|
ليل ابي العلاء لفوزي كريم
معتز رشدي
الحوار المتمدن-العدد: 3361 - 2011 / 5 / 10 - 00:13
المحور:
الادب والفن
لم نعد نُغمض الجفن ، ايضاً
لم أعد اغمض ُ الجفن ؛ هذا عنوان قصيدة لفوزي كريم ، من ديوانه ( ليل ابي العلاء ) الصادرعن دار المدى 2007 ، وهو مجرد انموذج مستل ، لا على التعيين ، من جملة عنوانات ، كلها على هذه الشاكلة الآسرة ؛ فهو مصر ، حتى في عنوانات قصائده ، على مد شجرة نصه الحديث بنسغ من روح الجملة العربية الكلاسيكية ، في بهائها الطالع ... ثمرا يانعا ، امتلأت به سلال كلُّ من قرأه . كل عنوان ، في قصائد المجموعة ، هو تمهيد لمطلع شعري يفضي بذاكرة القاريء الى مطالع شعرناالعربي الكلاسيكي ، ففي قصيدة ( قلعة النسيان ) نقرأ هذا المطلع ، الموحي بخيبة الشاعر ، العائد ، من بلاد زارها بعد طول اغتراب وحنين ، الى قلعة نسيانه في لندن : العائدون رأوا مرابعهم مراقد . كنت بينهم اسيرَ الشوقِ ثم عدَلتُ ، عدت لقلعة النسيانْ . لكأن المطالع في ( ليل ابي العلاء ) قناديل ساهرة على متعة القارىء الجاد في رحاب القصائد ! مطلع يوهمك ان شاعره سيمد به ، على هذه الشاكلة الغنائية ، الى آخره ، ولكن ، فجأة ، يصير الغناءُ ، كما في بعض النصوص ، الى حكاية شعرية مليئة بتفاصيل الشاعر اليومية ؛ ولكنه – فوزي - شديد الحرص ، حتى في سرده الشعري ، على الموسيقا ، مما يوفر للقصيدة ، ككلٍّ عضوي ، بنية ايقاعية لا اختلال فيها بين مطالع بعضها ، شديدة الغنائية ، وبين بقية المقاطع ... كم من نصوص لشعراء آخرين أفسدها السرد المغرق بالتفاصيل ؟ في قصيدة ( الآم ) نقرأ : لأن لسان المرء عييٌّ، يعجز شعري عن رصد أساها ، في الوجه النائم : أتُراهُ مشارف حلمٍ مُرتابٍ ، لتضرع أمٍ تجهلُ ما يُخفي الأفقُ الغائم ؟ ولدانِ ، أُحسُّ وجودي محضَ ذريعة لوجودهما ... هاهنا شاعر يراقب زوجه النائمة قربه ، فيرى ( ما يتفطر له فؤاد المرء ) وجه أم ضارع غارق في أساه على مشارف حلم يكشف مخاوفها من زمن غائم، قادم . من منا ، نحن القراء ، لم ير في وجه أمه تعابير كهذه ! من منا لم يُشفق عليها من مخاوفها؟ في المقطع الثاني ، والمقاطع التاليه ، في القصيدة نفسها، يتحول الشاعر نفسه ، بفعل انتقال مخاوف الوجه اليه ، الى أم ثانية ! ام تراه يعتذر إلى رفيقة عمره ، إشفاقا عليها من عند نفسه ، عبرهذا السطر ، مؤكدا فيه – لها طبعا – حبه لولديه ، ثمرة حبهما المشترك ؟ : ولدان ، أحس وجودي محض ذريعة لوجودهما : كم أحصي العثرة تلو العثرة في خطوهما ! كم أكبو مثلهما ! وأكاد أصير صدى لهما ! ... لكم يبكيني شعرإنساني رقيق كهذا ! هل من شاعر خاطب فلذة كبده ، بمثل هذه الرقة الأمومية الأسيانة ، كشاعرينا ... السياب وفوزي كريم ؟ فالرقة في نثر فوزي وشعره ، شيء لافت للنظر ، بل انه حتى في كتبه السجالية النثرية ، شديدالخوف على الانساني فينا . انستغرب ، والحالة هذه ، رفضه لكل شعر متنفج ، متعالي "الأنا" ، ونبوي . بيد ان هذه الرقة ، تُخفي شجاعة العاطفة ، في ضعفها وجمالها الانسانيين ! في قصيدة ( الأنصار ) يختفي ، هنا ، غناءالمطالع . فنحن أمام مطلع بلغ الغاية في حكائيته ، ولكن لفوزي ، في فنه ، ما لعصا الساحر : في السويد أخذتُ مع ابني قطارً من استوكهولم ، لمنتجعٍ ، شاء أن تحتفي فيه جمهرةٌ من رفاق سعوا بأسمهم وحدهم للقاء ، ومن كل صوب . هكذا تستمر التفاصيل في عاديتها ؛ رفاق يستذكرن من مات منهم في جبال كردستان ، إلى أن نصل الى هذا المقطع الدامي : " كأسك ؟ " لم يستجبْ . كان يبتلع الكأسَ ، لا يحتسي الكأس . في آخر الليل صار الغناء نشيجا، ومن كل حشرجة تتهاوى الهراوةُ، حتى لتُدمى الجباهُ . فما من فم يتجرعُ كأس العرق وهو يلتاث بالدم ، مثل ضماد من القطن في الكف . كان هذا النص ، أشدَّ النصوص انغمارا في أجواء الحكاية ، وهو ، لطوله النسبي ، شكّل مغامرة غير مأمونة العواقب ، ولكن ، لاحظوا معي ، كيفية استثمار فوزي لملاحظاته البصرية ، والارتفاع بها الى مستوى الرمزالشعري ، بل ، ان شئت ، الباذخ في شعريته . جلسة رفاق تحولت في آخر الليل الى ما يشبه أشد الكوابيس إرعابا ان فوزي يعطينا شهادة جمالية خارقة التأثير عن واقعه ، وواقعنا نحن ، عبر أشدالتفاصيل عادية ، أحيانا ، اذ ليس يحتاج ، فنان ، مثله ، الى قصف مدفعي حداثوي ، يمهد لقصائده الطريقَ الى قلوب قرائه : كنت كمن شاء ان يتمثل دور رقيب الفضول . وما شاء ابني ذلك ، ففضل ان يتمثل دور الرقيب الملول . تفاصيل شديدة الواقعية ، اليست كذلك ؟ لوحة مرسومة بتفاصيلها ، قد تكون انطباعية ، عن جلسة لشاربي خمر عراقيين ، هم ثلاثة مثقفين ، رابعهم صبي برفقة ابيه ، وخامسهم كابوس هارب من لوحة لفوزي كريم نفسه ، اوللاسباني غويا ، اذ لا تحضر الخمرة على مائدة شاعرنا ، برفقة صحب له ، الا ويرافقها ظل يشد ملامح وجوه الشَرَب الى افق معتم بنُذُر كارثة قادمة ، لا ريب فيها ! : ما اوجز الكلمات ، ومقدار ما تحتوي من غموض المقاصد ؟ حتى لتبدو لعيني سحنة وجهيهما ما ارى الآن في كلمات القصيدة وهي توجز بين السطور ، وتغمض ُ ! في هذا النص ، كما في نصه الكبير ( عازفُ قيثارة الحي ) ، تحضر ، بالحاح له ما يبرره فنيا ، وبين قويسات طبعا ، الجملُ الحوارية بين متحدثين ، او تلك التي تدور في دخيلة الشاعر ، وكلها تعمل على اغناء سياق القصيدة ببعد نفسي متوتر ، يقطع على قارئها اطمئنانه لايقاعها ، قاذفا به في دوامة طبقاتها المتراكمة بعضها فوق بعض . اننا امام شاعر لا يطمئن الى ما يراه ، مسكونٍ بالحيرات ، فضولي ، لا يكاد يغادره وسواسه ؛ حتى ايدلوجياتنا ، في عز ازدهارها النبوي والدموي ، لم تشكل عنصر جذب له ، بل انه وقف منها موقفا نقدياً ، جر عليه سوء فهم كبيرا . وما موقفه هذا الا لأن قلبه أنبأه ، منذ باكورة شبابه ، بما مؤداه : أن شياطين دستويفسكي سيجرون البلاد معهم الى الهاوية ! وهذا ما حصل ، حقاً ، وبطريقة فاقت أشد كوابيس شياطين آلهة السماء والارض دموية ووحشية . أتراه كان يقصد نفسه ، مستذكرا باكورة شبابه البغدادية ، في المقطع أدناه من قصيدة ( محارة الشاعر ) : يركض عازفُ الكمان ، والكمانُ في يديه ، تحت وابل الرصاص ، في مشهد الحصار بالاسود والابيض ! قال عبد الكريم كاصد ، من اثناء لقاء معه ، ما مؤداه : ان التفاصيل ضرورية للشاعر ، فهي تعمل على شد نصه الى جذور الارض . هذه العبارة الدقيقة ، حقا ، تجد خير مصداق لها في نصوص فوزي كريم .
