبع هذه الدهشة التي استبدت بشعوبنا العربية عند تتبعها لمجريات محاكمة الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك ، يوم الثالث من غشت أغسطس المنصرم ؟ و من أين أتاها هذا الاستغراب المشحون برغبة جامحة في التشفي فيه ؟ و ما سر كل هذا الغضب الشعبي الذي ادخره كل بيت عربي ، الذي صب جامه على عجوز جاوز الثمانين من عمره ، نائم على سرير التعاسة و الشقاء يتجرع من كأس المهانة الذل و الهوان ، يستجدي من وراء القضبان ، و أمام عدسة كاميرات العالم ، الرحمة و العفو و الصفح و يطلب , بلا خجل , شفاعة الشافعين ؟
أسئلة مهمة ، نعتقد أن أجوبتها ستكون ، و لا شك ، مفيدة نستخلص منها الدروس و العبر .. و مفاد هذه الأجوبة أن هذه الدهشة و هذا الاستغراب و هذا الحقد ، هي كلها تعبير عن غبن سياسي و تاريخي دفينين أحست بهما شعوبنا العربية . غبن سياسي ، لأنه كان يجتم على الناس و يكتم أنفاسها و يطمس العقول النيرة و يزيف الحقائق و يحجب نور الحرية و الانعتاق من ربقة الطغيان و الاستبداد و الظلم و الفساد . وغبن تاريخي ، لأنه كان موروثا ، تناقلته أجيالها ، أبا عن جد .. غبن وضح بالملموس ، أن العرب ، قبل اندلاع هذه الثورات ، قد بنوا، مع كامل الأسف الشديد ، نهضة مزيفة بكل المقاييس .
فالدارس للتاريخ العربي المعاصر سيرى و سيكتشف أن فعاليات التغيير الحقيقية ، التي تقود الشعوب نحو الرقي و التقدم ، كانت لدى العرب جد مغيبة : فالحكام العرب ، و لأسباب أمنية مرتبطة بالحفاظ على مصالحهم الذاتية بدل الحفاظ على المصالح العليا للوطن ، كانوا يحاربون بشتى الطرق كل ما من شأنه أن يساهم في تثبيت نهضة شاملة لشعوبهم . فقد كانوا يدعون أبناء الشعب فريسة الجهل و الأمية ليجعلونهم دائما تحت وصايتهم لتسهيل عملية التحكم فيهم .
و هكذا رأينا كيف قضوا سنين عديدة ينتجون خطابات جوفاء حول التنمية و حول الديمقراطية و حول الإصلاح الاقتصادي و الاجتماعي الشامل و ينشئون و يبنون مجتمعات ليس لها من العصرنة و لا من التحديث إلا الاسم فقط . ألم تكذب البنيات الواقعية للتكوين الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و الثقافي خطاباتهم تلك ؟ وهل صاغ الإنسان العربي ، في عهودهم البائدة ، العلاقة بين الحداثة و التقليد صياغة عقلانية ولد من خلالها حرارة التفاعل بين هذين الطرفين المتباعدين ليصيرا مندمجين و متكاملين ؟ و هل أرسى إرساء فعليا ، نظام إنتاج لأشكال التحضر يستجيب , بشكل طبيعي ، لمجالاته النفسية و العاطفية و الفكرية و الوجدانية , كما فعل الغرب قبل قرون ؟ إن الإنسان العربي لم يعرف أي شيء من هذا كله في عهد هؤلاء الحكام ، لأن عصرنتهم التي وعدوا بها شعوبهم ، بعيد حركات التحرر الوطني من الاستعمار ، لم تكن سوى عصرنة جوفاء . و حداثتهم سوى حداثة عمياء . فها هو عمران مدنهم ، إذن ، التي شيدوها ، يناطح السحاب و تهيئة مجالها الحضري يضاهي مثيلاتها في الغرب ، و لكنها لا تعدو أن تكون مجرد مظاهر عمرانية خداعة ، لأنها لم تبعث في كينونة الإنسان العربي الحيوية وروح العصر الذي يعيش فيه إ
فالحقائق على أرض الواقع تفضح السياسات التي كان ينهجها الحكام العرب : فلا إصلاح ، في عهدهم ، كان حقيقيا شمل التربية و التعليم , و لا مؤسسات سياسية و اقتصادية و لا بنيات ثقافية حقيقية جعلت همها الأساسي هو بناء الإنسان العربي , و لا استراتيجيات توخت اتخاذ النظرة الشمولية في التعامل مع قضايا و اشكاليات حضارية مصيرية كالتبعية و التخلف و التنمية مثلا و لا حكامات رشيدة أعادت هيكلة البنيات الأساسية للمجتمع , و لا رؤى استشرافية للمستقبل تفادت الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية و القيمية و النكسات و النكبات التي تعاني من تبعاتها الآن كل الدول العربية .
