أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - زيدان محسن - حكايا الطريق......... القربان















المزيد.....

حكايا الطريق......... القربان


زيدان محسن

الحوار المتمدن-العدد: 3378 - 2011 / 5 / 27 - 18:03
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    



قبل أكثر من عشر سنوات كنت في زيارة الى الدنمارك، واثناء وجودي في صالون للحلاقة يمتلكه الصديق فرمان، جاء شخص عرفت ملامحه ولكن الذاكرة لم تسعفني حينها لتذكر اسمه ومن كان بالضبط. تحدث هذا الشخص مع فرمان لدقائق قليلة غادر بعدها الصالون، وحين سألت فرمان عنه اجابني انه صديق كوردي من تركيا .حينها تذكرته، ياألهي وياللمصادفة أنه جهاد رفيق الدرب من الاحزاب الكوردية اليسارية, وقد انقطعت عني أخباره , خرجت من الصالون أركض وراءه كالمجنون، وأصيح بأعلى صوتي، غير مبالياً بالناس من حولي " جهاد.......جهــــــــــاد ....جهاد "، التفت الرجل صوبي وبشكل اقرب للاستغراب بدأ يقترب مني وسألني بتردد :
- بلي كاكة ؟ اجبته وبكوردية مكسرة كنت قد نسيتها:
- ألا تعرفني ، انا ابو خلود مفرزة الطريق ؟؟؟، كانت دهشته ممزوجة بالفرح وهو يحتظنني بحرارة مردداً " الله ..الله، مستحيل... مستحيل". سألت عن اخباره وعن الاطفال وعن الزوجة، اجابني انهم بخير جميعا وهم يسكنون قريباً من هنا، وهنا طلبت منه وبرجاء حار ان امكن ان القي التحية على زوجته وعلى الاطفال، رحب بالفكرة ولكنه كان محرجاً من ان الزيارة مفاجئة والبيت والأكل سيكون بسيطاً. وصلنا الى بيته،فتحت زوجته الباب، ارتدت للخلف وبان عليها الاحراج حين اخبرها ان لدينا ضيف، سيما وانها لم تتعرف بعد على هذا الضيف الذي تغييرت ملامحه كثيرا بعد تلك السنين ، لكن ملامحها التي وخطها الشيب وترك الزمن اثاره عليها، تهللت واتسعت حدقات عينيها غير مصدقة سمعها حين اخبرها جهاد عني وعن تلك الليلة. فتحت الباب على مصراعيه لتفسح لي الطريق بالمرور. ما أن صرنا في الممرالضيق، حتى ركعت على ركبتي اقبل اياديها التي بللتها دموعي وسط ذهول جهاد وحرج تلك المرأة الرائعة التي اخذتها المفاجأة وقد تيبست الكلمات على شفتيها. كانت لحظات مشحونة بالذكرى والعاطفة، لم أستطع كبتها او مداراتها.رفعني جهـــــاد، داعياً أياي للدخول والجلوس في صالة بسيطة ولكنها مرتبة ولطيفة، تدفئها رائحة العائلة والألفة. بعد وقت قصير دخلت علينا صبية في ريعان شبابها، جميلة، جدائلها وتقاطيع وجهها تشي بملامحها الجبلية، سلمت علينا بأستحياء وخفر الصبايا وهي متجهة الى غرفتها، ولكنها توقفت وقد اصطبغت وجنتاها بحمرة الخجل وارتسم على ملامحها الفرح حين خاطبتني امها :
- هل تتذكرها، انها تلك الطفلة الصغيرة التي حملناها تلك الليلة البعيدة ؟
نهضت واقتربت منها لأطبع قبلة على جبينها، اغرورقت عيناي وخنقتني العبرة, وعادت بي الذاكرة الى تلك الليلة الخريفية من عام 1983 على ضفاف نهر( الهيزل) .
وصلنا نحن اعضاء مفرزة الطريق المصغرة هذه المرة، تلك المفرزة التي كتب عنها الكثيرون ، التي تشكلت في عام 1982 وتركزت مهامها في نقل الرفاق الجدد الملتحقين بالحركة الأنصارية للحزب الشيوعي العراقي في مناطق كردستان ، ونقل السلاح والبريد والأموال من سوريا الى داخل الوطن وكذلك نقل الرفاق المرضى وبعض الرفاق الذين يبعثهم الحزب بمهمات ودورات من داخل الوطن والمقرات الى الخارج عن طريق سوريا . كانت مفرزتنا الصغيرة ، بقيادة آمرها العسكري ( ابو هديل) ومستشارها السياسي ( ابو شهاب)، قادمة من قيادة قاطع بهدينان الى مقر( سناط) على الحدود العراقية – التركية، هذا المقر الذي اصبح اشبه بمحطة للمغادرين أرض الوطن والمواقع الانصارية، بعد فاجعة ( بيشت ئاشان)، بأتجاه سوريا عبر الأراضي التركية. كان مقر سناط يعج بالنساء والرجال والاطفال من الرفاق والاصدقاء من مختلف الاعمار والمدن والقصبات والمنحدرات القومية والدينية والاثنية جمعهم النضال ضد الدكتاتورية وحروبها العبثية، وكان حاضنتهم وملاذهم الحزب الشيوعي العراقي. كانت لدينا قائمة بأسماء حوالي 30 من الرفيقات والرفاق وقد تمت مراعاة الاولوية في الخروج، حيث تميزت هذه الوجبة بكونها تكونت من رفاق كبار في السن, ورفيقات متعبات وعدد من الرفاق المرضى وبعض الرفاق المبتعثين بمهمات حزبية. جرت تهيئة الارزاق والمواد الغذائية قبل ليلة، وقد طبخت حينها ( القلية) لخفة وزنها وعظيم اهميتها الغذائية كونها من اللحم والشحم الصافي . في الصباح تحركت المفرزة وقد قسمت لمجموعتين، كان ( ابو العز) المسؤول عن المجموعة الاولى وكنت أنا المسؤول عن المجموعة الثانية . عبرنا الحدود بعد فترة قصيرة وقد توغلنا في عمق الاراضي التركية في رحلة تستغرق في العادة حوالي 5 ايام وليالي , نمر بها بمحاذاة بعض القصبات والقرى التي كنا نعمل جاهدين على تجنب المرور فيها خوفاً من الجندرمة الأتراك وحفاظاً على ارواح اهاليها. على مشارف احدى القرى التي وصلناها ونحن نستريح عند عين ماء دفاقة، التقينا بعائلة مكونة من رجلين احدهم يحمل على كتفه طفلة ، ترافقهم امرأة وقد ضمت على صدرها طفلاً اخر، اما الرجل الآخر فكان يحمل بندقية معلقة على كتفه الايمن , تمعنت بملامحه وتذكرته حيث التقيت به بعض المرات في مدينة القامشلي . بعد مسيرة اربعة ليالي وصلنا الى مقر ( ابو حربي) في عمق الأراضي التركية القريبة من الحدود السورية، وكان في استقبالنا (ابو هدى وابو خولة) كنا متعبين ومنهكين لاسيما الرفاق كبار السن والرفيقات . كان الأكل وفيراً وقد حصلنا على وجبة ساخنة بعد ان كانت اخر وجبة ساخنة تناولناها هي في مقر (سناط).بعدها كان الشاي الساخن والمحلى والغير محدود العدد هو الذي افتقدناه خلال مسيرة الطريق. اما نحن المدخنون الشرهون, فقد كنا نمني النفس بسجائر تركية يختلف طعمها عن سجائر بغداد وسجائر اللف، التي نفذت منا خلال الطريق، وكان (ابو خولة) هو المرتجى والأمل الذي يؤمن لنا حاجتنا من الدخان، لكنه احبط كل التطلعات والأماني حين اخبرنا بأن ( القجقجية ) لم يجلبوا السجائر منذ فترة، وحتى (تبغ اللف) كان قد خلص، واقترح علينا ان (يلف) لنا بيديه الكريمتين سجائر من الشاي الاسود، محاولاً اقناعنا انها فكرة عظيمة حيث ان سيجارة واحدة من الشاي الاسود تعادل و( تسطر) اكثر من علبة سجائر كاملة، وكان صادقاً حينها حيث جربتها للمرة الاولى والاخيرة،بعد ان سببت لي صداعاً شديداً طيلة اليوم التالي .
تحركنا من مقر (ابو حربي) بعد الفطور, وبعد مسيرة رافقنا فيها (ابو هدى) الى منتصف الطريق حيث أوصلنا الى الأدلاء الأتراك، الذين كانوا ينتظرونا قرب شارع النفط (انبوب النفط العراقي الذي يمر عبر الاراضي التركية الى ميناء جيهان) . بعد ساعات من المشي والعدو السريع والبطيء وهمة الرجال والنساء المتعبين, وتشجيعنا نحن الشباب، وصلنا ليلاً الى ضفة نهر (الهيزل)، هذا النهر الصغير بضفتيه والشديد بتدفق مياهه ( عبرت وشاهدت العديد من الأنهار في تركيا والعراق وايران وسوريا بمافيها الرافدين دجلة والفرات وانهار الخابور ونهر الشين والزابين الكبير والصغير، ولكني لم ارى نهرا بهذا التدفق وسرعة جريان المياه) .
عند الجرف الايمن للنهر، بدأنا بتحضير ( الكلك) البدائي للعبور، وهو عبارة عن اعمدة واغصان الشجر نربطها بحبال من الليف على أطارات السيارات الداخلية ( الجوب) خصوصا السيارات الكبيرة، تربط مع بعضها البعض لتشكل سطح اشبه بالعبارة البسيطة . أستغرقنا وقتاً طويلاً لأكمال و تحضير(الكلك)، بعدها طلبنا من الرفيقات والرفاق الصعود , كنا قد اتفقنا ان نقسم العابرين الى مجموعتين كما كنا في المسير, ولكن ما أن عرف الجميع ان بعد هذا النهر سيكون دجلة ومن ثم الوصول الى سوريا، حتى قفز اغلبهم الى الكلك بدافع غريزي يتملك الانسان في اللحظات الصعبة وفي لحظات الخطر، وبقينا نحن اعضاء مفرزة الطريق وبعض الرفاق العابرون ومعنا الرجل الذي التحق بنا في تلك القرية وقد سمح لزوجته بالعبورالى الجهة الاخرى. كنت اتابع (الكلك) العابر محملاً بأجساد بشرية تكدست عليه كمتاع مهمل، يقطع التيار الجارف، كان يترأى لي وكأنه صندوق القي في اليم رغم جهود المجذفين الذين كانوا يحاولون جاهدين بالحفاظ على سيره الى الضفة المقابلة الى ان توارى وانعطف الى الزاوية الحادة من النهر حيث الادغال المنزرعة واغصان الاشجار المائلة على ضفته، تلك الأغصان والأحراش التي تشبث بها الجميع قافزين الى جرف النهر. مر وقت حسبته دهراً، بعدها ظهر شخصاً على الجهة الاخرى من النهر يصيح باللغة الكوردية وبصوت عالي كأنه نذير شؤم:
- "همو ميرت ....همو ميرت" وهذا يعني "اغلبهم ماتوا .... اغلبهم ماتوا !!!
حينها سيطر علينا الوجوم الذي هيمن على حواسنا والجم الألسن عن الكلام، لم يكسره الا صوت( ابوهديل) بسيل من الشتائم والسخط على هذا الحظ العاثر, كلام أحسسته ينزف الماً وحسرة على كل الجهود وخيبة الامل في تحمل مسؤولية ايصال هؤلاء الرفاق الى بر الامان سالمين . بعد لحظات ظهر على الجهة المقابلة نفسها ملازم ( علي)، الذي فقد قريباً رفيقة دربه (أحلام /عميدة) في مجزرة (بشت ئاشان) ، يصيح بصوت واضح وصل الينا وباللغة العربية :
- لا...لا.. ليس صحيحاً، الجميع سالمين، ألا الطفل الرضيع الذي كان على صدر امه، وقد خرجت للضفة الاخرى وهي لاتزال تحمل البطانية كالقماط على وليدها، ولكنه انزلق منها الى النهر بدون ان تشعر!!!!.
سقطت كلماته علينا كالصاعقة ، احسست بقشعريرة تجتاحني وأنا اتطلع في الوجوه حولي وقد الجمها الصمت. ببطء شديد وبأحتراز، تقديراً لحراجة الموقف، التفت الى الرجل الواقف معنا،كان الألم والقهر يعتصر وجهه، كنت أتوقع صرخته او نحيبه او اي رد فعل يناسب قدر تلك الفاجعة وذلك الفقدان , ولكنه كان رابط الجأش وقد امتدت يده بشكل غريزي لتربت على كف ابنته المربوطة الى ظهره ( بالبشتين) وكأنها حقيبة للظهر. تكلم بهدوء يحسد عليه، وقد فاجئتنا حقيقة انه قد فهم ماتكلم به ملازم علي ،كان يتكلم بصوت خافت ولكنه واضح ومختصر،قائلاً :
- لقد سمعت وفهمت، ابني مات.. نعم ابني مات.... لازم نعبر رفاق !!!!!
بعد مضي فترة قصيرة شاهدنا بعض الرفاق على الضفة المقابلة وهم يحملون (الكلك ) فوق رؤوسهم يتقدمهم ( اكرم) رفيقنا من الحزب الشيوعي التركي، الذي قطع النهر سباحة الى جهتنا، يتبعه المجذفون وهم يتجهون صوبنا. صعدنا الى الكلك كيفما اتفق وكان عددنا قليلا، وصلنا الى الضفة الاخرى حيث التقينا بالمجموعة الاولى وقد تجمعت حول نفسها بين الادغال واحراش الاشجار الصغيرة، وقد غادرتهم الهمة والفرح الذي كان باديأ على عليهم قبل عبور (الهيزل) بوقت ليس ببعيد، غادرتهم الحيوية لتفسح مجالها للحزن الانساني وهم يستمعون الى نحيب أم ثكلى، تتوسطهم جاثية على ركبتيها وهي مازالت تضم الى صدرها ذات القماط وذات اللفائف المبلولة االباردة، كأنها لاتريد ان تصدق ان وليدها الرضيع قد اخذه النهر بعيداً،انتزعه القدر القاسي . ارتفع نحيبها وهي تندب حظها وقرارها في الهروب بعيداً عن قريتها التي استباحها الجندرمة والعسكر. كانت تمني النفس بحياة افضل لوليدها، وهاهي تفقده في الامتار القليلة المتبقية من مشوار الرحلة الطويلة . فجأة انتصبت على قدميها, وبصرخة مكتومة ارتمت على كتف زوجها تطوقه وتحتضن الطفلة التي لازالت مربوطة الى ظهر ابيها, وهي تبكي بكاءاً مراً يمتزج فيه الألم والاسف والرجاء والندم واللوم على تقصيرها. وهاهو الرجل مرة اخرى ينتزع مني الاعجاب ويثير في الدهشة والتساؤل, من اي طينة واية صخور قد خلق قلب هذا الرجل، حيث رفع ذراعيها عن كتفه, وبهدوء بدأ يحل (البشتين), الذي كان يربط ابنته الى ظهره كالوثاق، حرر الطفلة التي كانت وادعة وهادئة طلب من زوجته المفجوعة ان تحملها بين ذراعيها, ضمتها الى صدرها تتشممها ولايفارقها النشيج, طوق كتفها بذراعه اليمنى, وقد حول بندقيته الى الكتف الأيسر، انتحى بها جانبا ولكنهم لازالوا يتوسطون حلقتنا في تلك البقعة الصغيرة على جرف ( الهيزل), طالبا منها ان تهدأ, وقد بدأ الحديث معها مشيراً الينا جميعا, وقد شملت يده الجميع بحركة دائرية:
- انظري الى هذا العدد من النساء والرجال, جميعنا نحن الأن في خطر, واعتقد ان ابننا هو القربــــــــــان لنجاتنا, سمعت كلمة ( قربـــــان ) بوضوح، وانا اتابعه بأعجاب وهو يربت على كتفها ويمسد شعر الطفلة الوادعة المحتمية بحضن الأم الدافيء وحضور الأب الذي يبعث على الأمان.

كان الوقت قد تأخر وبانت تباشير الفجر, واصبح من المغامرة والمجازفة عبور دجلة في هذا الوقت بنفس الكلك الكبير،الذي تضعضع وأرتخت حباله, لذا صار الاقتراح هو البقاء طوال النهار لتفكيك هذا الكلك وعمل اثنين صغيرين يسهل حملهن الى نهر دجلة، حين يحل المساء. لم نكن نعرف مكاننا بالضبط, لذلك قرر (ابو هديل) أن نستطلع المكان قبل القرار بالبقاء. توجه (ابوجهاد)، (اكرم) و( ابو العز) الى خارج الاحراج المحيطة, وبعد وقت عادوا ليطمئنوننا الى ان المكان آمن وهو محصور بأنحناءة (الهيزل) من جهتين, ولكنه مفتوح على سهل يصل الى حدود نهر دجلة بمسافة بضع مئات من الامتار من الجهتين الآخريتين، يجب حراستها والتحسب لأي تقدم للجندرمة التركية. تمدد الجميع كيفما اتفق وتكوروا بعضاً على بعض , وقد هدهم التعب والاحباط والحزن, ونخر عظامهم برد الفجر وملابسهم المبلولة، وكان الصمت والوجوم هو سيد الموقف. تناوبنا نحن اعضاء مفرزة الطريق الحراسة، حوالي الساعة الثامنة صباحاً والتاسعة بدأت معالم المكان تتضح, عرفنا بعد أن تطاولت واشرأبت رؤوسنا فوق رؤوس الأحراج المحيطة اننا مكاننا الصغير هو بالظبط في المثلث العراقي – التركي المقابل للجانب السوري . تسلل بعض الرفاق لملأ زمزميات الماء من النهر القريب , ولكننا لم نحسب حساب الأكل والطعام حيث كان مقرراً عبورنا تلك الليلة الى سوريا. طلب منا (ابو هديل) ان نجمع ماتبقي لدى الرفاق من اكل وسكر واي شيء يمكن ان يؤكل. حملنا (ابو كفاح طريق 1) وانا، كيسين وبدأنا بالطواف على الجميع لجمع مابقى من كسرات خبز, سكر,بقايا جبنة, حبة طماطم , بصلة، بيضة مسلوقة او اي شيء مخبوء بالحقائب او منسياً في الجيوب يبعد عنا شبح الجوع . حاولت وبشكل مقصود ان اتجاوز تلك المرأة المفجوعة، التي كانت تطعم طفلتها الصغيرة، لكنها استوقفتني ومدت لي كيس فيه بعض الطعام المبلول، رفضت ان آخذه ورجوتها ان تحتفظ به للطفلة, لكنها أصرت على ذلك واخبرتني انها أخذت للطفلة مايكفي, وتتمنى أن تشارك ألاخرين بما لديها. في المساء حملنا ( الكلكين) الصغيرين على اكتافنا كالنعوش وبعد جهد كبير وصلنا الى الجهة التركية من نهر دجلة. كان النهر هادئاً، ولكنه كان بارداً كخريف . كان (ابو هديل) حازماً هذه المرة، مطالباً الجميع بالألتزام, وأعطى الأولوية بالعبور، على ماأتذكر، على (الكلك) الأول للمرأة الحزينة مع طفلتها وزوجها وحماها اضافة الى الرفيقتين (أم رحيل) و ( أم زينب) و(الدكتور ابو ظفر)، وعهد الى (ابو العز ) للحماية, وأحد الأدلاء