2 لا نكاد نغادر قصيدة من قصائد فوزي الا وعلى أرواحنا منها بقع من قريحته اللونية كرسام محترف. اللون في نصه جزء لا يتجزأ من عمله كشاعر ، فاذا كانت بعض قصائد المجموعة لا يكتبها الا شاعر ، فإن بعضها الآخر لا يكتبها الا شاعر رسام . هل نحن ، في نصه المعنون ( الصرخة ) ، أمام قصيدة ام لوحة ؟ أم نحن أمام معزوفة موسيقية مكتوبة شعرا ! الذي ينتبه الى اهتمامات فوزي الاخرى ، لا بد أن ينتبه الى حقيقة بعينها ، وهي ، إن ذائقة هذا الرجل متطلبة ، بل وشديدة التطلب ، وصعبة الإرضاء ، ليس في علاقته بما يكتبه الاخرون حسب ، بل وفي علاقته بنصه هو نفسه ، شاعرا ورساما وناقدا ومتذوقا ، صعب المراس ، للموسيقا الجادة . لنقرأ مقطعين كبيرين من نصه ، أو صرخته المفزعة ( الصرخة ) ، ولنلاحظ تواشج عمله الشعري بأعماله ، أو اهتماماته الأخرى : بنحدر الجسر ( لبغداد جسورٌ لا يُحصيها العد ) ! ينحدر الضوء من المصباح الى الماء، ينحدر الماء، أنحدرُ أنا ، وجهي دائرةٌ فوقَ الجسرِ ، دُوارٌ أحمر ، يأخذ شكل الأفق الدائر ِ . ثم تلوح الصرخة ُ حمراءْ ! ! هذان مقطعان لا يفسران الا بمفرداتهما ، ولكن ، الا يذكرنا النص ، أعلاه ، بصرخة مونك الشهيرة ؟ كوابيس الشاعر العراقي ، ليست تحتاج ، طبعا ، الى الاتكاء على كوابيس من بلاد أخرى ، فصاحب ( العودة الى كاردينيا ) و ( مدينة النحاس ) ، في حل من ذلك ؛ تكفيه جسوره ، وكوابيسها ، وهو البغدادي العريق ، الراكض بكمانه الستيني تحت الرصاص ، في لوحة بالابيض والاسود !هو القادم من ، والراكض الى ، أفق كالأنشوطة ! (لي أن استعيد صورة مقاربة من قصيدة "حسين مردان" (ديوان "جنون من حجر"" التي تعود إلى مطلع السبعينيات: "...وخطوك ما حلّ في الجسر / ما جاوز الجسرَ / كنتَ وحيداً / وكنتَ على الجسر واقف. / وحّدقتَ في الماء / ظلُّك نرجسةٌ من رماد / يلاشيه وجهٌ غريبٌ، / ووجهٌ يوزَّع دائرةً...دائرة.) اذا كنا أبعدنا عن الشاعر شبهةَ التأثر في قصيدة ( الصرخة ) ، فإن ظل البريكان ( المقتول طعنا بسكين لص حقير في ليل العراق الطويل ) ، سيبدوا نافرأ ( وكأنه محفور بسكين رسام ) في نص فوزي ، المعنون ب ( البئر ) : قلعةٌ عافها الغزاةُ . صحارى تترامى من حولها . عظامٌ لخيول قضت ، تولول في جوفها الرياح . ربيعٌ ... الا يذكرنا هذا المطلع الفاتن بمطلع شهير آخر ، للشاعر القتيل : على حافة العالم المتجمد تأبى الخيولُ ذهابا ، وتنكفيء الاشرعة ويخطو المسافر ظلا وحيداً ، وتخطو معه على الثلج ريحٌ قديمة . بيد أن عصا الساحر ، هنا ، ومرة اخرى ، تفتح في مجرى القصيدة دربا لخطاه الواثقة : ....ربيع يتحاشى اقترابه من بعيد ، وكأن التماس بينهما يربك طاحونةَ الزمان . حيث مامن لربيع أمان . وحدها البئر رائقةَ ( اللون ) في القلعة عند النهار ، وفي الليل رائقةَ النجم . ها هو ذا فوزي ، مجليا وجه لمساته في رحاب نصه الجميل . مخلصا آثاره من ظل الشاعر الكبير، القتيل !
3 فوزي هو رفيق المدمنين على خمرة أرواحهم منذ أيامه في ليله البغدادي الطويل ؛ إذ يستحضر الشاعر وجه شيخه على نحو شديد الغرابة ( عندما قرأت النص ثانية أطفأت الضوء وأوقدت شمعا ، وكانت ، قنينة خمري أمامي ) : في لحظة احتراق عود الثقابْ اتضحت ، خاطفة ، ملامحُ الشيخ ! وكأن ، ثمة ، مرآة أظهرت الشيخ لمريده ، تؤأما له لا تُخطئه عين القارىء المتأني ! مرآةٌ أظهرها لعينيْ الشاعر عودُ ثقابٍ في ظلمة حالكة ! أمرآة داخلية ، هي ، لا قبل لاعيننا بها؟ : في لحظة احتراق عود الثقاب اتضحت ، خاطفةً ، ملامحُ الشيخ ! وكان يُملي عليَّ ما يُملي عليه الظلام ، ثم توارى ! انه ، حقا ، أجمل استحضار ، لشاعر المعرة ، في شعرنا الحديث . هل تراها لحظة استكانتي للزمن المُفرَغِ من عقارب الساعة ! ام فاغرةُ الفم مدى الزمانْ ! ساعة فاغرة الفم مدى الزمان ، ووجه شيخ ، آبدٍ في الهالكين ! ثم انظر اليه وهو يختم مقطعه الشعري : أم فاغرةُ الفم مدى الزمانْ ! ام إنها تقليب أوراق كتاب بين عصرين : ابي العلاء وعصري ! . من منهمها شيخُ صاحبه هنا ؟ بعد المقطع ،أعلاه، مقطع واحد وتنتهي القصيدةُ : رائحة الشاي مع الفجر تلي رائحة الخبز ، وقرص الشمس لم يبدُ ، ( فوزي البغدادي في العباسية نفسها ) وهذا الحبرُ ما جف على الاوراق ِ. من يسكنني غيري ؟ في نصوص أخرى له ، نُشرت مؤخرا في جريدة الصباح الجديد تظهر الثيمة نفسها ؛ الزمانُ تقليبُ اوراق بين عصرين ... متباعدين ، او متقاربين ، مع رغبةٍ تزداد حضورا نصيا ، بتحديد ملامح قارىء ، تقلب أصابعه صفحات كتاب ، بعد اطفاء الشاعرُ الضوء ، في غرفته – العالم ! فكأن الشاعريواصل نحت وجه قارئه – آخره ، حتى وهو نائم ! لكأن فوزي نفسه (وقد أطلق أعوامه في قراطيس مُذاعة ، مشهورةٍ ) تقليبُ اوراق من نوع آخر في زمن اسمه : ( حانة كاردينيا ) ، جمعت خلانا ... مدمني صحبة وندم ، أوقدوا ليل شموعهم بعود ثقاب ، مُضاء ٍ من شمعة شيخ ٍهالك ٍ ، خالدٍ في الحائرين .