أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شريف يونس - مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية















المزيد.....



مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية


شريف يونس

الحوار المتمدن-العدد: 370 - 2003 / 1 / 17 - 05:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



آن الأوان لإلقاء نظرة فاحصة على تلك الظاهرة التى نشطت فى السنوات الأخيرة والتى أسمت نفسها "التنوير" أو "التنوير الجديد" . وليس ذلك لمحض مرور وقت كاف على نشاطها العلنى، أو العلو الملموس لصوتها فى منابر حكومية وغير حكومية فحسب ، ولكن للكشف عن جذور التدهور الخطير الذى صحب الظاهرة منذ البداية ذاتها ، والذى ترافق مع علو صوتها .

ذلك أن التنوير الجديد فى مصر ، الذى بدأ محتجا على التحالف غير المعلن بين السلطة فى عصر السادات وبين الإسلام السياسى والأصولية الإسلامية عموما، كشف فى مجريات الصراع عن طاقة محدودة للغاية ، سواء لمواجهة النظام وإنجاز تنوير حقيقى ، أو مواجهة الأصولية الإسلامية .. ومحصلة جهوده ، والتى تعبر تماما عن طابعه ، هى الوثوب على الفجوة التى قامت بين الأصولية والسلطة مع احتدام الصراع بينهما ، والارتماء فى حضن السلطة لترفع عنهم خطر شيطان الأصولية الرجيم ، بمقابل غير معلن ، هو التحرك فى إطار خطة النظام ، التى هى ليست بخطة تنويرية بأى حال من الأحوال .

وهكذا فإن جهود السادة أقطاب التنوير المعاصر أصبحت تدور حول محورين أساسيين : رفع راية الوطنية فى مواجهة راية الأصولية ، بل وتقديم هذا التفسير (غير الفقهى) بوصفه "التفسير الصحيح" للإسلام فى مشهد غريب لا يقنع أحدا . وجمعا بين المحورين فقد اجتمع السادة مثقفو التنوير ووقعوا بيانا يندد بمحاولة اغتيال الأديب الكبير نجيب محفوظ ، دمغ المتورطين فى المحاولة بأنهم "أعداء الأديان والأوطان" . وتأكيدا على هذا التوجه الأيديولوجى حرص البيان على الإشارة إلى الإسلام السياسى الراديكالى باسم "الإرهاب المتستر بالدين" . وبمعنى أوضح ، فقد تطوع هؤلاء السادة فى مشهد كوميدى عجيب بتعيين أنفسهم فقهاء للإسلام ، يقدمون "تفسيرا صحيحا" . أما العلمانية ، جوهر التنوير ، فقد تاهت فى الزحام ، وما لها من ولى ولا نصير !!

والعلمانية ، حتى لا ننسى ، هى ذلك المبدأ الذى ينادى بفصل الدين عن الدولة وعن التعليم العام ، وتحويل الدين ، كل دين ، إلى شأن خاص بالفرد ، وكفالة حرية العقيدة ، بمعنى حق الأفراد فى تغيير عقائدهم كيفما شاءوا ، دون اعتبار ذلك إخلالا بالنظام العام ، ومن ثم رفض ادعاءات أتباع أى دين أو ملة بأن من حقهم فرض تصوراتهم الخاصة على المجتمع . وهى مطالب لا يستقيم طرحها دون طرح أساسها الفكرى ، الذى ينطلق من رؤية إنسانية غير لاهوتية للعالم ، تحرر الفرد من الخضوع للقهر باسم الغيبى والمطلق والمقدس ، وتأكيد مسئولية الإنسان عن عالمه ونظامه الاجتماعى - بأوسع معنى للكلمة - وبالتالى رفض الأصوليات الدينية على اختلافها . وأخيرا فإن العلمانية ترى فى هذه المطالب أو تلك الأسس الفكرية لا مجرد مبادئ صحيحة فى حد ذاتها ، بل ترى فيها شروطا ضرورية للتقدم التاريخى ، وتحرير البشر من أشكال القهر والوصاية الفكرية ، وتمكينهم من بناء عالمهم بحرية ، ومن التحقق والازدهار .

وفى ظل النظام العلمانى ، لا يجوز للدولة أن تستند إلى مرجعية دينية من أى نوع ، ولا يجوز لها أن تحجر النقاش الحر حول الأديان والعقائد ، بل وتحمى حق نقدها . وفى إطار واقعنا المعاصر فإن المسألة الجوهرية هى مطلب تحرير الفكر والممارسات السياسية والاجتماعية من الأديان ، أى من التقيد بأى مرجعية دينية.

والحال أن التنوير المصرى المعاصر أصبح شاغله الأساسى هو بالذات التهرب من هذه المسألة .. بل يبدو أنه قد نسيها أصلا !! ولا أدل على ذلك من أن التنوير المعاصر ، وهو يذود عن فرج فودة أو نصر حامد أبو زيد أو نجيب محفوظ لدى تعرضهم للإرهاب - المسلح وغير المسلح - من جانب الأصوليين ، فشل فى الدفاع عن حريتهم المطلقة فى التعبير ، وجنح بالمقابل إلى الدفاع عن صحة إسلامهم ، الأمر الذى يعنى التسليم الضمنى بحق الأصوليين فى قتل المرتدين عن الإسلام (ذلك طبعا لأن الكفر بالمسيحية أو أى دين آخر لا عقاب عليه أصلا ، بل يثاب المرء عليه فى الدنيا، وربما فى الآخرة أيضا!) ، وهو ما لا يساوى فحسب التنصل من مبدأ حرية العقيدة ، والعلمانية ، ولكنه يعنى أيضا انعدام القدرة على الدفاع عن حرية الفكر ، التى هى أولى الحريات اللصيقة بأشخاص التنويريين ، ناهيك إذن عن الحريات الأعم ، أو مطلب التنوير الأيديولوجى الحقيقى على نحو ما سنرى .

وإزاء هزال التنوير المعاصر فقد رأت هيئة الكتاب أن تستدعى الموتى - كُتاب التنوير القدامى - لينوبوا عن الأحياء فى مواجهة الأصولية ، فأصدرت سلسلة "المواجهة" بين الأحياء والأموات ! وحتى فى هذه الحدود فقد رأت أن تحذف من نصوص الموتى التنويرية ما يتخطى قدرتها هى على "المواجهة" .

وبصرف النظر عن الطبيعة المراوغة لنصوص التنوير القديمة نفسها فإن التنوير ليس معركة نصوص وإنما معركة سياسية - اجتماعية - أيديولوجية حية ، والأصولية لا تستمد قوتها من إعادة طبع ابن كثير وإنما من أعمال مفكريها الأحياء الذين يطرحون إجابات أصولية على قضايا الواقع المعاصر ، وفى إطار هذا الطرح تأتى استعادة أفكار ابن كثير أو غيره . والحال أن العلمانية المعاصرة تتجنب بالذات الاشتباك مع جوهر الطرح الأصولى ، سواء فى كتابات حسن البنا أو سيد قطب أو الغزالى أو غيره من المشايخ ، اللهم إلا ما يمكن تصيده من عباراتهم مما يصدم الرأى العام ، سواء أكان يصدم بديهيات الإسلام الشعبى ، كالتكفير ، أو الأفكار الوطنية . أما جوهر مفهوم العلمانية، كما أوضحناه ، فلا يجرى الدفاع عنه إلا بشكل ملتوٍ ، وفى أقصى الحالات ، حالة الدكتور فؤاد زكريا ، عن طريق محاولة إيضاح تناقضات كامنة فى فكرة الحاكمية . وسوف تكشف هذه الحالة بالذات كيف أن هذا "اللف والدوران" ليس من شأنه أن يجنبنا الاصطدام بحائط الحاكمية . فردا على طرح الدكتور فؤاد زكريا فى ندوة قديمة بعنوان "الإسلام والعلمانية" ، ومؤداه أنه لا مفر من أولوية العقل على النص ، حيث أن حكم الإسلام لا يخرج عن كونه حكما بشريا مبنيا على تأويل للنص ، أوضح القرضاوى وآخرون أن هذا لا يمنع من أن الحكم البشرى استرشادا بالنص الإلهى يظل أفضل من الحكم بغير هذا الاسترشاد ، وأن الإسلام يأمر بهذا الاسترشاد ، وهو أمر صادر ممن هو أعلم بالبشر ، وأن القدرة على التأويل ليست مطلقة وإنما لها حدود يعرفها "أولو العلم" .

وفضلا عن ذلك ، فإن القول بمطاطية مطلقة فى تأويل النصوص من شأنه أن يجرد المطلب العلمانى ذاته من أى معنى ، فإذا كان التأويل مطلق القدرة، فهذا يعنى الهبوط بالنص الأصلى إلى مرحلة العدم . والحال أنه ما من عاقل يطالب بتنحية حكم العدم . وحقيقة الأمر أن الطرح العلمانى إنما يريد أن يتخلص من حاكمية النص عن وعى وإدراك كاملين بمخاطر محتواه ، وهو محتوى تشكل تاريخيا عن طريق الفقه . فالإسلام فى تفسيراته السنية والشيعية والخارجية على حد سواء دين ودولة . والأصولية بمعنى إخضاع مجمل الكيان الاجتماعى لأحكام فقهية أمر يلقى اتفاقا يمتد من الأزهر وحتى "التكفير والهجرة" . ومع اعتقادى بأن الخلافات بين مختلف اتجاهات التيار الأصولى هى اختلافات وصراعات حقيقية وليست صورية ، فإن هذه الاتجاهات تشترك فى تبنى قيم معينة تقوم على إهدار الحريات والفردية والمواطنة ، وتنطلق من نظرة سلطوية نخبوية للمجتمع ترمى إلى إخضاعه لرؤيتها التى تعتبر الإسلام فى المقام الأول مبدأً شاملا لتنظيم كل مناحى الحياة الاجتماعية يتعين فرضه فرضا ، بالإضافة إلى بث روح الوسواس القهرى عن طريق الحث على الخوف المتواصل مما يسمى المعاصى ، والترويج لأداء عبادات وآداب لا تنتهى ، تحكم كل تفاصيل الحياة ، بدءا من دخول دورة المياه والسلوك داخلها ، فضلا عن الروح التجارية المنفعية التى تقوم على تنمية غرائز الخوف والطمع فى علاقة الإنسان بربه ، وامتدادها لعلاقته بأقرانه من البشر . ذلك كله بالإضافة إلى المحتوى التفصيلى للتفسير السائد الذى يعادى حرية المرأة ويؤيد النظام الطبقى للمجتمع والاستبداد السياسى والفكرى . وبالطبع فإن ثمة حسنات، مثل رفض النزعة العنصرية ، وعديد من التوجهات الأخلاقية الخيرة ذات الطابع الإنسانى . غير أن الفصل بين هذه المجموعات من المحتويات والسمات لا يمكن أن يتم عن طريق الانتقائية ، وإنما يتطلب أصلا رفضا صريحا للمبدأ الجوهرى للأصولية ، وهو حاكمية النص ، بوصفه فى حد ذاته إخلالا بقيم الحرية والفردية والمواطنة والنزعة الإنسانية عموما ، ثم الانتقاء من القيم المطروحة على الأساس الراسخ لمبدأ العلمانية .

ومن هذا المنطلق فإن على العلمانيين أن يشجعوا محاولات تقديم تفسير ليبرالى للإسلام ، على نمط جهود هبة رءوف أو أحمد صبحى منصور ، على أساس أن هذه الاجتهادات إنما تنطلق من ، وتعبر عن ، الاتجاه العام للتطور التاريخى وتستجيب لمطالب أساسية دشنتها التطورات الاقتصادية متمثلة أساسا فى سيادة نمط الإنتاج الرأسمالى ، والسياسية متمثلة فى الشعارات الجبارة للثورة الفرنسية : الحرية والإخاء والمساواة ، والأيديولوجية متمثلة فى فكر التنوير العقلانى . ومع ذلك ، فهذه الاتجاهات تظل مقيدة بمبدأ حاكمية النص ، وتظل بالتالى مجرد تفسير غير سائد للأسف . ومن منطلق علمانى فإن تأييد مثل هذه التفسيرات إنما يجب أن يقوم على أساس تأييد محتواها التحررى ، وليس بالقول بأنها تمثل "التفسير الصحيح" للإسلام . وبمعنى آخر ينبغى أننميز تمييزا واضحا بين الإصلاح الدينى والتنوير . إن معركة الإصلاح الدينى إنما تدور حول تطهير الإسلام مما يعتبره المصلحون شوائب تهدد جوهر فهمهم للدين ، فى حين أن العلمانية تنطلق فى هذا الصدد من مبدأ حرية العقيدة بصفة عامة ، ولا شأن لها بمشكلة "التفسير الصحيح" .

بالإضافة إلى ذلك ، فمن المفهوم أن ظهور التفسير الليبرالى لعقيدة ما لا ينشأ من محض أذهان المفكرين ، وإنما يظهر كاستجابة لاحتياجات أساسية يفرضها التطور الاجتماعى العام ، وبصفة خاصة تطور الأيديولوجيا . ومن هنا فإن انتشار هذا التفسير الليبرالى إنما يتطلب لدفعه وجود ممارسة فعلية لحرية العقيدة ، وممارسة واقعية لحق نقد الدين . ومن جهة أخرى فإن حرية العقيدة تعد شرطا ضروريا لسيادة نمط الإيمان القلبى أو الوجدانى ، أى الإرادى الفردى ، لا الإيمان السياسى ، أى الإسلام كحاكمية ، كنظام اجتماعى وسياسى وثقافى مفروض فرضا ، تحميه سلطة الدولة ، وبالتالى الإيمان المنافق ، وعموما مجتمع النفاق الذى نعيش فيه .

أما الممارسة المنافقة للعلمانية الحالية ، فليس من شأنها سوى تأكيد موقفها الدفاعى ، دون أمل فى الخروج منه ، وتدعيم المبدأ الأصولى بالالتفاف الدائم حوله وعدم مواجهته ، فضلا عن اضطرارها للتراجع المستمر كلما تعرضت لابتزازات الأصولية ، التى تثير من حين إلى آخر مسألة تكفير حتى هذه العلمانية المحافظة انطلاقا من مبدأ الحاكمية .

v

وأحب أن أوضح هنا أن هذا المنطق البسيط الذى عرضت به الموضوع ليس اختراعا جديدا ولا فكرة عبقرية .. ونقاط ضعف التنوير وما يُخفيه خلف شعارات الوطنية والتسامح الدينى ليست اكتشافا . فما فعلت سوى أن كشفت عن المسكوت عنه ، عن "السر" الذى يعرفه الجميع ، أصدقاء وأعداء ، والذى يعرف كل مهتم أن الجميع يعرفونه أيضا !! ومع ذلك يظل "سرا" لا يجوز الإفصاح عنه علنا .

مثل هذا الكتمان ، خصوصا من جانب العلمانيين أنفسهم ، يتطلب تفسيرا . وبداية فنحن نستبعد الاتهام بالجبن الشخصى تفسيرا للمسألة . فعدد لا بأس به من "أعيان" مفكرى التنوير قد أثبت فى مواقف أخرى قدرته على التمسك بمبدأ ما فى مواجهة سجون ومعتقلات وتعذيب أو خنق لحركتهم أدى ببعضهم إلى المنفى "الاختيارى" لسنوات . وبدلا من هذا التفسير البسيط سوف نطرح تشريحا لبنية العلمانية المصرية المعاصرة على مستويات ثلاثة ، تفسر فى ذات الوقت ظاهرة استخفاء التنوير التى تناولنا معالمها .

والمستوى الأول هو أن الطرح العلمانى يحاول بقدر الإمكان أن يقصر نفسه على المستوى السياسى . فهو يرى أن معركته ليست مع الأصولية إلا بقدر ما تشكل أساسا نظريا للإسلام السياسى .. وهكذا يطرح التنوير نفسه ، كما يعرف الجميع ، فى مواجهة الإسلام السياسى بالذات . ومن هذا المنطلق يهتم التنوير السائد بصفة أساسية بما يمكن أن نسميه التشهير السياسى ، وينظم نفسه فى تظاهرات ثقافية كرد فعل على أعمال القمع المسلحة التى يمارسها تيار الإسلام السياسى . ومن الطبيعى أن تؤدى هذه الممارسة الفكرية إلى قصر المواجهة أكثر فأكثر على مسألة الإرهاب وأساسها الفقهى : التكفير .

بالإضافة إلى ذلك يدافع العلمانيون من حين إلى آخر عن قضايا مثل حرية المرأة أو العدالة الاجتماعية أو الديمقراطية أو حقوق الأقلية المسيحية ، ولكن بغير مواجهة مباشرة غالبا للطرح الأصولى تجاه هذه القضايا ، وبغير رفض صريح لسلطة النص أو لمبدأ إسلامية الدولة والمجتمع . وبمعنى أوضح ، استبعاد الأساس الأيديولوجى الضرورى لمثل هذا الطرح إذا أريد له حقا أن يواجه أيديولوجية الحاكمية .

وتكمن ضرورة طرح هذا الأساس الأيديولوجى فى حقيقة أن الأصولية تعد فى المحل الأول أيديولوجية متكاملة ، أو موقف من العالم ، قبل أن تكون مجموعة من الشعارات السياسية ، والمفهوم المحورى بالأدق ، فى هذه الأيديولوجية هو الحاكمية ، الذى يتحدد بمبدأ الطاعة ، الخضوع للنص ، أو تأويلاته المحددة بالأدق، والذى يؤكد نفسه كبديهية عبر سلسلة أوامر تفصيلية لتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية تطرح نفسها باعتبارها تفسيرا مطابقا للنص ذاته . ويتكامل هذا الطرح كأيديولوجية عبر تجسيده فى تفسر للتاريخ ، أو بالأدق كتابات أيديولوجية فى التاريخ تحدد مواقف من السلطنة العثمانية أو أتاتورك أو الناصرية ، فضلا عن التاريخ الأوربى ، بالإضافة إلى الطرح الديماجوجى فى أوساط المثقفين لما يسمى "أسلمة العلوم" الإنسانية ، بل والطبيعية أيضا ! وأخيرا يكتمل هذا الطرح فى كتابات مباشرة عديدة تدافع عن مبدأ الحاكمية بحد ذاته ، لعل أشهرها كتابات سيد قطب ، تتميز عن الطرح العلمانى فى أنها تضع نفسها مباشرة فى مواجهة صريحة مع العلمانية ورموزها ، فضلا عن رأس حربتها داخل العلمانية ، ممثلا فى "الأصوليين الجدد"، الذين يطرحون مبدأ الحاكمية من زاوية ارتباطه بالثقافة السائدة للجمهور ، وبرصفه ، بناء على ذلك طوق نجاة دنيوى للشعوب العربية المقهورة .

وبالمقابل فإن الطرح شبه العلمانى لمبدأ التسامح الدينى ، أو التفسير اللا حاكمى للإسلام ينزلق على نحو ما رأينا فى الحلقة المفرغة لمبدأ تفسير النص ، والإقرار بمرجعيته بشكل غير مباشر . أما البديل الآخر ، وهو مبدأ القومية (المصرية أو العربية) ، فهو عاجز بطبيعته ذاتها عن تقديم بديل مكافئ . ذلك أن مبدأ القومية هو فى التحليل الأخير مفهوم سياسى يستند إلى طرح ضعيف عن خصوصية الأمة المعنية . والحال أن أية أمة تحوى بداخلها فوارق ثقافية واضحة ، كما تحوى تشابهات ثقافية أوضح مع جيرانها . والتركيز على حدود معينة للقومية ليس فى حقيقة الأمر سوى مشروع سياسى لمحو ، أو التقليل من شأن ، خصوصيات الداخل والمبالغة فى الخصوصيات بالمقارنة مع الخارج . وفضلا عن ذلك .. فالطرح القومى عموما - كما أشار سيد قطب بحق - طرح متخلف ، وإذا قورن بالمبدأ الأممى الإنسانى للإسلام الأصولى (أى الذى يطرح نفسه كرسالة عالمية) يصبح فقيرا للغاية . وبالإضافة إلى ذلك فإن مبدأ القومية بحد ذاته عاجز عن حمل مشروع اجتماعى واضح يقوم على موقف من التناقضات الداخلية فى الأمة .. فى حين أن الأصولية تطرح من خلال مبدأها (الحاكمية) مشاريع اجتماعية محددة . وفوق هذا كله أثبتت الأصولية من خلال معاركها مع العلمانيين على اختلاف توجهاتهم قدرتها على تحطيم هذه المتاريس الورقية ، سواء باستيعاب مبدأى القومية والتسامح الدينى داخل الإطار الأصولى (جزئيا) ، أو برفضهما ، انطلاقا من مبدأ الحاكمية . وفى كلتا الحالتين يطرح الأصوليون براحة تامة موقفهم فى إطار محاكمة مبادئ العلمانية من وجهة نظر تفسيرهم للنص . وإذا لزم الأمر فباستطاعتهم ، ببساطة متناهية ، رفع شعارات الجنسية الإسلامية فى مواجهة مبدأ القومية ، ونظرية أهل الذمة فى مواجهة مبدأ المواطنة ، ودفع العلمانيين إلى الدفاع عن إسلامهم ، أو بالأصح أصوليتهم ، وقد وصل الحال ببعض السادة المفكرين العلمانيين إلى الرد على تهمة التكفير بتكفير مضاد ، بدلا من الدفاع عن مبدأ حرية العقيدة ، حتى أصبحنا نسمع بعضهم يصف خصومه "بالمتأسلمين" ، ويجلس على المنصات ليشرح أصوليته الخاصة نفهمه الخاص للإسلام ، ويسعى للظهور بمظهر الفقيه ، ليخفى ، بغير نجاح كبير ، حقيقة العلمانى .. المهزوم للأسف .

وإدراكا من جانب الأصوليين لمدى ضعف الموقف العلمانى ، فإن أعقلهم سوف يسعى ، بدلا من الهجوم ، إلى "تهدئة المخاوف" ، وإطلاق الوعود بالحفاظ على حد أدنى من الحريات فى ظل الحكم الإسلامى المرتقب ، سواء للعلمانيين أو الأقليات الدينية ، وهو موقف طبيعى من جانب أيديولوجية متكاملة تجاه بضع أطروحات واعتراضات جزئية لا ترمى فى نهاية المطاف إلا إلى الدفاع عن جلود فئة محاصرة ، ولا تطرح نفسها أصلا كمنافس كفء ، أيديولوجيا ولا سياسيا .

v

العلمانية المبتورة إذن قد أصبحت قضية نخبة ، نِحلة مضطهدة تمارس تقية مكشوفة تغطى بها على أفكار حكم عليها أصحابها أنفسهم بأنها لا تصلح للتداول العام . جيتو يهودى ، مستقيل سياسيا وأيديولوجيا . وإذا تخيلنا امتداد هذا الخط على استقامته ، فسوف تصبح العلمانية بدورها أصولية جديدة ، سرية، تمارس مع انعزالها المتزايد "تكفير" المجتمع باسم العقل المجرد والتقدم ، وقد تبحث لنفسها عن "هجرة" تحتمى بها من "الجاهلية الإسلامية" القادمة .

والواقع أن هذا الاتجاه الذى تتجه نحوه العلمانية المعاصرة لا يمكن فهمه بمعزل عن الموقف النخبوى المحاصَر للتيار العلمانى ، الذى يتداول فى أوساطه الخاصة ، وعلنا أحيانا ، همّ الرعب من التدين الشعبى التقليدى (المبالغ فى تصوره مع ذلك) . إن التنوير إذا كان يستخفى خوفا ، فإنه لا يستخفى خوفا من السلطة أساسا ، وإنما من هذه "الجماهير" كما يتصورها ، أى ذلك الكيان الجمعى المجهول الغامض ، المثير للرعب بمجهوليته ذاتها ، والذى يتضخم شبحه مع تزايد انعزال التنوير جماهيريا ، وإحجامه عن التوجه الفعال الصريح برسالة محددة لهذا الجمهور.

والحال أن الممارسة الحالية للعلمانية إنما تنم عن قبول ضمنى أو صريح لمسألة إسلامية هذه الجماهير . غير أن هذا القبول من شأنه فى الواقع أن يضع قضية العلمانية ذاتها محل شك ، سواء من حيث معناها أو قيمتها ، لأنه يتضمن التسليم بجوهر الطرح الأصولى الذى يرفع الدين إلى مستوى أيديولوجيا شاملة ، بل ونابعة مباشرة من وعى الجماهير وتراثها ، الأمر الذى يستدعى قبول أطروحة برهان غليون ، الذى ألمح أكثر من مرة إلى أن الإسلام هو الأيديولوجية المؤهلة للدفاع عن حق الجماهير فى الحياة ، والحد من امتيازات الطبقة العليا التى تتمثل - على العكس - القيم الغربية (أو بالأحرى مظاهرها) بدرجة أو بأخرى ، وتتخذها سدا للحفاظ على امتيازاتها وتبريرها . وهنا تصبح العلمانية أيديولوجية استبدادية فى جوهرها .

وبالطبع فإنه ما من قانون يؤكد أن العلمانية أو الأيديولوجيات الدينية تكون تقدمية أو رجعية بالضرورة أيا كان السياق التاريخى . وإذا كان السياق الحالى للعلمانية - نحو ما رأينا وسنرى - يجعل من الصعب الدفاع عنها من هذه الزاوية، فمن المؤكد أن السياق الحالى للأصولية لا يشجع على تبنى أطروحة برهان غليون.

فأولا : من المؤكد أن الطبقة السائدة ودولتها تستمد جانبا مهما من شرعيتها، بل وشرعية ممارساتها اللا ديمقراطية تحديدا من الإسلام ، مجسدا فى أجهزة الدولة الدينية . ومن المعروف أن الأزهر بالذات قد ساند دون هوادة جميع النظم والسياسات المتعاقبة ، ومارس دورا فعالا فى تبرير القهر السياسى والاجتماعى على حد سواء .

وثانيا : أن الإسلام السياسى - أكثر بكثير من إسلام الأزهر - لا يتمثل "عقيدة الأمة" -على نحو ما يقول عادل حسين مثلا - بقدر ما يتمثل الثقافة السياسية الغربية ، خصوصا فى جوانبها السلطوية والتمييزية ، كما حاولت أن أبين فى مكان آخر () . والواقع أن التراث الشعبى الدينى ذاته مختلف اختلافا بينا عن الإسلام الفقهى الأزهرى ، ناهيك عن أصولية الإسلام الاحتجاجى ، فطابعه الطقوسى وروحه شبه الصوفية شبه السحرية تختلف اختلافا بينا عن إسلام أهل السنة . ومصداقا لذلك فقد شهد تغلغل الإسلام الفقهى فى الريف المصرى فى مطلع العصر الحديث ، ضمن تغلغل آلة الدولة المركزية عموما فى حياة الريف ، صدامات عديدة بين الإسلامين الرسمى والشعبى .

وليس حال الأصولية الاحتجاجية أفضل . فقد انتشر هذا النمط الأيديولوجى أول وأكثر ما انتشر فى أوساط "الطبقة الوسطى" الحديثة من المتعلمين تعليما مدنيا حديثا () ، وخصوصا بين من انتُزعوا من بيئات أكثر تقليدية أصلا عن طريق هذا النمط من التعليم . وهنا ينبغى أن نلاحظ أن اعتناق هؤلاء للأصولية لا يؤدى بهم إلى عودة إلى القيم الاجتماعية التقليدية أو إلى استعادة التوافق مع بيئاتهم الأصلية ، بل يؤدى بهم إلى انفصال جذرى عن هذه القيم وتلك البيئات . وكلما ازدادت النظرية الأصولية جذرية ، كما هو الحال مع جماعة التكفير والهجرة ، كلما أدت إلى فصل متزايد على مستوى الوعى بين المتأثرين بها وبين المجتمع وتراثه ، ليصل الأمر إلى رفض كامل وشامل .

ثالثا : أن جوهر الطرح الأصولى ، وهو مبدأ الحاكمية ، مهما قيل فى شأن قيامه على مبدأ المساواة بين البشر ، إنما يقوم أولا وأخيرا على تصور وجود علاقة "عبدية" بين الإنسان واللـه ، دور الإنسان فيها - أو دور الصفوة عمليا - هو استطلاع الأوامر الإلهية وتنفيذها حرفيا ، بصرف النظر عن السياق التاريخى والاجتماعى المعاصر . فاللـه فى الأصولية لا يشار إليه بوصفه خالقا أو راعيا إلا بقدر ما يكون ذلك مبررا لكونه سُلطة . وهى فضلا عن ذلك سلطة تعلو كل فرد على حدة ، بحيث لا تقام رابطة بين هذا الفرد وغيره من البشر ، أو حتى بالطبيعة، إلا عبر الأوامر الإلهية كما يحددها فقهاء الأصولية . وعلى ذلك فالإسلام الأصولى هو فى جوهره إخضاع لسلطة لا شخصية ، أى - على الأرض - لدولة برجوازية حديثة ذات طابع فقهى ، كلية الجبروت فوق ذلك وكلية التدخل .

وعلى ذلك فإذا كان الطرح العلمانى متهما بالتغريب ، وأن هذا التغريب أداة للتحديث لصالح طبقة حاكمة على حساب الجماهير ، فإن الأصولية ليست عمليا سوى سلاح أقوى فى هذا المجال . إن التنوير المصرى الحديث قد مارس دورا دون شك فى دعم عملية الضبط الاجتماعى لصالح الدولة الحديثة - برغم إيجابياته غير المكورة . فبصفة عامة ، كان هذا التنوير يرى فى نفسه صفوة متقدمة صاحبة أفكار صحيحة قادرة على دفع المجتمع نحو التقدم ، أكثر منه رائدا لاتجاهات موضوعية للتقدم كامنة فى المجتمع وتطوراته . وعلى سبيل المثال ، قاد التنوير الهجوم الأيديولوجى على التنظيمات الصوفية والطائفية باعتبارها مخلفات عهد بائد محمل بالخرافات غير العلمية ، ولم يلتفت إلى جوانب أصيلة لمثل هذه التنظيمات ، متمثلة فى ارتباطها المعروف جيدا بالطبقات الشعبية الأفقر . وهى جهود صبت فى التحليل الأخير لصالح الإسلام الرسمى الفقهى . ومع أن التنوير ليس مطالبا قطعا بالدفاع عن الخزعبلات فإنه بمسلكه هذا قد اختار تحطيم الأطر التقليدية لحركة الجماهير المستقلة لصالح الطبقة السائدة ، رافضا أن يطور هذه الأطر من الداخل ، وغافلا عن تقديم أطر بديلة لهذه التنظيمات . وإذا كانت الأصولية تمارس الآن دورا مشابها ، فمن الواضح أن التنوير المعاصر لم يقلع بعد عن هذه الفكرية النخبوية المدمرة . وعلى سبيل المثال أعرب الحاضرون فى حفل تأبين التفتازانى ، أستاذ الفلسفة وشيخ مشايخ الطرق الصوفية (!!) ، عن بالغ سرورهم بتخليص الطرق الصوفية من "البدع" ، وإخضاعها "للعقل" السنى ، أى لأخلاقيات وقيم الطبقة الوسطى الحديثة .. فهنيئا لهم !!

والحال أن هذا التوجه لا يعبر فحسب عن الخوف من الجماهير ، بل عن انعدام رؤية فريد من نوعه ، وعدم ثقة متأصلة فى القدرة التحررية لمبادئ العلمانية . والحال أن نظرة فاحصة إلى الواقع القيمى للمجتمع ، تحت المظلة الخادعة لرواج الأيديولوجية الأصولية الإسلامية ، سوف تكشف فى الواقع عن انشطار خطير داخل الوعى العام تحت ثقل الأصولية المتخشبة المعبرة عن تخشب "الطبقة الوسطى" الحديثة فى الظروف الساحقة المعاصرة . فإذا ما تركنا جانبا هذه الطبقة التى تقدم النموذج الأنقى للنفاق الاجتماعى وعبادة الكبت التى تدفعها عوامل جشع لا تقهر ، فسوف نجد أن ما يُعرف "بالشعب" - الذى يتحدث باسمه الجميع - يعانى الأمرين من السيطرة الأيديولوجية للطبقة الوسطى ، ويضطر إلى إخفاء ممارساته الاجتماعية الأكثر تحررا والأكثر ارتباطا بقيم الفردية والتعددية ، حيث أنه يعجز عن بلورة هذه الممارسات وما ينتج عنها من خبرات فى بنية فكرية متسقة تمنحها مشروعية أخلاقية وعملية . وبالتالى يسقط فى مستنقع النفاق ، برغم أنه يمارسه ببساطة أكبر ، إذ لا يمنحه أغطية أيديولوجية براقة على نمط النخب الأصولية والعلمانية المعاصرة .

إن النخبة العلمانية المعاصرة ، بتقاليدها النخبوية ، إذ تفشل فى رؤية هذا الجانب من الواقع ، وتخجل من قيادة عملية تحرر قيمى حقيقى ، تفشل بالتالى فى رؤية نفاقها المميت الذى تضطر إليه كمشكلة اجتماعية عامة ، ترتبط أشد الارتباط بهيمنة الفكر الأصولى والقانونى عموما ، وتفشل بالتالى فى رؤية واجبها فى بلورة هذه الخبرات الحياتية التحررية للمواطن العادى فى أيديولوجية تحررية علمانية تمنح هذه الخبرات مشروعيتها وثقتها بنفسها ، وقدرتها من ثم على إثراء المبادئ العلمانية المجردة ، مفضلة واقعيا ، على نحو ما لاحظنا ، أن تدافع عن مصالحها الخاصة كنخبة بالشكل الملتوى الذى عرضنا له .

غير أن الوقوف فى المحل أمر مستحيل ، ومن ثم ينعكس اتجاه الحركة فى الأوساط العلمانية نحو مواقف محافظة أكثر فأكثر ، اجتماعيا وسياسيا . وسوف نعرض للمحافظة السياسية لاحقا ، أما الاجتماعية فلا تشمل الاستخفاء بالممارسات التحررية فحسب ، بل تصل ، حتى فى أوساط اليسار الماركسى ، إلى مواقف معادية عمليا لتحرر المرأة ، إلى حد اتهام الفتيات بالانحلال أحيانا لدى ممارستهن لعلاقات حرة ، أو بالأصح إذا جهرن بذلك ، لأن هذه العلاقات سائدة واقعيا فى مختلف الأوساط ، بما فيها الأوساط الأصولية المتزمتة ظاهريا . وفى مواجهة الشعراء الجدد الذين جمعوا إنتاجهم فى "الجراد" غير الدورية ، انطلق سيل من اللعنات والتشهير اشترك فيه يساريون معروفون ، لم يتورعوا عن استخدام أقذع ما يمكن تخيله لنقد ما وصفوه بإباحيتهم أو اعتدائهم على "اللغة" .

ولا أقصد أن أية علاقات حرة هى علاقات صحية وناضجة (وهو ما ينطبق أيضا على العلاقات “الشرعية") ، ولا أن شعر "الجراد" يمثل بأكمله إنتاجا شعريا خصبا ، ولكن من المؤكد أن هذا التمرد العفوى على شكلية القيم ، وإن لم يكن فضيلة كاملة ، فهو لحظة عميقة فى مسار التطور القيمى : إن لحظة السلب (النفى) كما يقول هيجل هى اللحظة الحقيقية فى الجدل . والأسوأ من ذلك أن النقاد ، سواء للفتيات أو للشعراء ، لا يحملون فى الواقع قيما مناقضة فى الممارسة الفعلية ، ولكنهم فقط حريصون على "تطهير" الساحة الأيديولوجية من هذه المشاعر والتمردات ، والحفاظ على حدود محافظة ، يكمن كل الخطر فى مجرد الجرأة على التفكير فى تجاوزها .

وهكذا ، فكما أن التنوير لا يطرح رؤية أيديولوجية علمانية صريحة فى مواجهة الأصولية ، فإنه لا يطرح قيما جديدة فى مواجهة تابو الجنس الذى يدور حول المرأة . وكما يرتعب التنوير من تهمة الإلحاد ، ترتعد فرائصه أمام تهمة الإباحية . وبدلا من الدفاع بشجاعة عن قيم التحرر الاجتماعى بوصفها قيما إيجابية تفسح المجال لعلاقات إنسانية أكثر عمقا وصراحة وأصالة ، قائمة على تواصل إنسانى حقيقى ، تُختصر حريات المرأة مثلا فى حقوق العمل والتعليم ، وواقعيا يتسع الجيتو الفكرى العلمانى ليشمل القيم الاجتماعية الخاصة بهذه الصفوة .

وبالإضافة إلى تابو الدين وتابو الجنس ، هناك أيضا تابو السياسة الرهيب :

v

هنا ندخل إلى قدس الأقداس .. فخلف كل الشعارات الجميلة البراقة عن التنوير والحريات والديمقراطية يقف تابو الشرعية مهيبا مبجلا : النضال القانونى من أجل الحرية والديمقراطية ، الالتزام بالعمل من خلال المنظمات النقابية والسياسية القائمة . وداخل هذه الحدود .. تخفت ، أو بالأدق تختفى ، الدعوة - مجرد الدعوة - إلى تطوير أشكال مستقلة للحركة الجماهيرية ، ولممارسة الحريات. الفكر السائد هو فكر المناورة ، اقتناص ما يمكن من المكاسب الهامشية الممكنة داخل الأطر القائمة نفسها .. دون أدنى تفكير فى بلورة مبدأ حق الجماهير المفتوح فى تنظيم نفسها بالتراضى الحر .

لقد تكشف لنا التنوير المصرى المعاصر حتى الآن عن مبدأ سياسى دفاعى فاقد للممارسة الأيديولوجية العميقة فى مواجهة الأصولية ، ثم تكشف لنا عن مبدأ نخبوى محافظ رافض للقيام بدور تحررى جماهيرى فعال .. الأمر الذى يدعو للتساؤل عن هويته الحقيقية ، عن حقيقة مشروعه السياسى . إن التنوير لم ينجح فى أوربا لأنه مبدأ ظريف أو طريف أو خيِّر بذاته ، ولكن لأنه كان عنوان قضية ، ومحورا أيديولوجيا للصراع المحتدم ضد الكنيسة والإقطاع . ومع أن الكنيسة كانت لها بدورها هيمنة أيديولوجية مدعومة بسلطة الإقطاع فإن التنوير قد نجح لأنه ربط نفسه بطبقة صاعدة طامحة إلى إعادة تشكيل المجتمع عبر مزيد من الحريات .

أما التنوير المصرى ، فما الذى يقدمه ؟ لقد أصبح هذا التنوير من فرط رعبه من الجماهير لا يتوجه لها بأى شىء ذى قيمة . فقضيته أصبحت عمليا الدفاع عن الاستقرار ، نبذ الإرهاب ، الانضباط الاجتماعى ، القناديل الملونة لتهدئة الجماهير على حد تعبير ماركس ، وباختصار دعوة سلبية بغير محتوى إيجابى ، تتستر بشعارات فضفاضة ليس لها من محتوى سوى الحفاظ على الوضع الراهن من حيث الجوهر .

ما الذى يقدمه التنوير ؟ فكرة الوطن ، الوحدة الوطنية ؟ المجد القومى ؟ ولكنه لا يوضح لنا وطن من ولا مجد من . وقصارى ما يُطرق فى هذا الصدد هو وطن التسامح الدينى ، وهو محتوى سلبى ، بل وقد يتبجح لينادى بالوطن الواحد الملتف حول الدولة ، كما لو كانت الدولة فى حاجة إلى أنفاسه المكتومة لتتعاظم هيمنتها . وبالمقابل تطرح الأصولية فكرة العروبة فى إطار رؤيتها الخاصة، فتتحدث عن عزة العرب فى ظل الإسلام ، وقدرة الإسلام على قيادة نهضة قومية.

ماذا يطرح أيضا ؟ الديمقراطية ؟ ولكن فى ظل غياب محتوى ملموس لهذه الديمقراطية ، أى فى ظل غياب أيديولوجية علمانية صريحة متسقة مدافعة عن حقوق الجماهير فى تنظيم نفسها للدفاع عن مصالحها ، وريادة عملية تغيير القيم فى مواجهة الدولة ، يصبح المبدأ الديمقراطى أداة فارغة ، بل وقابلة الاستخدام النفعى من جانب الأصولية ذاتها . وإذا شئنا الحقيقة فإن العلمانية المصرية المعاصرة تخشى الديمقراطية خشية الموت ، وهى لم تنس بعد درس انتخابات الجزائر، التى وقفت منها موقفا مخزيا ، مؤيدا عمليا للانقلاب . وبصفة عامة فإن التاريخ يعلمنا أن الديمقراطية إذا لم تعضدها حركة اجتماعية ثورية حقيقية يمكن أن تؤدى إلى الفاشية . وبعبارة أخرى فإن كسب الصراع من أجل الديمقراطية رهن بوجود محتوى اجتماعى للديمقراطية ، بممارسة الصراع من أجل الديمقراطية بوصفه صراعا أيديولوجيا عاما وليس محض وصفة نخبوية تحتمى بها طائفة من المثقفين .

وفى إطار مبدأ الديمقراطية يطرح اليسار العلمانى العلنى على الجماهير المشاركة الفعالة فى الأطر "الديمقراطية" للنظام القائم : سواء كانت النقابات السلطوية القائمة أو الانتخابات النيابية ، دون أدنى محاولة لتطوير أطر بديلة أكثر ديمقراطية ، وبعيدا عن الحس الجماهيرى العادى جدا بزيف هذه الأطر ولا جدواها . وبصفة عامة ثمة ميل قوى للتخوف من أى تحرك جماهيرى خارج الأطر المحددة سلفا .

غير أن الجريمة الكبرى للتنوير المعاصر ، والتى تكشف تماما طابعه السياسى ، هى موقفه من الإسلام السياسى بشعبتيه : الإسلام الراديكالى والإخوان . فهذا التنوير عاجز تماما عن فهم الطابع التمردى للإسلام الراديكالى ، برغم أنه يمارس تمرده بوسائل شديدة النخبوية والتسلط على مقدرات الناس ، ويقدم طرحا ديكتاتوريا فجا . ولكن اتجاه الإخوان وإن كان فى الظاهر أقل نخبوية وتسلطا فإنه شديد المحافظة . غير أن التنوير المحتمى بالنظام لا يفهم المسألة بهذا الشكل ، فبدلا من أن يهاجم إرهاب الإسلام الراديكالى وأيديولوجيته بوصفها نزعة نخبوية تتغافل عن إمكانيات التحرر الواقعية ، ومن ثم تصب جهوده فى نهاية المطاف لصالح تيار الإخوان المحافظ ، فإنه على العكس يهاجم الإرهاب فى حد ذاته ، ثم يهاجم الإخوان بوصفهم شركاء متخفِّين لهذا التمرد الإرهابى ، ناسبا إلى الإخوان أمام الناس شرف معاداة النظام ، الأمر الذى يدل دلالة دامغة على فقدانه لأى حس سياسى راديكالى ، وارتمائه غير الواعى فى أحضان النزعة المحافظة . ولذلك فإن الدعاية ضد الإخوان تتمحور حول علاقتهم الخفية بالإسلام الراديكالى .. فالهدف هو استعداء النظام وليس توعية الجماهير . ولدى بعض قطاعات التنوير تصل الأمور إلى الترحيب باعتدال فتاوى مفتى الجمهورية (آنذاك ، شيخ الأزهر الآن) الذى يبذل جهودا مشكورة من أجل إيجاد مصالحة بين الأيديولوجية الإسلامية وعملية "الإصلاح" الاقتصادى .

وبصفة عامة فإن التنوير قد تخلى عمليا عن مبدأ نقد النظام ، برغم أنه ما زال يمارس بدرجات متفاوتة نقد الحكومة ، برغم أن النظام القائم لا هو بالعلمانى ولا بالعقلانى ولا بالتحررى ولا بالديمقراطى . وعلى حين أن قيامة التنويريين قامت ولم تقعد بُعيد محاولة اغتيال الأديب الكبير نجيب محفوظ القذرة ، لم يتعد رد الفعل على قتل عمال كفر الدوار العزل من السلاح (بعدها بقليل) إدانات متفرقة فى صحف المعارضة .. وكأن حقوق الإنسان المنتمى إلى النخبة المثقفة تختلف اختلافا نوعيا عن حقوق الإنسان غير المثقف ، مع أن ضعف ثقافة هذا الإنسان لم تكن يوما من اختياره الحر ‍‍!!

إن التنوير الحالى ، إجمالا واختصارا ، لا يقدم سوى مشروع سياسى وحيد ، هو تقوية الدولة القائمة ، فلا هو يقدم نقدا جذريا للأصولية ، ولا هو يقدم نقدا جذريا للنظام القائم، وما من مشروع لديه يتقدم به إلى الجماهير ، يربط بين مصالحها وبين العلمانية ، باعتبار قضية التحرر قضية واحدة لا تتجزأ . إن التنوير المصرى المعاصر ليس احتجاجيا ، ولكنه تابع ، موال موضوعيا للنظام ، ومن هنا فهو مضطر "لتأييف" - ولا نقول تكييف - مبادئه على مقاس احتياجات النظام ، الذى لا يطلب تنويرا حقيقيا ، وإنما يطلب فقط صيحات استنكار للإسلام السياسى - وليس للأصولية - باسم الوطن أو "صحيح الإسلام" أو الحرية ، أو أى شعار لطيف آخر .. تلك الصيحات التى تبرر تدخل الدولة بوصفها حكما وحاميا لحرية الفكر !!

وأيا كان المبرر الذى يقدمه التنوير لمسلكه هذا ، فلا شك أن قضية التنوير لن تتقدم إذا لم يقف التنويريون مدافعين عن رؤى تحررية جماهيرية بشجاعة ، وإيمان برسالتهم ، ومواجهين للفكر القانونى - الفقهى السائد ، ليُحلوا محله فكرا اجتماعيا عقلانيا تحرريا ، لرسالة جماهيرية تتجاوز معركة نخب "الطبقة الوسطى" الطاحنة - على الورق - بين فريق أصولى وآخر "علمانى" ، على سطح القشرة الرقيقة للإنتليجنسيا التى تطفو فوق مرجل ملتهب موار .

 




#شريف_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مأزق القومية فى الماركسية المصرية


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - شريف يونس - مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية