أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - شريف يونس - الوداع الأخير للحرس القديم أزمة الإنتلجنسيا المصرية وأيديولوجيات الهوية















المزيد.....



الوداع الأخير للحرس القديم أزمة الإنتلجنسيا المصرية وأيديولوجيات الهوية


شريف يونس

الحوار المتمدن-العدد: 333 - 2002 / 12 / 10 - 12:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    



مدخل
      ربما مرت ثلاثة عقود أو أكثر قليلا منذ بدأت شكوى قطاعات من المثقفين من انهيار الثقافة ، وأزمة المثقفين ، وخصوصا أزمـة علاقتهم بالسلطة . غير أن الأزمة لم تقتصر على المثقفين وإنما شملت مجمل الإنتليجنسيا المصرية () التى عانت فى ذات الفترة من بطالة واسعة ، وأجور متسارعة الاضمحلال ، وتدهور عام فى المكانة الاجتماعية ، واتساع التمايزات داخلها فى الدخول .. وهى مجموعة التغيرات التى أدت إلى ما أسماه مثقفو الدولة الوطنية أزمة الانتماء .
فقد وجدت الإنتليجنسيا نفسها فى عالم غريب عنها ، معادٍ لها ، تتوالى الضربات عليها من كل صوب . والأنكى من ذلك أنها وجدت أسلحتها التقليدية قد صدئت وفقدت فاعليتها : فصيحاتها تذهب أدراج الرياح ، وقناعاتها وأفكارها لا يُعتد بها (وهو ما سُمى أزمة الثقافة أو مشكلة المثقف والسلطة) . لقد مضى ذلك العالم القديم الجميل حين كانت الإنتليجنسيا تقود الحركة الوطنية، وتسقط بحنجرتها الحكومـات وتحرج الأنظمة وتحشد الجماهير ويتبناها النظام (الناصرى) ، الذى قام هو ذاته على أكتاف الإنتليجنسيا العسكرية ، وكمحصلة للتحريض طويل المدى للإنتليجنسيا المدنية الذى أسقط فى النهاية النظام الملكى .
الآن يخفت صوت الإنتليجنسيا الوطنية ، ويرتفع بالمقابل صوت قطاع آخر ، هو الإنتليجنسيا الإسلامية ، التى يسـاندها جناحها العسكرى ، والتى كما سنوضح لاحقا تتحرك فى التحليل الأخير نحو حتفها ، على يد النظام الحالى ، أو أى نظام إسلامى قادم .
نحن نشهد أفول عهد بأكمله ، عهد شهد ارتفاع صوت أيديولوجيات الهوية، التى دعمتها أصداء الصراع الأيديولوجى بين موسكو وواشنطن ، وتجسدت فى أيديولوجية الهوية الوطنية .. أيديولوجية بناء الأمة بالدولة ، التى دعمت فكرة الإنتليجنسيا عموما ، وقطاع المثقفين خصوصا عن عظمتـهما ، ودورهما القيـادى ، وصنعهما للحضارة ، وبالتالى دور الكلمة ، والتعليم ، والفكرة ، فى بناء النظام السياسى والاجتماعى ، وبالتالى ضرورة حمايتهما وضرورة تكفير "الأفكار الخطرة" أو "الأفكار الهدامـة" أو "المتأخرة" . ليست الأيديولوجيا التكفيرية الحاكمية - كما سيحاول هذا المقال أن يبرهن - سوى امتداد - ونفى فى ذات الوقت - للأيديولوجيا الوطنية المقدسة ، وليس لهما ، آجلا أو عاجلا ، من مستقبل .
تلك هى الفرضية العامة التى يحاول هذا المقال أن يبرهن عليها ، وأن يضع بعض خطوطها العريضة ، آملا أن يقبل القراء أن يسهموا فيها ، إثراء وتعديلا ونقدا ، لأنهم هم - من واقع خبرتهم الحية ، قبل ثقافتهم أو معها - الأقدر والأكثر إحاطة بمختلف جوانب الأزمة التى تخصهم هم .
أطمع أيضا أن يقبل القراء غير المتخصصين فى العلوم الاجتماعية أن يتحملوا جفاف الجزء النظرى الأول ، الذى شعرت أنه ضرورى جدا كمدخل لفهم أزمة الهوية فى إطار اجتماعى أعم
يتطلب هذا الطرح الذى يربط بين أزمة أيديولوجيات الهوية وأزمة الإنتليجنسيا المصرية كفئة اجتماعية إيضاحا لمسألة علاقة الإنتليجنسيا بعملية إنتاج الأيديولوجيا ، وخصوصا علاقة وضعها الاجتماعى بهذه العملية ، خصوصا فى ظل انتشار الفكرة الشائعة فى عديد من مدارس علم الاجتماع، التى تنسب للإنتليجنسيا عموما محض دور وظيفى تابع ، وللمثقفين خصوصا دورا لا يتعدى مجرد "التعبير" عن المصالح والطبقات الاجتماعية الأكثر ثقلا وأهمية : كبار الملاك، البرجوازية ، أو البروليتاريا .
(أ) وبالطبع فإن الإنتليجنسيا ، وإن كانت تحتكر إنتاج الأيديولوجيا بكل جوانبها ، بما فيها مدخلاتها العلمية ، وتدير جهاز الدولة ، وتشرف عموما على الآلة السياسية - الاجتماعية ، فإنها ليست حرة تماما فى أداء هذا الأدوار لأسباب متعددة ، منها :
1- أن إنتاج الأيديولوجيـا ، مثل كل إنتاج بشرى ، هو إنتاج اجتماعى ، ومن ثم يخضع للآليات العامة للإنتاج فى أى مجتمع معنى ، ولمحدداته المادية . وهو كذلك لا ينتجه منتجوه بمجرد وعيهم ولا بمحض قدراتهم العقلية ، فهم لا يستطيعون تحديد الأطر العامة لإنتاج الأيديولوجيا فى المجتمع .. لأن تحديدها يسهم فيه المجتمع بأكمله ، ليس فقط من حيث المحددات الاجتماعية - الاقتصادية ولكن حتى من حيث الأعراف والتقاليد والوضع العام للمعرفة عموما وفى كل فرع على حدة ، وعلاقات التشابك بين هذه الفروع . فإنتاج الوعى الاجتماعى مسألة أكثر تعقيدا من أن يحددها وعى المنتجين .
2- أن الأيديولوجيا ذاتها ، باعتبارها تصورا عاما للكون وللمجتمع وللتاريخ لابد وأن تقدم منظورا يشمل جميع الأسس المنظورة للبنية الاجتماعية ، حتى ولو برفض بعضها .. وبالتالى فعليها أن تتفاعل - قبولا ورفضا - مع مجمل الأفكار التى تنتجها طبقات وشرائح المجتمع ، من أسفل ومن خلال المؤسسات .
3- أن الإنتاج الأيديولوجى ، مثل كل إنتاج ، عبارة عن عملية تكرارية ، عملية إعادة إنتاج ، ترديدا وشرحا وتطبيقا وتطويرا ، الخ ... وبالتالى تمر بالدورة الكاملة لإعادة الإنتاج : الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك . وهذه المراحل الثلاث الأخيرة تخضع لآليات تخرج عن سيطرة الإنتليجنسيا ، منعا وحظرا ، بالرقابة السياسية وأدواتها القانونية ، وتأويلا وإعادة قراءة ، ونبذا وتجاهلا .
4- أن الإنتليجنسيا ذاتها ليست كتلة واحدة ، ولا متحدة المصالح (إلا من جانب واحد) ، بحكم تخصصاتها المتباينة ، وحظوظها المختلفة فى سوق العمل ، واحتكاك أقسامها بطبقات وشرائح اجتماعية مختلفة تشكل بيئات أيديولوجية على درجة من التباين شاسعة ، فضلا عن الأنظمة الهـرمية التى تندرج قطاعات عديدة منها فيها .. فيعيد ذلك كله ربطها بالواقع الاجتماعى فى تناقضاته ويشتت وحدتها ووحدة تصوراتها .

(ب) غير أن هذه الروابط التى تقيد الإنتليجنسيا فى عملية إنتاج الأيديولوجيا - وكذا فى إدارة مؤسسات المجتمع - لا تعنى أنها تقوم بهذه الأدوار حسب الطلب ولا بأوامر مباشرة من أى طبقة اجتماعية ، ولا بتجرد منقطع الصلة بوضعها الاجتماعى ومصالحها ، حيث :
1- أن إنتاج الأيديولوجيا ليس إنتاجا نمطيا ، لأن الأيديولوجيا مفتوحة من أحد نواحيها على اللانهائى والمطلق ، ومن ثم فإنه حتى فى حالة الإنتاج الأيديولوجى المأجور ، مثل الموظفين الأيديولوجيين للمؤسسات السياسية أو الحزبية ، يكون فى إمكان المنتج ، بل هو مضطر ربما ، للتدخل فى تحديد منظور الدفاع عن المؤسسة وتدعيمه بأفكار متجددة ، من خارج المؤسسة ، ومواجهة المستجدات بتعديلات متتالية . وبمعنى آخر أن منظوراته ومصالحه تدخل حتى فى إطار التعبير عن مصالح مختلفة تماما . هذا كله فضلا عن اعتماد المنتَج الأيديولوجى إلى حد كبير على مجموعات المنتجين المستقلين ، الذين يقومون بعملهم بشكل حِرَفى ويتقدمون بإنتاجهم للجمهور عموما ، باسمهم الشخصى .
2- يضاعف أيضا من هذا الاستقلال أنه لا توجد رابطة سببية مباشرة بين المستويات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية فى التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية . فالسياسة مثلا لا تنبثق من محض المصالح الاقتصادية السائدة ، والمحددات الأيديولوجية السائدة فحسب ، ولكنها فى تكيفها المعقد مع هذه المصـالح والمحددات تظل تستند إلى مستوى مستقل فى البنية الاجتماعية ، هو مستوى إدارة شئون الجماعة السياسية بما هى جماعة اجتماعية ، أى مجمل علاقات السلطة بها . كذلك فإن الأيديولوجيا لا تشكل انعكاسا ولا توفيقا بسيطا للمصالح الاقتصادية والسياسية السائدة ، ولكنها تحقق وظيفة كهذه من خلال استنادها إلى مستوى مستقل ، هو المستوى المعرفى (بأوسع معنى للكلمة) للجماعة البشرية ... الأمر الذى يعنى أن احتكار الإنتاج فى هذا الموقع المستقل يمنح قدرا من السلطة المستقلة فى إطار مجمل التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية.
3- كذلك فإن الأيديولوجيا ليست مجرد أداة للحام مفاصل المجتمع المتناحر ومنحه مظهر الوحدة ، وذلك لسببين .. أولهما أنها لا تستقل بأداء هذا الدور ، لأن المستوى السياسى ، بل والاقتصادى ذاته ، لهما جوانبهما التى تمنح إمكانية التغطية على الصراعات الاجتماعية وخلق مصالح مشتركة بين الطبقات المتناحرة . فعمـال الشركة الناجحة يستفيدون من نجاحها بأشكال عديدة ، وازدهار دورة رأس المال يشكل أنسب الظروف لنجاح التنظيمات النقابية فى تحقيق أهدافها الاقتصادية ، والمستغَلين يستفيدون من النصر فى الحروب الخارجية ، والحروب الأهلية يعانى منها الطرف المنتصر والمهزوم بدرجات متفاوتة . وثانى الأسباب أن الانقسامات الاجتماعية الجوهرية تنعكس بشتى الأشـكال على الإنتاج الأيديولوجى . فلا يوجد مجتمع له أيديولوجية واحدة أو تفسير واحد لأى من أيديولوجياته ، وصراع الخطابات الأيديولوجية ظاهرة دائمة حتى ولو كانت تدور حول محاور مشتركة .

(جـ) ومن هنا فإن نجاح إدماج الإنتليجنسيا فى إطار النظام الاجتماعى - الاقتصادى والسياسى ، أو عدم نجاحه ، يحتـل أهمية خاصة فى توجيه عملية إنتاج الأيديولوجيا . وبخصوص هذه النقطة سوف يقتصر التحليل على المجتمع الرأسمالى الحديث ، الذى هو محل اهتمامنا المباشر .
1- يمنح هذا النظام فى حالة نجاحه فى إدماج الإنتليجنسيا - المرتبط طبعا بتماسك مجمل التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية - الموقع الاجتماعى الملائم لها تماما لإنتاج متطلباته الأيديولوجية ، وذلك بطريقتين متباينتين :
أولاهما نظام الوظيفة العامة فى الجيش والقطاعات المدنية . فالموظف العام يدير جهازا لا شخصى متجرد ، يتحرك بأوراق رسمية يمكن أن يتقدم بها - نظريا - أى فرد من الأفراد ، فيتحقق بهذا العدد الكبير من الأوراق خدمـة ما يسمى "الصالح العام" وصيانة المجتمع . وهو ينتمى إلى جهاز مستقل ، لا يحكمه البرجوازيون بشكل مباشر ، ولا يتقاضى أجره من أى طبقة بعينها ، ولا من فرد بعينه . وإذا قام الجهاز بخدمة مصالح خاصة بعينها فإن هذا يسمى "فسادا" .. من المفترض أنه لا ينتمى إلى "طبيعة النظام" . من هنا يتمثل موظف الدولة بشكل طبيعى العديد من مقولات الأيديولوجيا الليبرالية - العمـود الفقرى للأيديولوجيا الرأسمالية : المساواة ، الانضباط ، العقلانية ، الترشيد ، الصالح العام ، الفرد .. وكذلك الوطـن : الوحدة الاقتصادية- السياسية - الأيديولوجية المفترضة التى تبرر وتكرس وتنتمى إلى وتنتج عن جهاز الدولة ذاته .
ومقابله هناك زميله رجل المهن الحرة ، بما فى ذلك المثقف المستقل ، فهو يمثل بحكم آلية نشاطه ، كنوع من البرجوازى الصـغير صاحب المشروع الخاص ، نموذج فكرة الحرية ، والكفاءة ، والمنافسة الحرة التى تحسمها هذه الكفاءة ، والفائدة التى يجنيها المجتمع من المنافسة المبنية على الكفاءة ... وبصـفة خاصة "نجوم المجتمع" من الفنانين والكتاب والعلماء ورجال السياسة وغيرهم ، الذين يلعبون بمحض وضعهم داخل الآلة الاجتماعية دورا كبيرا فى الإقناع بهذا النموذج وصياغته أيضا.
وهكذا نجد هذا الازدواج الليبرالى الجوهـرى : العقلانية والرشد والانضباط/ الحرية والمنافسة والكفاءة ، متمثلين فى الإنتليجنسيا ، لينتج أيديولوجيا المساواة أمام القانون سياسيا (حقوق الاقتراع والترشيح) ، وفكريا (حقوق التعبير والتظاهر) واقتصاديا (حق الملكية) ، وإجمالا .. فكرة الفرد الحديث التى هى أبعد ما تكون عن البساطة .
2- وبالمقابل هناك الحالة التى يعجز فيها النظام عن استيعاب الإنتليجنسيا بفعل أزماته ، فيدفع بقطاعات واسعة منها إلى البطالة ويخفض أجورها بفعل سياسة انكماشية تقلل من تضخم جهاز الدولة والمرتبات وتقلل من الطلب على خدمات أصحاب المهن الحرة ودخولهم ، ويخترق "الفساد" جهاز الدولة أكثر فأكثر وتتضح الحدود الضيقة لرشد النظام وحرية أفراده على حد سواء ، ويغيب الهدف الأيديولوجى الليبرالى ذاته تحت وطأة الأزمة ، وتنتعش الأيديولوجيات المضادة لتقترب من قلب الإنتليجنسيا بدلا من وضعها القديم على هوامشها .
وبقدر التفكك الاجتماعى (بصفة عامة) ، وخصوصا بقدر وجود خلل مزمن فى البنية الاجتماعية ، وبقدر ما يؤدى هذا كله إلى إضعاف الطبقات المسودة وابتعادها عن مركز الفعل السياسى ، بقدر ما تجد الإنتليجنسيا نفسها مستقلة أكثر فأكثر ، لتضع نفسها فى بؤرة الأحداث ، فتمارس وظيفة "التعبير" عن المجتمع ، لصالحها هذه المرة ، وتدعى أنها "تحميه" من نفسه أولا .. وترفع شعارات أيديولوجية مجردة ، صناعتها الأثيرة ، باعتبارها طريق الخلاص العام ، وتحث أو تحاول أن تجبر الجميع على "الإيمان" بالفكرة طريقا للسلطة .
غير أن أيا من الحالتين تمثلان نماذج ، وليس الحالة الواقعية للإنتليجنسيا وأيديولوجيتها . فالمجتمع بتركيبه المعقد ، وتفاوت مستوياته ومصالحه وقطاعاته الاقتصادية والسياسية ، يشتت وحدة الإنتليجنسيا كما مر بنا ، وبالتالى يتيح الفرصة للتناقض بين الحالتين أن يبقى حيا على الدوام . ومن هنا يمكن القول بأن ثمة ثلاثة ميول أساسية أيديولوجية داخل أوساط الإنتليجنسيا الحديثة ، يمكن تسميتها ووصفها مبدئيا على النحو التالى :
أ - الميل التنسيقى : وهو الميل الذى ترى فيه الإنتليجنسيا نفسها ودورها كمنسق وأيديولوجى عام للنظام الاجتماعى ، وكحكم عادل بين المصالح المتضاربة فى إطار الأيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية ، وفقا لمشيئة "ممثلى الشعب" ، ولكن أيضا بناء على "نصائحها" و "خبرتها" التى تتعدد وتتفاوت ، فى اتجاه محافظ أو إصلاحى ، وفقا للمواقع المختلفة التى تحتلها داخل الجهاز الاجتماعى ، وتقبل بتراجع الأيديولوجيا إلى الموقع التالى للسياسة . وتتخذ الإصلاحات صبغة عملية ، وفقا للمشكلات التى تظهر من واقع الممارسة ، ممارسة جهاز الدولة أو ممارسة المهنة .. وتطالب الإنتليجنسيا بنصيب أكبر من الكعكة من خلال دورها فى دعم النظام الاجتماعى وتزايد ثقلها .
ب - الميل الانعزالى : وهو الميل الذى ترى فيه الإنتليجنسيا نفسها حاملة الحقيقة ، الحقيقة التى لا تنبثق فى وعيها المباشر من النظام الاجتماعى ومشكلاته ، وإنما من رفض مجمل هذا النظام بأطرافه وصراعاته ، والانفتاح بالمقابل على عالم الفكرة فى حد ذاتها ، بوصفه العالم الحقيقى الذى يدان المجتمع فى نظرها لعدم تمثله له ، فتتخارج الحقيقة عن المجتمع ، وتقف على هامشه ، ويحتل أصحاب هذه الحقيقة موقع "المتفرج" ، أى الموقع المثالى فى الفكرة التقليدية عن قلب الإنتليجنسيا: المثقفين - باعتبار أن الإنتليجنسيا تتميز بتخصصها فى العمل الذهنى - موقع القاضى القيمى والمعرفى للمجتمع ، ضميره الحى ، عقله المفكر .. فى ارتباط وثيق بالمطلق واللانهائى . ومن الأمثلة الواضحة لهذا الميـل الأيديولوجى النزعة الرومانتيكية الأدبية ، والجماعات الدينية المغلقة ، ونيتشة فى زمنه . ويمثل هذا الميل الرغبة القصوى فى التمرد ، ورفض الاندراج فى سوق العمل والأفكار على حد سواء ، ورفع الأيديولوجيا إلى مرتبة المطلق غير المشروط، الذى لا تتحكم فيه ولا تشوهه عمليات التبادل والتوزيع والاستهلاك ، وإنما يؤسسه تنظيم داخلى صارم للجماعة وأفكارها .
