أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - واثق غازي عبدالنبي - نقد فكرة المقدس















المزيد.....


نقد فكرة المقدس


واثق غازي عبدالنبي

الحوار المتمدن-العدد: 3345 - 2011 / 4 / 23 - 19:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المقدسات الخمسة:

كلمة مقدس ترتبط بالله أو بالدين، أي بالسماء، حتى قيل أن الدين هو عبارة عن (منظومة من الرموز المقدسة)، ولذلك نجد أن المقدس شديد الخصوصية وفوق النقد، وفكرة المقدس توحي لسامعها بالتنزيه والتعظيم والهيبة والخشية، والمقدس لا يشوبه عيب أو نقص أو خلل أو زلل، هو معبر في أحيان كثيرة عن الكمال. ولأجل ذلك نجد أن الفكر الديني يقسم الأشياء إلى قسمين مقدسة ومدنسة، والمقدسات في الدين على خمسة أنواع هي: نصوص مقدسة، وأماكن مقدسة، وأوقات مقدسة، وشخصيات مقدسة، وشعائر أو طقوس مقدسة. على سبيل المثال، في الدين الإسلامي، القرآن كتاب مقدس، الكعبة مكان مقدس، يوم الجمعة وقت مقدس، وأهل بيت النبي وصحابته شخصيات مقدسة، والصلات والصيام والحج شعائر أو طقوس مقدسة. وفي الدين المسيحي، الإنجيل كتاب مقدس، الكنيسة مكان مقدس، يوم الأحد وقت مقدس، وتلامذة المسيح شخصيات مقدسة وكذلك الصلات والصيام والحج شعائر أو طقوس مقدسة. وكذلك الحال في جميع ديانات العالم، فلا يكاد يخلو دين من هذه المقدسات الخمسة. ومن الجدير بالذكر أن هذه المقدسات مرتبطة مع بعضها ومتداخلة بصورة شائكة جداً، فكثير من الشعائر تستند إلى نصوص أو شخصيات، والكثير من الأماكن مرتبطة بأشخاص أو نصوص، والكثير من الشخصيات أصبحت مقدسة بعد أن ورد فيها نص يمجدها أو يمتدحها، وكذلك الحال مع نصوص أصبحت مقدسة لأن شخصاً مقدساً قد ذكرها.

أولاً: قدسية النص:

