أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - شريف يونس - تعليق على ورقة -تشريح الصراع الاجتماعى والسياسى-















المزيد.....


تعليق على ورقة -تشريح الصراع الاجتماعى والسياسى-


شريف يونس

الحوار المتمدن-العدد: 978 - 2004 / 10 / 6 - 09:21
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


تعليق على ورقة "تشريح الصراع الاجتماعى والسياسى"
1- بصفة أساسية الورقة فى تحليل الصراع الاجتماعى أكثر من السياسى، وملخص مضمونها هو تقرير نظام الحكم القائم باعتباره بيروقراطيا، وتنبؤ بإدخال الرأسمالية دهاليز الحكم كمرحلة انتقالية مهدت لها علاقات عائلية متشابكة بين الفريقين. وسيكون البعد السياسى محور هذا التعليق. بخلاف ذلك، ثمة ملاحظات هنا وهناك على التحليل الذى قدمته الورقة، أهمها:
?أ) البدء بنظام 23 يوليو، "الذى أسسه جمال عبد الناصر" على حد تعبير الورقة، ربما يجعل هذا النظام يبدو وكأنه معلق فى الهواء، أو هابط من أعلى. وأهمية ذلك أنه النظام الذى ما زلنا نعيش فى ظله كما أشارت الورقة. فمن جهة ثمة ميول متصاعدة لزيادة تدخل الدولة منذ أواخر الثلاثينيات، خصوصا على يد السراى مستخدمة أحزاب الأقلية، ومن أدلة ذلك إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية فى 1939، وتزايد التشريعات الاقتصادية، وغير ذلك. ومن جهة أخرى ظهور منظمات الإنتليجنسيا الخارجة عن النظام البرلمانى، التنظيمات الماركسية والإخوان ومصر الفتاة، والأخيرين لهما تحالفات أساسية مع السراى، ودعما بصفة خاصة إيديولوجيات شعبوية تبرر تدخل الدولة باسم "مصر" و"الصالح العام"، كل بطريقته. وصاحب ذلك صعودا عاما للفئات الوسطى المتعلمة سياسيا وإيديولوجيا، تمثل فى نقد طبقة الباشوات فى الفن والصحافة، وفى نقد النظام البرلمانى ونعى انحيازه الطبقى وفساده، ورفع شعارات تتحدث عن وحدة الوطن ونقد "الخونة"، وعمليات الاغتيال السياسى على يد رجال الحزب الوطنى ومصر الفتاة والإخوان. ويمثل هذا الصعود الإطار السياسى الذى أفرز النظام الحالى تاريخيا.
?ب) يمكن القول بصفة عامة أن ثمة نظام سياسى قد أنشىء بالتدريج فى الفترة من 1952 إلى 1964 (خصوصا الدستور والمجلس النيابى، وكلاهما من حيث الخطوط العريضة ما زال على حاله إلى الآن، فضلا عن اكتمال السيطرة على النقابات والإعلام والصحافة والإنتاج الفكرى والأدبى والفنى والجمعيات على مدى الفترة) ولكنه بسبب هشاشته الكامنة، أى عجزه عن احتواء قطاعات واسعة داخله، كتحالف طبقى أو كطبقة حاكمة، أخذ يتحلل بأزماته الكامنة منذ 1965، أى فور اكتماله تقريبا. فالعبد (البيروقراطية) استطاع أن يركب سيده (الرأسمالية)، ولكن ليس بلا ثمن. فهو لا يتمتع بمواصفات الطبقة المالكة/ الحاكمة، ويحمل جرثومة الفساد والعجز بحكم طبيعته ذاتها. وكانت تحولات السادات بمثابة إزاحة لجناح من النظام لصالح جناح آخر، فى إطار سيطرة البيروقراطية، وكانت الحزبية المقيدة أداة لدفع كل الأجنحة الأخرى للوقوف خارج النظام، وحرمانها من إمكانياته. فالنظام منذ 1965 فى حالة تفكك بطئ ليس ما نعيشه الآن سوى وصول هذا التفكك إلى مرحلة خطيرة من التدهور.