الأتراك للتجذيف، وأنا للدفة، اما (الكلك) الآخر فقد حمل ( الشاعر احمد دلزار, ابو علي كرمياني، ابو علي المستشار، ابو آدم، ابو ذكرى، ابو كفاح ) وعهد الى (ابو جهاد) للحماية و أحد الدلاء للتجذيف و(اكرم) للدفة. قبل أن ننساب مع دجلة الى الضفة السورية، خاطبني ( ابو هديل)،وكنت قد ألقيت نفسي في مياه دجلة, نصف عار, قاطعاً اي مجال للتردد والخوف من برودة الماء:
- ابو خليدة، وصلوهم بأمان وأرجعونة، لا تخلونا هنا.بعد عدنا رفاق لازم انعبرهم. ما أوصيك لاتتأخرون علينا.
ولكني للأسف لم استطع الأيفاء بوعدي الذي قطعته له، حيث عدنا بعد ان اوصلنا العابرين الى احدى القرى السورية الواقعة مباشرة على النهر. عبرنا دجلة ثانية في الاتجاه المعاكس الى الضفة الأخرى أين تركناهم، ونحن محملين بالخبز والجبن والحلاوة، ولكن بعد فوات الأوان، فقد تأخرنا عليهم حوالي الساعتين ........ عرفنا فيما بعد، أن قوة من الجندرمة التركية تقدمت بأتجاههم، مما اضطرهم الى الأختباء مدة طويلة في الممرات التي تحفرها الخنازير البرية في الأدخال الكثيفة, ومن ثم الانسحاب والرجوع الى مقر ( ابو حربي) لمسيرة حوالي يوم كامل من الجوع والقهر.

أجلت عيناي التي أغرقها الدمع، حزناً وأستذكاراً للطفل القربـــــان , للراحلين الشهداء (ابو هديل، ابو جهاد، ابو ظفر) وقد قدموا حياتهم ودمهم جسراً الى الموكب العابر، ودموع فرح واعتزاز للعابرين الأحياء وقد اجترحوا كل المآثر، للمرأة الثكلى وقد عضت على جرحها، للرجل الكوردي، جهاد وقد علمني معنى الثبات والأيثار، لأصدقاء جمعتني معهم رحلة ومحطة من محطات العمر وقد اضناهم التعب وضياع الأمل وزحف الشيب، وما بلدوا تبديلا.
افقت من رحلة التذكار على صوت المرأة، ربة البيت هذه المرة، وهي تعتذر خجلاً وتنحي باللائمة على زوجها جهاد الذي لم يخبرها مسبقاً، لكي تحضر وتطبخ مايليق بمقام الضيف.
ابتسمت، والتفت الى جهاد لكي يساعدني,ويترجم لزوجته ويسألها اذا كانت تتذكر كيس الطعام المبلول الذي قدمته لنا في ذلك النهار الخريفي في البقعة المحصورة بين المثلث التركي- العراقي – السوري. أجابت بكلمة "بلي" وقد اكتسى وجهها بسحابة حزن , واومأت برأسها الى أبنتها وهي تتجه للمطبخ.



#زيدان_محسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقية فالح حسون الدراجي وقوافي سمير صبيح واغتيال مدينة الثورة
- يسلم عليك الحزب .....!!!


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - زيدان محسن - حكايا الطريق......... القربان