جـ - الميل الهيمنى : وهو الميل الذى ترى فيه الإنتليجنسيا نفسها المعبر الأسمى أو الوحيد عن المجتمع ، وتطالب بالسلطة انطلاقا من رفض النظام على أساس عدم تعبيره عن الحق أو صالح المجتمع ، اللذان يتمثلان بالضبط فى سيادة أيديولوجيتها . وتنتظم حركـة أيديولوجية / سياسية وفقا للفكرة الإنتليجنسوية ، الـتى تستند لتصورها الخاص ، ذى الطابع المجرد المحض ، فى بناء تصور سياسى/ أيديولوجى متكامل من حيث المبدأ ، ومفرغ من الداخل .. ومن خلاله تصبح الإنتليجنسيا، باعتبارها المنوط بها حمل الفكرة ، سيدة المجتمع .. ذلك المجتمع الذى يصبح حقيرا فى نظرها بالضرورة : فحتى إذا طالبت بالسيادة باسم الشعب، فإنها تظل تكن الاحتقار لكل قسم من أقسام هذا الشعب على حدة .. ليقتصر "الشعب" واقعيا على حَمَلة الفكرة المجردة .
ومبدئيا ، يمكن لأى فكرة مجردة أن تصلح مرتكزا لمثل هذا التوجه ، سواء كانت حكم اللـه أو حكم الشعب أو حكم العقل . ولكن فى جميع الأحوال يحدث دمج مزدوج بين الأيديولوجيا والسياسة .. فالفكرة تصبح خادما لهدف الوصول للسلطة ، فى ذات الوقت الذى تتم فيه المطالبة بالسلطة باسم الفكرة ، التى تقدَّم بوصفها أعلى من السلطة السياسية وهدف الحركة السياسية المعلن ، ومبرر المطالبـة بالحكم . ويختفى الفاصل إذن بين المستويين السياسى والأيديولوجى، وتظهر الحركة الثورية أو الإصلاحية المذهبية . فالأيديولوجيا لا تصبح إدارية ، كما فى الحالة الأولى ، ولا فكرية ، كما فى الحالة الثانية ، وإنما أيديولوجية .. أى تجرى أدلجة الأيديولوجيا ذاتها () .
وليس ثمة ما يدعو إلى القول بأن أيا من هذا الميول أكثر إنتاجا فكريا من الميلين الآخرين ولا أنه يؤسسهما ، فجميعها تنتج أفكارها فى حقب مختلفة ، وتتفاعـل سويا وتتراكم فوق بعضها ، فى ذلك المستوى الخاص من مستويات البنية الاجتماعية .. المستوى المعرفى
يتمثل الإنتاج الأيديولوجى الرئيسى للإنتليجنسيا المصرية فى فكرة "الهوية".. الوطنية أولا ثم الإسلامية ، فالبؤرة الرئيسية التى تمحورت حولها شعارات النهضة والتحرر والتقدم ، الخ ، كانت فكرة الهوية الخاصة والدفاع عنها وتطويرها (فى حين ميزت فكرة "العقل" مسار الإنتليجنسيا الأوربية) . وسوف نرجئ تحليل هذه الفكرة بفرعيها إلى القسم الرابع من هذه الدراسة ، أما ما يهمنا هنا ، فهو دراسة مجمل الظروف الاجتماعية - بالمعنى الواسع - التى أدت إلى احتلال فكرة الهوية موقعا محوريا فى الخطاب الأيديولوجى المصرى لمدة طويلة ، وهى الظروف التى يمكن تلخيصها فى ارتباط الإنتليجنسيا القوى بجهاز الدولة الحديثة ، وعدم قدرة الطبقات المالكة على استخدام الأيديولوجية الوطنية بفعالية ، وعدم قدرة النظام الاجتماعى والسياسى على استيعاب الإنتليجنسيا فى لحظات عديدة . ويمكن تفصيل خطوطها العريضة على الوجه الآتى :
1- أُنشئت الدولة الحديثة فى مصر منذ البداية كمشروع للطبقة العسكرية المالكة فى سعيها للاحتفاظ بسيطرتها على البلاد فى مواجهة القوى الاستعمارية الأوربية الرأسمالية الحديثة . وتطلب تحقيق هذا الهدف إنشاء جيش حديث ، وبالتالى إدارة مدنية حديثة على النموذج الأوربى ، وبالاقتباس من البلدان الأوربية ، على حساب مجمل المجتمع التقليدى القائم ، بقراه وطوائفه الحرفية والتجارية ، الذى دفع مجمل فاتورة الإصلاح عن طريق "نظام جباية" صارم ، وعن طريق "ضريبة الدم" التى تمثلت فى تجنيد عدد كبير من السكان ، منتقين ، وانتزاعهم من بيئتهم التقليدية ودمجهم وإعادة تشكيلهم فى نظام عسكرى صارم ليشغلوا مناصب الإنتليجنسيا العسكرية والمدنية الدنيا ، كنوع من التجنيد الإجبارى غير محدد المدة ، على أساس أنهم "عبيد الباشا" () . ومن خلال هذه "العبودية" مُنح هؤلاء "العبيد" سلطات هائلة على "الرعية الجاهلة" التى كان يجرى تجنيدها فى الجيش والصناعة ، وعلى تلك المقيمة فى الريف ، لتحقيـق بناء الدولة الحديثة ، وتوجيه الموارد بما يفى بهذا الغرض ..
وهكذا تكونت الإنتليجنسيا الحديثة للمرة الأولى فى مصر "كإنكشارية" حديثة ، تضرب بسيف الباشا وتأكل من بيته - دولته . وزاد من انفصال هذه الفئة اتساع الهوة بين الجهاز الجديد والمجتمع التقليدى ، بين صفوة متعلمة فى أوربا أو على أيدى الأوربيين وبين مستنقع الأمية والجهل الواسع ، بين النظام القانونى الحديث والمفاهيم الحديثة التى تسير عملها ، وبين الأعراف والتقاليد المختلفة تماما. كان عليها على وجه الإجمال أن تكون وسيطا بين الحاكم و"الرعية" - لم يكن مفهوم "الشعب" قد ظهر آنذاك - وكانت لغتها هى اللغة العربية التى تشدو بها حتى الآن ، لا هى التركية لغة الطبقة المالكة / الحاكمة ولا لغة "الشعب" .
لم تعد هذه الفئة تنتمى إلى "الشعب" أو الحكم ، أو بالأدق أصبحت تنتمى لهما معا .. وتنتمى انتماء مؤكدا لجهاز الدولة الحديث ، فشغلتها - لعل ذلك منذ البداية نفسها - قضية علاقة الحاكم بالمحكوم ، والدولة "بالشعب" ، أى حملت بذرة السياسة باعتبارها المشكلة الرئيسية ، ليس بوصفها قضية "العقل" كما قالت الإنتليجنسيا الأوربية ، ولكن بوصفها قضية حضارية ، قضية الهوة الواسعة بين الحاكم والمحكوم . غير أن الإنتليجنسيا الحديثة لم تكن آنذاك قد امتلكت أيديولوجيتها بعد ، ولم تكن الدولة الحديثة قد قطعت شوطا بعيدا فى التغلغل بآليات السلطة فى النسيج الاجتماعى ككل ، بل وجرى تسريح قسم كبير منها فى نهاية عهد محمد على وخلفيه ، ليعاد إنشاؤها فى عهد إسماعيل باشا (الخديوى).
كانت الثورة العرابية البروفة الأولى لتمرد الإنتليجنسيا الحديثة ، فالضباط المصريون الذين ثاروا لسوء معاملتهم على أيدى الأتراك وعدم تلقيهم لأجورهم سرعان ما أدركوا أن بإمكانهم دمج مطالبهم مع مطالب الفئات والطبقات الاجتماعية العديدة الأخرى التى أضارتها الأزمة المالية ، ليتبلور ذلك الشعار ، الذى لم يكن أكثر من تكتيك سياسى آنذاك ، "مصر للمصريين" ، فصاروا قادة ثورة وطنية ، ملتبسة مع ذلك فى شعاراتها وأهدافها .
ومرة أخرى عام 1919 ، أتيح للإنتليجنسيا ، الحقوقية المدنية هذا المرة ، أن تقود شعبا من "طلاب القوت" أساسا ، وتحشره فى قمقم الشعارات الوطنية التى كانت قد تبلورت بشكل محافظ ونسقى على يد أحمد لطفى السيد وحزب الأمة من جهة ، وبشكل شبه إسلامى "راديكالى" على يد مدرسة مصطفى كامل والحزب الوطنى من جهة أخرى ، لتتسلم السلطة فى النهاية طبقة كبار الملاك، التى دخل بعض أفرادها عالم الصناعة آنذاك .
غير أن الطبقة المالكة بمجملها عجزت عن استخدام الشعارات القومية للنهاية نظرا لروابطها الوثيقة بالرأسمال العالمى ، وعجزت فى ذات الوقت عن احتواء الإنتليجنسيا التى بدأت تعانى من البطالة الواسعة منذ نهاية الأربعينيات ، فى شعب يعانى من الفاقة المدقعة التى تنذر بأوخم العواقب .. كانت هذه هى الظروف التى اكتسبت فيها أيديولوجية الهوية الوطنية طابعها الإنتليجنسوى الراديكالى ، وأتيح لقادتها حشد قطاع كبير من السكان خلفها ضد الطبقة المالكة باسم الوطن ، ولكن - وهنا الذكاء - باسم "العدالة الاجتماعية" أيضا . بل كان هذا الظرف ملائما لاحتشاد قطاع آخر من الإنتليجنسيا الحديثة خلف شعار الهوية الإسلامية ، خلف الإخوان () .
لم يكن "الأفندية" الشيوعيون أو الإخوان أو الوطنيون يملكون أية خطة للاستيلاء على السلطة، ولم يتعد أفق تمردهم - كما أشار طارق البشرى بحق - الضغط على النظام . ولهذا لم يقدر لهم الانتصار على أى أساس عقائدى إلى أن أتت الإنتليجنسيا العسكرية بانقلاب 1952 لتنقذ النظام وتصفى شكله القديم فى وقت واحد ، بعد أن أصابها تعفن النظام بجرح بالغ فى حرب 1948، فتصل الإنتليجنسيا الوطنية إلى ذروة نجاحها ليبدأ انحدارها الأخير .
2- وهنا ينبغى أن نلاحظ أولا أن جميع انتفاضات الإنتليجنسيا المصرية هذه كانت تعبر فى المقام الأول عن مصلحتها الخاصة ، عن نزاعها مع الأتراك على الوظائف والأجور ، وعلى السلطة فى المؤسسات التى تعمل بها ، وعن نزاعها مع الموظفين الأوربيين لذات الأسباب . كما نلاحظ ثانيا أن الإنتليجنسيا كانت تلجأ دائما لطبقات وفئات اجتماعية أخرى لدعم ثورتها .. وهنا لا ينبغى أن يخدعنا ذلك المظهر الوطنى العام للحركة ، وشعارات العدالة المرفوعة ، فالنهب الواسع للريف ولعديد من أقسام السكان فى عهد محمد على من أجل بناء الدولة الحديثة، وكذا فى النصف الأول من عهد الخديوى إسماعيل ، كل ذلك لم يحرك شعرة واحدة فى رأس الإنتليجنسيا ، التى كانت ، على العكس ، مبهورة ومستفيدة من توسع جهاز الدولة الذى كان يزداد تغلغلا وسلطة .. فثورة الإنتليجنسيا ترتبط بفقر جهاز الدولة لا بفقر الشعب .
3- وهنا ينبغى أن نلاحظ من هذه الفجوة بين الدوافع والشعارات أن الإنتليجنسيا فى حركتها سعت إلى دمج حركة السكان فى إطار رؤيتها لدولة قوية تستمد هى ذاتها قوتها منها ، عن طريق شعارات الهوية تحديدا . فبواسطة شعارات الهوية المجردة تجرى محاولة دمج السكان فى إطار أيديولوجيا تحتويهم بشكل صورى ، بوصفهم مصريين ، أو بوصفهم مسلمين ، أى بصرف النظر عن مجمل أوضاعهم الاجتماعية .. فتبدو مشكلة العمال مثلا أو الفلاحين هى مشكلة وجود الأجانب فى جهاز الدولة ، ويجرى تجسيد أسباب سخطهم فى هذا الوجود، والادعاء - من ثم - بأن التخلص من هذا الوجود سيؤدى إلى تحسين أوضاعهم ، عن طريق الخضوع للرعاية الأبوية لدولة "الإنتليجنسيا الوطنية" . كذلك فإن أيديولوجية الهوية هذه من شأنها أن تحول دون تنظيم حركة مستقلة لهذه الطبقات ، وعلى العكس فإن المنظمات النقابية وغيرها مدعوة من قبل أيديولوجية الهوية للاندماج فى الهوية المجردة العامة ، وإخضاع مطالبها للهدف المجرد . فأيديولوجية الهوية هى أولا وأخيرا أيديولوجية عن الدولة . كذلك فإن شعارات العدالة الاجتماعية تصب ، فى إطار هذه الأيديولوجية ، فى هدف تقوية جهاز الدولة ، ودعمه ، وفتح الطريق أمام تغلغله فى ثنايا النشاط الاجتماعى ، بدعوى تحقيق النهضة والتحديث والعدالة ، ومن ثم فتح الفرص أمام الإنتليجنسيا للعمل والترقى والسيادة .
4- ومن جهة أخرى ، كان الارتباط الوثيق بين الطبقات المالكة ورأس المال العالمى مبررا إضافيا لتملك الإنتليجنسيا للأيديولوجية الوطنية - فى أزمنة ضعف جهاز الدولة - بغير منازع . فعداء الطبقة المالكة لهذا الرأسمال كان يجرى فى إطار الشراكة الضرورية ، الناتجة عن ضعف التكوين الرأسمالى المحلى وضيق السوق الداخلى ، وبصرف النظر عن علاقات الإنتاج الداخلية . فالإقطاعيون المصريون كانوا يصدرون القطن وغيره لأوربا ، والصناعيون كانوا يعتمدون على الخارج فى بناء صناعتهم - بما فى ذلك العهد الناصرى . وسواء كانت الصناعة حالَّة محل الواردات أو تصديرية ، فإنها لا تشكل أكثر من حلقة فى سلسلة التداول الدولى لرأس المال الذى بدأ تجاريا ، ثم أصبح أيضا ماليا فإنتاجيا مع تدويل عملية الإنتاج نفسها . هذا بالإضافة إلى استيراد الطبقة المالكة لأنماط استهلاك وسلوك أوربية ، بعد تشويهها ، كأمر ضرورى للاندماج فى السوق العالمى ، بالإضافة إلى تحقيق التمايز الرمزى للمكانة فى الداخل .
ومن هنا كان عداء هذه الطبقات للطبعات المتطرفة من أيديولوجية الهوية : الطبقات الإنتليجنسوية ، بدءا من مصطفى كامل ، ومرورا بمظاهـر التطرف الوطنى التى كان يمارسها حزب الوفد تحت ضغط قاعدته من رجال الإنتليجنسيا الذين فجروا انتفاضة 1919 ، وانتهاء "بالإرهاب" الإسلامى الحالى . وفى كل مرة كانت الطبقة المالكة تسعى لإدماج شعارات الهوية الجديدة فى إطار يحفظ لها صلتها العميقة بالرأسمال العالمى ، وسلطتها وملكيتها فى الداخل ، شريطة ، بالطبع، أن تنجح فى امتصاص غضب الإنتليجنسيا أو قطاعاتها الأكثر تأثيرا على الأقل . وفى أسوأ الظروف قد تضطر الطبقة المالكة لتسليم القيادة السياسية للإنتليجنسيا الثائرة ، إنقاذا للنظام الاجتماعى بمجمله ، كما حدث فى العهد الناصرى ، واثقة ، فى نهاية الأمر ، أن طموح هذه الفئة الاجتماعية أعجز من أن ينشئ نظاما جديدا .. فالمسألة كلها لا تتعدى الاستيلاء على جهاز الدولة القائم ومنح قطعة أكبر من الكعكة للإنتليجنسيا ، وبعض الفتات للجماهير . وفى النهاية ترث الطبقة المالكة ، بعد الخسائر المهمة ، جهاز دولة أكثر قوة وأكثر عنفا فى لجم الطبقات المسودة ، وأكثر تغلغلا فى أحشاء المجتمع بسبب ادعائه القيام بتمثيل هذه الطبقات تحت شعارات أيديولوجية الهوية .
5- تلك هى المحددات العامة التى تفسر كلا من تبنى الإنتليجنسيا المصرية لأيديولوجيات الهوية ، وحقيقة نجاحها فى تحقيق مكاسب مهمة من وراء ذلك . لقد نجحت الإنتليجنسيا فى تلك الفترات فى إضفاء طابع نهضوى - إدارى - دولتى - نخبوى على أيديولوجية الهوية ، حقق لها من جهة قيادة الجماهير وإدماجها داخل تصوراتها ، وكذلك مواجهة الطبقة المالكة ، لتستقل بقيادة جهاز الدولة القائم ، حلمها الأول والأخير
 
النخبوية : أيديولوجية الهوية ، أيا كانت ، هى فى المحل الأول أيديولوجية نخبوية ، فبمجرد قيامها على فكرة الهوية ـ الوطنية أو الإسلامية ـ المجردة ، تصبح احتكارا للإنتليجنسيا التى تملك وحدها تفسيرها وتطبيقها على الواقع . فمع أن الجميع مدعوون لتبنى أيديولوجية الهوية المعنية والتضحية ، حتى بمصالحهم الحقيقية ، من أجلها ، فإن السبيل الصحيح لهذه التضحية تحدده الإنتليجنسيا القائدة ، وكذا تحديد الأعداء والأصدقاء ، وكيفية مواجهة الأعداء ؛ الخ . كذلك فإن إدارة الوطن المتحرر من الاستعمار ، أو تشييد النظام الإسلامى وإدارته ، هى من الأمور "العليا" التى تدور حول مبادئ تسمو على أفهام "العامة". فالنهضة المقبلة ، الوطنية أو الإسلامية ، عبارة عن خطة تقام وفق مثال نموذجى ، بحصافة وذكاء ، مبنية على "الصالح العام" ، أو ضرورات "العقيدة" التى تتفق طبعا مع الصالح العام . والدولة التى سيجرى بناؤها مستقلة عن كل الطبقات وعن كل النظم الاجتماعية ، لا شرقية ولا غربية ـ وهذا ما اتفقت عليه الناصرية والحاكمية معا !! ليست دولة رأس المال ولا العمال ، وإنما دولة الجميع ... ليس بمعنى "دولة الشعب" بالمفهوم الديمقراطى ... لأنها غير مبنية على رغبات الأفراد ومصالحهم .. حتى من الناحية النظرية ، وإنما هى مبنية على حق مجرد ، حق عام عقيدة - وطن أو دين - تسمو فوق الأفراد ... ومن ثم يحق لها قمعهم ... ولكنها لا تسمو طبعا فوق النخبة التى تمثل هذا الحق المجرد ، وتتكلم وتحكم باسمه .
2 - وهى ثانيا أيديولوجية دولتة ، تختزل المجتمع بأكمله فى محض جهاز الدولة ، ذلك الجهاز الذى تُنسب له فى هذه الأيديولوجية قوة سحرية قادرة على الإتيان بالأعاجيب ، خيرا وشرا ، حسب الإرادة التى توجهه . فوفقا لهذه الأيديولوجية يعم الخير بمجرد أن تسكن الهوية التى تمثلها الإنتليجنسيا جسد الدولة ، ومن هنا فإن سبب كل الشرور قبل هذه اللحظة "المباركة" هو فساد الدولة ، الذى يعتبر نتيجة لكونها محطا لمطامح الطبقاتالتى تقودها . وبمعنى آخر، فإن طبقية الدولة مسألة يُنظر إليها على أنها عيب كامن فى الدولة القائمة ، ويمكن إلغاؤه فى دولة مقبلة ، بالضبط لأن هذه الطبقية ليست سوى فساد وانحراف فى نظر الإنتليجنسيا ، التى ترى نفسها كتجسيد للدولة ذاتها ؛ مفهوم الدولة الحديثة : الدولة كحكم عادل ، كجهاز محايد ، لا ينتمى لأى طبقة اجتماعية وليست له مصلحة خاصة .