حكام ساديون كتبوا بدم شعوبهم سيناريوهات مسرحية مغرقة بدراما رهيبة ، و بنوا مجدهم السياسي على حساب أمجاد شعوبهم ، إذ جعلوا الناس يعتقدون ، لسنين طويلة ، أن الأمية و الفقر و الجهل و انتشار المحسوبية و العلاقات الزبونية ،هي أقدار ربانية لا قدرة لأحد من البشر على تغيير مسارها ، أو حتميات ميتافيزيقية لا مفر منها . فقد كانوا يقومون بذلك تيسيرا لاستقرار أنظمة حكمهم و نهبا لثروات البلاد و مدخراتها و تضخيما لأرصدتهم في البنوك . حكام يرون في الطغيان و الاستبداد عنصرا ثبات لعروشهم . و قد جندوا ، من أجل ذلك مجرمين و قتلة من أصحاب السوابق و سماسرة و تجار مخدرات . و جندوا كذلك حتى المثقفين و الفنانين ليحاربوا كل فكر سليم و كل رأي سديد . و حولوا الكل إلى " بلطجية " ليعيتوا في الأرض فسادا , و ينشروا في صفوف الشباب الأضاليل و الأكاذيب و يقذفوا في شرايينه السموم .فلا غرابة إذا رأينا هذا الشعب العربي الواحد قد انتفض و ثار على حكامه ، فقد كان يحس بغربة وجودية عن هذا الإنتاج الحضاري الذي أنتجه .
لكن ، و بفضل هذه النخبة المتعلمة من الشباب ، التي لم ترضخ لأباطيل الحكام و لم تستسلم لديماغوجيباتهم ، استطاع هذا الشعب أن يسترد حريته و أن يسترجع ، بالتالي ، روح ذاك ا الإنتاج الحضاري المسلوب منه . شباب عولت و راهنت عليه الشعوب العربية في كسب رهان التحدي و مواجهة الاستبداد بسلاح العلم و المعرفة ، فكان في مستوى التطلعات . شباب واعد قد استجاب لنداء القدر و كسر جدار الخوف و استرجع ثقته بنفسه ، و تيقن ، أخيرا ، أن بمقدوره ، دائما و أبدا ، أن يهزم الظلم و أن يدوس بقدم العزم الطغيان ، و أن يتحكم في مصيره الذي كان تحت رحمة حكامه ، يغير في مجراه كيف يشاء و وقت ما يشاء . و تيقن أيضا أن بمقدوره أن يمارس السيادة المطلقة على واقعه بالشكل الذي يرضيه ، بعدما كانت الغيبيات تحجبه عنه , فلا يرى الأمور كيف تمشي على حقيقتها.
و بفضل الثورات العربية ، رأينا كيف استوعبت الشعوب العربية : التونسي و المصري و الليبي و اليمني و السوري و البقية آتية ، هذا الدرس التاريخي الذي يقول أن لا شيء يعلو على التاريخ و قوانينه . فقد كانت , بالأمس القريب هذه الشعوب مسكينة مغلوبة على أمرها ، و الآن أصبحت في شكل جديد ، إذ لم تعد تشكل الظواهر السياسية أو الاقتصادية أو التاريخية، بالنسبة لها ، سيفا مسلطا على رقبتها أو قدرا حتميا يكرس طبيعة الأمور التي كانت قد وسمت شخصيتها ، منذ قرون خلت ، بسمة الخنوع و الذل و طبعت ذهنيتها بطابع الخمول والكسل و التواكل و الاتكال على قوى خفية في تغيير أوضاعها الحياتية .
فّإذا كان بن علي و حسني مبارك و القذافي و علي عبد الله صالح و الأسد ( و البقية تأتي ) ، إذا كانوا طغاة متجبرين ، فإن سيف القدر المسلول كان لهم بالمرصاد ، فلما حانت ساعتهم و دق القدر ناقوس الخطر مرات و مرات , أجهز عليهم و قطع دابرهم و أفناهم عن آخرهم .
عبد الجبار الغراز
- [email protected]
#عبد_الجبار_الغراز (هاشتاغ)
Abdeljebbar_Lourhraz#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