قدسية النص تعني الاعتقاد الجازم بصدق النص وتعبيره عن الحق، ويضاف لهاتين الصفتين صفة الثبوت وعدم التحريف والتبديل. أما المقصود بالنص الديني فهو كل ما يذكر في الكتب الدينية، سواء كان هذا الدين سماواي أو وضعي، وغالباً ما تكون النصوص الدينية مكتوبة. ولكل نص، ديني أو غير ديني، منطوق ومفهوم، والمنطوق هو اللفظ المرتبط بالحرف، أما المفهوم فهو الفكرة التي من المفترض أن يعبر عنها المنطوق.
لا بد لنا الآن من الإجابة عن سؤال نراه مهماً جداً هو: أيهما مقدس في النص، شكل النص (حرفه ومنطوقه) أم مفهومه؟. ولو تتبعنا الإجابات المحتملة عن هذا السؤال لوجدناه ثلاث إجابات: الأولى ترى أن النص الديني مقدس شكلاً ومفهوماً، والثانية ترى أن النص الديني مقدس في شكله فقط، أما الثالثة فهي ترى أن النص الديني غير مقدس لا شكلاً ولا مفهوماً.
يمكن أن يكون شكل النص ثابتاً أو مقدساً، أما مفهوم النص فلا يمكن أن يكون كذلك، فالأفكار والرؤى والمفاهيم التي يحملها النص الديني، أو أي نص آخر، متغيرة من شخص إلى شخص ومن مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. لذلك نرى أنه إذا سلمنا بقدسية شكل النص (حرفه ومنطوقه)، واعتبرنا انه ثابت ومنزه من كل عيب أو نقص، فمن الصعب أن نسلم بقدسية مفهوم النص، والسبب في ذلك يعود إلى:
(1) إن مفهوم النص الديني متغير من شخص لآخر، أو بعبارة أدق من عقلٍ لآخر، وهذا ما دعا لوجود أكثر من تفسير للنص الديني الواحد، والنصوص الدينية التي يجمع المفسرون على مفهوم واحد لها نادرة جداً.
(2) إن مفهوم النص الديني متغير من زمن إلى آخر، فالنص الذي يحمل مفهوماً في زمن ظهوره أصبح له مفهوم آخر بعد عشرات أو مئات السنين، فهل المفهوم الأول حافظ على قدسيته؟ وهل سوف يحافظ المفهوم الجديد على قدسيته بعد مئة سنة مثلاً؟
(3) إن مفهوم النص الديني متغير من مكان لآخر، فالكثير من النصوص الدينية، خصوصاً تلك التي يترتب عليها سلوك اجتماعي معين، نراها مختلفة في مفاهيمها من مجتمع إلى آخر، وهذا يعني أن فهم النص الواحد يختلف تبعاً لاختلاف العادات الاجتماعية والتقاليد والأعراف السائدة في مكانٍ ما والتي من المحتمل أن لا تكون مقبولة في مكانٍ آخر.
هذا الاختلاف في تحديد المقدس وغير المقدس في النص الديني هو السبب الجوهري الكامن وراء الصراع المستعر بين دعاة الثابت ودعاة المتغير، بين دعاة الجمود ودعاة التجديد، بين من يرى في النص الديني الحقيقة المطلقة وبين من يرى فيها الحقيقة النسبية.
يرى بعض المدافعين عن قدسية مفهوم النص أن الاختلاف في فهم النص بالصورة التي ذكرناها أعلاه هي ميزة تضاف إلى النص ولا تحد من قدسيته، ويرون فيها أيضاً قدرة على مواكبة العصر والتطور، وحكمة يتمتع بها مُنزل النص. وهذا كلام حسن ومقبول لدى الجميع تقريباً، لكنهم في الواقع لا يعملون به، فهم يرفضون أي مفهوم جديد يأتي به الفرد للنص، وقد يصل بهم مستوى الرفض إلى حد أخراج صاحب هذا الفهم عن الدين الذي صدر عنه أو ينتمي أليه النص، وأحياناً هدر دمه وقتله. فهم يرون أن فهم النص لا يمكن التوصل أليه إلا بعد أن يملك الفرد مجموعة من المعارف والعلوم الخاصة، وبذلك يسدون الطريق أمام حتى العديد من الباحثين بحجة أنهم غير متخصصين بدراسة النص الديني، وهذه الحجة تحمل في طياتها شيء من الحقيقة وأشياء كثيرة من عدم الحقيقة، أو فلنقل سوء الطوية.
إن المدافعين عن قدسية مفهوم النص، يرون أنهم الأحق في فهم النص، أو بعبارة أخرى، أنهم وحدهم القادرين على فهم النص، لذلك فهم لا يسمحون لأي شخصٍ آخر أن يفهم النص فهماً جديداً أو مغايراً. والغريب في الأمر أنهم ما زالوا متمسكين بفهم قديم للنصوص الدينية لم يعد منسجماً مع متطلبات العصر، بل أنه فهم يتعارض أحياناً مع بعض الثوابت العلمية، سواء في العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية (الاجتماعية والنفسية والتربوية مثلاً). وإذا ظهر من يخالف المفهوم الراسخ في أذهانهم عن النص اعتبروه معارضاً وجاحداً وكافراً بشكل النص ومصدره وليس مخالفاً لهم في فهم النص، وهذه هي الكارثة.
لكي نتخلص من أزمة قدسية النص الديني علينا أن نفهم أن للنص الديني شكلاً يشمل المكتوب والمنطوق والذي يمكن أن يكون مقدساً، كما أن له مفهوماً لا يمكن أن يكون مقدساً لأنه متغير من شخص لآخر ومن زمان لآخر ومن مكان لآخر، وهذا بالتأكيد لا يمنع من أن يكون النص الديني محترماً شكلاً ومفهوماً. كما أن فهم النص الديني ليس حكراً على أحد، فزمن الاحتكار قد ولى ولم يعد ألا المتطرفون فقط يدعون لأنفسهم احتكار الحقيقة أو احتكار فهم النص الديني. فالباحث في الشؤون الدينية من حقه أن يدلي بدلوه في فهم النص الديني ومن حق المخالفين له أن يردوا عليه ما شاءوا من الردود بشرط أن يتجنبوا العنف، وهذا ما نأمله منهم. فقد ذهب العديد ممن حاولوا فهم النص الديني ضحية لمن يدعون احتكاره، فمنهم من فقد حياته ومنهم من اتهم بالكفر، ومنهم من اجبر على الصمت وعدم الكتابة، ومنهم من هُجر من بلده ليعيش منفياً في ديار الغربة.

ثانياً: قدسية رجال الدين:

إن قدسية النص الديني تقودنا إلى قدسية المتحدث بالنص الديني، سواء كان شخصية تاريخية أو معاصرة، والذي يصبح مقدساً هو الآخر لأن كل (وهذه هي الكارثة) ما يصدر عنه يجب أن يكون استجابة لفهمه للنص، وهذا ما قاد العديدين إلى فهم النص الديني على ضوء تصرفات وأفعال ذلك المقدس، بل أحياناً كثيرة على ما يراه هذا المقدس في منامه من رؤى وأضغاث أحلام. إن ذلك الخلط بين قدسية النص وقدسية المحتكرين لفهم النص قاد إلى ظهور العديد من المفاهيم المغلوطة للنص الديني، ودعا إلى التمسك بأفعال لا تتصل أحياناً لا من قريب ولا من بعيد بجوهر النصوص الدينية.
لقد أصبح في تاريخ جميع الديانات شخصيات مقدسة، فوق مستوى الشبهات أو النقد، لا يمكن لأي شخصٍ كان أن يذكر لها أي عيب أو زلل أو خلل، فهي شخصيات كاملة ونموذجية ومعصومة. إذا حاول أحد الباحثين أو الدارسين أن يشير إلى حادثة تاريخية يرى فيها أن الشخصية الفلانية المقدسة قد أخطأت، أعتبر هذا مساساً بشخص المقدس، وتقوم الدنيا ولا تقعد إلا بتوبة هذا الباحث الزنديق الذي تجرأ وتطاول على شخص المقدس، وإذا أصر الزنديق على تجرؤه فانه لا ينال سوى التكفير والإخراج من الملة أو فتوة صغيرة تهدر دمه قد ينفذها احد الشباب المتحمسين، فتكون النتيجة القضاء على ذلك الزنديق الذي حاول أن يمس رموز الدين وشخصياته المقدسة.
إن شخصيات التاريخ المرتبطة بدينٍ ما لا يمكن لها أن تكون مقدسة، فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، وإذا كان احدهم قد اعتنق مبدأ ما وعمل على نشره والتبشير به، فهذا لا يعفيه من الزلل أو الخطأ، ولن تجعله أعماله مهما كانت سامية ونبيلة من أن يكون فوق مستوى النقد، فهو أولاً وأخيراً إنسان، خُلق حراً مختاراً قادراً على مزاولة الصواب والخطأ، وما دام كذلك فهو ليس معصوماً أبدا، فهو قد عمل بما يراه صواباً وفقاً لمعتقداته وظروف زمانه ومكانه، وعمله هذا قد لا يكون صائباً في نظر شخصيات أخرى لها معتقدات مختلفة تنسجم مع ظروف زمانية ومكانية مغايرة. وهذه الشخصية التاريخية قد تكون محترمة ومرموقة وحكيمة لكنها أبداً لن تكون مقدسة، بمعنى أنها ليست فوق النقد، وبمعنى أن ليس كل ما صدر عنها هو دستور عمل لنا في زماننا هذا الذي يختلف عن الزمن الذي عاشت فيه هذه الشخصية التاريخية المرموقة.
هذا فيما يتعلق بالشخصيات الدينية التاريخية، سواء كانت في التاريخ البعيد أو القريب، أما فيما يتعلق بشخصيات الحاضر المشتغلة في المجال الديني، فهي ليست سوى شخصيات متخصصة في الشؤون الدينية لها احترامها وتقديرها الموازي لاحترام وتقدير أي متخصص آخر في الشؤون الطبية مثلاً. ومقدار هذا الاحترام والتقدير يكون متناسباً مع مقدار ما تنتجه هذه الشخصية، فليس كل من اشتغل بالطب استحق أن يكون محترماً، فقد يكون نصاباً ومحتالاً، وكذلك الحال مع المشتغلين بالشؤون الدينية. إن المشتغل في الشؤون الدينية يزاول مهنةً مثل أي شخص آخر مشتغل في المجالات الدنيوية، فكلاهما يعمل ليعيش. ميزان التقدير والاحترام، وليس التقديس، يعود إلى مقدار أخلاصهما في عملهما وتفانيهما في إنجازه على أكمل صورة. بهذا المفهوم لا يكون لدينا إي رجل دين مقدس، وليس هناك شخص واحد منهم مهما علت مكانته يصبح فوق مستوى النقد، فكلهم خاضعين للنقد، لأنهم بشر، يخطئون مثلما يخطئ الطبيب في أعطاء الدواء أحياناً.