وهنا تدخل أفكار "النهضة" الوطنية أو الإسلامية ، مفهومة كعملية عقلية حسابية تقوم بالضبط على تجرد وانتماء الصفوة التى تقود الدولة باسم الهوية ؛ النهضة كعمل سياسى تخلقه الدولة ، وتوجه الجماهير للانخراط فيه ... وهى السمة التى طبعت المشروعات النهضوية المصرية الكثيرة للغاية ، والتى تفترض كفاية الذكاء مع الإخلاص للهوية ، بمعزل عن السكان الذين يصبحون محض مادة النهضة التى تخطط لها الدولة .
ومن هنا تدور جميع مشاريع النهضة الإنتليجنسوية على اختلافها حول مفهوم الدولة التدخلية القوية ، التى تمارس السلطة على السكان ، الذين لا يتعدى دورهم كونهم محض مادة النهضة ، وقد يقال أيضا أنهم هدفها ... ولكنهم ليسوا صانعوها ولا أصحاب القرار فيها .
ولعل هذا المفهوم بهذا الشكل قد تبلور بأصرح وأوضح شكل فى مصر على يد سلامة موسى، الذى أنتج خلطة فكرية من ما أسماه الاشتراكية ونزعة عرقية شبه فاشية (أسماها نظرية السوبرمان) ، قدم من خلالها فكرة دولة عقلانية تماما ، تدير المجتمع بأكمله وفقا للعقل ، كوحدة واحدة لا تتجزأ ، وبشكل فوقى فاقع . وهى الفكرة التى نجدها دوما ثاوية فى أحلام النهضة الإنتليجنسوية ، بعد كسائها بمفهوم الهوية سواء كانت هوية قومية (مصرية / عربية) أو إسلامية .
3 - الأدلجة : تستدعى الأيديولوجية النخبوية الدولتية بالضرورة عملية أدلجة للواقع تحصر المجتمع فى إطار الدولة ، التى هى أم الإنتليجنسيا المصرية وتخصصها الرئيسى ، ثم تحصر مشكلة الدولة فى إطار مسألة صلاحية النخبة ، حاملة الفكرة ، وهو ما يتطلب "أدلجة" مفهوم المجتمع بواسطة مفهوم الهوية ، وهى عملية تمر بثلاث لحظات منطقية :
أ - التجريد : وهى العملية التى تجرى بواسطتها بناء الهوية .. فالهوية عبارة عن تجريد قسرى وقمعى للخصوصيات فى خصوصية بعينها ، ولتكن الخصوصية القومية أو الدينية ، تضفى مظهر الوحدة على الأفراد ، بإلغاء الخصوصيات الأخرى ، أو دفعها إلى مستوى أدنى لا يهدد الوحدة الإدماجية . وليست المسألة هى استبعاد الخصوصيات الأخرى ، ودفعها خارج المستوى السياسى فحسب ، ولكن أيضا تقليم الخصوصية المختارة ذاتها ، فيجرى إغفال الخصوصيات الإقليمية فى حالة بناء الهوية القومية ، والاختلافات العقيدية فى حالة الخصوصيات الدينية ، وتضخيم الفوارق مع من يجرى استبعادهم من الهوية المختارة ، القومية أو الدينية . وتُستخدم الدعاية الأيديولوجية لتنميط الوعى وفقا للخصوصية المختارة ، فضلا عن استخدام السلطة ـ سلطة الحزب أو الدولة ـ لتنميط حياة الناس وفقا لمدلول الهوية المطلوب صناعتها ، بالطقوس والأوامر الأخلاقية أو الإدارية ، والمراقبة والتنظيم . وفى ذات الوقت يجرى الدفع بهذه الخصوصية إلى مقدمة المسرح السياسى ، بوصفها هى مبرر الحكم الشرعى الوحيد، الأمر الذى يتطلب إقصاء المعارضين خارج نطاق الهوية المذكورة ـ وهو ما ينقلنا إلى اللحظة الثانية :
ب ـ التمايز الأيديولوجى أو الأداتية : وهى تحويل الهوية إلى ساحة حرب سياسية . فالفكرة تتحول إلى مبدأ للسيادة والهيمنة ، وتجرى لها عملية تقديس ، أى عزل عن التناول الموضوعى ، لتصبح مبدأ قيميا ، يدور حول ثنائية الخير/ الشر . فالمدافعون عن الهوية المختارة هم أنصار الخير ، حملة العقيدة ، رسل الحق ، فى حين يتحول رافضوها إلى خونة ، أشرار ، متآمرون .
خصوصا متآمرون ... فنظرية المؤامرة هى أخت نظرية وحدة الحقيقة ، وهى أكثر الأدوات فعالية فى طمس الواقع وإخضاعه للثنائية البسيطة لأيديولوجية الهوية ... فحاملو الهوية لا تكون بينهم خلافات .. وإذا اتضح أن هناك خلافات - وهى مسألة طبيعية ناتجة عن قيام جماعات عديدة بتحميل مضامين اجتماعية بل وسياسية مختلفة على ذات مبدأ الهوية - فهى تفسَّر على أنها خلافات فكرية محضة، تنوع فى الآراء نابع عن تقديرات مختلفة لمصلحة الهوية . فإذا لم يمكن التوفيق بين الأطراف ، أو فشلت هذه الأطراف فى إخضاع بعضها للبعض أيديولوجيا لاستعادة الوحدة ، ينقل كل طرف الآخرين إلى معسكر أعداء الهوية .. الأشرار ، ويجرى إلحاقهم بنظرية المؤامرة .
والأطراف الأخرى يجرى أيضا دمجها ، وطمس ما بينها من خلافات ، وإظهار هذه الخلافات على أنها ثانوية ، أو حتى مجرد تمثيلية ، الغرض منها الخداع، وإخفاء المؤامرة "الحقيقية" ضد مبدأ الهوية المختار . أما الأطراف التى طُردت من معسكر الهوية ، فقد كانت فى "الحقيقة" إياها أطراف عميلة للأعداء ، متسللين أرادوا أن يضربوا المبدأ من الداخل !!
جـ - الأدلجة وانحطاط الفكر : أدلجة السياسة تستتبع أيضا أدلجة الفكر .. فالانطلاق من الفكرة لتبرير مشروع حكم نخبوى - دولتى يرفع الفكرة إلى مرتبة الأساس للنشاط السياسى ، ويجعل الدفاع عنها قضية سياسية بالمعنى المباشر قبل أن تكون مسألة نظرية . وأيديولوجية الهوية بتناقضاتها وتهافتها بالذات ، تظل فى حاجة إلى إخفاء هذا التناقض والتهافت بتكوين شعارات وأفكار لا تنتهى ، محاولة منها لإدماج الفكر بمجمله فى مشروعها السياسى . فاحتكار الأيديولوجيا/ الفكر هو المدخل الضرورى لنجاح المشروع السياسى لأيديولوجية الهوية فى طبعتها الإنتليجنسوية .
ومن هنا لا تتورع الإنتليجنسيا المصرية عن استخدام أية فكرة وتسخيرها كالعبد للدفاع عن الهوية التى تتبناها ، يستوى لديها فى ذلك النظرية الماركسية أو الليبرالية ، أو أفكار التنوير والعقل والتطور والعلم .. فالعلم ذاته تستخدمه الإنتليجنسيا التنويرية كفزَّاعة ، ككارت إرهاب تخيف به أعدائها وتوجه لهم بموجبه الاتهامات ، وتعلى من شأن هويتها ، وتبرهن على أهميتها وضرورتها .
وبنفس المنطق تتناول الإنتليجنسيا أى فكرة مطروحة ، لتزنها مباشرة بميزان المصلحة ، لا العقل .. بمنطق سلطوى ، يتعقب آثار الفكرة ، من حيث مدى تأثيرها على وضعها أو ، بالعكس ، وضع خصومها ؛ أثرها على توزيعات السلطة، وما قد تقدمه من امتيازات للبعض . وهو مسلك موجود بمختلف المستويات بين جميع أوساط الإنتليجنسيا ، وليس الفئة المثقفة فحسب . وبالمقابل فهى بارعة فى اقتناص الأفكار التى تؤيد مصالحها ، يستوى فى ذلك أن تكون "محلية" أو "مستوردة" ، فأفكار العقل الأوربية ذاتها تستورد هنا لتصب فى قوالب المصالح ، ويجرى تشذيبها بما يتناسب معها .
فباستثناء صنم الهوية المقدس ، تُستخدم جميع الأفكار الأخرى براحة تامة ، للدفاع عن الصنم ، أو لهدم الأصنام المنافسة أو حتى تبرير أتفه وأضيق المصالح وانحناءات السياسة ، بل والنفوذ الشخصى وملابساته .
ومن هنا يتخذ الصراع الفكرى فى مصر مظهر صراع قيمى أخلاقى مزيف ، يدور حول الحدود الفاصلة بين أيديولوجيات الهوية ، حول التمجيد والإدانة ، حول خدمة عملية الحشد وراء الهوية المرغوبة وزعزعة حشود الهوية العدو وكل فكرة أخرى من شأنها توجيه سهام النقد لأيديولوجية الهوية المختارة .
لهذا السبب الجوهرى - سيادة أيديولوجيات الهوية وإخضاع الفكر لها - لا يوجد فى مصر حتى الآن فيلسوف واحد ، ولا مجدد وحيد فى مختلف العلوم الإنسانية ونظرياتها ، ولا يوجد فى هذه المجالات حوار حقيقى حتى داخل أسوار الجامعة ، حوار علمى يدور حول مطالب الاتساق المنهجى والقدرة التفسيرية . لقد وصل الأمر إلى أننا أصبحنا نسمع عن أسلمة العلوم ، وهو توجه منقطع النظير ، فشلت فى مجرد التوصل للتفكير فيه أيديولوجية الهوية الفاشية أو النازية نفسها .
وفى ظل هذا الوضع تنزوى الأعمال العلمية ، ولا تحظى بترحيب أو اهتمام يذكر ، لا فى المجال العام ، ولا حتى فى أوساط الإنتليجنسيا ذاتها ، كما تدل على ذلك صحفها ومجلاتها . فالمطلوب هو ما يمكن أن نسميه "الكلام من حيث المبدأ" ، تلك الاستراتيجية العقيمة التى يمكن أن تصلح وصفا لكل ما قلناه عن الأدلجة ، والتى لا تنطلق من أى أفق منهجى ، بل وترفض مثل هذا الأفق ، لتنشغل بالإدانة والتمجيد ، فى إطار سعيها المحموم لوضع الفكر فى القنينة الضيقة للهوية ، فالكلام من حيث المبدأ هو كلام حول هوية الفكر ، لا مضمونه .
وبالنجاح فى الأدلجة تكون الإنتليجنسيا قد نجحت فى بناء أيديولوجية نخبوية تختزل المجتمع فى الهوية ، والهوية فى الدولة ، والدولة فى النخبة حاملة الهوية ، فى دائرة مغلقة ، تكرس فى النهاية سلطتها النابعة من وضعها الإدارى والمعرفى معا
سوف يستعرض هذا الجزء الطويل والأخير أيديولوجيتى الهوية الرئيسيتين فى مصر : الوطنية والحاكمية (الإسلامية) ، بهدف الكشف عن منطقهما الداخلى وعلاقتهما بوضعية فئات من الإنتليجنسيا المصرية ، والأزمة التى تعتورها ، كما سيشمل محاولة أولية لتلمس مدى وجود اتجاهات موضوعية لتجاوز أيديولوجيات الهوية بمجملها ، بكل ما تنطوى عليه من تقديس ، لا للهوية فحسب ، بل للإنتليجنسيا التى تحملها ، والفكر التبريرى الذى يُكرسها ، ولجهاز الدولة .
مفهوم الانتليجنسيا
لا شك أن أيديولوجية الحاكمية هى أيديولوجية الهوية بامتياز ، فهى ، على خلاف الأيديولوجية الوطنية مثلا ، لا تشير إلى واقع اقتصادى أو تاريخ ثقافى أو اجتماعى ، وإنما تنطلق من المطلق مباشرة ، من الكلام باسم اللـه ، لتبرر لنفسها وتبرر مطالبها بإخضاع مجمل السكان لأحكامها ، وتدعى لنفسها أبعادا عالمية فوق الجنس والوطن واللون والعرق .. وتبرر لنفسها أحقيتها وامتيازها ، بالضبط بفضل هذا الانفصال الجذرى .
وفى تكامل واتساق مع اغترابها الفكرى ، لا تستند أيديولوجية الحاكمية إلى دولة قائمةبالفعل ، وتقدم - فى صيغتها الراديكالية - رفضا مطلقا لفكرة الدولة الوطنية فى حد ذاتها .. ولكنها تظل أيضا أيديولوجية متمردة فى صيغتها الإصلاحية ،بقدر ما أنها ترغب فى إلباس الدولة القومية ذاتها ثوبا إسلاميا عقائديا عالميا بطبعه ، وذلك كله على خلاف الأيديولوجية الوطنية التى تعانى سكرات الموت منذ أن نجحت فى بناء دولتها الوطنية المخيبة الآمال ، على نحو ما سنرى .
وفى ظل الأزمة العميقة للإنتليجنسيا المصرية ، من المفهوم أن تصبح الهوية الحاكمية محور الصراع الأيديولوجى الراهن ، وأن تدفع أيديولوجية الهوية الوطنية، المذهولة من عنف الصدمة ، إلى حائط المبكى . وبدلا من لعن "الزمن القومى الردئ" ، سوف نحاول هنا أن نلقى الضوء على بنية هذه الأيديولوجيا وأقسامها المختلفة :
1 - تقوم أيديولوجيا الحاكمية بتحويل التقسيم الطبيعى للبشر إلى مؤمنين بعقيدة ما وكافرين بها إلى مبدأ سياسى ، وتُسقط طبعا فئة غير العارفين بها أو غير المبالين ، لتضمهم اسميا إلى معسكر الكافرين ، لتخلق متاريس ثنائية بسيطة ذات طابع قتالى . ويترافق مع هذا التقسيم صياغة نموذج تربوى كامل ، يهدف إلى تنميط المؤمنين من ناحية ، وتمييزهم جسديا "بالملبس" وسلوكيا "بعشرات القواعد التمييزية" ، فضلا عن تعبئتهم بعقيدة الحاكمية ، التى تنطوى أيضا على تمييزهم بحمل الرسالة الإلهية "الصحيحة" فى نظرهم ، وبالتالى إشعارهم بدرجة من "الاستعلاء" والتفوق الجوهرى على البشر ، والاستغناء عن أية أفكار أو أيديولوجيا أو قيم أخرى ، ونبذ الحاجة إلى التفاعل مع الواقع الاجتماعى اكتفاء بمهمة إخضاعه .
2 - ومن هنا فإن أيديولوجية الحاكمية هى بالضرورة استراتيجية سياسية تقوم على التكفير .. لا تقوم عليه فى شن الحرب على الخصوم فحسب ، وإنما تقوم عليه فى منطق الدعوة ذاته . وهكذا يقال للمرشحين للتجنيد فى صفوف الحركة :أنت لا تصلى ، أو أنتِ متبرجة ، أو (وهو المهم) أنت وأنتِ لا تجاهدان فى سبيل اللـه ولا تسعيان لإقامة شرعه .. إذن فأنتما كافران (المتطرفون يقولون) أو فاسقان (المعتدلون) .. ولكى لا تكونا كذلك عليكما أن تطيعا اللـه (على النحو الذى أقول أنا به) وتفعلا كذا وكذا وكذا ، وخصوصا أن تشتركا فى المهمة المقدسة (التى أقوم أنا بها) وهى إقامة حكم اللـه .
غير أن ثمة خدعة هنا .. فهذا المنطق هو فى الواقع منطق سلطة ، ومنطق تجنيد سياسى ، ومنطق إلحاق بجماعة ، يقوم على إرهاب فكرى ، وليس مجرد منطق تكفيرى . لأننا إذا أمعنَّا النظر فى المسألة ، سنجد أن هذا المنطق لا معنى له بالنسبة لغير المؤمنين أصلا بالإسلام ، أو حتى بالنسبة للمؤمن غير المهتم ، سواء لامتلاكه لقناعات واضحة بالنسبة للدين ، أو لاندماجه فى سياقات أيديولوجية مختلفة . هذا خطاب لا معنى له إلا بالنسبة لهؤلاء المؤمنين ، الراغبين بالفعل فى الانتماء لهوية عقيدية نقية ، الحائرين ، الواقفين خارج النطاقات الأيديولوجية القائمة ، والباحثين أصلا عن دور ومكانة . وهذا ما يوفره لهم خطاب التكفير ، إذ يمنحهم اتجاها وهدفا ، و"يرحمهم" من حيرة فهم أزمة معقدة والتعامل معها ، والأهم من ذلك : يمنحهم سلطة .
3 - ولكن عليهم بالمقابل أن يقدموا الطاعة والولاء ، طاعة الفقيه/ القائد السياسى ، الذى كان له فضل "تنوير" أذهانهم "بحقيقة الدين" وكشف "طريق الحق" لهم . وهذه الطاعة وهذا الولاء لا يقفان عند حد معرفة المبدأ ، وإنما يمتدان بالنسبة لأغلبية الأعضاء إلى مجمل ممارساتهم ، التى ترشحهم طبعا للترقى فى التنظيم . والسبب الأعمق لذلك هو أن أغلبية الأعضاء عاجزين عن تملك مفاتيح التفسير ، أى لا يمتلكون أدوات إنتاج وإعادة إنتاج الخطاب وفكه وإعادة تركيبه، فى حين أن آلية العمل السياسى/ العقيدى تتطلب باستمرار إعادة أدلجة وفقا للظروف المتغيرة والتكتيكات السياسية ، بين الهجوم والدفاع والتحالف والمهادنة، بالإضافة إلى متطلبات نمو التنظيم وتوسيع مهماته .. وجميعها تتطلب - انطلاقا من أيديولوجية الطاعة/ الحاكمية - إعادة تأويل أو "اكتشاف" للنص .
ومع ذلك ، يحصل هؤلاء الأتباع ، فى مقابل الطاعة ، على اليقين بأنهم على حق ، بضمانة الفقيه/ القائد ، وبالتالى على إعادة إنتاج مستمرة للشعور بالسمو والتفوق الناتج عن ارتباطهم - عبر التنظيم - بالحقيقة المطلقة ، وبالتالى الحق فى قيادة العالم ، والشجاعة فى مواجهته ، وتجنيد أفراد آخرين ، يدينون لهم بدورهم بالطاعة ، ليكون لهم من الألوهية نصيب . وبصفة خاصة سوف يسهل عليهم - بقناعة مطلقة - أن يطالبوا غير المتعلمين ، الذين يقفون خارج هذه الآليات الخطابية تماما ، بالطاعة المطلقة والانصياع التام لممثلى المبدأ ، للإنتليجنسيا المطلعة على "حقيقة الدين" .. حاملة مفاتيح الجنة !!
4 - وعلى المستوى السياسى يكون المطلب الأول لأيديولوجية الحاكمية/ الطاعة هو منح هذا المبدأ قدسية مطلقة ، ولكن واقعية ، بمنع نقده أو السخرية منه أو الخروج الصريح عليه .. لأن "حقيقته" لا تكمن إلا فى قدسيته ، ومن ثم فإن تهديد هذه القدسية يعنى حرمان الفكرة من تعاليها على أى فكرة أخرى ، وبالتالى ضرب الاستعلاء الواقعى لحاملى الفكرة .
