جبهة قلم

واثق الجلبي

الحوار المتمدن-العدد: 3446 - 2011 / 8 / 3 - 23:25
المحور: الادب والفن
    

ملحمة كلكامش أول نص سماوي
حقيقة أم مجرد فرضية
واثق صباح الجلبي

ظل العراق منذ القديم وإلى الآن كنزا فيه من البريق ما لا تحويه قوارير المارين من الحكام والسلاطين والديكتاتوريين وأشباههم وأنصافهم ..فلقد كانت أرصفة الذاكرة تتوقف على لون الحلم العراقي لتحدد مديات الجهات الأربع بمختلف المضامين الإنسانية من حركة العجلة التي مثلت بدء تدحرج الحضارات وكانت نذيرا لركود الحضارية العراقية ومؤشرا مهما على أفول نجومها الزاهرة..
كان للزمن الدور الكبير في تحديد الأطر المعرفية القديمة والكشف عن المضامين الفلسفية والحياتية والفكرية التي كان عليها العراقي القديم ...فلقد محّص المتتبعون والدارسون هذه الحضارات المتعاقبة على أرض بلاد الرافدين حتى وصل المحقون إلى حقيقة واضحة مفادها أن الكلمة إنطلقت من هنا وكان أول فم تكلم بها هو فم عراقي خالص لم يكن في باله أن الزمن سوف يجور على أهل هذه الأرض بهذا الشكل .
إبتدأت القصة مع أول ملحمة في التاريخ أو كما أميل إلى تسميتها ب( أول نص سماوي) وهي ملحمة كلكامش فلم يقتصر الإنتشار السريع لملحمة كلكامش في بلاد سومر وأكد بل تعداه إلى القسم الشمالي من بلاد آشور فقد وصلت إلينا نصوص في خزانة الملك الآشوري (آشور بانيبال) بما يرجح أن أجواء الملحمة سيطرت على أجواء بقية النصوص ، أما بالنسبة إلى مراكز الحضارات القديمة فقد تم العثور على أجزاء من الملحمة في أقاليم نائية مثل الأناضول موطن الحضارة الحثية وقد دوّنت بعض هذه النصوص باللغة البابلية القديمة كما وجدت لها ترجمات إلى اللغتين الحثية والحورية وقد تم إكتشاف مثير لنسخة من بعض فصولها في إحدى مدن فلسطين القديمة وهي مدينة ( مجدو) المعروفة في التوراة.
هذا واحد من الأدلة الكثيرة على الصلة بين حوادث الملحمة وما جاء في المآثر العبرانية ولا سيما حادثة الطوفان ولعل أغرب ما وجده المنقبون في الموقع الأثري المعروف بإسم ( سلطان تبه) في جنوب تركيا بالقرب من حران أجزاء من الملحمة ورسالة عجيبة زوّرها كاتب قديم عاش في الألف الثاني قبل الميلاد ..فقد جاءت تلك الرسالة على لسان البطل كلكامش إرسال أحجار كريمة ليصنع منها تعويذة لصاحبه أنكيدو .
أما عن تأثير الملحمة في الحضارات الأخرى فواضح جدا من المقارنات التي أجريت في العصور المتأخرة والمهد الذي نشأت فيه ثقافة الإغريق هو الشرق الأدنى القديم ساعد في توكيد ذلك الكشف عن أوابد الحضارات العراقية .
لسنا هنا بصدد سرد كل الكتب والمناهج والقصص التي أخذت من ملحمة كلكامش ولكنا سنورد بعضها بإقتضاب.