ثالثاً: قدسية الأماكن الدينية:

كم هي الأرواح التي أزهقت بحجة الدفاع عن أماكن يعتقد أنها مقدسة، وكم من حروب نشبت لأن شخصاً ما تجرأ بالقول أو الفعل على أحد هذه المقدسات. ومن واجبنا أن ندرك أن المكان لا يعني شيئاً ما لم يرتقي بالإنسان، والمكان حتى لو تهدم فبالإمكان بناءه من جديد، أما الإنسان فلا. إن هدم كل المقدسات لا يعادل إراقة قطرة دم واحدة من إنسان وجد لكي يكون مقدساً.
لقد أثار هدم المرقد المقدس لدى الشيعة في مدينة سامراء (العراق)، حرباً أهلية بين السنة والشيعة سقط ضحيتها الآلاف، وارتكبت فيها أبشع الجرائم التي وصلت إلى قطع الأعناق وتقطيع أوصال الأطفال، فهل يستحق أي مكان مهما كانت قدسيته، أن تزهق لأجله الأرواح؟. لعل عبارة (للبيت ربٌ يحميه) هي خير جواب وخير درس لنا جميعاً.

رابعاً: قدسية الأوقات الدينية:

هل يحق للمسلمين أن يتصارعوا فيما بينهم ويتهم كل واحد منهم الآخر ببطلان صيامه لمجرد أن احدهم رأى هلال شهر رمضان ليلة الأحد والآخر راءاه ليلة الاثنين مثلاً؟. إن أي عاقل لا يقول بذلك ولكن هذا هو الواقع. فقد استسلم المسلمون، وغيرهم من أصحاب الديانات أيضاً، إلى قدسية الأوقات متناسين أو ناسين قدسية الإنسان الذي وضعت هذه الأوقات لخدمته ومصلحته وليس لتقيده وتفريقه عن أخوته. إن الاختلاف في مواعيد الأعياد والصلوات وغيره من المناسبات يمكن له أن يزول إذا علمنا أن الأوقات ليس لها ما نعتقده من قدسية مطلقة لا يمكن تجاوزها أو التخفيف منها.

خامساً: قدسية الشعائر الدينية:

تُمارس الشعائر أو الطقوس الدينية استجابة لمفهوم المقدس سواء كان نصاً أو شخصاً أو مكاناً أو زماناً، وبذلك تصبح هذه الطقوس مقدسة أيضاً، بمعنى أنها تستمد قدسيتها من قدسية ما تستند أليه من نص أو شخص أو مكان أو زمان، والشعيرة المقدسة يمكن لها أن تستند إلى واحدة من هذه المقدسات الأربع أو أكثر، فيمكن لها مثلاً، أن تستند إلى نص مقدس وشخصاً مقدس فقط، ويمكن لشعيرة أخرى أن تستند إلى شخص ومكان مقدسين، وهكذا. وبعض الشعائر الدينية تسموا بروح الإنسان وتصلح ما عطب منها في زحمة الحياة، والبعض الآخر يحط من قدر الإنسان ويحوله إلى آلة صماء لا تعي ما تفعل. لذلك وجب على كل إنسان أن يتأمل في طقوس وعبادات دينه وينتقي منها ما يعينه على السمو بروحه وعقله ولا يلتفت إلى غيرها من الطقوس التي قد تكون من بدع أُناس يرون فيها مصلحة أو منفعة لهم.

الغرض من نقد فكرة المقدس:

ما هو الغرض أو الهدف من تحديد معنى وطبيعة المقدس؟، هل هو التخلص من فكرة وجود الكمال أو التنزيه في هذا العالم؟ بالطبع لا، أنها فقط محاولة إعطاء العقل مكانته في هذا الوجود. إن فكرة المقدس تعمل على تعطيل العقل في اغلب شؤون الحياة تحت شعار القدسية. فليس بإمكان العقل أن يشتغل في فهم النص لان هذا النص مقدس لا يمكن إلا لأصحاب الامتياز أن يفهموه. وليس بإمكان العقل أن ينتقد أو يؤشر مواطن الخلل والزلل في هذه الشخصية التاريخية أو رجل الدين ذاك لأنهما مقدسان. ولا يحق للعقل الاعتراض على هذه الشعيرة التي لا يرجى منها نفع لأنها مقدسة. بذلك تعمل فكرة المقدس على تعطيل وظيفة العقل، أنها تحول الإنسان إلى حيوان اجتماعي ينقاد في أفعله إلى سلوك القطيع.
إن تحرير العقل من هيمنة فكرة المقدس، يفسح المجال لاستيعاب نظرية (التعددية الدينية) التي تعني أن أكثر الديانات تملك الحقيقة، وان أكثر المتدينين محقين في عقائدهم، وأن الله أراد للعالم هذا التنوع والاختلاف، وأن أغلب البشر مهتدون. ولعل لنا وقفة مع نظرية التعددية الدينية في مقال آخر، ولكننا هنا نود الإشارة إلى أن فكرة السلام العالمي لا يمكن أن تتحقق إذا لم نؤمن بنظرية التعددية الدينية التي ترتكز على تقليل هيمنة المقدسات الخمسة على العقل.

المقدس والاضطهاد:

بالإضافة إلى ذلك، فان فكرة المقدس تعطي الحق لأُناس معينين أن يتحكموا بمصائر أُناس آخرين، فلربما يكون لشخص واحد حق إشعال الحروب أو سن القوانين ووضع التشريعات بحجة أنه مقدس. إن فكرة قدسية الأشخاص تعزز فكرة الهيمنة والسيطرة أو ما تعرف اليوم بالديكتاتورية، فكثيراً ما قرأنا ورأينا حكاماً يبطشون ويظلمون بحجة أنهم يمثلون صوت الله في الأرض وأنهم مقدسون.
لقد استغل مفهوم المقدس لمحاربة كل صور التجديد والإبداع الفكري في جميع العالم وخلال مسيرة التاريخ الطويلة. فلطالما تعرض العديد من المفكرين إلى الاضطهاد والقتل بحجة تجاوزهم وتطاولهم على مقدسات الدين. كما استغل مفهوم المقدس بشكل بشع في السياسة، فكم من صاحب سلطة استغل سلطته للقتل والتعذيب وشن الحروب تحت شعار قال ليّ الله أو سمعت صوت الرب يقول لي أفعل كذا لتنصرني. بين يدي الآن كتاب يتحدث عن حكومة الإسكندر الثالث، قيصر روسيا الذي تولى زمام الأمور عام (1881) والذي كانت فاتحة عهده تنفيذ حكم الموت على أعين الناس في امرأة لأول مرة منذ نصف قرن وكانت من بين المتآمرين على قتل أبيه الإسكندر الثاني. قال الإسكندر فيما أذاعه غداة تربعه على العرش: (إن صوت الله يهيب بنا أن نقف ثابتين في قمة الحكومة مؤمنين بقوة السلطة الأوتوقراطية وعدالتها، تلك السلطة التي انتدبنا لنزيدها قوة ونحفظها لخير الناس وصالحها من كل عدوان). لقد ارتكب هذا القيصر أبشع الكوارث بحق شعبه الجائع وبحق المفكرين في عصره تحت شعار (إن صوت الله يهيب بنا).

قدسية الإنسان:

لعلنا لا نغالي إذا قلنا إن هناك عدد من القوانين وضعت لخدمة غير الإنسان. قوانين لم تجلب للإنسان إلا الذل والهوان، يدعي واضعوها أنها جاءت لصالح الإنسان، والحقيقة أنها جاءت لمصلحتهم هم، قوانين أصبحت مقدسة وأُلغيت لأجلها قدسية الإنسان. لعلنا لا نغالي إذا قلنا أيضاً أنه لا يوجد قانون مقدس على الإطلاق، ولكن يمكن لبعض القوانين أن تكتسب احتراماً عندما تصب في خدمة الإنسان وتقديسه، فالإنسان هو المقدس الوحيد الذي يجب أن تتهاوى أمامه كل المقدسات، فلا المقدسات الدينية ولا المقدسات الوضعية تستحق أن تهدر لأجلها قطرة دم بشرية واحدة. بل من المناسب جداً أن تتضاءل كل المقدسات أمام قدسية الإنسان.

التنمية أحد علامات قدسية الإنسان:

إن الحكومات التي تحترم الإنسان حقاً هي التي توفر له التعليم والصحة والغذاء والسكن وما يرتبط بها من صناعات. أما تلك التي تغفل هذه القضايا وتهتم بقضايا أخرى لا تحفظ قدسية الإنسان لا تستحق منا إلا التنديد والمعارضة. فالتعليم والصحة والغذاء والسكن وما يرتبط بها من صناعات هي محور كرامة الإنسان وقدسيته. ورجل دين يشغل عقول الناس بقضايا الصراعات بين الأديان ولا يكف عن التشهير بعقائد الآخرين وتخطئتهم ولا يوجه الناس إلى ما يحفظ قدسيتهم وكرامتهم هو رجل دين علينا أن نحذره ولا نطمئن له، لأنه ببساطة لا يحترم النباهة بل يقدس الأستحمار على حد تعبير علي شريعتي.

قدسية الأوطان:

كثيراً ما نسمع شعارات وهتافات تمجد الأوطان وترفعها إلى مرتبة القداسة، وفي مقابل ذلك نجدها تلغي قدسية الإنسان وتحوله إلى مسخ مهمته الدفاع عن الأوطان، فشعار (نموت كي يحيى الوطن) هو من هذه الشعارات التي تضحي بالإنسان وتدّعي تقديس الأوطان. وهذه المشكلة ذكرها الشاعر العراقي احمد مطر في قصيدته (يسقط الوطن) والتي جاء في بعض أبياتها:
مِنْ بَعدِنا يَبقى التُّرابُ والعَفَنْ.
نحنُ الوَطَنْ!
مِنْ بَعدِنا تبقى الدَّوابُ والدَّمَنْ.
نحنُ الوَطَنْ!
إنْ لم يكُنْ بِنا كريماً آمناً
ولم يكُنْ محترماً
ولم يكُنْ حُرّاً
فلا عِشنا.. ولا عاشَ الوَطَنْ!.
ما يقصده أحمد مطر هو أن لا كرامة ولا احترام ولا حرية لأي وطن بدون كرامة أو احترام أو حرية للإنسان. وهذا ما ينبغي أن يدركه الجميع حاكمين ومحكومين، فقداسة الإنسان هي مصدر كل المقدسات.

الخلاصة:

إن الغرض من نقد فكرة المقدس هو: أولاً، تحرير العقل. ثانياً، رفض الهيمنة والاستبداد. ثالثاً، فسح المجال أمام فكرة التعددية الدينية. رابعاً، التمهيد لمفهوم السلام العالمي. وهذه النقاط الأربعة تقودنا إلى مفهوم جديد هو قدسية الإنسان، المقدس الوحيد الذي لا يتكلم عن قدسيته إلا القلة، فالإنسان أعلى قيمة في الوجود، وهو الذي من اجله وجدت الديانات وأرسل الأنبياء وظهر المصلحون، وهو الذي من اجله خُلقت كل الموجودات. أما ما يدعيه رجال الدين من وجود خمسة مقدسات هي النصوص والأشخاص والأماكن والأوقات والشعائر، فهي ليست سوى تحجيم لقدسية الإنسان وجعله يعيش لأجل هذه المقدسات المزعومة دون أن تكون هي مُسخرة لتقديسه وحمايته وحفظ كرامته وسعادته. ومن الجدير بالذكر، أننا عندما نندد ونحذر ممن لا يحترمون قدسية الإنسان، نعلن صراحة أيضاً أننا نحترمهم كأُناس ونحافظ على قدسيتهم كبشر وليس كرجال دين أو سياسة أو غير ذلك من الصفات. أنهم مقدسون لأنهم بشر. أما التنديد بهم والتحذير منهم فيصب من وجهة نظرنا في باب مقاومة الشر مقاومة سلمية ايجابية غير عنيفة، فالمحبة الحقيقية تقاوم الشر لأنها تهتم بمصير الناس الواقعين تحت تأثير ذلك الشر.



#واثق_غازي_عبدالنبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عقائدنا من صنع المحيطين بنا
- العقيدة الدينية ومنهج الشك
- في معنى الدين والتدين
- مجرمون ولكن لا يشعرون
- أزمة الطاقة الكهربائية في العراق .. لا تنمية ولا استقرار بدو ...


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...
- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - واثق غازي عبدالنبي - نقد فكرة المقدس