كم تتردد مفردة ( الحيرة ) و ( الحيرات ) في نثر وشعر فوزي ! هذه المفردة شكلت لي مفتاحا ، فتحت به ما استغلق علي ، أحيانا ، من فهم بواعث الشاعر الاصلية ، اذ يتجنب فوزي مخاطر الانزلاق الى الآراء القاطعة ، واليقينيات القارة . يمكنك ملاحظة هذا ، حتى في صوته حين يتحدث ، فالزعيق او نشوة النصر المصاحبة للموقنين ، تخدش أذنيه ، وتدخله ، كأنما بفعل الغريزة ، دائرة الشك بنوايا أصحابها ، والحذر منهم . 4 في رائعته وتحفة ديوانه .. الطويلة نسبيا ( عازفُ قيثارة الحي ) يحضر الشاعرُ بكامل عدّته ، هموما وانشغالات ، لونا ونغما ، ويحضرُ معه شيخه المصري ، دليلا أشد حيرة من صاحبه العراقي : " نحنُ غرقى .." ، تذكرَ صوتَ المعرّي . مرَّ بإبهامه فوق سطح الوترْ ، باردا مثلما يعبرُ الماءَ ضوءُ القمرْ ، فتردد كالريح في قبو بيت المعري : " في لُجتين من الحندس ِ والبيد ِ . ! " أو : أولَ الفجرِ ، يُرفع مِزلاجُ بابٍ ، وتُفتحُ أخرى ، وينتشر الخلقُ . في السوق يصحبُ شاعره الشيخَ ، قال َ : " ايغويك مشهدهم ؟ وكما كان عهدي ببحثك عما تسميه ( انسانك ... الانسان ) ومرارةُ يأسك ذات ُ المرارة ! " ولكن شاعرَنا : راقه أن شاعره الشيخ يُلقي على الارض ضوءاً ، ويُلقون ظلا أنّ قيثاره ، مثلما كان ، مأوى جروحِه ... ما لفت انتباهي في هذا الديوان ، اكثر من سابقيه ، هو الحرية التي نالها الشاعرُ لنفسه ، بعد طول معاناة ؛ فأنت لا تني تتذكر ، وأنت تقرأ قصائده ، مقولة التوحيدي الشهيرة عن شعر يمازجه نثر ، حتى ليلتبس على قارئه الأمرُ ، أكان إمام الناثرين بعد أستاذه جاحظ البصرة ، يتحدث عن أنضج الشعر ؟ ذاك الذي تتحول فيه القصيدة الى طائر حي بجناحين قويين ، هما الشعر والفكر ، فالفكرة في قصائد فوزي ، سكرى بايقاعات شعره الفاتنة ... من هنا ، التباسها ؛ بساطتها الخادعة ، لذا ترى أشد المغلظين ، على مائها الوفير ، هم مدمنو قراءة الشعر المترجم ، وكتبته .. من شعراء قصيدة النثر ، اذ لا يقدر شعر فوزي حق قدره ( وهو شعر نادر وكبير ) من لا اهتمام له بامور عدة ، منها الفن التشكيلي والموسيقا الجدية والتراث بشقيه .. العربي والعالمي ؛ نصه ، هذا ، يُذكر القارىء الجاد ، وبيسر ممتع ، بشخصيات باتت رموزا انسانية ، لا تختص بامة بعينها دون باقي الامم ، كزرادشت وسِد هارتا ، ولكنها – القصيدة ، ستغدوا ، رغم بساطتها الظاهرة ، عصية الجوهر على من لا المام له ، فالبساطة تُصبح آسرة ، حقا ، حين يتوفر شاعرها على عمق معرفي وتجربة حياتية عريضة ، وهذا يشترط على قارئها الشيء نفسه ، وان بمقدار - ما ، في حين ، أن انعدام او ضؤولة احد طرفي العلاقة ، لدي القارىء ، سيفضي ، وان صدقت نواياه ، الى سوء فهم كبير ، حول طريقة قبضه على جوهر النص ، فالمتعة ، في آخر الامر ، لن تكتمل من دون فهم ؛ وما دام الشيىء بالشيىء يُذكر ، فلا بأس ، هنا ، من تذكر مثال الحبيب الراحل محمود درويش ، في دواوينه الاخيرة منذ منتصف الثمانينات ، وما تعرضت له من سوء فهم ، من جانب قراء اعتادوا هز الرؤوس على ايقاع اغنيته ( سجل انا عربي ، والعصافير بلا اجنحة الخخ ) ولكن ، ما ان اتسعت تجربته الحياتية ( وما ان ادخلته ( يدُ الله ) في تجربة الموت ( وهو ما حصل لفوزي ) ، وأتسع طموحه لبلوغ جوهر الشعر ( الصافي على حد تعبيره ) حتى دب سوء الفهم بينه وبين قرائه ؛ اذ بتنا نقرأ له شعرا هو الوجه الآخر لحريته ، حرية الحكيم الذي يزداد عفوية وطفولة وتلقائية وجرأة ، ديوانا بعد آخر ، من دون ان يتخلى ، لارباع قراء ، عن رصانة وعمق العارف ... فيه . سوء الفهم هذا ، لم يتعرض له فوزي ، من قرائه ، ربما لانه رفض ان يصبح نجما ! محمود ( نجم ، شاء او لم يشأ منذ سجل انا عربي ) شاعر قضية ، حصرا ، حتى منتصف ثمانينيات قرننا المنصرم ، اما فوزي فقد انحاز ، منذ البدء ، الى انسانه الضائع والمضيع وسط ، عجلات ايدلوجيات مسلحةٍ بانياب التاريخ سوء الفهم الذي تعرض ، له فوزي اكثر قسوة في بعض جوانبه ؛ فهو انسان مستقل في غابة متأدلجين ، وهو عراقي في صحراء عربية تنام مسبحةً بأسم جلاده ، ولا تتوضأ ، فجرا ، للصلاة ، الا وصورته ( الطاغية ) امام ناظريها ، وهو موسيقي بين رداحين ، لا يميز اغلبهم بين رباعيات بيتهوفن ، ورباعيات عمر الخيام بصوت ام كلثوم ، وهو هارب الى منفى افسده الوطن ، وعائد الى وطن اكتشف ، بعد طول غياب وجلطتين قلبيتين ، انه ليس سوى مقبرة لمحبيه ! بيد ان ما افلح فيه فوزي ، هو : لكلٍ نصيبه ، من المتعة بقصائد ( ليل ابي العلاء ، ) فالرجل ، ليس بخيلا قط ، ولكن ، ان نقبض على جوهر نصه ، فلابد من ذائقة تدفع صاحبها ، الى الاحاطة بنتاج الرجل شعرا ورسما ونثرا وتنظيرا ؛ هذا فنان ، ليس يمكننا فصل الانسان فيه ، عن الفنان والشاعر والناقد ، وذواقة للموسيقا الجدية ؛ وهو ، بحق ، اقرب ما يكون الى اختبار شيق ، وممتع ، وعميق ، منه الى اي شيىء آخر . هذا هو ديدن كل فن عظيم ، لا يختص بقراء مرحلة – ما ، بل نحن ، لا نشهد ، اثناء حياتنا ، سوى ازدياد القه ... جيلا فجيلا . وما شعر فوزي او محمود ، في عيون اشعارهما ، الا من هذا النوع النادر .
لنقرأ مطلعها الرهيف : " لمَ لا اتفجعُ باسمِكَ ، لا ارتضيك الها ؟ " يتنهدُ عازفُ قيثارة الحي . خمارةُ الحي اقفلها بيديه . .... "وأنا مقفرٌ ! وفمي لم يعد يستجيبُ لتضرع قيثارتي ! هل تُرى قاربت سنواتي نهايتها ، ام تحاولُ عمراً سواها ؟ " هنا يتحدث العازف الى نفسه ، فالابيات الموضوعه ، بين قويسات له . نكملُ : يتطلعُ للأُفق أزرق . ثَمّ شراعٌ يلوح كالجرح أحمر فيه ، ويومضُ اذ يتناهى . " أتُرى ، انت من ارتجيه لجرف الامان ؟ لم لا اتفجعُ باسمكَ ، لا ارتضيك الها ؟ " كان يُصغي لانفاسهم تتنهد فوق السطوح . ويرعى وميض الكواكبِ فوق الفخارِ الذي يحفظُ الماء بارد : " ما اوحش النوم في وحشة الكون ، لو انهم فطنوا ؟ " ثم صار يعانقٌ قيثاره رغبة بعناقهمُ . مقامان في ظلمة ، فيها(في المقام الأول )عازف قيثارة يتأمل أحوال زمانه ، و(في الثاني) نيام جلهم من أبرياء هذا الكون السائرالى غير ما غاية ! حتى اذا حل النهار ( نهار الناس ومزاليج أرزاقهم وأوهامهم ) شق شاعرنا أسواقهم بصحبة شيخه ( صلاح عبد الصبور ) . لنسمع صوت عازفنا ، غاضبا ، أسيفا : " كان شأن المدينة هذا على ما عهدتُ سنيناً . كذلك أهل المدينة : ظهرُ حوت ملاذهم داخل اليم ،أم جزرٌ ، أم سفينة ؟ " وهوى فوق أوتاره بيد دامية ، وكأن صدى اللحن جُثتهُ وهي تسقط في هاوية . أتاح طول القصيدة النسبي لفوزي معانقة هاجسه الموسيقي الجاد أطول عناقٍ ، ماهر ٍ ، ممكن ، حتى أصبح الشعر ، بين يديه ، في ( عازف قيثارة الحي ) ، أشبه بسمفونية قائمة بذاتها ، لولا شبهة الكلمات ! فلنقرأ خاتمة هذه التحفة الحوارية الموسيقية الفاتنة : أرخى أصابعه فوق قيثاره ، واستكانْ . شدَ في قبضةِ الكف عُرفَ الحصانْ . ولأن المسافةَ بين السريرِ وجثتِه احترقتْ ، لم يعد يُرجىءُ الخطو . صارت مدينتُه خلفه . والطريقُ الى قمم الثلج كالجرح حمراءَ ، ينحتُها في الظلام الوشيك شراعُ الامانْ . لا كلام ، يغنينا عن اعادة قراءة هذا النص الكبير ، مرارا . في أغلب نتاجات فوزي الشعرية ( وهي مرآتُه الأوضح إظهارا له ، وما نثره الا انعكاس حي ومدوّخٍ لقلق الفكر في كينونته شاعرا ) نجد هذا الصوت الآخر ، الذي يفسد على القارئ الكسول ، طمأنينة عقله وروحه النائمين على وسائد من يقين سعيد ! لتمض ، ايها الشاعر - بقيثار استنقذته من بين انياب الضباع ، وبزادك ، هذا الشهير ... في قلته - الى زمان قصيدتك الصافية .... الزرقاء . 5 اشد نصوص ديوانه اثارة لحيرتي ، هو نصه ( مروان ) ، فُتنت به ، ولكن وساوسه مما لا عهد لي بها قبلا ! أعيد قراءة النص فيزداد غموضا وجاذبية في آن معا ! فمن هو ( مروان ) الذي حمل النص اسمه ؟ صديق للشاعر هتكت لحمه الضباع ؟ آخره الغامض ؟ : كأني تعرفتُ ، في ليلة ما ، ومفترقٍ ما ، على كائن غائم الوجه . في ساعةٍ ما . هذا هو مطلع النص ، وهو يضعنا منذ البداية في دائرة شك مترقب ! ثم يُكمل : أكنت معي حينها ؟ كان صيفا . ولي في القميص المرقش بالخمر شاراتُ من هتكوا السكر ! في المقطع اعلاه ، يدخلنا الشاعر معه في اجواء ذاكرته الغائمة ( اكنت معي حينها ؟ ) : انها ستينيات فوزي ، اذن ، تعود اليه غائمة بنذر الشر ! فجرا احاول اشراقة الشمس في الكأس ! في الليل عتمته تحت جنح الغراب ! أكنت معي حين حل الخراب ! تعرفتُ في ساعة ما ، ومفترق ما ، على كائن غائم الوجه ، في الصيف . هل كنت ترقبنا ؟ كيف لم استحثك ان تبتعد ؟ كيف ؟ من هو الكائن الغائم الوجه ؟ أهو وجه الموت ؟ وجه الدولة ؟ عنيت وجه مخبر من مخبريها ، وللشاعر معهم تجارب مرة ! : كيف لم استحثك ان تبتعد ؟ كيف ؟ . هل ورود اداة الاستفهام الثانية ( كيف ؟ ) بوقعها الصارخ الاسيان ،يحمل معنى الندم ؟ هل كان بامكان الشاعر فعل شيىء – ما ، لمنع وقوع حدث – ما ، ولم يفعل ؟ كسلا ! عجزا ! غفلة ! ما دفعني الى طرح تساؤلاتي ، اعلاه ،هو المقطع التالي : في الليل كنت انتظرتُ ، وما عدتَ ! في البيت كنتُ انتظرتُ ، وما عدت ! لنا ، نحن القراء ، ان نتساءل : ماذا حدث لمروان ؟ بعد بيتيه الاخيرين يختم الشاعر النص ، ولا بأس ، هنا ، من اعادة ذكر البيتين مع الخاتمة ، التي هي مطلع النص نفسه ، منبها القارىء ، الى انها وردت ، ايضا ، في منتصف النص : في الليل كنتُ انتظرتُ ، وما عدتَ ! في البيت كنت انتظرتث ، وما عدتَ ! بل عاد في ليلتي تلك ، في ساعتي تلك ، لي الكائنُ الغائمُ الوجه وحده . كلما اوشكت على الخروج من دائرة الوسواس جاء هذا المقطع ليقذفني ، قذفا لا هوادة فيه ، الى دائرة الوسواس مرة ثانية ، حتى اذا اكتملت القصيدة به ، وقفت حائرا ، مبهور الانفاس ، امام فتنته الغامضة ! الم اقل لكم : اننا امام مؤلف موسيقي لولا شبهة الكلمات !
#معتز_رشدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما أقرب القمر
-
احتفاء
-
اماه
-
الله في مرآته
-
حجر خضير
-
لا اله الاها
-
في ذم عبد الرزاق عبد الواحد
-
مقامة حديثة
-
قهقهة مرآة
-
دعاء للسحابة
-
يقولون وأقول
-
مختارات شعرية
-
لكل ٍ كربلاؤه
-
قٌبالة البحر
-
اخطاء عبد الكريم كاصد
المزيد.....
-
الشَّاعرُ - علاَّل الحجَّام- فِي ديوان - السَّاعَةِ العاشِق
...
-
محمد الغزالي.. الداعية الشاعر
-
تحقيق المخطوطات العربية.. بين إحجام العالم وإقدام الجاهل
-
رواية -نيران وادي عيزر- لمحمد ساري.. سيمفونية النضال تعزفها
...
-
فنانة تشكيلية إسرائيلية تنشر تفاصيل حوار خطير عن غزة دار بين
...
-
مغني راب أمريكي يرتدي بيانو بحفل -ميت غالا- ويروج لموسيقى جد
...
-
فنانو أوبرا لبنانيون يغنون أناشيد النصر
-
72 فنانا يطالبون باستبعاد إسرائيل من -يوروفيجن 2025- بسبب جر
...
-
أسرار المدن السينمائية التي تفضلها هوليود
-
في مئوية -الرواية العظيمة-.. الحلم الأميركي بين الموت والحيا
...
المزيد.....
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|