1- كلكامش وثيسيوس ، نلمح في شخصية ثيسيوس ظلالا واضحة من شخصية البطل كلكامش.
2- كلكامش وهرقل ، إذ تقدم لنا شخصية هرقل مثالا واضحا للمقارنة وللقارئ أن يرجع إلى المصادر ليكشف عمق التأثير الديني والعقائدي والفلسفي لبلاد الرافدين في العالم القديم.
3- كلكامش وأخيل .
4- كلكامش وذو القرنين.
5- كلكامش وأوديسيوس في الأوديسة.
لقد تم نقل الكثير من النصوص المقدسة التي جاءت بها الكتب السماوية في مقاطع الأدب بمختلف أجناسه وإضافة إلى تقادم عهد الملحمة يحيلنا إلى سؤال مهم : هل كانت ملحمة كلكامش أول نص سماوي؟
إن تطاول الزمن وإنصرام القرون والنقل بلغات مختلفة عبر هذه الحقب الزمنية وللحروب التي خاضها العراق منذ الزمن الأول إضافة إلى الصراعات المحتدمة بين الممالك في بلاد سومر أدى إلى كتابة النص مرات عديدة وإضافة بعض الحوادث وحذف البعض منها بسبب ضياع بعض الرقم الطينية التي كتب عليها النص في نسخته الأولى .
هذا من جهة ومن جهة أخرى هي المعلومات والحوادث التي ذكرت في النص والتي تخص البشر الأول وخلقهم حيث أطلق عليهم السومريون إسم ( للّو) المركب من المقطعين (لو) ويعني الرجل و(الا) ويعني الأول ويكون المعنى الإنسان الأول.. وبداية الكون ونشوء الإنسان وهذه المعلومات لم يخل منها أي كتاب سماوي على الإطلاق.
لقد جاء في ملحمة كلكامش في ترجمة المرحوم الأستاذ الدكتور طه باقر قوله: أن كلكامش يلتقي بجده ( أوتو-نبشتم) فيسأله عن سبب مجيئه وبعدها في كلام قيّم نرى نوح النبي يعظ كلكامش بكلمات منها : ما أعظم الشبه بين النائم والميت، الا تبدو عليهما هيأة الموت ؟
ومن ذا الذي يستطيع أن يميز بين العبد والسيد إذا وافاهما الأجل؟
وما جاء على لسان نوح النبي من أسماء لم تكن إلا أسماء الملائكة التي هبطت عليه فجعلها الكتبة آلهة وأغلب الظن أن أسم الملك لم يكن يعني ملك بل كان اسم (إله) يعطي دلالة على أن المقصود بذلك هو الملك.
قصة كلكامش مع نوح النبي تحيلنا إلى قصة موسى النبي ولقائه بالخضر في القصة المعروفة..هذا وإن المفاهيم تؤكد حقيقة النص وأن ملوكية كلكامش هي كملوكية النبي سليمان..وبناءا على ذلك أدى النص براهينه الناتجة عن الملوكية الآلهية بقوله :
من؟
من غير كلكامش يستطيع أن يقول : أنا الملك.
وإذا ما أخذنا بنظر الإعتبار فإن عشتار تمثل الدنيا وفتنتها وآنو يمثل القدر وعندها نستطيع أن نبني أن كلكامش كان رسولا ملكا ..وأن أحداث النص التي تؤكد مجيء الثور السماوي وهو تعبير عن الفتنة الداخلية حيث تكون مفردة ثور هي المفردة الملائمة لوصف أعداء الصالحين وقد إستعملها الإمام علي لوصف قائد كبير إنشق عنه وتوجه بجيش لحربه. .وهذه الفتنة التي عبر عنها القرآن الكريم في الآية الثانية من سورة العنكبوت( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) ..
لقد شك الكثيرون بوجود شخص في التاريخ العراقي يحمل إسم كلكامش حيث كان الأمر لا يعدو كونه أسطورة من نسج الخيال الأدبي العراقي القديم ، وبعد فترة توالت الكشوفات الآثارية التي أوردت إسم كلكامش كملك حكم في أوروك في فترة محدودة وتم الكشف عن وثائق ملوكية في عهده ومدونات تسجل بعض أعماله ومشاريعه كما عثر على نص تاريخي يوضح أمر الحصار الذي فرض على أوروك في فترة حكمه وكيفية قيامه بحماية المملكة وعقد الصلح مع ( أكا) ملك كيش.
وقد ورد إسم كلكامش أيضا في كتب الملوك السومريين ملكا رابعا في أول سلالة من عصر فجر السلالات بحدود( 2700قبل الميلاد) وهي أول سلالة حكمت بعد الطوفان كما أثبتها جورج رو في كتابه عن العراق قائلا:
ولكن ماذا عن كلكامش الملك ؟ كان بمستطاع المرء حتى قبل سنوات أن يشك بوجوده حقا وأما الآن فتتوفر لدينا من الأسباب ما يكفي لحملنا على الإعتقاد بأن ملكا بهذا الإسم قد حكم فعلا مدينة أوروك.