2- البعد السياسى: تحدد الورقة المرحلة الحالية بأنها مرحلة زواج البيروقراطية بالرأسمالية، وربما كان ذلك هو "الميل الموضوعى" الناتج عن أزمة البيروقراطية كما طرحتها الورقة، ولكن هذا لا يعنى أنه ميل يتحقق بسهولة وبغير مشاكل، بل يمكن القول، كما تدل شواهد التردد والتراجع، أنه ميل محفوف بالمخاطر بالنسبة للنظام، ليس فقط بسبب النزاع بين الطرفين على تقسيم الكعكة و"إجراءات الزواج" وشروطه، ولكن أيضا أنه بفرض التوصل إلى تسوية ما، فإن إنفاذها السياسى يفتح الباب أمام صراعات سياسية مجهولة الآفاق، بسبب غياب المجال السياسى نفسه والذى يتعين تخليقه أصلا. وعلى سبيل المثال فكثيرا ما يقال أن النظام فاقد للشرعية، بمعنى القبول أو الولاء العام، ولكنه أثبت أنه مع ذلك قابل للحياة لمدد طويلة فى حدود سياساته التوازنية، طالما أن الساحة السياسية مغلقة أصلا، أو ضيقة للغاية. ولكن فتحها سيحول "النقيصة" المتمثلة فى الافتقار إلى القدرة على المنافسة السياسية إلى "كارثة".
حتى الآن (مؤتمر الوطنى الأخير) تمثل الحل الذى قدمته البيروقراطية فى أن تتيح صعود الرأسمالية تحت رقابتها الشاملة، أى تحت سيطرة الإدارة الحكومية. وقد تمثل ذلك منذ البداية فى صعود مقترن بالفساد، باعتباره الأداة الأصلح على الإطلاق لربط مجموعات وشلل وأفراد من هذه الطبقة التى سُمح لها مبدئيا بالوجود بالنظام. فالعلاقات الخاصة والفساد المالى يعطى الفرص للبعض على حساب الآخرين، ويقترن تضخم ثروات وملكيات البعض بتفليسات مستمرة لكثيرين غير قادرين على الحصول على الدعم "المناسب" من النظام، ولا حتى الحصول على فرص المقاولات والتوريدات التى تتفق مع قدراتهم الإنتاجية ومهاراتهم. فقد أنشىء سوق، ولكنه يفتقر، كما قيل مرارا، للشفافية، بل تجرى أعماله أساسا تحت السطح، بالوساطات والرشاوى والتسويات فى غرف مغلقة. وترافق مع ذلك السيطرة على منظمات رجال الأعمال أنفسهم، بدءا بالغرف التجارية، بما يمنع تبلور الرأسمالية كطبقة من الناحية الاقتصادية نفسها. فانتزاع فائض القيمة أولا، وتحقيقه، وهو الأهم، ثانيا، يمر عبر مصفاة الفساد جزئيا وفى السوق جزئيا. ومن هنا يصبح الصراع على إثبات الولاء السياسى للنظام والارتباط به أداة اقتصادية، بما يتضمن تأمين الحصة المناسبة لرجال النظام وأبنائهم.
تتمثل الإجراءات الأخيرة فيما يبدو فى محاولة جانب من رجال الأعمال أنفسهم لتحويل مكاسب الفساد هذه إلى آليات سوق أكثر "شفافية"، عن طريق جعل منظمات رجال الأعمال بالانتخاب، وتعيين بعض رجال الأعمال فى المناصب الاقتصادية المهمة، بدءا بوزارة المالية والصناعة، وليس انتهاء بسوق المال. وبالمقابل حماية هذه العملية عن طريق تضييق نطاق "الحريات" لتقتصر أساسا على المجال الاقتصادى، فى حدود أيضا، وإتاحة الفرصة لرجال الأعمال لرعاية بناء إيديولوجيا خاصة بهم بصحف جديدة لا حزبية، وربما بناء تحالفت إيديولوجية مع قطاعات أخرى عن طريقها. ولكن مع استمرار القبضة القوية على المجال السياسى، ممثلا فى إبقاء "الدستور" القائم الموروث بقضه وقضيضه من دستور 1964، والسماح بتمثيل أكبر لرجال الأعمال فى البرلمان، المحدود السلطات فعليا، وثقة أيضا فى أن رجال الأعمال سيحافظون على "الاستقرار"، ولن يتصرفوا "برعونة" داخله.
وهكذا يبدو أن ثمة شوطا طويلا باقيا قبل أن يجازف رجال الأعمال بالتصرف كطبقة سياسية. فوق ذلك فإن الرأسمال لا يحكم مباشرة أبدا فى أى نظام رأسمالى ناضج، فالطبيعى أن توجد طبقة سياسية محترفة تمثله، ولو كانت تشمل أبناء بقالين (تاتشر).. أما التمثيل المباشر للرأسمال فى الوظائف السياسية، ولكن بشكل محدود، فإنه علامة على ضعف الطبقة وعجزها عن بناء نظامها السياسى، بحيث يتحول بعض أفرادها إلى أشباه رجال أعمال، أشباه بيروقراط.. كنوع من الكوربوراتية المحسنة لصالح رجال الأعمال، والمصحوبة ببلوتوقراطية مالية فجة. وفى ظل هذه الشروط، أى محاولة النفاذ من داخل سلطة البيروقراطية، يكون على الرأسمال أن يقبل ببعض شروطها أيضا، بما فيها قدر من الفساد، وتقسيم الأرباح، ومراعاة التوازنات السياسية للنظام وحدوده وآفاقه. وقبول ذلك كله فى شخص مبارك الحالى.
يتمثل السيناريو الآخر فى التخلص من سيطرة البيروقراطية. ويعنى ذلك فتح المجال السياسى. فبدلا من وجود زمرة عينت نفسها بنفسها على رأس الجهاز البيروقراطى، تتشكل أحزاب تناضل فى مجال سياسى مفتوح إلى هذا الحد أو ذاك ويتولى من يحوز منها أغلبية الرأى العام بطريقة أو بأخرى السيطرة على الجهاز الإدارى وتوجيهه بما يتفق مع توجهات الحزب المرتبط بآليات الرأى العام. فالمسألة الديمقراطية ليست مسألة أخلاقية أو غناء من أجل الحرية، وإنما هى ضرورة وجود للسيطرة على البيروقراطية بكوادر تتولى الوزارة، وتخضع لمحاسبة كوادر أخرى فى البرلمان، تم تخليقها خارج البيروقراطية، وبوعى مختلف عنها، وفى ارتباط بآليات الحشد والإقناع والضغط السياسى.. لا الإجراءات البوليسية التى تشكل عصب سيطرة البيروقراطية.
ولكن فتح المجال السياسى، مهما كان مشروطا، يعنى تغيير الدستور بما يحقق غلبة هذا المجال فوق البيروقراطية، ويعنى تغيير مصادر وآليات تجنيد الحكام وتكوينهم، ويعنى فتحا للباب أمام جمع من الاتجاهات والآراء التى قد لا تخدم بالضرورة التحالف البيروقراطى البرجوازى. ويعنى ذلك أن يكتسب النظام القائم قدرات سياسية لا يملكها فعليا، ممثلة فى كوادر تعمل بالشأن العام، بغير روابط مباشرة بالأمن. ويكون لها أصلا حقوقا داخلية فى تعديل المسار السياسى للحزب وصياغة إيديولوجيته وإقرار برامجه.. على خلاف مهزلة المؤتمر الأخير للوطنى، الذى توجه له "أعضاء الحزب" ليطالعوا للمرة الأولى أجندته التى تمت صياغتها فى الخفاء، وبغير مشاركتهم. كما يعنى أن تنفصم العلاقة بين السياسة وبين توزيع الجرايات، أى ألا يصبح النائب مدينا بمقعده لمجرد قدرته على توظيف الجهاز البيروقراطى فى تحقيق مصالح هنا وهناك "لأبناء الدائرة"، أى مبادلة "المكاسب" بالتأييد، وهى الصيغة التى وُضعت منذ أول برلمان فى عهد "الثورة"، بل قبل إنشائه.
والحال أنه يبدو أنه يصعب تماما أن يتحول الحزب الوطنى بتركيبه وآلياته الحالية إلى حزب سياسى بآلياته الداخلية وأسلوب نشاطه على السواء، أى فصم تبعيته للجهاز الإدارى وعلى رأسه مؤسسة الرئاسة، أو حتى توظيف أرصدته البيروقراطية لإنشاء نفوذ سياسى، لعدم تكافؤ المجالين Incompatibility. فإذا أضفنا إلى ذلك الحضور القوى لكوادر الإخوان المسلمين، والإمكانيات الكامنة لأحزاب سياسية ليبرالية ويسارية، وحالة فقدان الشرعية الجماهيرية للنظام، التى يفاقم منها القدر الممنوح من حرية القول، وشيوع النقد الأخلاقى للنظام وأشخاصه ومؤسساته، والخوف المسيطر على النظام نفسه من "تجارب" مثل سقوط شاه إيران، فإن الزواج المطروح، بما يفضى فى النهاية لسلطة البرجوازية، لا يبدو بأى حال طريقا مستقيما ولا مفروشا بالورود. بل هو فى الواقع أزمة وليس حلا.
وتستند المخاطر إلى أن ثمة ضحايا محتملين لسقوط سياسة التوازنات البيروقراطية. فالإنتليجنسيا المطحونة تجد نفسها تتحلل فى ظل تحلل النظام البيروقراطى نفسه، أو تجد نفسها مستفيدة فى إطار الفساد العام للنظام. وتتمثل أطروحتها الأثيرة فى استعادة "الناصرية"، بثوب إسلامى أو بدونه. ولكنه مرة أخرى حلم الدولة التدخلية القوية (لا الرخوة) والمزيد من "الدعم"، والحد من توسع رأس المال الموصوم بالفساد، و"العدالة الاجتماعية"، وإنقاذ المتعلمين بأى ثمن تدفعه الطبقات الأخرى، ويتوج ذلك كله مفهوم الدولة الوطنية القوية الأخلاقية المثالية التى تعبر عن الجميع. أى إحياء صورة مثالية للدولة الناصرية. ويضيف اليسار (التجمع مثلا) إلى ذلك أن تكون "ديمقراطية" أيضا، أى ناصرية ذات مجال سياسى، وهو أمر أشبه بالمطالبة بدائرة مربعة. والأمل الكامن أن تحجز البيروقراطية صعود رأس المال والإخوان ريثما يتوفر ظرف أنسب لـ"حركة الجماهير الحقيقية". بينما يطالب البعض صراحة بـ"ديمقراطية" فى إطار "ثوابت الأمة"، أى نوع من الثوابت الوطنية/ الدينية، باختلاف فى نسبة التركيب من طرف لآخر، تشكل معيارا أعلى له نمط شبه فاشستى: "ديمقراطية موجهة".
وفى مقابل ذلك هناك مشروع الإخوان: الوعد بحياة سياسية محددة بالشريعة، وبتحالف قطاعات الإنتليجنسيا الأكثر حيوية مع رأس المال الإسلامى. ومشكلة هذا الطرح أنه يواجه اعتراضا حادا من الرأسمال العالمى، والولايات المتحدة بالذات، وكذا الطبيعة الحلقية والمغلقة لكوادره التى تتطلب نمطا محددا للحياة، ومرجعية خاصة، وإلماما بـ"النظرية" ممثلة فى الفقه كما تقرره الجماعة. ويحاول الإخوان حاليا أن يتغلبوا على العقبتين بالتخفيف من التربية العقائدية وتشجيع كوادرهم على الانفتاح على التيارات الأخرى والتقاليد الاجتماعية المعتادة، ومحاولة ما لخطب ود الرأسمال العالمى. وربما يشكل هذا التيار فى النهاية الملاذ الأخير للبرجوازية فى حالة احتدام الصراع السياسى والاجتماعى بشكل ينذر بالخطر.. ربما بتحالف رجعى مع قادة الجيش فى انقلاب "إسلامى" برجوازى محافظ ، على نمط انقلابات أمريكا اللاتينية بنكهة إيديولوجية قوية على نمط البعث. ولكن ربما لم يكن هذا السيناريو مرشحا بقوة، على الأقل فى حدود الوضع الحالى. ولكن الإخوان فى كل الأحوال سيكونون بسبب استعدادهم المسبق ونشاطهم داخل المجتمع المدنى، خاصة الفئات الوسطى المتعلمة، المرشحون الأول للإفادة من أى تقدم على جبهة الديمقراطية.
يذكر هذا كله بالمقولة المعهودة: عجز البرجوازية المتخلفة عن إنجاز ثورتها وطابعها المحافظ. ليست مصر الآن إقطاعية بالطبع. ولكن بالمقابل ثمة القيصر البيروقراطى. ويبدو أن المسار الذى يتجه إليه النظام هو محاولة التقدم داخل الأزمة بالاستناد إلى جهاز قمعى فعال ظاهر الوجود يشكل حالة إرهاب دائمة، وإبطاء خطوات تكون مجتمع مدنى، على أن تراعى البيروقراطية فى حكمها قدرا أكبر فأكبر من مصالح البرجوازية.. وهو ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا المسار الإنجليزى، ولكن على نحو محافظ جدا، حيث تخضع شروط اللعبة السياسية بأكملها لقيود جوهرية تبطئ تبلور الطبقة ذاتها.. وفى أثناء ذلك تتم محاولة ما لإضفاء طابع سياسى على "الحزب" الحاكم. أما البديل الآخر
3- أين طريق الديمقراطية؟ يصعب التنبؤ بمصير المشروع المحافظ للبرجوازية. ولكن من المؤكد أن فترة تغيير النظام السياسى هى فترة اضطراب بالغ، ليست ببساطة تحقيق شراكة سلمية بين طبقتين. وبرغم أن هدفنا هنا ليس إنشاء حزب سياسى، فإن تحديد موقف فكرى مناصر للديمقراطية على أساس سياسى يتطلب أخذ تعقيدات الموقف بعين الاعتبار.
وتعنى الديمقراطية فى ظل هذا الوضع دخول قطاعات واسعة من المجتمع فى المجال السياسى، لتنشئ بصراعاتها بالذات هذا المجال المفقود. وتعنى بالتالى انقلاب المعادلات والمعايير القائمة وظهور مكثف لقوى جديدة فى إطار هذا التحول. ويبدو أن الفكرة العامة الأكثر مناسبة لمطلب سياسى ديمقراطى يقطع الطريق على التحالف المحافظ البطئ الخطى بين البيروقراطية والبرجوازية هى فكرة "الجمعية التأسيسية"، التى تعنى ببساطة الحق المطلق للشعب فى وضع النظام السياسى الذى يناسبه. وبرغم أنها فكرة مستحيلة التطبيق فى الوضع الحالى، وربما مستقبلا، فإنها كإطار عام للحركات والرؤى الديمقراطية تعنى أوسع مجال ممكن لحركة مختلف القوى ونزع عميق لشرعية النظام بطرح فكرة استبداله بالكامل بآلية ديمقراطية (بدلا من مطالب المعارضة الهزيلة بـ"تعديل الدستور"، واقتراحات الحكماء بشأن ما يجب أن يبقى منه وما يجب أن يذهب).
كما تعنى الديمقراطية الانحياز للتيارات الأكثر انحيازا لفكرة سلطة الجمهور المطلقة فى وضع وتعديل النظام السياسى وتشغيله، وهو ما يضع معيارا بشأن أى القوى المطالبة بالديمقراطية على الساحة "أكثر ديمقراطية" من غيرها. فالنظام أكثر ديمقراطية من الناصريين، والإخوان أكثر ديمقراطية من النظام والناصريين، ومن الطبيعى أن اليسار، بتقاليده فى "عبادة" الكفاح الجماهيرى أكثر ديمقراطية منهما معا.
تتمثل المرتكزات الممكنة لمسار سياسى ديمقراطى فى القطاعات الأكثر تقدما من العمال والفئات الوسطى، التجارية والصناعية والمتعلمة (الإنتليجنسيا).. تلك المرتبطة بصعود الرأسمالية وقطاعاتها الحديثة. وبرغم أنه قطاع صغير نسبيا إلا أنه مؤثر. وبرغم الضغوط القوية الواقعة عليه بسبب جيش العمل الاحتياطى الضخم، فإن خبراتهم النوعية فى أعمالهم تمنحهم قدرة على قدر محسوب من المواجهة، وكذلك فإن لهم مصلحة مؤكدة فى فك الدولة الرعوية التى نشأوا خارجها ولم تقدم لهم أية رعاية.
ويتمثل المعارض الأساسى للنظام الديمقراطى فى تلك القطاعات الواسعة الأكثر تخلفا من الطبقتين العاملة والوسطى، الذين يعيشون فى ظل دولة الرعاية الاجتماعية وفسادها وانهيارها. وهم عادة يحملون إيديولوجيا قومية أو قومية/ دينية ويتمثل سخطهم فى المطالبة بدولة رعاية اجتماعية أقوى، وبعمل أقل (من عملهم المتواضع أصلا) مقابل أجر أعلى. ويتطلب تحويل سخطهم إلى الطريق الديمقراطى إعادة تربية كاملة. ولكنهم أكثر الشرائح ميلا لتبنى الحلول الفاشية والرؤية الفوقية للصالح العام التى تطابق (بالمصادفة!) طموحاتهم الخاصة. ولا يجب أن ننسى أنها تاريخيا المدعم الرئيسى لتيارات مثل الإخوان ومصر الفتاة، وكلاهما أب شرعى لحكم البيروقراطية (دون أن ينفى ذلك أن قطاعات أخرى منها كانت تدعم الوفد والتيارات اليسارية).
4- ملاحظات على المشروع المقترح:
فكرة تبنى العلم ولو مخففة بالخبرة كإيديولوجيا تبدو لى إيديولوجية مهنية للمثقفين. وبصفة عامة فإنها تفتقر إلى أساس طبقى أو اجتماعى محدد. ويجب التذكير هنا بأن الناصرية أول من رفع شعارات كهذه واستعان بأهل الخبرة فى هيئة تكنوقراط ليتولوا تحقيق أهدافه، وكانت وزارات عبد الناصر أول وزارات يدخلها تكنوقراط بكثافة ملحوظة (إلى جانب الضباط بالطبع). والسادات رفع كما هو معروف شعار العلم والإيمان. وفوق ذلك فإنه على مستوى الخطاب السياسى لا يوجد "حل علمى" وحيد لكل مشكلة مطروحة، بل توجد عادة عدة حلول "علمية" تتفق مع مصالح طبقات مختلفة. وقد لاحظ ليوتار من قبل انفصام الصلة بين العلم والرشادة السياسية. أما فكرة أن يكون خطاب السياسة عقلانيا (ولكن على غير نمط "الأهرام"!) فكرة تتحقق بالممارسة، وبصفة خاصة باستقرار نظام سياسى غير "تعبوى"، وبالتالى لا يقوم على محض شعارات الهوية. فالكلام يتعلق فى الواقع بلغة الخطاب.
ومن جهة أخرى فإنه يبدو لى أن المسألة لا تتعلق باستلهام نموذج غربى أو عالم ثالثى، وإنما تتعلق بالبحث عن تحالفات فكرية وسياسية خارجية فى عصر العولمة. فلم يعد ثمة حلول قومية خاصة منعزلة عن العالم. والافتقار للبعد الأممى أصبح خطيئة لا تغتفر، فى ظل تعاظم الدور الذى تلعبه تحالفات النظام الخارجية نفسها، بل والإخوان وغيرهم من الإسلاميين. فلا بد أن يكون ثمة مشروعية عالمية ما لكل مشروع يسارى، تضعه فى سياقه من إيديولوجيات العالم وتطوراته.
5 - خلاصة بشأن ما هو سياسى: الاستراتيجية العامة وأسسها:
ترتبط الديمقراطية البرجوازية بنمط من "الوطنية" باعتبارها إيديولوجية برجوازية عامة، تتميز بالذات بتبعية البرجوازية الصغيرة للمشروع البرجوازى. وبمثل هذا التحالف قامت ثورة 1919 وما بنى عليها من نظام سياسى. وفى المقابل وُجد نمط مقابل من الوطنية، يمتد بجذوره إلى حزب مصطفى كامل ومحمد فريد، وامتد فى مصر الفتاة وسلطة الضباط الأحرار. ومحور هذا النمط تمرد الإنتليجنسيا على البرجوازية الكبيرة، وتبنيها مشروعا خاصا يجمع بين المحافظة الاجتماعية والتشدد الوطنى والعلاقة الوثيقة بالدولة، سواء كانت ملكية أم "جمهورية"، والعداء للطبقات المالكة والغرب، وتصورات مثالية عن الدولة وقدرة القرار الإدارى على الوصول إلى "العدل" و"الرشادة"، و"التقدم" أو "النهضة". وباختصار فإن مشروعها فى نهايته القصوى يتمثل فى إحلال الإدارة محل السياسة.. وهو المشروع الذى تبناه الضباط الأحرار.
وهكذا فإن قضية الديمقراطية تواجه عدوين مختلفين: عزوف البرجوازية الكبيرة عن خوض الكفاح الديمقراطى وميلها للوصول لتفاهم مع النظام الاستبدادى، واتجاه الإنتليجنسيا إلى استخدام شعار الديمقراطية بشكل نفعى لتمرير إيديولوجيات قمعية بطبيعتها تحت راية الحرية على نمط الحزب النازى الألمانى، رافعة شعارات العدالة الاجتماعية أو "الربانية". يضاف إلى ذلك خمود صوت الطبقة العاملة فى الكفاح النقابى، بل وغياب قطاعات واسعة من السكان سياسيا بسبب تراث إغلاق المجال السياسى بسياسات الدولة الإرهابية. وهكذا تبدو قضية الديمقراطية معتمدة على عملية كيميائية، بمقتضاها تكافح الإنتليجنسيا والطبقة العاملة الحديثة من أجل الديمقراطية، ولكن بما لا يستبعد البرجوازية وينقلها كلية إلى المعسكر المضاد.. بأن يتحركا وفق برنامج برجوازى الطابع. وهكذا فإن برنامجا ديمقراطيا راديكاليا علمانيا يمكن أن يقدم إيديولوجيا كفاحية للإنتليجنسيا والعمال، تمثل لهم منطقا للحركة يسمح باستكمال هدم البناء السياسى القائم المنهار بعمق من الداخل، بغير أن يهدد الطموح طويل المدى للبرجوازية. ويمكن أن يسمى هذا المنظور الديمقراطية الراديكالية. ولكن... ربما كان بمقدور تيار فكرى ديمقراطى راديكالى أن يحل المعضلة إيديولوجيا.. ولكن حلها عمليا يظل دائما مسألة تاريخ.. أى مسألة يحكمها مسار صراعات اجتماعية واسعة فى المستقبل.
تكمن القوة الدافعة وراء مشروع كهذا فى إفلاس الحل البيروقراطى البديل، وتخليه تدريجيا عن شعاراته المتطرفة التى عاش عليها. وكما اكتشف أصحاب الدعاوى الملكية المختلفة فى فرنسا منتصف القرن التاسع عشر أنهم لا يستطيعون أن يتعايشوا إلا فى ظل جمهورية.. ربما دفعت الأحداث الإنتليجنسيا والعمال والبرجوازية أن تعايشهم كطبقات سياسية فاعلة غير ممكن إلا فى ظل ديمقراطية برجوازية.



#شريف_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهوية وسلطة المثقف فى عصر ما بعد الحداثة
- اليسار الماركسى فى ظل الناصرية
- ست دروس فى التكفير
- حول الحركة الطلابية فى مصر فى السبعينات
- الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى ال ...
- حول كتاب جان ــ فرانسوا ليوتار : الوضع ما بعد الحداثى
- الوداع الأخير للحرس القديم أزمة الإنتلجنسيا المصرية وأيديولو ...
- نحو إعادة بناء لليسار
- لماذا فشل مشروع التنوير ؟؟
- عن الفن والأدب فى ظل الناصرية: دراسة لدور المثقف فى ظل حكم ا ...
- مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية
- مأزق القومية فى الماركسية المصرية


المزيد.....




- تناول 700 حبة بأقل من 30 دقيقة.. براعة رجل في تناول كرات الج ...
- -كأنك تسبح بالسماء-.. عُماني يمشي على جسر معلق بين قمتين جبل ...
- روسيا غير مدعوة لمؤتمر -السلام- وسويسرا تؤكد ضرورة وجودها -ل ...
- شاهد: موسكو تستهدف ميناء أوديسا بصاروخ باليستي وحريق هائل يص ...
- روسيا تنفي اتهام أمريكا لها باستخدام أسلحة كيماوية في أوكران ...
- بولندا تقترح إنشاء -لواء ثقيل- لأوروبا دون مشاركة الولايات ا ...
- عقيد أمريكي سابق يكشف ماذا سيحدث للولايات المتحدة في حالة ال ...
- سيئول تنوي مضاعفة عدد الطائرات المسيرة بحلول عام 2026
- جورج بوش الابن يتفرغ للرسم.. وجوه من خط في لوحاته؟
- من بيروت.. رئيسة المفوضية الأوروبية تعلن عن دعم بمليار يورو ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - شريف يونس - تعليق على ورقة -تشريح الصراع الاجتماعى والسياسى-