ومن هنا ضرورة تكفير كل أيديولوجية أخرى ، كل ما هو علمانى أو شبه علمانى أو حتى معادٍ للحاكمية ، وفقا لتبريرات دينية . ولكن ليس بنفس الشراسة تجاه الجميع .. فنقد الحاكمية من داخل الإطار الدينى يمثل تهديدا أكبر من نقدها من خارجه ، بالضبط بسبب وجود أرضية مشتركة ، كفيلة بحرمان قادة وجيش الحاكمية من احتكار الكلام باسم الإسلام كأيديولوجية سياسية ، وبالتالى نفى مبرر وجودهم ، وإشاعة الاضطراب داخل المعسكر الحاكمى () .
أما مواجهة العلمانيين الصرحاء فمسألة تأتى فى الدرجة الثانية من أولويات الصراع الأيديولوجى ، ويتم بصفة خاصة إطلاق نار التكفير على من يعادون منهم الحاكمية صراحة ، والأهم من ذلك ترسيخ القناعة بين أتباع الحاكمية والجمهور بعدم جواز الحوار مع هذه "الأيديولوجيات الكافرة" ، أو مناقشتها أو الإطلاع عليها . ومع ذلك فنار التكفير - المدعومة بالعنف المسلح أيضا - لن تطلق بتركيز إلا على الأيديولوجيات العلمانية التى تنجح فى اجتذاب جمهور محترم من الإنتليجنسيا ، ومن ثم تهدد بسحب البساط من تحت أقدام تنظيمات الحاكمية . والأولوية هنا أيضا تكون للعدو الأقرب ، أصحاب أيديولوجيات الهوية المضادة ذات الطابع المشابه : النخبوى/ الدولتى .
ومن هنا نفهم لماذا كان عداء الإخوان لحزب الوفد العلمانى شديدا ومتواصلا ، فى حين وصلت علاقتهم بالأحرار الدستوريين ، الذين لم يكونوا أقل علمانية ولكن المحرومين من الشعبية وسط صفوف الإنتليجنسيا المصرية ، إلى حد التحالف أحيانا .
5 - غير أن سيادة أيديولوجية الحاكمية/ الطاعة تتطلب أيضا - بحكم كونها "الحقيقة" الوحيدة ، لاتصالها بالمطلق - تصفية الساحة الأيديولوجية تماما من كل أيديولوجية أخرى ، وهو ما يجرى ببساطة عن طريق توحيد كل الأيديولوجيات الأخرى بوضعها معا فى مبدأ هوية سلبية مضادة ، تحت مقولة الجاهلية . وإذا كانت هذه الكلمة لا تستعمل كثيرا الآن ، فإنها موجودة بكامل مضمونها فى فكرتها العملية المقابلة ، فكرة "المؤامرة العالمية ضد الإسلام" . وهكذا يجرى تبسيط كل الأيديولوجيات الأخرى ووضعها معا فى "قفة" الجاهلية/ المؤامرة ، أى النظر إليها ، لا من حيث مضمونها ، ولكن من حيث هى معادية للحاكمية ، أى كمبدأ هوية سياسى مضاد. ليس لأى منها تميز خاص ، لأنها ليست سوى أشكال مختلفة "للمؤامرة العالمية" لا غير () .
وبالتالى ليست هناك أية أيديولوجية سوى الحاكمية ، لأن الجاهلية ليست فى الحقيقة سوى حاكمية مقلوبة ، أى رفض إيجابى المظهر لفكرة الحاكمية . واتساقا مع هذه الاستراتيجية يقال أيضا - المتطرفين بالذات - أن الجاهليين يفهمون الإسلام كما يفهمه الحاكميون تماما ، كل ما فى الأمر أنهم يرفضونه لأنهم أشرار، أو لأن نفسيتهم منحرفة ، أو لأنهم يكرهون الحق ، وبالتالى فهم لا يملكون أية أفكار أصلا ، لأن أفكارهم ليست سوى أغطية مختلفة متنوعة لرفضهم "للحق" ، وبالتالى يصبح المطلوب ليس مناقشة الأفكار ولكن الكشف عن "حقيقتها التآمرية" على الإسلام ، وتعرية "النفوس المريضة" للمدافعين عنها !!
6 - غير أن التكفير ، بوصفه أساس استراتيجية الحاكمية ، ليس مجرد أداة دفاع ، بل أيضا أداة هجوم ، بل الأداة الجوهرية لتحقيق الوجود والفاعلية . فمواجهة الإيمان للكفر هو المظهر الضرورى لوجود الحاكمية على الساحة السياسية العامة ، بالضبط لأنها أيديولوجية مجردة . ومن هنا ميل الحاكمية إلى صناعة صورة أعدائها والتهويل من شأنهم وخطرهم ومنحهم أهمية جوهرية . فموضوع "البابية والبهائية" الذى انفجر منذ سنوات ، وبعده موضوع "آيات شيطانية" (رواية سلمان رشدى) سرعان ما استقطبت جهودا رهيبة للحشد والتعبئة والرد والشتم ، حتى ليخيَّل للسامع أن الموضوع - الذى لا يعرفه أصلا - وصلت خطورته إلى حد كفيل بمحو الإسلام محوا من الوجود !!
كذلك فإن إعمال التكفير والقتل للمخالفين - بدعوى "الردة" - تلقى من الحاكميين تلذذا عظيما ، يدل على مدى تعطش أشداقهم للدماء ، ليس كعيب أو انحراف فيهم ، ولكن كأمر طبيعى يتسق مع مبدأ سلطوى عنيف مكظوم ، تمثل له هذه الأحداث جوا للتنفيس ، ورمزا للسلطة المنشودة ، فضلا عن دورها فى خلق "أبطال" يتفق وصفهم مع الشراسة الحاكمية المميزة .. فالقتل سلطة ، بل هو أعلى سلطة وأقوى مظهر لسلطة الدولة .. احتكارها لحق الحياة والموت . والقتل أيضا هو الصورة المثلى التى تتجسد فيها ثنائية الكفر والإيمان ، فى أقوى ثنائية طبيعية : الموت/ الحياة.
ومن هنا لا تصبح استتابة الكافر نهاية المطاف .. فلا بد منمزيد من التنكيل، بل وتشير الوقائع إلى أن الخضوع لمنطق الاستتابة يقدم لهم ضحية ضعيفة تتيح لهم التفنن فى التنكيل .. وهذا درس للمستقبل .
هنا تكتمل نظريا وواقعيا أدلجة الإسلام () فى مفهوم الحاكمية الحديث ، أى يكتمل إدماج الهوية بالدولة بالنخبة الإنتليجنسوية حاملة مفهوم الهوية الإسلامية السياسى ، ويستكمل مفهوم الهوية الإسلامية بنيته الأيديولوجية القمعية .
ومع ذلك ، فهذه الصلابة التى تبدو بها أيديولوجية الحاكمية ليست سوى صلابة ظاهرية، صلابة سور حجرى لا تكمن خلفه أية تحصينات ولا مواقع استراتيجية ذات أهمية .. وهذا بالضبط ما يجعل الحاجة ماسة للدفاع المستميت عن هذا السور ، فهو خط الحياة والموت ، الوجود والعدم .. لاستراتيجية ليس لها من مضمون سوى الهوية .. الهوية فى حد ذاتها ولذاتها .
1 - ليست الحاكمية سوى أيديولوجيا حديثة جدا من أيديولوجيات الهوية ، فمهما قيل عن استقائها من تراث تجربة عمرها ألف وأربعمائة عام ، أو انتمائها لتراث من "السلف الصالح" من غلاة الحنابلة ، فإنها تدور وجودا وعدما حول المفهوم الحديث للدولة ، وفى أقصى أشكاله تدخلية أيضا .. الدولة كجهاز إدارى مجرد ، يمارس رقابة شاملة على السكان بوصفهم أفرادا ، "دولة الشعب" ، التى أصبح اسمها دولة المؤمنين أو الدولة الإسلامية فى كتاباتهم . مهمتها التصدى للغرب ولإسرائيل ، وفقا للأطروحة القومية التقليدية ، وإقامة "العدل" وفقا لأيديولوجيات الإصلاح الاجتماعى .. وغير ذلك من المهمات التى تفترض جميعا وجود آلية البيروقراطية الحديثة والفرد الحديث . ومن ثم فهى تتطلب إدارة مجمل الجهاز المعقد للدولة الحديثة بمختلف آلياتها ، وبالتالى الوقوع فى "مستنقع" غير إلهى بالمرة ، يتمثل فى مجمل الصراعات والمصالح الواقعية التى تغيب غيابا تاما عن أفق المبدأ المجرد . وبمجرد طرح هذه المشكلات الواقعية سوف تظهر حاكميات عديدة ( بل هى موجودة منذ الآن على نحو ما سنرى) ، تعبر كلها وبشكل متناقض عن "إرادة اللـه"!!
إن دولة قمعية للغاية ، واسعة الصلاحيات بشكل مهول ، مثل دولة الحاكمية ، لا يمكن أن تتركها الطبقات الاجتماعية الأساسية تمارس سلطتها من موقع الاستعلاء المطلق دون تدخل قوى ، بكافة أشكال التدخل ، لتحويل دفة "إرادة اللـه - الدولة" لصالحها ، بما فى ذلك استخدام مختلف التفسيرات الفقهية الممكنة ، بل ولا يمكن فى الواقع تصور ممارسة هذه الصلاحيات بغير إثارة مجمل التدخلات الاجتماعية التى تتيح لآليات التدخل البيروقراطى أن تعمل .
وليس لأيديولوجية الحاكمية سوى طريقين فى التعامل مع هذا المأزق ، فإما أن تعيش على هامش الحياة السياسية ، وترفض الخوض فى المشكلات الجوهرية التى من شأنها تحطيم وحدتها ، وتؤكد وتعيد التأكيد على وحدة مبدأ الحاكمية - ومثال ذلك الأطروحة القطبية (أطروحة سيد قطب) - وبالتالى تركيز الجهود على مسألة الإطاحة بالدولة من الخارج ، ومن هامش الحياة السياسية..
وإما أن تندرج فى النشاطات الاجتماعية والسياسية وتبدأ فى تحديد مواقفها، وتخاطر مع كل نجاح جديد بتفتيت وحدتها بالخلافات المثارة حول المشكلات الواقعية .. وهو طريق الإخوان ، الذين ما زالوا يتحركون بحذر شديد من أجل تركيز الدعاية حول المبدأ العام ، وتنحية الخلافات العملية جانبا ، وإظهار هذه الخلافات ، لأنصارها قبل أعدائها ، على أنها مجرد خلافات فى الرأى حول أفضل سبل "خدمة الحاكمية" .
وفى مواجهة عناصر التشتت ، ثمة عمل مستمر لخلق الشعور بالهوية من خلال العديد من أنماط الملبس والسلوك والآداب . ولكن حتى هذه نفسها سرعان ما تفقد فاعليتها السياسية ، بالضبط بقدر انتشارها .. فمن وراء "الحجاب" المنتشر فى أوساط "المرأة المسلمة" تتصاعد التمردات ، وترقى إلى صياغة تفسيرات فقهية تتبنى بعضا من مطالب تحرير المرأة .. وهذا فقط على سبيل المثال .
2 - ومع ذلك ، فهذه الحاكميات لا تقف فى فراغ اجتماعى أو تاريخى ، وإنما هى التعبير الحى الحاضر عن أزمة التحول التى تمر بها الإنتليجنسيا المصرية ، منذ سقوط عهد الرشوة الناصرية للإنتليجنسيا بالوظائف والترقى السريع فى جهاز الدولة وفرص التعليم . فبينما تقلص جيش الإنتليجنسيا الإسلامية بشدة مع نجاحات النظام الناصرى ، ليقتصر على الفئة القليلة التى هُزمت فى معركة السلطة مع "الضباط الأحرار" ، عاد ليتوسع بشكل متزايد مع تقلص الرشوة الناصرية ، والتخلى العملى عن قصويات شعار الهوية الوطنية مع الهزيمة ، لتؤول قيادة أيديولوجية الإنتليجنسيا: الهوية - الدولتية - النخبوية ، إلى التيار الإسلامى الحاكمى .
لقد ناءت الدولة الوطنية بأعباء هذه الإنتليجنسيا ، واندفعت فى اتجاه تخفيض الرواتب فعليا (بالتضخم) وتقليص تعيين الخريجين ، برغم أنها ما زالت تتحمل أجور عدد وافر من الزائدين عن حاجة العمل . ليس هذا فحسب ، فالأكفاء لا محل لهم وسط هذا التزاحم الهائل .. والانفتاح ، أى التحول نحو آليات السوق ، فتح الباب أمام تعويض الأجور المنخفضة بالفساد .. والطبقة الصاعدة "الجديدة" ، التى أُشير لإرهاصاتها منذ منتصف الستينات ، من رجال الأعمال ، انشغلت وقتا طويلا بترسيخ أقدامها ، غير ملتفتة للسخط المتراكم فى هوامش الإنتليجنسيا المصرية .
3 - وفى ظل هذا الوضع انطلق سخط ما يمكن أن يسمى "الإنتليجنسيا الرثة" التى تعيش فى الإحياء العشوائية ، أو القادمة من الريف ، لتعانى جوا متوترا لا يبشر بمستقبل ، فى حين أنها ما زالت تشعر بتميزها فى مجتمع ما زالت تغلب عليه الأمية ، خصوصا فى المناطق التى وفدوا منها ، وتستشعر بالطبع وطأة توتر بالغ بين طموحاتها - المبررة فى نظرها - وبين واقعها .
ومن الطبيعى أن تؤدى الحياة الاجتماعية الهامشية التى يعيشونها إلى الخروج على "الأعراف السياسية" ، على مجمل المسلمات التى استقر عليها المجتمع السياسى الذى نجا من السقوط فى مستنقع الهامش . ليس حمل السلاح فى مواجهة السلطة بأمر غريب عمن يعيشون بالذات فى الأحياء العشوائية ، حيث تغيب فعليا سلطة الدولة ، وخدماتها أيضا ، وحيث الخروج على القانون عرف يومى يمارسه جميع المهمشين من سكان هذه المناطق . والتكفير هنا يصبح أمرا طبيعيا .. فهو لا يعنى أكثر من رفض مكثف لوضع "كافر" بطبعه .
وثمة طبعتين مختلفتين من أيديولوجية التكفير الراديكالى تنبعثان من هذا الوضع .. الأولى هى الطبعة الانعزالية (على نمط جماعة التكفير والهجرة) ، حيث تصبح الهامشية الاجتماعية مقدسة فى حد ذاتها ، ودليل طهارة ونقاء ، وحيث يمكن بناء مجموعة القيم وأنماط الحياة التى تتسق مع النزعة الانسحابية المتطرفة .. ويصبح الإخلاص لمبدأ الحاكمية المجرد ، وبغير أى احتكاك اجتماعى وسياسى يذكر ، أمرا ممكنا . ومن هنا يصل التكفير إلى أقصاه ، ليشمل ، ليس الدولة والمجتمع فحسب، بل أيضا الطبعات الأخرى من الحاكمية .
أما الطبعة الجهادية فترتقى بأفقها إلى الانطلاق من الهامش للاستيلاء المباشر على السلطة ، وإقامة الدولة الإسلامية بالعنف فى مواجهة "الطاغوت" . وهى فى استراتيجيتها هذه ليست فى حاجة إلى تكفير المجتمع ، فيكفيها تكفير الدولة وتكفير كل أيديولوجية سياسية أخرى ، رامية إلى الاستيلاء على هذا التركيز الهائل للتنظيم والمال والسلاح ، المسمى جهاز الدولة ، والاستفادة منه فى عسكرة المجتمع والاندفاع نحو أوهام "أسلمة العالم" بالقوة .. ومن هنا فهى خالية الذهن تماما من مسألة إدارة المجتمع وتناقضاته .. فتلك أمور تخص المستقبل .
ومن خلال هذا الموقع المتطرف على هامش المجتمع تستمد أيديولوجية الحاكمية (بما فى ذلك الجناح المعتدل) ثقلها السياسى المباشر ، كأيديولوجية إنتليجنسوية .. فمن خلال الإرهاب ينتزع الجناح المعتدل ذاته التنازلات من النظام لصالح الإنتليجنسيا غير الرثة التى تحتمى فى جدران النقابات المهنية مثلا .. ناهيك عن "المبادرات" الحكومية لتنمية الصعيد وإصلاح الأحياء العشوائية ، والتى لا تجد دافعها الأساسى سوى فى الإرهاب تحديدا .
إن مبدأ الحاكمية بالشكل الكامل الذى وصفناه هو نتاج هذه الإنتليجنسيا الرثة ، التى تعانى الآن من مشاكل أمنية هائلة فى مزاولة نشاطها ، والتى تعانى فوق ذلك من تقلص تدريجى لعضويتها ، بسبب التكلفة البشرية العالية ، وبسبب الفرص الجديدة التى أتيحت للإنتليجنسيا خارج مسار جهاز الدولة أصلا ، فى القطاع الخاص الجديد ، وفى العمل لدى الدول العربية ، وبالتالى تراجع الرفض المطلق للنظام بالنسبة لها . إن الحاكمية الراديكالية لا محل لها سوى فى قلوب المهمشين .. ومن هنا فشلها فى اجتذاب أية فئة أو طبقة اجتماعية رئيسية لمشروعها . وأقصى ما يمكن أن تأمل فيه أن تشارك فى كعكة السلطة مع الجناح غير الراديكالى فى حالة اضطراب هائل للنظام السياسى . ولكن حتى هذه الحالة "المتفائلة" ، لن تكون سوى حالة انتقالية ، حيث سيتطلب الأمر "ذبحها" ، بسكين إسلامى هذه المرة () ، على يد الجناح الأكثر قوة وفاعلية سياسيا واجتماعيا : الإخوان .
4 - ذلك أن "الإخوان المسلمون" حركة سياسية وثيقة الصلة بأجنحة من الطبقة المالكة ، ومن ثم بالنظام ، وبالدولة الوطنية من حيث المبدأ . فالدولة الإسلامية التى ينتظرها الإخوان ليست دولة أممية ، ولا عالمية ، وإنما هى الدولة القائمة ذاتها مع صبغة إسلامية قوية بدرجة أو بأخرى . فإيديولوجية الحاكمية هنا، بعد التخلص من الجناح المسلح ، جرى تكييفها وإعادة دمجها فى الأيديولوجية الوطنية ، ولكنها تظل مع ذلك أيديولوجية تكفير - بدرجات مخففة لا تشمل المجتمع ككل ولا الدولة - تعمل على احتكار الساحة الأيديولوجية تدريجيا ، وتجتهد فى ابتكار "الحلول الإسلامية" للمشكلات المعاصرة ، والتسلل فى صفوف النظام فى محاولة للاستيلاء عليه تدريجيا من الداخل وفرض وجودها . ومن خلال أيديولوجية الحاكمية القمعية تستطيع أن تهب الطبقة المالكة فرصة للاستمرار فى السيادة ، ولكن تحت قبضة الإخوان القوية .
غير أن القيمة الحقيقية للحاكمية الإخوانية تكمن فى كونها الرابط الممكن بين الإنتليجنسيا الساخطة والطبقة المالكة ، ليس فقط عن طريق الوعودالإسلامية بالعدل القائم على الهوية ، ولكن أساسا بدورها المنتظر فى أى اضطراب سياسى هائل ، حيث ستهرع إليها الطبقة المالكة بمجملها طالبة العون ، والسيطرة على انفجار الجماهير تحت شعار الإسلام ، وتصفية الجناح الجهادى بعد مدة تطول أو تقصر ، واستعادة النظام ، وتأكيد "هيبة الدولة" فى مواجهة "الفوضى" .
إن الإخوان أنفسهم بسبب شبكة المصالح الضخمة التى بنوها من حولهم ، لا يقلون عن النظام رعبا من انفجار قنبلة الهوية الإسلامية ، ومن كم السخط والغضب الكامن خلفشعاراتهم هم أيضا . فهم الحاجز الأخير .. ولكنهم أيضا ملغومون من الداخل ، فصفوفهم تحوى عناصر متمردة من أجل المبدأ ، تطمح إلى حكم الإنتليجنسيا الخالص باسم اللـه ، وسوف تطمح أكثر فأكثر وتزداد راديكالية فى حالة تدهور الأحوال أكثر فأكثر ونجاحها فى ضم قطاعات من الجماهير الساخطة . ومن هنا أهمية شبكة المصالح فى الخارج والداخل التى تسهم فى تهدئة بعض قطاعات الإنتليجنسيا الإسلامية . هذا كله بالإضافة إلى مخاوف الإخوان من انضمام الطبقات الأوسع المضطهدة إلى الحركة ، لتبدأ فى المطالبة بنصيبها فى كعكة الحاكمية وتهديد الطبقة المالكة وتقديم تفاسيرها الخاصة للعقيدة.
ومن هنا فالإخوان مضطرون بشكل أو بآخر لدعم النظام الذى يريدون الاستيلاء عليه ، برفض تكفيره ، بتهدئة الإنتليجنسيا ورشوتها بمعرفتهم ، بتوجيه السخط إلى أيديولوجيات الهوية المنافسة وحدها ، بإقناع الجمهور الحاكمى بجدوى التحرك فى إطار النظام ، بالاشتراك فى الألعاب النيابية . وهو ما قد يصل إلى ذروته فى إبلاغ "السلطات" بشئون الجماعات الراديكالية التى تتصل بهم ، وتبتزهم .
غير أن هذا الدور إذا تم مده على استقامته سوف يؤدى إلى إفقاد الإخوان تميزهم ، وقدرتهم على اجتذاب السخط على النظام والتحكم فيهن والتسليم عمليا للراديكاليين باحتكار أيديولوجية الهوية الحاكمية ، وبالتالى فقدان دورهم ، دور البديل ، وتقلص نفوذهم إلى حد مساو لنفوذ الوفد مثلا ، كمجرد جناح من أجنحة الطبقة المالكة ، فضلا عن إمكانية التخلص منهم بسهولة ، نظرا لانتهاء دورهم الموضوعى . ولكن هذا يمكن أن يحدث أيضا إذا ما استطاع النظام استيعاب قطاعات أكبر من الإنتليجنسيا ودمجها ، وتخلص من الجناح الراديكالى .
لذلك ، فالإخوان مضطرون أيضا لدعم الإرهاب ، تخويفا للنظام وللطبقة المالكة من عواقب تجاهل مطالب الأيديولوجية الحاكمية الراديكالية ، وانتزاعا للمكاسب على أساس دورهم الممكن فى سحب البساط من تحت أقدام الحاكمية الراديكالية ، وإلا لفقد الإخوان مبرر وجودهم بالنسبة لشبكة مصالحهم وعلاقتهم بالطبقة المالكة .
فالإخوان إذن ليسوا على استعداد لتحمل أيا من تكلفة دعم الإرهاب أو دعم النظام للنهاية ، وليس أمامهم سوى تحقيق توازن ما بين الخطين المتناقضين ، والتحرك بحذر وخشية ، إلى أن تدفعهم الظروف دفعا نحو مهمة إنقاذ النظام من طوفان الهوية الحاكمية وقمع الإنتليجنسيا الثائرة ، بما فى ذلك جنودهم هم .
إن الإخوان يرتبون أوضاعهم منذ الآن للاندراج فى النظام العالمى الجديد ، ويتصلون بالقوى المهمة فيه ويطمئنونها ، ويعقدون الصفقات السياسية والمالية . فالمشروع الأممى الوحيد الممكن فى ظل النظام العالمى الحالى هو الإنفاق على "نشر الدعوة" ، أما إعالة جيش الإنتليجنسيا الذى يعلق آماله عليهم ، فقد أصبح فى عداد المستحيلات .
وضعية الانتلجنسيا المصرية
إذا كانت أيديولوجية الحاكمية تسعى إلى بناء دولة عقائدية ، فإن الأيديولوجية الوطنية قد أسستها دولة قامت بالفعل . ومهما كان ادعاء هذه الأيديولوجية بأنها تتحدث باسم قومية تأسست فى أعماق التاريخ السحيق ، مصرية كانت أو عربية ، فإنها ليست سوى مفهوم حديث جدا تشكل فى أواخر القرن الماضى وأوائل القرن الحالى على أبعد تقدير ، وانطلق يتغلغل فى أحشاء المجتمع فى صيرورة طويلة وشاقة مدعوما بقوة الدولة وأجهزتها . وفى خلال هذا الزحف أخذ فى ابتلاع عديد من المفاهيم داخله ، لعل أهمها العدالة الاجتماعية ، وأخذ يغير من أسسه الفكرية ، حتى حط أخيرا على مفهوم يسمى الخصوصية ، بعد أن كان يتكلم عن اللغة والتاريخ أو النيل وروح الشعب الفرعونية أو العربية. والحال أن الأيديولوجية الوطنية ، مثل زميلتها الحاكمية ، ليست أكثر من أيديولوجية هوية مرفوعة إلى المستوى السياسى . ولأن المستوى السياسى يدور فى النهاية حول جهاز مركزى واحد ، هو جهاز الدولة الحديثة ، فلا بد وأن تتعرض اللغة والتاريخ وروح الشعب والخصوصية والنيل وأى مفاهيم أخرى لعملية تنميط وعزل ودمج واستبعاد لتحويل الهوية الوطنية إلى كيان بسيط واحد وحيد الجانب ، أى لإقامة إله الهوية ، أى أدلجة الوطن .
فالهوية المصرية تفترض أن ما يجمع النوبى والصعيدى والشرقاوى والسكندرى وساكن الواحات أيضا ، أعمق مما يفرقهم ، فى مجال الخصوصية الثقافية بالذات ، فتتجاهل فوارق اللغة (اللهجة) والعادات والتقاليد والمعتقدات ، بالإضافة طبعا للفوارق الطبقية ، والفوارق الاقتصادية والاجتماعية المحلية . هى بالمقابل تدَّعى أن ما يفرق السكندرى عن الطرابلسى (الليبى أو اللبنانى) ، والنوبى عن الإثيوبى والقاهرى عن الدمشقى مثلا ، أعمق مما يجمعهما ، وهو بالطبع ما تعترض عليه أيديولوجية الهوية العربية التى تؤكد على العكس (باستثناء الإثيوبى طبعا) .
والمسألة طبعا ليست مسألة نظرية ، إذ لا يوجد أى أساس نظرى يُذكر لتحديد ما هو "أعمق" وما هو "أسطح" ، الذى يجرى افتراض الهوية المركزية على أساسه .. المسألة مسألة فعل سياسى ، مسألة إنتاج للهوية يجرى تصويره على أنه اكتشاف ، على غرار ما يحدث فى الهوية الحاكمية الإسلامية .. ولكن هذه المرة عن طريق جهاز الدولة .. ليس بالعلم والنشيد فحسب ، ولكن باختيار لغة رسمية، ولهجة شبه رسمية (القاهرية) تروج لها الفنون "القومية" ، وبالمناهج الموحدة فى المدارس والتربية المشتركة فى الجيش ، وبخلق الرموز المختلفة ، بما فيها الفرق الرياضية شبه القومية ، والتمثيل الخارجى القومى ، وقبل كل شىء بالوقع المستمر المتغلغل لجهاز الدولة الحديثة ، الذى بدأ بالاستيلاء على حياة المدن ، فهدم أسوار الحارات والأحياء والمدن ، ووضع التنظيم المركزى لأمور الصحة والنظافة والمرور، وتغلغل ذلك تدريجيا فى حياة الريف أيضا (لم يشعر الريف المصرى بوقع الدولة الحديثة القوى فى مسام حياته إلا فى مرحلة متأخرة ، حتى أن بعض المعمرين الريفيين يقولون بحس تاريخى سليم أن عبد الناصر هول أنشأ "مصر") . ومن خلال هذا كله تصبح قرارات جهاز الدولة وتعاملاتها الخارجية ونظم جماركها وضرائبها وتنظيماتها جزءا لا يتجزأ من حياة السكان اليومية .
ومن خلال هذا التنميط ينشأ مفهوم المواطنة ، الذى لا يتأكد من خلال هذه الآليات فحسب ، ولكنه يتولى إلغاء واستبعاد الخصوصيات الأخرى ويدفعها إلى المؤخرة ، أو يدمجها فى نشاطاته (مثل تقديم خدمات دينية) ، لتصبح "الخصوصية" الوطنية المصنوعة هى الهوية السياسية الوحيدة ، وينتقل الباقى إلى مجال الفلكلور . وهكذا فإن الخصوصية الوطنية هى حرب ضد الخصوصية ، بما فى ذلك اللغة والثقافة والتاريخ .. حرب سياسية تهدف إلى خلق ولاء سياسى لجهاز الدولة الوطنية .
2 - وقد لعب الجيش بالذات ، أساس الدولة المصرية الحديثة ، دورا جوهريا فى إنشاء مفهوم الهوية . وليس صدفة أن إبراهيم باشا قائد جيش محمد علي هو أول سياسى يتكلم عن قومية عربية أثناء فتوحاته ، فالحروب الوطنية هى المظهر الأقصى لأيديولوجية الهوية الوطنية .. لأنها المبرر الحديث للضم والإلحاق ، ولأنها ترفع الولاء السياسى للهوية إلى مستوى الوجود المحض : الحياة والموت .. المخاطرة بالحياة وقتل الآخرين . وهى تفعل ذلك ليس عن طريق الحرب ذاتها فحسب ، بل عن طريق ما يسمى العقيدة القتالية التى يجرى حشو أذهان المحاربين بها .. وفكرتها الأساسية ، أيا كانت أشكالها ، هى رفع الولاء الحسى "الطبيعى" الذى يربط الفرد بأسرته وأصدقائه وعشيرته إلى المستوى السياسى ، إلى مفهوم "الوطن" ، الذى يتحد بتصور "جهاز الدولة" ، الذى يصبح الممثل الرسمى الوحيد للأسرة والأصدقاء والعشيرة .. الذين جرت أدلجتهم .
ولكن الوطنية لا تتوقف فى استثمارها لما هو إنسانى عند هذا الحد ، حد الحصول على ضريبة الدم ، ولكنها تعيد استثمار ضحاياها ، فإما أن تستخدم الدماء فى أحوال الهزيمة فى طلب مزيد من الدماء للثأر من الأعداء ، وإما أن تستولى على شجاعة وكرامة الجندى وتجرى لها تحويلا أيديولوجيا لتصبح تعبيرا أو مظهرا "لأصالة الشعب" و"معدنه" و"عظمة أخلاقه" و"حيوية الأمة" و"شجاعتها" و"كرامتها" ... الخ . أما وقائع الفرار والخوف والاشمئزاز من إراقة الدماء فيجرى قمعها أولا وإخفاؤها ثانيا . وهكذا يصبح الجندى - الإنسان - الفرد العينى مجرد "ممثل" للشعار ، للأمة .. أى للدولة ، مثله مثل الزى الذى يلبسه سواء بسواء ، وكذا القماشة التى يرفعها علما .
غير أن الاستثمار الأساسى الذى قامت به الأيديولوجية الوطنية فى الأربعينات هو استيلاؤها على مفهوم العدالة الاجتماعية .. ففى إطار ما سمى الوطنية المصرية نُسبت - كما قلنا من قبل - كل مشكلات الفقراء المضطهدين إلى مشكلة الأجانب وسيطرتهم على البلاد ، وما سمى نهبا واستنزافا ، وهو ذات الاتجاه الذى اخترع بعد الاستقلال مفهوم "الاستعمار الجديد" والهيمنة الاقتصادية العالمية ومجمل أفكار "نظرية التبعية" ، ونسبة كل المشكلات لهذا العدو الخارجى الشرس . ولكن هذه قصة أخرى .
3 - والأيديولوجية الوطنية لا تؤدلج بهذا التجريد وحده ، ولكن بالتقسيم/ التكفير أيضا .. فأى ولاء سياسى على أساس طبقى أو دينى محظور ، وسيف "الخيانة الوطنية" مرفوع دائما على الرؤوس .. هذا بصفة عامة ، ولكن فى مصر - وربما فى غيرها من بلاد العالم الثالث - أخذ القمع الوطنى أبعادا هائلة ، لأن الهوية الوطنية ، كمبدأ أساسى ، التحمت بمشكلة جهاز دولة ما زال تحت الإنشاء والتوسيع .. ومن هنا شمل مفهوم "الخيانة الوطنية" كل خروج على الخط السياسى الرسمى للنظام ، وهو ما بلغ ذروته فى الدولة الناصرية ، التى حجمت من نفوذ الطبقة المالكة المنفتحة بالضرورة على الرأسمال العالمى ، واستثمرت الطبعة الإنتليجنسوية للهوية المصرية إلى أقصى مدى ، بما فى ذلك بعدها العربى أيضا .
إن كل التكفير الوطنى (والدينى أيضا) الذى تمارسه الأيديولوجية الوطنية ضد الحاكمية إنما يرجع بجذوره ومفاهيمه إلى المواجهات الدموية بين الإخوان والضباط الأحرار ، فى أعوام 1953 و1954 و1965 ، فالحاكميون عند الوطنيين عملاء ، لدول النفط بشكل مؤكد ، وللولايات المتحدة على الأرجح ، ولإسرائيل على استحياء () !! وفى الصياغات الأكثر احتشاما يكونون عملاء "بشكل موضوعى" "لأعداء الوطن" ، يخدمون عمليا مصالح "أعداء الشعب" (حيث أن ثمة تقليد للتوحيد بين الوطن والشعب يرجع إلى الأربعينات) !!
وهناك أيضا التكفير الدينى ، باتهام الحاكميين بالخروج عن شىء يعتبرونه هم "صحيح الإسلام" يتميز بالتسامح الدينى وبالوطنية أيضا . غير أن هذه التكفيرات جميعا آلت فكريا ، بعد أن قدح الوطنيون أذهانهم ، إلى اتهام الحاكمية بأنها أصلا "أيديولوجية مستوردة" ، لا تتفق مع "أخلاق الشعب المصرى" و"تسامحه" ، والمقصود بالذات "وطنيته" ، وبأنها ذات أساس قبلى متخلف .. متجاهلين فى ذلك كله الأساس "المصرى جدا" لحسن البنا وسيد قطب ، وجملة الأتباع القادمين من صفوف "الشعب المصرى الأصيل" ، بل ومتجاهلين أنهم هم - أى "الوطنيين الأصلاء" - أصحاب الطبعة الأولى لأيديولوجية الهوية النخبوية التكفيرية ، أى أيديولوجيتهم الوطنية ذاتها !!
مثل هذه الاتهامات ليست مؤامرة يحيكها "الوطنيون" ضد "الإسلاميين" ، برغم ميلها الطبيعى لإنتاج الافتراءات ، وإنما هى تعبير عن ميل موضوعى لأيديولوجية نخبوية - دولتية للشك فى نوايا أى خروج أيديولوجى عن نطاقات ما يمكن أن يسمى تجاوزا "تفكيرها" ، على ذات نمط ميل أيديولوجية الحاكمية لإنتاج فكرة "المؤامرة العالمية ضد الإسلام" وحشد الأعداء فيها حشدا .
ليست الأيديولوجية الوطنية عقلانية ، ولا موضوعية ، وليس الإرهاب الفكرى والجسدى الذى تمارسه صدفة ولا خطأ ، بل هو من صميم بنيتها كأيديولوجية هوية . ومن هنا فالتكفير الوطنى جهاز أيديولوجى متكامل ، له أيضا طبعته الموازية لمفهوم الجاهلية الحاكمى ، متمثلا فى فكرة "المؤامرة العالمية ضد مصر" ، بسبب موقعها الاستراتيجى أو ثقلها السكانى أو تاريخها العريق، أو - وهى نقطة إنتليجنسوية مهمة! - ريادتها الثقافية فى الوطن العربى ، إلى آخر هذه الترهات التى أصبحت مقنعة من فرط تداولها .
4 - وأيديولوجية الهوية الوطنية تتمتع على المستوى العالمى بامتياز خاص ، وهو كونها عضو فى "المجتمع الدولى" .. فالعالم عبارة عن مجموعة من الدول القومية ، حتى ولو كان سكانها قبائل متناحرة ! والدولة هى التى تحدد لسكانها مع من يتعاملون ، وتحظر عليهم التعامل مع دول بعينها ، فتحدد الأعداء والأصدقاء ، ومدى التعاون ومدى العداء .. وتهيمن على التبادلات الثقافية والتجارية والاقتصادية والإعلامية وغيرها .
وهو نظام تطلب الاعتراف به عالميا إنتاج ما يسمى احترام السيادة الداخلية لكل دولة ، وبمعنى أدق وأكثر عملية ، عدم انتهاك هذه السيادة بالنسبة لأى دولة إلا بمعرفة دولة أخرى !! فالشعوب ، التى تتحدث الدول باسمها ليس لها حق الانتهاك ، ولكن الدولة نفسها لها هذا الحق ، عن طريق الحرب أو الجاسوسية ، أو التبادلات السلمية بمعرفة الدولة الأخرى وبموافقتها .
ويتمثل الوضع المثالى بالنسبة للمفكرين المدافعين عن "عالم القوميات" فى اقتصار التفاعل على هذه التبادلات السلمية وحدها .. وهو ما يجد تعبيره الرمزى فى الوقفة المتخشبة التى يقفها ممثلو الدول وهم يستمعون إلى النشيد الوطنى للدول الأخرى ، أو مجمل ما يسمى "البروتوكول" . وهو ما يغطى واقعيا اتفاقا غير مكتوب ، يحق بمقتضاه لكل دولة أن تقول أنها (وشعبها) عظيمة جدا ، ومن حقها أن تقول فى الداخل أنها "أكثر تساويا فى العظمة من الآخرين" ! ففى المجتمع الدولى، مصر عظيمة جدا ، وإسرائيل أيضا ، وكذلك ألمانيا الهتلرية (قبل الحرب) ، والديمقراطية (بعدها) . وكلها أيضا تتميز بأنها فوق ذلك "عظيمة جدا جدا" فى الداخل ! غير أن عظمتها الداخلية تزداد وقت الحرب للتعويض عن نقص عظمتها الخارجية !! أكوام من الكذب .

غير أن مشكلة الإنتليجنسيا الوطنية المصرية لا تكمن فى تهافت مفهوماتها ، ولا فى تناقضها .. فهى على استعداد لابتلاع تناقضات "أفظع" بكثير براحة تامة وهدوء بال ، وإنما تكمن مشكلتها فى الحصاد المر "لجهادها الوطنى" ، فى جزاء سنمار الذى لاقته على يد الدولة الوطنية التى حسبت يوما ما أنها امتلكتها !
1 - لقد رأينا فى القسم الثانى الظروف التى أدت لتكوُّن الطبعة الإنتليجنسوية - لا البرجوازية - لأيديولوجية الهوية الوطنية ، وانتصارها الذى أدى فى النهاية إلى انقلاب يوليو 1952 .. الذى أصبح فى عينيها ثورة . غير أن هذه "الثورة" التى احتفلت الإنتليجنسيا بمقدمها احتفالا عظيما ، واعتبرها كل جناح من أجنحتها (بما فيهم الإخوان - الذين كانوا وما زالوا يتحركون فى إطار الدولة الوطنية) ثورتها الخاصة .. كالت لهم على يد الإنتليجنسيا العسكرية اللطمات المتتابعة ، ليتضح أن الضباط ينوون أن يتولوا الحكم بأنفسهم واختراع التوليفة الأيديولوجية التى تناسبهم هم ، والأهم من ذلك ، أن يحتكروا الكلام باسم الشعب والوطن ، وفكرة الاستعلاء على الطبقات ، وسرعان ما حسمت الموقف بحل كل منظمات الإنتليجنسيا السياسية ، والسيطرة على منظماتها النقابية .. وتأطير الثقافة بأطر سياسية حديدية .
ولكن النظام الناصرى بالمقابل وفر لأغلب قطاعات الإنتليجنسيا فرص التعليم والوظيفة والترقى السريع ، والسلطة الممتدة فى أحشاء المجتمع ، و"أمَّم" المثقفين أنفسهم بتوطينهم داخل جهاز الدولة ، و"سمح" لهم بالتعبير عنه ، بحماس ! والأهم من ذلك أن النظام نجح فى تأميم شعارات الإنتليجنسيا الثورية التى تبلورت فى الأربعينات ، فشجعهم ذلك على التصالح مع القمع وقبول الصفقة . وهكذا حققت الإنتليجنسيا المصرية فى مجموعها ، وفى معظم تعبيراتها الأيديولوجية ، حلم التماهى مع الدولة ، ولكن على وجه مختلف تماما عن طموحاتها الأصلية ، وانشغلت فى صراعاتها فيما بينها على الفوز برضا النظام : الإسلاميون (عدا الجناح القطبى المتمرد) ، والوطنيون بأقسامهم على حد سواء .
وفى ظل هذه الصفقة ، قبلت الإنتليجنسيا قمع الحريات ، وإشاعة الإرهاب() ، ونهب الريف ، وتحمست للأطروحات العربية و"الاشتراكية" ، وربطت نفسها ربطا تاما بالنظام ، الذى قُدر له أن ينهار ، ويعاد تشكيله ، لتسقط معه هذه الإنتليجنسيا التى أصبحت فجأة زائدة على الحاجة ، ولا لزوم لها ، ومعوق للتنمية ، ومسئولة بشعاراتها الوطنية والعربية والاشتراكية عن الخراب . لقد كان مقتل الأيديولوجية الوطنية هو بالتحديد تشكل الدولة الوطنية بالفعل . وهكذا آلت قيادة الإنتليجنسيا المتمردة إلى الأيديولوجية الحاكمية ، بالضبط لأنها معادية للدولة الوطنية .
2 - ليس القمع فى حد ذاته من الأمور التى تستفز الإنتليجنسيا المصرية ، فإيديولوجيات الهوية التى تسودها على اختلافها قمعية أصلا كما رأينا .. وإنما تكمن المشكلة فى تراجع النظام عن دعم الإنتليجنسيا . وفى البداية هاجمت الإنتليجنسيا الوطنية الإمبريالية وإسرائيل لأنهما سبب هزيمة النظام ، ثم التفتت تطالب بالديمقراطية ، ثم فوجئت "بالطبقة الجديدة" تتمدد فى ظل الانفتاح ، فكان "نصر أكتوبر" بداية هزيمتها ، فالتفتت تهاجم النظام ، باسم العدالة الاجتماعية حينا ، وباسم الوطنية حينا .. وحاصرت النظام ، وسعت لسحب الشرعية منه .. وفى ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة نجحت إلى حين .. لتفاجأ باغتيال السادات عدوها اللدود على أيدى الحاكميين ، لتهرع لا تلوى عن شىء إلى أحضان الدولة مرة أخرى !! مطالبة إياها "بالتعلم" من الدرس والإقلاع عن مغازلة الإسلاميين !!
ولكن هذا التقارب النسبى الجديد ليس مسألة شعارات ، ولا صراع مجرد للهويات فى فضاء الفكر ، ولكنه يستند إلى عمليات تكيف مهمة طالت العديد من قطاعات الإنتليجنسيا . ذلك أن الانفتاح وثورة أسعار البترول فتحت أمام الإنتليجنسيا أبوابا جديدة : العمل فى الدول العربية ، فى البنوك والشركات الخاصة والأجنبية والسياحة ، وأخيرا فى القطاع الاستثمارى الجديد الضخم فى المدن الجديدة والقديمة .. فتقلصت علاقتها بجهاز الدولة ، وبالتالى بمجمل الأطروحة الوطنية - الدولتية - النخبوية .. وهو تأثير شمل ، ليس المستفيدين المباشرين فحسب ، ولكن قطاع أعرض بكثير ينتظر فرصته (*) .
وهكذا راح الكل - تقريبا - يسعى للحاق بركب "النظام العالمى الجديد" ، واقتناص الفرص السانحة فى السوق العالمى ، بما فى ذلك الإنتليجنسيا المثقفة حاملة الأيديولوجية الوطنية ، فأبناؤها جميعا - وأبناء الإخوان أيضا - يلتحقون بالمدارس ذات التعليم الأجنبى ، سواء ذات الطابع الإسلامى أو المسيحى أو الحكومى (المدارس التجريبية) ، مفصحين بذلك عن الشعار العملى الوحيد للإنتليجنسيا الوطنية : القفز من السفينة الغارقة !!
3 - وفى ظل هذا الوضع يمكن أن نفهم نجاح السلطة - التى ما زالت تسير "على نهج كامب ديفيد" وتمارس "الانفتاح" الذى صار إنتاجيا - فى تأميم الأيديولوجية الوطنية مرة أخرى . فالمثقفون الوطنيون المعزولون عن القطاعات المتمردة من الإنتليجنسيا لم يعد لهم مأوى سوى النظام ، والهزيمة الكبرى لدولتهم الناصرية كسرت أية إمكانية للتبجح الوطنى القديم . وهكذا ظهرت الطبعة المعدلة الجديدة من "الأيديولوجية الوطنية" فى خدمة رجال الأعمال الجدد ونظامهم .
هذه الأيديولوجية ليست مستقلة بذاتها أصلا ، بل أصبحت جزءا من خطاب أشمل للسلطة ، هو "خطاب التنمية" ، ذلك الخطاب الذى تحرص فيه السلطة باستمرار على تذكير الإنتليجنسيا بأنها كثيرة العدد ، زائدة عن الحاجة ، تعوق التنمية ، تثقل كاهل الميزانية ، تتسبب فى الديون ، أى تهدد “مستقبل الوطن" ذاته !!
وفوق ذلك فهى - وا دهشتاه - وطنية مصرية ليست معادية للإمبريالية ولا لإسرائيل من حيث المبدأ ، يدور خطابها حول تحقيق "المصالح الوطنية" من منظور قبول مجمل التوازنات الدولية الرئيسية ، وبالتعاون "مع الجميع" ، والاستفادة من الهامش المتاح للمناورة مهما كان ضيقا . وهى أيضا وطنية تقبل ، وتطارد ، طبعة خاصة من "الإسلام المعتدل" لمواجهة الحاكميين المتمردين .
وليس للمثقفين الوطنيين الآن من برنامج سوى هذا البرنامج الحكومى نفسه ، مع قدر من التطرف المبدئى اللائق بالمقام !! الذى يقل على كل حال بالتدريج .. من المطالبة بتوسيع القطاع العام ، إلى الإبقاء عليه ، إلى مجرد بيعه بالتدريج وبدون خسائر ، إلى عدم بيعه للأجانب .. ومن مواجهة إسرائيل إلى قبول التفاوض إلى المطالبة بالحد من التنازلات . ولكن حتى المزايدة على النظام صارت صعبة ، سواء بالنسبة لتصريحات وزارة الخارجية فى المسائل الخلافية مع إسرائيل ، أو "تصريحات" إبراهيم سعدة فى المسائل الخلافية مع الولايات المتحدة!! أما القومية العربية فلا يتعدى القول فى شأنها حث النظام على المضى قدما فى جهود "المصالحة العربية" مع الأنظمة التقدمية والرجعية على حد سواء ، والتشدد فى مفاوضات السوق الشرق أوسطية () .
4 - وهم لا يخدمون النظام فحسب ، ولكنهم أيضا حريصون على الاستئثار بهذا الدور ، ومن هنا هذا الزعيق المتواصل ضد الإخوان واتهامهم بالتحالف مع الإرهابيين وتخويف النظام مهم ، والشكوى من المساحات التى يحتلها الحاكميون المعتدلون (الذين يتحركون ضمن أفق الدولة الوطنية) فى الإعلام ، وفى الحزب الوطنى والمواقع المهمة داخل جهاز الدولة !! وينساقون خلف ادعاءات الحاكميين مؤكدين أن هؤلاء يريدون العودة بالبلاد أربعة عشر قرنا للوراء ! فى ذات الوقت الذى يحاولون فيه اقتباس الوسائل التنظيمية والدعائية والخدمية الحديثة والمبتكرة التى يستخدمها الإخوان ، ويحسدونهم على ظهيرهم المسلح الذى يبرر وجودهم ، متحسرين على أنهم "ليست عندهم تجريدة" !
إن خدمة الدولة هى هدف الإنتليجنسيا الوطنية ، وهو ما يتطلب دولة وطنية، تقام ولو بالقوة .. ومن هنا الراحة العظيمة التى شعروا بها عندما انقلب العسكر الجزائريون وأوقفوا الانتخابات التى كانت تنذر بصعود الإسلاميين للسلطة . فباسم الوطن ، وطن الإنتليجنسيا ، لا تجرى المطالبة بقمع الإسلاميين وحرمانهم من "حرية الفكر والعقيدة" فحسب ، ولكن أيضا قمع "الشعوب الغبية" التى سوف تتسبب "بغبائها" فى "ضياع الوطن" !!!
ولكن الوطن المقدس هذا ظل ويظل بالنسبة للإنتليجنسيا الوطنية شعارا سياسيا ، وفرصة للحكم قبل كل شىء . ولكنه ليس مقدسا بما يكفى للحيلولة دون تهربهم من التجنيد مثلا : رمز الوطنية . والمواطنة ليست مقدسة بما يكفى لمنع الاندراج فى شبكات الوساطة والمحسوبية ، واقتناص الفرص من أفواه "الشعب" الذى يتحدثون باسمه !
5 - لقد انحسرت الهوية الوطنية عند أغلب قطاعات الإنتليجنسيا لتنحصر وسط مجموعة المثقفين الوطنيين ، ومن هنا انخفضت طموحاتهم كثيرا .. فبدلا من المطالبة بالسلطة ، والادعاء الواسع العريض بأنهم "حراس الأمة" و"أملها فى التقدم" و"قادتها" ، أصبحوا فقط مجرد "مدافعين عن ثقافتها الوطنية" ، حراس "أمنها الثقافى" ، جنودها فى مواجهة "الاستعمار الثقافى" والتطبيع . ومع ذلك فهم يتشامخون على هذه الأمة - أمة الإنتليجنسيا التى انحرفت نحو الحاكمية - مؤكدين لها أنه ليس من حقها أن تحرمهم من حرية العقيدة والتعبير !! ذلك أن "الأمة" تهددهم الآن بحرمانهم من "حقهم" فى الدفاع عنها وعن ثقافتها !! أى من الرقعة الأخيرة التى تبقت لهم من ملكهم العريض !
وهكذا ينز الخطاب الوطنى الآن مرارة الهزيمة ، التى يُرجعها إلى "خيانة" النظام . فورقة التوت التى تبقت هى الادعاء بأن النظام الحالى قد انقلب منذ عصر السادات على الدولة الوطنية الأصلية : الناصرية . إن هذه الإنتليجنسيا الوطنية تعيش الآن عصرا تسميه "عصر الخيانة" ، خيانة الشعب ، خيانة الأقدار ، أو "الزمن الردئ" - على حد التعبير الموفق لياسر عرفات .
ومن داخل هذا الخندق تعانى الإنتليجنسيا الوطنية من قلق دائم ، وعذاب مستمر للضمير ، لأنها لا تجد ما تقوله .. فهى إذا تكلمت عن الخصوصية ، أصبحت مهددة بالانزلاق لخدمة معسكر الهوية الحاكمية ، ، وإذا نددت بالإرهاب أصبحت مهددة بأن تفقد كل استقلال عن النظام ، فهى مضطرة دوما لخيانة نفسها ، ولا تهدئ من عذاب ضميرها إلا بإلقاء اللوم فى هذا المأزق على الحاكمية المستوردة حينا ، وعلى النظام حينا .. إنها تتمزق من أطرافها الأربع .
ولكن الأمر الذى لا تتمكن هذه الإنتليجنسيا من رؤيته هو دورها الأساسى الذى لعبته ، ليس فى إنتاج النظام وأيديولوجيته فحسب ، بل وفى إنتاج الحاكمية أيضا : فالتسييس المباشر للفكر هو الذى أدى للتسييس المباشر للدين ، والأيديولوجية الوطنية المقدسة هى السلف المباشر للحاكمية المقدسة ، والنخبوية الوطنية هى التى فرشت الطريق للنخبوية الحاكمية الأكثر راديكالية ، والأكثر من ذلك أنها بمواجهتها للحاكمية بمنطق الهوية الوطنية ، تقدم لهذه الحاكمية نفسها الفرشة المناسبة تماما لإدارة معركتها الأيديولوجية : فرشة الهوية - هذا إذا تغاضينا عن حقيقة أنها أصبحت أيضا تجادل الحاكية على أرضية "صحيح الدين" !
نحن نعيش عصر احتضار الطبعة الوطنية من الأيديولوجية الدولتية - النخبوية التى تدور حول مفهوم الهوية .. وهو أمر لا يستحق على كل حال كثير بكاء .. فلندعها ترحل فى صمت ، ولنتركها لأقلام المؤرخين .
الهوية  الخصائص العامة لأيديولوجيات الهوية
من الحماقة أن نلوم أيديولوجيات الهوية لأنها تكذب ، لأن الأيديولوجيات ليست سوى حقل إنشاء الأساطير السياسية ، فى حين أن الأساطير ليست سوى أيديولوجيات ميتة ، فقدت خصوصيتها السياسية واندمجت فى عالم الخيال . والأيديولوجيات لا تنقد نفسها ، ولا تفكر إلا للتحايل على إخفاء طابعها الأسطورى ، أى لتكذب كذبا أكبر تأثيرا وأخفى ، ولتبدو أكثر واقعية وملموسية .. بل هى تقاوم النقد وتحاول أن تدمجه فى بنيتها الأسطورية .. فشبح الوطنية الأسطورى يبتلع العدالة الاجتماعية ، ويخلق لنفسه تاريخا ، ويدخل فى مناقشات، بل ويجادل باسم العلم ذاته ، ولكنه فى النهاية لا يفعل أكثر من أن ينظر فى عينيك : هل أقنعتك بما فيه الكفاية لأبتلعك .. لأضمك لمملكتى ؟
ولكن الأيديولوجيا ليست مجرد أسطورة ، فهى أسطورة سياسية ، تدور حول مصالح ، قوى ، صراعات ، مؤسسات ، مكاسب ، دماء ، ولذلك فهى "حقيقية" أيضا ، لا تقل واقعية عن أى مُنتَج بشرى آخر . وهى منتجة وذات قيمة أيضا .. تعيد إنتاج نفسها بواسطة استهلاك حياة البشر الفيزيائية ومنتجاتهم المادية .. ولكنها دائما تستهلك البشر وهى تقنعهم بأنها تحررهم ، وبأن حريتهم إنما تكمن فى خضوعهم لها ، وتضحيتهم فى سبيلها .. سواء كانت أيديولوجية العقل أو أيديولوجية الهوية ، وسواء كانت هوية وطنية أو إسلامية . إن "الأرواح" ذاتها لا يمكن تحضيرها إلا بأدوات وطقوس ، بالسلة والبخور والكلام والرقص . فإذا لم توجد الأدوات لن "تحضر الأرواح" !! والحال أن سلة الأيديولوجية الوطنية وبخورها ورقصها ، أساسها المادى ذاته .. دولتها .. هو الذى يجرى الآن امتصاصه وهضمه لحما وعظما ودما . فالأيديولوجية لا تموت إلا اغتيالا ..
اغتيالا وليس غيلة ، فالسماسرة والوسطاء منهمكون الآن فى الاتفاق على تمزيقها ، بيعها بالقطعة ، والمساومات دائرة ، لنكتشف فجأة أن الأشباح لها وزن، وطول وعرض ، يتيح للشارى أن يعاينها ، ويزنها ، ويقلبها فى يديه يمينا ويسارا ، وللبائع أن يعرض مفاتنها ، وقوتها ، ويجادل ، ويتظاهر بالامتناع عن البيع ، ولكن الصفقة قد رُسمت أبعادها بالفعل .. ونحن أنفسنا ، جسمنا ودمنا وعقولنا ، محل الرهان فى السوق ، سوق النخاسة العالمى الجديد .. ولما كان الأمر يهمنا جميعا .. فهلموا بنا نسترق النظر ، ونلعب اللعبة الأيديولوجية ، فنخرج من أنفسنا ، ونتطلع إليها وهى واقفة فى السوق ، ونتفرج على المساومة علينا .. ولكن حذار من الأمل بالنجاة .. إذا تصورنا أن هذا الموقع الخيالى يمنحنا حصانة فى وجه الطوفان ، إذا لم نفعل شيئا لنهرب بجلودنا الحقيقية ، وليس بأرواحنا وحدها !! بهذا الشرط وحده .. سوف نخاطر ونلعب لعبة الأفكار :
1 - إن الأيديولوجيا الجديدة التى يتولى صناعتها النظام العالمى الجديد أيديولوجيا متكاملة ذات شقين (مثلها مثل الأيديولوجيا البرجوازية العقلانية السابقة لها) هما العولمة وصراع الحضارات .. أى مسرح بأكمله ، بصراعاته ، بخيريه وأشراره . والمطلوب أن نندمج فى الأدوار المختلفة لنصنع “الحدث" . أما العولمة فهى الديمقراطية وحقوق الإنسان ، السلام العالمى وحقوق الشعوب .. وبمقتضى هذا الكلام ، كل الشعوب متساوية ، وكل الأفراد متساوين ، والكل له حقوق لا يجوز تقييدها .. بل يجب التنديد بكل اعتداء عليها .. ويجب أن تُنفق الأموال لرصد هذه الاعتداءات ومواجهتها ، وحشد الجهود ضدها . والأهم من ذلك ، أى من "ذهب المعز" ، "سيفه": فيجب تزويد هذه الحقوق بالقوة الكفيلة بحمايتها .. ذلك أن الديمقراطية وحقوق الإنسان لها أنياب وأظافر (كما قال السادات بحكمة) ، ومن هنا نفهم لماذا تعانى ليبيا والعراق من الحصار دفاعا عن حقوق الإنسان ، والحقوق الوطنية أيضا . وإذا كان النظام العالمى الجديد لم يدافع بما فيه الكفاية عن حقوق إنسان البوسنة ، فعلينا أن نطالبه بذلك وباستمرار ، ولكن طبعا لا يجوز لنا أن نهدمه من قواعده من أجل هذا "الخطأ" !!
وليست المسألة هى مجرد الكيل بمكيالين .. فالعولمة ، التى وُلدت ينضح الدم من مسامها مثل كل أيديولوجية قمعية ، لا تفكر أصلا فى أن يتساوى الصومالى والمصرى والفرنسى واليابانى ، ولن تجعل الرأسمالى والعامل فى أى بلد أخوة ، ولن تحرر المهمشين ، بلدانا وشعوبا وفئات اجتماعية ، من الفقر المدقع ، بل هى تكريس للتفاوت .
ومع ذلك فالعولمة ليست أسطورة ، وإنما هى أيديولوجية ، تستند إلى واقع لا يخطئه أعمى .. فالإنتاج الرأسمالى أصبح عالميا بالفعل ، والشركات متعددة الجنسية تسيطر على 70% من الإنتاج العالمى ، والسلعة لم تعد لها جنسية ولا وطن ، لا إنتاجا ولا تمويلا ولا توزيعا واستهلاكا . إن العولمة لا تغشنا .. فسوف تحقق لنا المساواة حقا وفعلا .. ولكن فى مجال واحد ، هو العمل فى خدمة الاحتكارات العالمية الجبارة ، وسوف تحقق لنا الإخاء أيضا ، بحملات إنسانية لإنقاذ الشعوب الجائعة من الموت جوعا ، بعد أن تُنزل بها الخراب ، بل وسوف تتدخل أحيانا لوقف الحروب الأهلية الوحشية بين القبائل والشعوب والأديان .. وسوف تذرف وسائل الإعلام العالمية الدموع ، وتصور الجرحى وهم يتلقون المعونات الإنسانية ، وبذلك سوف تتيح لنا أن نذرف معها دموعا "إنسانية جدا"، ولكن بعد أن نؤدى واجبنا فى بناء النظام العالمى الجديد بالعمل المأجور !!
ولكن العولمة لن تهبك سوى المساواة والإخاء .. أما الحرية فسوف يهبك إياها صراع الحضارات : فإذا لم يعجبك ما تعطيك إياه العولمة يمكن أن تثور باسم الخصوصية ، وتحتج وترفض "الحضارة المادية" . وإذا لم تثُر دفعتك العولمة نفسها للثورة ، فتجد نفسك مثل "أخيك" صدام حسين داخلا أم المعارك ، ومعك الإسلام والقومية العربية والعزة العراقية وكل ما شئت من خصوصيات !!
ولكن عليك أن تحسب موقفك جيدا .. فرب "ثورة حضارية" تلقى من النظام العالمى إعجابا وتأييدا ، ورب ثورة أخرى تلقى منه اشمئناطا ورفضا .. وهنا سوف "يكتشف" العالم أنك "بربرى الطابع" ، معاد للإنسانية ، رافض للحضارة ، آكل للحوم البشر ، معاد للديمقراطية ، خطر على السلام العالمى ، الأمر الذى "يدفع" آلهة النظام العالمى الجديد إلى إجبارك على التراجع .. بالسلاح .
هذا كله طبعا إذا كانت عندك موارد تُذكر ، أو تهدد بالاستيلاء على موارد أخرى ، أما إذا كنت من "العالم الرابع" ، فالدور الوحيد الذى تنيطه بك العولمة هو "الدفاع عن خصوصيتك الحضارية" ، خارج التاريخ .
وهكذا سوف نكتشف أن العولمة غير عالمية ، وإنما هى عولمة منتقاة .. فهناك من يقف خارج العالم ، وهناك سادة له ، السادة الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان ، ويملكون المال والسلاح ، القادرين على "الدفاع" عن "المثل العليا" للبشرية .
2 - تلك هى الصفقة التى يعرضها النظام العالمى الجديد : المشترى . أما البائع فهو بالضبط الدولة القومية بمختلف خصوصياتها أيا كانت ، فالدولة هى المسئولة عن تهيئة "الشعوب" للعولمة/ صراع الحضارات ، عليها أن تعبد الطريق لعمل الشركات متعددة الجنسيات ، وتهيئ السكان ، وتبيع الأيديولوجية الوطنية أو الإسلامية أو غيرها للنظام العالمى الجديد ، عن طريق بيعها للسكان أصلا بصبغة عالمية ، تماما مثلما يفعل النظام الآن ، وكما يفعل الإخوان أيضا . فالعولمة تحتاج إلى دولة قوية ، لها باع فى القمع الأيديولوجى والعسكرى ، قادرة على حفظ النظام ، وعلى الحفاظ على استقرار الأسواق أيضا .. وهو ما يتطلب أن تكون "ديمقراطية" ، أى خاضعة لإشراف النُخب المهمة المرتبطة بالنظام العالمى الجديد ، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون .. فلتتنافس أيديولوجيات الهوية مع بعضها البعض ، ولتتنافس الدول ، ولتثبت كل منها للنظام العالمى الجديد ، للشركات متعددة الجنسية ، أنها الأفضل والأكثر قدرة والأكثر ولاء .
3 - ليست أيديولوجيات الهوية هى المرشحة لمواجهة هذه الصفقة ، فالهوية المتكيفة مع "النظام العالمى الجديد" ليست سوى وجه من وجوه العولمة ، والهوية غير المتكيفة ، أيديولوجية الحاكمية الراديكالية ، أو أى طبعة متطرفة تظهر لأيديولوجية الهوية الوطنية ، تقف خارج العالم ، مع المهمشين ، فى التجريد القمعى المضاد والعاجز .
ذلك أنه لا يوجد شىء له أهمية يقف خارج العولمة .. العولمة هى نحن ، هى محصلة جهود البشر فى التقدم ، هى محصلة عمل العمال ، وأفكار المخترعين وجهود المفكرين ، هى نحن أنفسنا ، ولكن بقناع مخيف ، بسحر يقلب جهودنا ضدنا ، ويحول أسلحتنا إلى صدورنا . العولمة هى عالمنا واقفا على رأسه ، هى أيديولوجية الرأسمالية .. أيديولوجيا ينتجها مفكرون تافهون مثل فوكوياما وشركاه، لا يكتفون بكتابة القصص المسلية عن العصر الديمقراطى الجديد ، ولكنهم ينسبون أنفسهم ، لأنهم عديمو الأصل أساسا ، إلى مفكرين عظماء مثل هيجل .
ليست العولمة إذن فرصة سانحة لإحياء جثث الهوية .. أما الإنتليجنسيا التى كلفت نفسها بحراستها ، فالأرض تنحسر من تحت أقدامها كل يوم .. فهى تفقد تميزها الفكرى مع تضاؤل الفارق بين العمل اليدوى والذهنى ، فاليدوى فى ظل التقدم الصناعى صار ذهنيا ، يعتمد على عمال مؤهلين ، والذهنى صار آليا ، وظيفيا ، حتى فى معامل الأبحاث ومراكز البحوث . وجهاز الدولة يفقد محورية دوره فى التحديث ، ليتحول إلى جهاز شبه آلى يحل المشكلات بنظم معلوماتية متقدمة ، والرأسمال يتولى القيادة المباشرة للتحديث . هذا كله ناهيك عن الانشطار العميق بين قطاعات الإنتليجنسيا نفسها .. بين قطاعات الإعلام والعسكر المدللة ، والباقى الملقى على قارعة الطريق ، يحل مشكلاته خارج جهاز الدولة .
كل ذلك على خلفية من العولمة التى سحبت البساط أصلا من تحت كل تصور عن مركزية إرادوية تقوم على مبادئ الهوية لتتحدى العالم .. فذلك المشروع لم يعد يقنع حتى الإنتليجنسيا نفسها ! لقد فقدت الإنتليجنسيا موقعها المحورى ، ولم يعد لها حتى وهم قيادة العالم .
ليس الإنتليجنسيا فحسب ، بل المثقف والفكرة أيضا .. إذا كان ثمة شىء صحيح فى "نهاية الأيديولوجيا" التى يبشرون بها ، فهو بالضبط انهيار الدور المركزى للفكرة فى الجهاز الاجتماعى . فالفكر لم يعد مستقلا ولا مصدر الحقيقة، بل أصبح تابعا ، تابعا للإنتاج (ماركس) واللا وعى (فرويد) والسلطة (فوكو) ، أصبح كما أشرنا منذ البداية مُنتَج اجتماعى كغيره من المنتجات . إن العقل ذاته (ناهيك عن الهوية) لم يعد يشعر بالاستقلال ، فهو منخرط منذ أكثر من قرن فى البحث عما يؤسسه ، عما يوجه تغيراته ويحدد منظوراته ، أصبح منشغلا "باللا عقل" .. والحرية التى حمل لواءها لم تعد "خطة ذكية" ولا معتمدة على الرشد الإنسانى المجرد .
وكما فكك العقل الحديث عقل التنوير المجرد القديم ، فإنه يفكك أيضا الأيديولوجيات الرومانتيكية ، مثل أيديولوجيات الهوية .. لأن المفاهيم التى تستند عليها هذه الرومانتيكيات تترنح أيضا ، سواء سُميت روح الشعب ، أو الحضارة أو الجماهير أو العدالة .. فكلها أصبحت فى الفكر المعاصر مؤسسة على قوى وعلاقات اجتماعية وانكشف طابعها الأيديولوجى .
4 - ولما كنا خارج محورية الإنتليجنسيا ، ومحورية الفكر ، فقد سقطت "قداسة المثقف" ، القلب النابض للإنتليجنسيا وحامل الفكرة وحارسها .. فالمثقف لم يعد أكثر من مهنى ، منتِج متخصص فى إنتاج الأفكار ، جزء من الآلة الاجتماعية الكبرى . وهو يُنتج لسوق معرفى ضخم ، فائق الاتساع ، لا يُعرف له أول من آخر ، ولا تُعرف نتائج أفكاره وأطروحاته فى الأذهان . وهو نفسه يتلقى ثقافته من سوق هائل ، ملىء ، ليس بالكتب فقط ، ولكن بالصحف والأفلام والمسلسلات ، عالم بأكمله يقدم فيه كل مثقف رؤية ما ، بخصوص موضوع ما .. ويتفاعل ذلك كله خارج مركز القيادة الذى يُفترض أن المثقف كان يمثله . فإذا كان المثقف قد أسس قديما فكرة الدولة المركزية المجردة من موقعه المركزى المجرد ، فهو الآن مضطر لأن يفككها ، بالذات لأنه ليس فى الموقع المركزى ، بل منخرط فى عملية التفكيك/ التخصص الاجتماعية العامة .. لذلك فهو فى عصر التفكيك ليس حامل المشعل ، ولا رائد البشرية ، وإنما هو مكافح مثلنا جميعا .. وهذا ما يمكن أن نسميه بلترة الإنتليجنسيا . ومن هنا ذلك النفس القصير الذى يميز تناول الإنتليجنسيا الوطنية لأفكار ما بعد البنيوية ورفضها السريع وتزايد اعتصامها بشعار الخصوصية . ذلك أن الإنتليجنسيا المصرية ليست بعيدة عن كل هذه التغيرات ، برغم أنها طبعا أبطأ ، لبعدها نسبيا عن مركز صناعة النظام العالمى الجديد . وقد رأينا مقدما بالفعل كيف تندرج الأيديولوجية الوطنية عمليا فى العولمة ، ويندرج الإخوان فى الأيديولوجيا الوطنية . غير أن الحجم الهائل للإنتليجنسيا المصرية وأزمتها الحادة أطالت عمر أيديولوجيات الهوية لتظل تمارسها ضمن أفق مسدود ، وفى ظل غياب الحركة المستقلة للطبقات المضطَهدة الأقوى والأكثر أهمية .
إن أزمة خطاب الهوية هى عنوان المرحلة التى تمر بها الإنتليجنسيا المصرية المعاصرة ، لأسباب تخرج تماما عن نطاق عالمها الفكرى "المقدس" ، أسباب عميقة تفسر لنا تراجعه النسبى ، والمحاولات المختلفة للخروج من تحت تأثيره وهيمنته من خلال مجموعة من الصيغ الجديدة :
1 - أولها أفكار مجموعة التراثيين الجدد ، بداية من المفكرين الحقيقيين مثل طارق البشرى وانتهاء بديماجوجية وبراجماتية حزب العمل وعادل حسين . ليست فكرة "الإسلام هو الحل" هى ذاتها فكرة الحاكمية ، لأنها عبارة عن تمصير وطنى للفكرة الحاكمية ، أى إدماج للإسلام فى "التراث الوطنى" الإنتليجنسوى . فمؤدى الفكرة أن الإسلام سينقذنا - بالإضافة لأنه عظيم طبعا - لأنه أيديولوجية الأمة (المصرية أو العربية) ، القادر على حشد طاقاتها النضالية . فالإسلام السياسى هنا يجب أن يخضع للمتطلبات الوطنية ، فتُنزع مخالبه ضد الأقباط وضد حريات المرأة ، وخصوصا ضد الوطنية . وبالمقابل على الوطنية أن تعترف بالإسلام مضمونا لها . والمقصود هو دمج الطرفين ؛ الإسلامى والوطنى ، فى مشروع هوية موحد . غير أن هذه عملية إنتاج وليست "اكتشافا" : فالفكرة تطمح إلى أسلمة الأيديولوجيا والإنتليجنسيا الوطنية وأن تستعيد الإنتليجنسيا بهذه الطريقة الثقة بنفسها .
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة .. لأن عملية الدمج هذه من شأنها تجريد الإسلام السياسى من محوره الحاكمى ، وتجريد الوطنية المصرية من مفهوم المواطنة الذى لا يعتمد على عقيدة دينية . وبالإجمال ، يتم التضحية بالهوية من أجل خلطة سياسية . فالعقيدة تخضع للسياسة .. ولكن السياسة تميل متأرجحة بين العقيدتين .. تميل اليوم نحو الإسلام السياسى الأقوى على الساحة الإنتليجنسوية وتميل غدا نحو الأيديولوجيا الوطنية إذا انحسر الإسلام السياسى .
ولأن هذا التيار ليس وطنيا ولا حاكميا ، فهو بغير وزن سياسى فى حد ذاته، فاقد للثقة والاعتبار ، ينظر إليه الإخوان مرتابين لأنهم يخشون على أيديولوجية الهوية الخاصة بهم من الخلطة الجديدة ، وينظر إليه الوطنيون رافضين لأنه يجرد الوطنية من أسسها الأيديولوجية . ولأنه تيار يقوم على توفيق أو خلطة أيديولوجية، فهوزاعق الصوت ، عالى النبرة ، سواء فى دفاعه عن الوطنية أو الإسلامية ، ليغطى بهذا الزعيق على الحقيقة البسيطة التى تقول أن اجتماع هويتين يؤدى إلى إذابة مفهوم الهوية بمجمله .. لأن الهوية أيا كان عنوانها مذهب أحادى ، لا يقبل الشركاء .
إن هذا التيار يمثل اللحظة الأولى (بالمعنى الهيجلى) فى إذابة مفهوم الهوية ، ولذلك فهو يجذب ، برغم كل الزعيق الذى يمارسه ، هؤلاء الراغبين فى التخلص من ورطة صراع الهويات لصالح أهداف سياسية مباشرة ، ولكنه يجذب أيضا الراغبين فى اللعب على اجتماعهما لصالح أحدهما .. ومن ثم فهو دائما يشعر بأنه مخدوع .. بالضبط كما يشعر الآخرون أنه يخدعهم .
2 - وفى مقابل هذه "الخلطة" يوجد تيار آخر يمثل النفى المباشر لأيديولوجية الهوية ، بالتخلى عنها ، أو عن طرفيها بمعنى أدق . إنه الجيش الذى تكون منذ بداية أزمة الهوية فى الستينات ، جيش اللا منتمين الرافضين للاَّفتة القومية واللافتة الإسلامية على حد سواء ، المنسحبين من ثم من معركة الهويات عموما . فمن داخل خطاب الهوية المسيطر فى الستينات انسحب الكثيرون من معارك النظام المقدسة ، وكتب عنهم هيكل "أزمة المثقفين" . وإذا كان هيكل قد خص المثقفين بالنقد فلأنهم تحت الأضواء ، وبالتالى بقعة فى جبين النظام الذى يستند إلى مبدأ الأيديولوجية الوحيدة . ولكن كل من عايش هذا العصر يعرف كيف كانت الانسحابية من الحياة "الوطنية العسكرية" العامة أعمق كثيرا من أن تخص المثقفين وحدهم .
وبحلول السبعينات تبلور هذا الرفض فى جماعات مغلقة ، محدودة الانتشار بحكم طغيان الهويات الوطنية والإسلامية المستجدة المدعومة من النظام .. فخلق شعراء المرحلة لغة السبعينات الرمزية ، المثقفة ، الخاصة جدا ، الغائصة فى بحار الصوفية أحيانا .. وتبنى الشيوعيون المتطرفون التروتسكية ، لتكون فى طبعتها المصرية لغة خاصة جدا ، لغة ماركسية ولكنها لا تشتبك مع الأيديولوجيات السائدة ، منشغلة بدور سياسى وتنويرى محدود ، يدور حول قضايا الثورة العالمية والصراعات التاريخية بين التروتسكية والستالينية ، ولكن المتجاوزة تماما لأيديولوجية اليسار الوطنى وقضايا الهوية .. وغيرها عديد من الجماعات التى قدمت مساهماتها لهدم هذا الجانب أو ذاك من أيديولوجيات الهوية السائدة ومقدساتها ، رافضة الاندراج فى أى هوية منها . ولكنها لم تقدم فى الواقع سوى مجرد نقد "من حيث المبدأ" دون مواجهة عميقة للواقع ، وقدمته أيضا بلغة منعزلة شديدة "الخصوصية" ، وبإحساس عارم بالحصار ، لتخلق بذلك كله جزيرة رفض صريح لأيديولوجيات الهوية . ولا يجوز أن يخدعنا هنا الميل التراثى الملاحظ أحيانا فى هذه الكتابات ، فالطابع العام المعادى للتابو ، وللتراث الواقعى كما تبلور "وطنيا" على يد مدرسة المجددين - ممن خلقوا ما عُرف بالتراث الوطنى ، إسلاميا كان أم فرعونيا - يتجاوز بذاته أفق الهوية .
وكان من الطبيعى أن تنتهى هذه العوالم المغلقة إلى الإفلاس من حيث هى مشروع متكامل . ولكن تيار الرفض السلبى واصل تبلوره ، ليصل إلى ما يمكن أن نسميه الآن "النزعة الذاتية الجديدة" ، المعاصرة لنا ، التى أفلتت من العوالم الغامضة لتتحدث عن المباشر ، اليومى ، الحسى ، الملموس جدا ، وتبلور بالمقابل رفضا حاسما للشعارات السائدة ، لتطالب بحجر "لم تنل من هويته رموز القضايا العامة" () ، وتعيش فى نوع من "التجريب الخالص" إذا جاز التعبير ، وتسخر من الرموز والقضايا والأيديولوجيات وقيم الطبقة الوسطى ، بما فى ذلك ثوراتها وانتفاضاتها المزعومة ، ومقدساتها .
وإذا كان هذا الموقف يصب الآن فى "اللا مشاركة" ، التى لا يمانع فيها النظام عمليا ، فإن ما ينطوى عليه من عزل لمنابر مثقفى الهوية يهدد جديا قبضة النظام ، ومثقفى الهوية على اختلافهم ، بإمكانيات للحركة خارج "الأطر المتفق عليها" فى أى وقت .. أى خارج الشبكات الخيالية للنزعات الوطنية والدينية والأخلاق المتفق عليها .. حركات غير محسوبة مسبقا من قبل المنابر والأجهزة .. ومن هنا النبرة العالية للخطاب النقدى المعاصر الذى تمارسه كل أطراف لعبة صراعات الهوية لجذب هذا الكم المجهول ، أو العناصر الأكثر مقدرة على الحركة .. لإظهارها للعلن أو التعامل معها فى الأطر المحسوبة سلفا . غير أن أكثر ما يزعج مثقفى الهوية ليس هذا "الجيل الفاسد" أو "الجيل الميت" الذى يسعى الجميع "لإيقاظه" - كل بمعرفته ، وإنما يزعجهم بشكل أكثر إلحاحا انتقال هذه الحالة إلى الكتابة ، إلى مجتمع الثقافة الرسمى (الذى يشمل المؤيدين للنظام والمعارضين) . ومن هنا ينبرى الجميع إلى "تكفير" هذه الاتجاهات أو "تفسيرها" بشكل ملائم للخريطة السائدة ، أى الضغط بوسيلتى العصا والجزرة إلى حين استيعابها أو القضاء عليها . فالأكثر أهمية يظل فى جميع الأحوال الحفاظ على الطابع الأساسى للمنبر الفكرى والأدبى ، أى طابعه المنبرى بالذات . وهكذا فإن هذه الكتابات موسومة بعدم الجدية ، بعدم الأدبية ، بل بعدم لغويتها !! إما ذلك وإما ادعاء وجود معنى عميق يجرى اكتشافه .. وفقا للتقاليد المعترف بها .
وإذا كان "انحراف" عامة هذا الجيل مشكلة من الدرجة الثانية عند مثقفى الهوية ، فسبب ذلك يرجع إلى تفويضهم التقليدى للحكومة لتتعامل بوسائلها الإدارية الخاصة - المادية جدا - معهم .. بحيث "تتهيأ" أذهانهم - بوسائل القمع والمنح - لتلقى وتعاطى خطابات الهوية وأخذها مأخذ الجد.
وعن طريق تجاهل مثقفى الهوية لقيامهم بهذا التفويض نفسه ، يتاح لهم أن يواصلوا اجترار ترتيبهم "الطبيعى" للعالم ، الذى يتميز بأولوية المُقال على المُعاش ، وعالم الكتابة على عالم الشفاهة ، والعمل الذهنى على العمل اليدوى ، والنص على الواقع (ليست هذه ظاهرة حاكمية فقط) ، ويتاح لهم أيضا أن يواصلوا معاركهم مع بعضهم البعض ، معارك تسييد النص الحاكمى على النص الوطنى أو العكس ، النص الانفتاحى على "الاشتراكى" أو العكس ، والتى تفترض جميعا أن مستقبل المجتمع يحسمه الخطاب السائد ، وأن الخطاب المضاد هو الذى يعوق كل طرف عن صياغة وتشكيل الواقع ذاته .
ليس المقصود هنا فضح هذه المنابر "الهوياتية" ، فهى تكفى الجميع مشقة بذل هذا الجهد ، بقيامها بفضح بعضها البعض ، حقا وزورا .. وإنما المقصود هو ملاحظة الكيفية التى تتساند بها هذه الهويات المتصارعة إلى بعضها البعض .. وكيف ترسم سويا ملامح صورة واحدة . فمن خلال صراعها تكرس معا مبدأ واحدية المنبر القائد للمجتمع الذى يتصارعون حوله ، بينما تضفى صورة هذا المنبر الوحيد التى تكرسها خطاباتهم المشروعية والمعنى على هذه الخطابات ذاتها ، وعلى صراعاتها سويا .. ليتحقق فى النهاية ترسيخ خطاب الهوية ، بالضبط من خلال تحويراته العديدة وتطاحن هذه التحويرات العنيف .. فضلا عن تكريس المنطق السلطوى لمبدأ واحدية المنبر وكذا الطابع الدولتى المشترك لهذه الأيديولوجيات .. ليصنع هذا كله بنية متراكبة من شرائح منزلقة على بعضها البعض .. من الأقوال التى تتساند من خلال صراعاتها ، والأوهام التى تتخلق حول الأبعاد الكلية والمطلقة لهذا الصراع ، والتى تكشفها - لمن يملك صبر الرؤية - التحالفات والممارسات العملية ، التى يعاد إخفاء أهميتها مرة أخرى بتسميتها تسمية تهون من شأنها .. بتسميتها "تكتيكات" !!
وفى مقابل الخطابات المثقفاتية المبدئية الهوياتية ، يتمتع الخطاب الحكومى بأهميته المحورية بوصفه خطابا لا منبرى .. أو بالأصح متعدد المنابر والوجوه .. بكونه خطاب الأمر الواقع والمصالح المباشرة ، وقدرته على خلق خطابه من خلال آلاف الوسائل المادية والإدارية ، أى بوسائل أعمق من أن تكون مجرد أيديولوجيا.
ومن خلال مركز القوة هذا يستطيع النظام - كما يفعل فى الواقع - أن يتنازل عن هوامش للحركة لمختلف ألعاب صراعات الهوية ، ومن خلال هذه القدرة يُشرك الجميع بالفعل فى مهمة دعم وجوده الخاص ، بالقدر الذى يستطيع به أن يحافظ على دوران هذه الخطابات المتعارضة (تأييدا وهجوما على حد سواء) حول المركز الذى يمثله هو . فالنظام المنفرد بالواقع السياسى/ الإدارى يَقوى من خلال هذا النوع من الصراع ضده هو بالذات .
ليس هذا المسرح الواسع بالأمر الهين .. وخصوصا فى مجال الفكر .. فغالبا ما تنجح هنا سياسة العصا والجزرة طالما احتفظ المثقف بوضعه الخاص كمثقف ، كحامل رسالة ، كصاحب منبر، صراحة أو ضمنا ، بالفعل أو بالقوة ، طالما انطلق المثقف من دور ريادى مزعوم ، وادعى لنفسه القدرة على إبداع عالم جديد .. هنا يعاد استيعابه ، أو استيعاب إسهاماته ، فى الأطر الملائمة لتحديث الدولة ذاتها .
هذا المثقف المتمرد .. صاحب القضية العالمية أو العامة ، تنتجه الأطر القائمة كل يوم ، وتستوعبه كل يوم .. تنتجه على الهامش .. وتتلقى زخمه .. ثم تدمجه .. ليعيد هو صنعها وبناءها . فالهوية تجد أحد أسسها فى هوية المثقف ذاته ، والعقلانية تجد أحد أسسها فى عقل المثقف أيضا .
ليست العولمة والخصوصية سوى وجهى عملة أيديولوجية واحدة ، أيديولوجية رأس المال الذى أصبح عالميا ضمن أطر قومية : عالميا فى الاستغلال ، ومحليا وطبقيا فى التوزيع . وفى مقابل هذه العولمة/ الخصوصية ، ليس ثمة من بديل سوى عالمية حقيقية ، عالمية تحارب الهوية فى جميع أنحاء العالم ، القومية والعنصرية والدينية ، وتستطيع فى نفس الوقت أن تفتح الباب واسعا لتطور أية خصوصية من أى نوع تفرض نفسها كمدخل ممكن ، لا يفرض نفسه كمدخل وحيد ، للتطور العالمى ذاته ، وذلك بالضبط لأنها لا تملك وصفة ولا نصا جاهزا للتطبيق يعبر عن "الطبيعة البشرية" أو أى مطلق آخر .
وفى هذا الإطار ، لم يسع هذا المقال سوى لأن يوضح "خصوصية" خطاب الخصوصية المصرى الحديث ، من حيث أسسه الواقعية . إن هذا اللغط الكثير حول الخصوصية ، هذه الكتابات التى لا تنتهى ، لا تدل بأى حال على هوية مقهورة ، بل على خطاب سياسى قمعى يتبوأ منبر السلطة عن طريق إثارة إشكالية تسمى الدفاع عن الهوية (الوطنية أو الدينية) ، خطاب يخلق هوية كمحرك سياسى، ويخلق المؤسسات التى تدعمها ، ويعكسها فى ذات الوقت ، وتتجاذبه البرجوازية والإنتليجنسيا ، التى لا تفلح فى التحليل الأخير فى التحرر من سيطرة البرجوازية . الهوية هى الجانب الآخر لخطاب العالمية المزيفة التى يطرحها الرأسمال العالمى .. وهى تتغير باستمرار مع تغير أوضاع هذا الرأسمال ذاته . وهى حتى حين تقاومه ، تقاومه بذات منطقه ، وتتحرك ضمن أفق حركته ، وهو ما رأيناه يحدث بالفعل مع أيديولوجيات الهوية التى أبدت نشاطا ملحوظا فى التكيف ، الذى لا يمنعها بالطبع من ممارسة طقوس لعن النظام العالمى الجديد ليلا ونهارا..!
غير أن فضح أيديولوجية الهوية لن يغير العالم ، إذا استمر فى الدوران حول مؤسسات الهوية على اختلافها ، إذا لم يتموضع فى مشروع لتفكيك مؤسسات الدولة بمؤسسات بديلة .. وإذا لم يجد روابطه على صعيد عالمى يتجاوز أفق الهوية السياسية النخبوية بمجمله .
إن أفقا عالميا جديدا لن يدخل أصلا فى تلك الإشكالية الضيقة التى تدور حول تفضيل القمع الإسرائيلى للفلسطينيين أو القمع الوطنى المرتقب لهم ، ولن يوازن بين دولة قومية وأخرى إسلامية، ولن يدخل عموما فى صراعات الهويات .. وإنما سيفضح الجميع ، وسيحرر المتمردين من أحلام وشهوة ممارسة القمع بأنفسهم بدلا من قاهريهم ، وسيقاوم الانقياد خلف رموز الهويات إلى المذابح الكبرى ، ولن يحارب القهر باسم الخصوصية ، ولن يحارب القمع الذى تمارسه الهوية باسم العالمية أيضا .. ولكنه سيفضح القهر فى كافة أشكاله ، خصوصا أشكاله "التحررية" ، التى تقود البشر كالأنعام للذبح على مسرح "التحرر" ، سواء من القهر "العولمى" من أجل القهر "الخصوصى" ، أو العكس .
مثل هذا الأفق لا دور فيه للطليعة القائدة ، ولا للقائد المعلم ، ولا ينبع من أية أشكال فوقية تمارس "التعبير" : التعبير عن مصلحة الوطن أو الدين أو الطبقة أو العرف ، أو حتى "الإنسانية المعذبة" ، ويرفض كافة أشكال التنظيمات الفوقية، التى تختار أعضاءها وفقا للولاء () ، بل يفتح أفقا ممتدا للكفاح فى مختلف المجالات ، وفى إطار الظروف الواقعية . وإذا نجح فى تحريرنا من التوجه "التحررى" للبحث عن قيادة ومذهب كلى هوياتى ، قمعى بحكم كليته ، سيكون قد نجح فى المسألة الجوهرية ، وهى منح كل منا الثقة بالنفس وبالآخرين ، النابعة بالضبط من إدراك أن مجمل هذه الخيالات الهوياتية أو العولمية ليس لها من سند فكرى ولا مادى سوى نحن أنفسنا .
ليست الإنتليجنسيا فى هذا العالم سوى قسم اجتماعى ، تخصص فى العمل الذهنى . وليست المعرفة "أرقى ما فى الإنسان" () كما يقول الوطنيون العلمانيون ، ولا العقيدة أيضا ، كما يقول سيد قطب وأنصاره ، ليس بالطبع لأنهما "أحط" ، ولكن لأن سلم القيم الإنتليجنسوى هذا يسقط بمجمله . فالإنتليجنسيا الحديثة سوف تدرك آجلا أو عاجلا أنها مجرد قسم من أقسام المجتمع ، أعجز ما يكون عن تحرير نفسه إلا إذا تحرر العالم كله ، وأن خبرته فى التنظيم لم يعد فى مقدورها أن تفيده بشىء سوى الأكل على موائد النظم والقوى التى تقهره ذاتها مقابل قيامه بتنظيم وتبرير عالم محدد سلفا . أما العالم الجديد فهو عالم لم يبدأ بناؤه بعد ، لأن رفض العالم القديم لم يتموضع بعد .. ولم توجد بعد "ديانة الحرية" التى تعنى أكثر من مجرد حرية الانقياد لعبودية جديدة ، لم توجد بعد أفكار للحرية غير نخبوية .. وتلك مهمة لا يمكن أن تضطلع بها سوى أجيال .. ولا أقصد أجيال المفكرين وحدهم .
ومن هنا لا يدعو هذا المقال إلى أى نوع من الاستشهاد ، ولا البطولة ، فضحايا العالمية الجديدة ليسوا فى عرف أنفسهم أكثر منن أفراد أصيبوا إصابة عمل ، ولن يسمحوا لزملائهم أو لغيرهم أن يتاجروا بدمائهم ، إذا أُسيلت ، على نمط تجارة النظام وكُتابه بدم التلميذة شيماء ، أو تجارة الإسلاميين بقتلاهم ، وذلك بالضبط لأن الحرية العالمية ليست معركة نخب ، ولا ثأرات ، ولا تعترف بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" ، ولا المبدأ المؤسس القائل بأولوية مطلقة للكل على الجزء ، كما لا تقوم فكريا على تصيُّد الأخطاء والتناقضات فى صفوف الأعداء .. وهى لا تمارس هذا الترفع وهذه النزاهة فضلا وكرما .. وإنما فقط لتكون هى نفسها ، ولا تكون شيئا آخر .. لتكون حرية منسجمة .
ولا يطلبن منى القارئ أن أختم هذا المقال مفصلا له "استراتيجية للتحرر" ، فكفاه ما تسلل إلى المقال من "منبرية" ، فالمقال لا يدعو إلى أيديولوجية نخبوية جديدة تسمى العالمية ، ولا يفترض أن اكتمال أطروحته سيكون مثل هذا النوع من الأيديولوجيات ، بل لعله يطمع أن تصل رسالته واضحة إلى القراء بحيث يقلعون عن البحث عن مثل هذا النوع من الأيديولوجيات النخبوية بمختلف أشكالها ، ويطورون أطروحاته فى مائة ألف اتجاه ، لا يحترم أى منها أية فكرة على أنها أصل وحقيقة ، لأن الحقيقة لا توجد أصلا فى أية فكرة بحد ذاتها ، ولا حتى فى عالم الأفكار عموما .
ولا حتى فى هذا المقال ...
هنا ينبغى لهذا المقال أن يفى بدينه الأخير تجاه قارئه .. أن يكشف له حدوده الخاصة - حدود هذا المقال - حدود المراقب من داخل الخطاب الرسمى (بالمعنى الواسع الذى يشمل الخطاب الحكومى وأعدائه) .. تلك الحدود التى تفرضها بنية المقال ذاتها ، التى هى دائما منبرية ، شاء المقال أم أبى .. تلك المنبرية التى تكمن فى ترتيبه الطبيعى بين بداية ووسط ونهاية ، فى نموذجه الذى يفترض كمثل أعلى تماسكا مطلقا وإحاطة شاملة بموضوعه ، فى التوقيع الذى يتصدره أو يذيله لكى يكرس سلطة الكاتب تجاه القارئ ، ويقدم للأخير الإيحاء بالمصدر الإبداعى الذى ينبثق منه النص ، فى شعور الحرية المزيف الذى يمنحه العمل الحرفى للكاتب المستقل ، وأيضا فى عمليات الطباعة والتوزيع التى تكرس حركة فى اتجاه واحد من المُرسل ، الكاتب المختفى ، إلى المستقبِل الذى يستهلك ويصمت . ومن هنا يحق للقارئ أن يفسر هذا المقال ، وفقا لمنطقه ذاته ، بأنه ليس إلا منبرا جديدا ، وخندقا جديدا ، يضاف إلى قائمة المنابر والخنادق ..
لا .. لن يكون هذا التفسير متجنيا ..
غير أن هذا المقال يطمح إلى شىء آخر ، يطمح من خلال هذا التفسير نفسه إلى :
أن يطور إلى النهاية مشاكل وتناقضات هذه الصيغة المنبرية .
أن يحرر كل قارئ ، بشكل ما ، من هذا التابو العميق الذى يستخدم بالضرورة فى عصرنا لتبرير كل تابو ثقافى آخر .
أن يطرح مهمات من قبيل كسر الفواصل بين المكتوب والمسموع ، بين الخطاب العالِم والخطاب العامِّى .
أن يفتح ويشجع على فتح الثغرات الممكنة التى تتخلل كل خطاب مهما بلغت ادعاءاته بالاتساق والصحة ، ومهما بلغت مهارته فى إخفاء مشكلاته.
أن ينبه الخطابات الجديدة إلى مأزق رايات "ما بعد الحداثة" ، و"الكتابة الجديدة" وغيرها ، والتى تكرس جميعا ذات النمط الثقافى مع استبدال أبطاله من وقت لآخر .
هذا الخطاب يطمح إلى أن يطرح على قارئه مأزقا حقيقيا ، بدلا من كتابات الأزمة الكثيرة التى تنتهى دائما إلى طرح الحل السعيد للأزمة التى أثارتها . وبدلا من ذلك ، يقدم هذا المقال نفسه كنموذج لثغرة الخطاب المقالى ، نموذج مُكبر إلى أقصى حد ممكن للثغرات الموجودة بالفعل فى كل مقال يتم فحصه عن قرب .
وأخيرا ، يطمح هذا المقال إلى طرح مجمل الآفاق الممكنة لالتزام فكرى وسياسى وأدبى خارج هذا المستنقع .. يطرحها ... كإمكانية .
 
  
هنا ... ينتهى هذا المقال ..
ولا تبقى سوى رسالته الأخيرة .. رسالة شخصية إلى معشر الكتاب ، لا تستثنى كاتب هذا المقال .. ميثاق شرف يهدف إلى إنهاء مسئولية "رسالة الكُتاب المقدسة" ووصايتهم على القراء .. صراعهم الضارى لاحتلال منبر السيادة والتوجيه المتعالى باسم المبادئ ، أيا كانت . فيا أيها الكُتاب...
1. 1.     
2. 2.  من احترم منكم حقيقته التى ينادى بها (وطنية أو حاكمية أو شيوعية أو غيرها) ..
3. 3.    فليكشف لنا كيف يناور بها ..
كيف يُخفى بعضها ويحور بعضها حسب الأحوال ..
كيف يحور كلامه مع نفسه فيختلف عن كلامه للحواريين وكلامه للناس .. "للعامة" ..
كيف يضطر لإخفاء حقيقة لا تتفق مع هواه وهوى مبدئه ..
4. 4.    يا هؤلاء الذين يريدون تحرير الناس ...
5. 5.    من الاستعمار .. من الطاغوت .. من الرأسمالية .. وأنا منكم ..
فلنحرر أنفسنا أولا من كل ذلك ..
من نير حقائقنا ..
من نور عظماتنا الذى يغشى العيون ..
من عظمة دورنا التاريخى أو الإلهى أو الوطنى ..
6. 6.    اكشفوا ..
7. 7.    اكشفوا للناس شهوة السلطة التى تحرك القلم ..
اكشفوا سلطة المقال عليكم .. سلطة "أمانة" الاتساق المعادية لأمانة الحقيقة ..
لنمزق رداء التواضع الكاذب ..
لنعرى ألوهيتنا الدفينة ..
لنتواضع تواضعا حقيقيا ..
لنكشف للناس اعتباراتنا التى تحكم نصوصنا ..
ولنشرح لهم كيف يتكون "صدق المشاعر" فى إبداعاتنا .
8. 8.    أقول لكم أيضا .. لنكشف للناس تواريخنا ..
9. 9.    تواريخ صراعنا التى جعلت منا كُتابا ..
تواريخ إزاحتنا من أجل الحقيقة والمنبر والمكانة ..
تواريخ إحباطاتنا من سياقات أخرى فى الحياة ..
10. 10.                      لنشرح لهم ..
11. 11.                      لنشرح مأزق الكتابة والإبداع على هوامش الحياة ..
لنشرح ألم "الحياة البديلة" فى خندق الثقافة ..
لنشرح ملابسات النشر والدعاية والشهرة التى تهبط بالخطاب من علياء تجرده .
12. 12.                      ولكن ... لا نلبسنَّ مسوح الشهداء ..
13. 13.                      لنكن متواضعين .. مثل كل نجار مبدع فى حرفته ..
لنكن أحرارا ، ونتخلص من رداء العظمة الذى يقتل أرواحنا وأبداننا .
لنكن صرحاء ..
ولندع الناس يتحررون من هوياتنا ..
ليصنعوا هوياتهم وإبداعاتهم ..
إذا كنا نؤمن حقا بأن الحقيقة صنو الحرية ..
14. 14.                      لنكف عن الحديث عن "المبادئ العظيمة" ...
لنحبط توالدها الطبيعى فى أزمنة الانحطاط ......

 



#شريف_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو إعادة بناء لليسار
- لماذا فشل مشروع التنوير ؟؟
- عن الفن والأدب فى ظل الناصرية: دراسة لدور المثقف فى ظل حكم ا ...
- مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية
- مأزق القومية فى الماركسية المصرية


المزيد.....




- جامعات بتونس تشهد احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين.. وصحفي يعلق لـ ...
- روجوف: ماكرون مصاب بـ -فيروس زيلينسكي-
- شاهد: حلقت لمدة 11 ساعة برفقة سوخوي سو-30.. روسيا ترسل قاذفا ...
- أردوغان يعلن إغلاق باب التجارة مع إسرائيل وتل أبيب تبحث فرض ...
- الصين ترسل مسبارا للبحث عن أسرار الجانب المظلم من القمر
- صحيفة: إسرائيل أمهلت حماس أسبوعا للموافقة على اتفاق لوقف إطل ...
- استخباراتي أمريكي سابق يحدد كم ستصمد ألوية -الناتو- في حالة ...
- بالفيديو.. مئات أسود البحر تجتاح منطقة فيشرمان وارف الشهيرة ...
- في يوم حرية الصحافة.. غزة وأوكرانيا تفضحان ازدواجية المعايير ...
- مصر.. أستاذ فقه بجامعة الأزهر يتحدث عن حكم -شم النسيم- والجد ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - شريف يونس - الوداع الأخير للحرس القديم أزمة الإنتلجنسيا المصرية وأيديولوجيات الهوية