يجدر بنا أن نشير أن الإنسان قد لا يرغب في أن يؤمن بوجود ملك حكيم ( قد رأى كل شيء) لأنه يفضل الملوكية التي تأتي من الإنسان نفسه لا من الله ولو ذاق الوبال جراءها ، بل ويعجب أن يضفي صبغة سماوية على خياراته الخاصة ، ولقد أدرك الملوك هذه اللعبة في سلوك الناس وإستعملها افلاطون في ما سمي ( الخدع الملوكية) حيث إعتبر الفيلسوف حكيما إلاهيا مما أدى إلى إستمرار السير في هذه الخدعة لتحكم أثينا ألف سنة وأدركتها الكنيسة فحكمت الناس بالحق الآلهي قرونا طويلة وبقيت الفكرة في مضمونها كما هي عند الحكام الأوربيين لألف سنة كما يصرح ديورانت.
لم يعين الله طالوت ملكا مباشرة وإنما طلب الملأ من بني إسرائيل أن يبعث الله لهم ملكا كما جاء في القرآن الكريم ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) .
فلما تم تعيين طالوت ملكا رفضه الجمهور بالرغم من أن الله أتاه بسطة في العلم والجسم وهي ذات الصفات التي توجد عند كلكامش الذي يصفه النص بأن ثلثيه إله وثلثه بشر مما يعطي صورة واضحة من روحه الإلهية أو بتعبير آخر يتجسد في عملية النفخ ( ونفخت فيه من روحي).
يذكرنا العمود الأول من النص في سطره (45) حيث يقول:
ومن غيره من سميّ كلكامش
ساعة ولادته.
بقول الله سبحانه ( لم نجعل له من قبل سميا)
وقد تحدث النص عن كلكامش ومعرفته بالأشياء وهو الحكيم العارف:
هو الذي رأى كل شيء
فغني بذكره يا بلادي
هو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكل شيء
لقد أبصر الأسرار وكشف عن الخفايا المكتومة
وجاء بأنباء ( ما قبل الطوفان)
وقد دلت الإشارات الموجودة في النص كونها إلاهية ما جاء في اللوح الأول رقم 22 قوله:
ابحث عن اللوح المحفوظ
في صندوق الألواح النحاسي
وافتح مغلاقه المصنوع من البرونز
واكشف عن فتحته السرية
تناول لوح حجر اللازورد
واجهر بتلاوته
وستجد كم عانى كلكامش من العناء والنصب
وفاق جميع الحكماء
إنه ذو الهيأة البهية السامية
إنه البطل سليل أوروك
أما عن بعض المفردات التي وردت في النص ك(الغانية و الخمر) فقد ورد أشباه ذلك في الكتب السماوية وهذا لا يتعارض مع قدسية الكتاب السماوي إذ إنه جاء بيانا لحالة المجتمع وشرحا وافيا عن طبيعة النفس البشرية.
تجدر الإشارة هنا إلى ما ورد في حلم كلكامش وكيف فسرته له ننسون بقولها:
(إن رؤيتك نظيرك كوكب السماء) يمكننا أن نقارنه برؤيا يوسف النبي في القرآن الكريم وتفسير رؤياه لكوكبي الشمس والقمر ساجدين له بأبيه وأمه.
نبوة كلكامش ليست قطعية والإحتمال هنا هو أن كلكامش كان رجلا صالحا كاد له أعداءه كما كاد أخوة يوسف ليوسف وقد أضيف أنه كان ظالما والأصل كونه مظلوما وإلا ما هو سر إنقلابه المفاجئ وتحوله إلى رجل يذعن لقرار مجلس الشيوخ وإلى ما إلى ذلك من المزايا الصالحة؟
إن النص يشابه إلى حد ما النصوص السماوية عدا القرآن الكريم من حيث البناء واللغة الشعرية السائدة آنذاك وكأن كاتبها واحد فالنسيج نفسه علما أن هناك تشابها كبيرا بين النص الكلكامشي والتوراة والإنجيل .
يقول الدكتور طه باقر في مقدمته عن النص في طبعة دار الشؤون الثقافية صفحة 67ما نصه(فإن القسم الأكبر من مادة الملحمة كامل الآن ويمثل لنا هذا القسم زهاء ثلاثة أرباع الأصل وهو الأهم في حوادث الرواية).
فهو يقول بادئ الأمر ملحمة ثم يقول رواية ويقول في مقدمة الطبعة الثانية( ومن الإضافات الجديدة الكثيرة درج الموارد المستشهد بها من التوراة مما يضاهي ما جاء في الملحمة).
هذه إشارات ربما لم يكن في بال المرحوم باقر إنها ستثير الكثير من التساؤلات عند غيره من محبي الأدب العراقي وقد ثار شكه في عدت مواطن فمنها أنها ملحمة ثم رواية وقوله في شبهها بالتوراة التي من المؤكد أخذت الكثير من الملحمة بواسطة كاتبيها الذين قاموا بتدوين التوراة في أرض العراق.

#واثق_الجلبي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات