أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - الإِطَاحِيَّةُ!















المزيد.....



الإِطَاحِيَّةُ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 3258 - 2011 / 1 / 26 - 01:14
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 16-23 يناير 2011
الاثنين
أشعر، منذ فجر البارحة، التاسع من يناير 2011م، بأن روحي قد فارقت جسدي، وأن جسدي يدور، بلا دعامة، تحت قبَّة السَّماء، وأن قدميَّ تخفقان، كمروحتين معطوبتين في الهواء، وأن هاوية سحيقة ما تنفكُّ تنفغر من تحتي، وأنني، بكلمة واحدة، أعيش أبأس لحظات حياتي!
حتى أكثر الأيَّام سواداً في 53، و55، و56، و61، و65، و70، و71، و75، و2005، وأيَّ يوم كريهة غرغر فيه الدَّم في الشوارع، وخلف الجدران، وانتفخت فيه الجثث، وتعفنت، وتفسخت، فعددناه الأسوأ، قد تكشَّف، الآن، أنه لم يكن بهذا السوء!
فلا رحم الله كلَّ نافخ كير في محنة بلادنا، وكلَّ رامي حطبة في محرقتها، وكلَّ زائد طينها بلة، وكلَّ مشَّاء بين مفردات تنوُّعها الإثني بنميم!
ولا أكسب الله خيراً كلَّ من زايد، ردحاً من الزَّمن، على حلم شعبنا بالغوص في بحر التاريخ لانتزاع كهرمانة الوطن الواحد، ثمَّ ما لبث أن نكص، فخان الشَّعب، والوطن، ورفاقه، ونفسه، يوم انقلب، بفعل (دوَّامات) انتلجينسيا البرجوازيَّة الصغيرة (المرتبكة)، وأمراضها، وعقدها، يسعى بالإظفر والناب، لتحويل السودان الموحَّد إلى محض عُشٍّ هشٍّ لبيض (سودانات) كثر، وتحويل كلِّ بيضة فيه إلى مجموعة يرقات، وكلِّ يرقة إلى شرنقات، وكلِّ شرنقة إلى عناصر تصعب رؤية واحدها بالعين المجرَّدة!
إنهُ النيلُ القديمُ يَسْري، الآن، من خَلفَ الأضَالِع واهِنَا/ إنهُ النيلُ القديمُ يَستجيشُ مَلءَ الوَهْم، تارَة، وتارَة أخرى يَفيضُ بالسَّرابْ/ فيا أيُّها الذاهبون في طريق الذهابْ/ أيُّها الموغلون في الرَّحيل المُرِّ والغيابْ/ ربَّما لم تعُدْ في دنان صبركم قطرة/ ربَّما لمْ يعُدْ ثمَّة ما يغوي في سلالنا بالإياب/ لكننا نقسم بالله العظيم، "نلحَسُ سنَّة القلم، نلعَقُ ذرَّة الترابْ"/ سوف تبقى فصودكم ساطعات على جباهنا/ وأهازيجكم، أبد الدَّهر، على شفاهنا/ فذرونا، واعذرونا، واذكرونا، مثل ذكرانا لكم/ مثل ذكرانا لكم يا أيُّها الأحباب!

الثلاثاء
قبل قرابة الشَّهر تفتقت "عبقريَّة" القائد الليبي، العقيد معمَّر القذافي، عن وسيلة جديدة يحقق بها تصوُّره للوحدة الأفريقيَّة. فعلى طريقته الخاصَّة، كالعادة، استثمر فرصة مشاركته، وقتها، في المهرجان العالمي للفنون الأفريقية في العاصمة السنغاليَّة داكار، ليطلق دعوته للاسراع بأن يكون لأفريقيا "جيش واحد من مليون جندي يدافع عن مياهها الإقليميَّة، ويحمي شواطئها من الطامعين في ثرواتها .. فأفريقيا الآن فريسة تتكالب عليها الضِّباع والذئاب؛ وكلٌّ يريد أن يأخذ منها .. ولا بُدَّ أن تلغى كلُّ الجيوش الوطنيَّة، لأن ليس لها معنى .. عندئذ لا يستطيعون الاقتراب من مياهنا، ولا نهب ثرواتنا، ولا إلقاء النفايات على شواطئنا" (ا ف ب، 15/12/10).
لكن العقيد لم يتفضَّل بأن يقول متى وقعت آخر حرب خاضها جيش أيِّ بلد من بلدان القارَّة دفاعاً عن مياهه الاقليميَّة، أو حماية لشواطئه من الطامعين في ثرواته! هذه جيوش درِّبت، أساساً، على توجيه بنادقها إلى الداخل، إلى صدور شعوبها، لا صدور الدُّخلاء! كما وأن العقيد لم يقل متى كانت آخر مرَّة احتاج فيها هؤلاء الطامعون، أصلاً، إلى الخوض في المياه الإقليميَّة لهذه البلدان، أو لاجتياح شواطئها، أو حدودها الدَّوليَّة، بغرض نهب ثرواتها ومواردها الوطنيَّة! الطامعون في ثروات بلداننا ومواردها يحققون أهدافهم، الآن، وأصابعهم في القفازات الحريرية، لا على الزِّنادات الفولاذيَّة؛ بل يحققونها عن طريق حاميها/حراميها نفسه الذي يفرِّط فيها، إمَّا عمالة، أو خراقة، أو عدم دراية، وكله فساد!
الزعيم الليبي يعلم بلا شك، وهو المغرم باقتناء كتب الأنثروبولوجيا، والعلوم السِّياسيَّة، وسوسيولوجيا العلاقات الدَّوليَّة، فضلاً عن أسفار التاريخ، العسكري منه بالأخص، أن النهب الاستعماري القديم عن طريق البوارج والأساطيل حاملة المدافع، والأناجيل، والتلسكوبات، والمناظير المقرِّبة، وبراميل البراندي، وفيالق البحَّارة المحاربين جوَّابي البحار والمحيطات، هو أسلوب دالت دولته، وانقضى أجله، وأصبح موضة مندرسة من مخلفات الماضي، ومقتنيات متاحف العاديات!
والزعيم الليبي يعلم أننا لا نتحدَّث عن استثناء في العراق هنا، أو في أفغانستان هناك، رغم أن هذا الاستثناء نفسه محلَّ جدل، بل عن ظاهرة عامَّة وسمت استعمار القرون الماضية بميسمها المادِّي، والأيديولوجي، والفكري، والسِّياسي، ثمَّ اندثرث ساعة وضعت الحرب الثانية أوزارها بانتصار الحلفاء، وهزيمة النازيَّة والفاشيَّة، ونشأة الأمم المتحدة، ورفرفة رايات السَّلام، والدِّيموقراطيَّة، وحقوق الإنسان، على أرجاء الكرة الأرضيَّة.
لقد تصرَّم أكثر من نصف قرن، مذ غيَّرت أفعى الإمبرياليَّة جلدها، فحلَّ (الاستعمار الحديث) محلَّ (الاستعمار القديم)، وحلت (القفازات الناعمة) محلَّ (الحديد والنار)، وحلت (المداخل السِّياسيَّة) محلَّ (الغزو المسلح)، وحلَّ (شراء الذمم) محلَّ (شراء الجواسيس)، وحلَّ (العملاء) من القادة والرؤساء أنفسهم، محلَّ (الفيالق العسكريَّة) يُنقل جنودها من بلدان المتروبول، بالبواخر، والقطارات، والعربات المصفحة، إلى البلدان المراد استعمارها!
شعوب القارَّة، كحال كلِّ شعوب العالم الثالث، تحتاج، أكثر ما تحتاج، الآن، إلى أنظمة تضمن لمواطنيها الطعام، والشراب، والمسكن، والدَّواء، والكساء، والتعليم، وتعنى بتوقير الكرامة الإنسانيَّة، وحقوق الإنسان، وقيم العدل، ومبادئ الشَّفافيَّة، ومحاربة الفساد، وتستند إلى المشاركة الشَّعبيَّة الواسعة، وفق خطط للتنمية الاقتصاديَّة المادِّيَّة والبشريَّة تقوم عليها حكومات منتخبة ديموقراطيَّاً، وجيوش تتقن حراسة الأرض والعِرض بأكثر مِمَّا تتقن صناعة الانقلابيين والانقلابات! فالاستعمار ينسرب، الآن، عبر أنظمتنا، ومن بين أصابعنا، في الأكاديميا، والصَّحافة، والإعلام، والتسريبات الأسافيريَّة، والنشاطات الاستخباريَّة، ومناهج العلاقات الاقتصاديَّة، والعمل الدِّبلوماسي، وحتى برامج التسلية الخفيفة في الرَّاديو والتلفزيون! الاستعمار، بكلمة واحدة، متاحة أمامه، الآن، وفي ظروف العولمة هذه، آفاق لا حدود لها، وهي ظروف كفيلة، كلما نقص الوعي ولو قدر قلامة ظفر، بفرش البُسَط الحمراء أمام استعمار ما بعد الاستعمار الحديث، فما حاجته، في مستوى القاعدة لا الاستثناء، لشنِّ حملاته العسكريَّة على سواحل أفريقيا، حتى تجابهه القارَّة بجيش من مليون جندي؟!
وبافتراض أن الاستعمار سوف يعتمد، بشكل منهجي، وليس في حالات فرديَّة، فحسب، نهج العدوان المادِّي على القارَّة عبر شواطئها، فهل يُعقل أنه سوف يفعل ذلك بأسلوب اشتباكات حروب القرن التاسع عشر حتى يُحشد له من الجُّيوش ما يتفوَّق عليه عدديَّاً؟!
ثمَّ ما هي العقيدة القتاليَّة التي سينبني عليها هذا الجَّيش المليوني؟! ومن، تراه، سيحدِّد هذه العقيدة؟! بل وما يكون هذا الجَّيش المليوني نفسه غير (صفر كبير) هو حاصل جمع جيوش أصفار، أغلبها من شاكلة جيش ساحل العاج الذي، وبصرف النظر عمَّن يكون عميلاً لأمريكا أو لفرنسا، يرى، بأم عينيه، فوز المُعارض الحسن وتارا بالرئاسة، فينكره، بينما يمضي يؤازر (بلطجة!) الرئيس لوران غباغبو الخاسر للانتخابات، ومع ذلك يتشبَّث بالسُّلطة، علَّ المعارضة المنتصرة تبرم صفقة معه، يقتسمان، بموجبها، السُّلطة، على غرار التجربتين الكينيَّة والزِّمبابويَّة، مادَّاً لسانه الطويل لـ (الديموقراطيَّة!)؛ أو من شاكلة الجَّيش الليبي نفسه الذي شنَّ عليه سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم، هجوماً مقذعاً كرَّرته، مؤخَّراً، وكالة (ليبيا برس) ذات الصلة بسيف الإسلام، حيث اتهمت الجيش بالافتقار للكفاءة، وبالترهُّل العددي، حيث تبلغ نسبة المنتمين إليه 2% من جملة السُّكان، و10% من الشباب الذكور، بما يتجاوز حاجات البلاد الدِّفاعيَّة والأمنيَّة؛ كما اتهمت كثيراً من ضباطه بالفساد، وفقدان اللياقة، وتجاوز السِّن التي تسمح بالتطور، بفعل البذخ وحياة الراحة؛ وقالت إن "القوَّات المسلحة قد استحوذت على آلاف الهكتارات .. رغم عدم الحاجة الى كثير منها، لتتحوَّل، بفعل الفوضى والمحسوبيَّة، إلى مصادر ثراء لكثير من المتاجرين"؛ كما شككت الوكالة في قدرة هذا الجَّيش على الدفاع عن البلاد "وهو يرى الكثير من قياداته .. تتحوَّل إلى أصحاب أموال وكنوز وممتلكات واحتكارات!" (رويترز، نقلاً عن ليبيا برس، 18/1/11).
بدلاً من الأخذ في الاعتبار بالملاحظات أعلاه، أو الإجابة على جملة الأسئلة المركزيَّة المطروحة، مضى العقيد الجَّالس على كرسي الحكم، بالانقلاب، منذ 41 سنة، دون أيِّ تداول للسُّلطة، ولا أيَّة آليَّة مفهومة للتغيير، يتساءل عن "حُجَّة الذين يعارضون قيام جيش أفريقي من مليون جندي؟!" (ا ف ب، 15/12/10). ثمَّ ما لبث أن انبرى، بنفسه، حسب المصدر، للاجابة على سؤاله، قائلاً: "هم إما عملاء، أو قصيري نظر، أو خونة!"، فتأمَّل!

الأربعاء
في الساعات الأولى من فجر السادس من أبريل 1985م، أثناء انتفاضة الجَّماهير الباسلة التي قذفت بالنميري ونظامه إلى مزبلة التاريخ، كان اللواء عمر محمد الطيَّب، النائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة ورئيس جهاز الأمن، وقتذاك، يحاول أن يلعب بآخر كرت توهَّم أنه ما زال في جيبه! فعندما بلغه أن قادة الجَّيش بسبيلهم للانحياز إلى خيار الشَّعب، بعث مع اثنين من كبار ضباطه، برسالة شفهيَّة تنضح سذاجة ويأساً إلى ممثلين لجهاز المخابرات الأمريكيَّة CIA، كانا يمارسان مهامهما، بعلم الجهاز، خلف قناع دبلوماسيٍّ من داخل سفارتهما بالخرطوم، طالباً إرسال قوات الانتشار السَّريع من القواعد المتوسِّطيَّة لحماية (السودان!) من (غزوة ليبيَّة) زعم أن ثمَّة مخططاً لاستهدافه بها خلال الساعات القادمة! غير أن عميلي الـ CIA كانا أقلَّ سذاجة من أن يبتلعا الطعم، فجاء ردُّهما الصاعق بأنه لم يعُد ثمَّة متسع من الوقت لمساعدة (النظام!)، وأن "اللعبة، برمتها، قد انتهت game over"، على حدِّ تعبيرهما!
وفي اللحظات الأخيرة الأكثر حلكة تحت نظام (زين العابدين بن علي) الظلامي في تونس، وعلى حين راحت (حلقات) الثورة الشَّعبيَّة (تستحكم) حول عنقه، انخرط هو ومعاونوه يقدحون زناد (ذكائهم) لاجتراح (الفرج)، فقال بعضهم: "دعونا نعلن، عبر وسائل الإعلام الدَّاخليَّة والخارجيَّة، أن عصابات ملثمة تتبع لتنظيم (القاعدة) المغاربي هي التي تقف وراء هذه (الفوضى)، تحرِّضها، وتحرِّكها"! غير أن الطاغية لم يستحسن الاقتراح خوفاً، كما قال، على (السياحة) أن تضار، وهي عصب اقتصاد (بلاده) التي كان ما يزال يأمل في مواصلة حكمه لها! مع ذلك انتقى من الاقتراح اتهاماً مبهماً لعناصر لم يحدِّدها، وصفها بأنها (ملثمة)، وأنها تحرِّض على الفوضى كي تمارس النهب والسلب! غير أن الوقت كان قد فات على إمكانيَّة أن تبتلع الجماهير الثائرة مثل ذلك الطعم السَّاذج!
وتبريراً لاعتقال د. حسن الترابي، الأمين العام لحزب المؤتمر الشَّعبي، بالأمس، وغالباً رموز معارضة آخرين غداً، وكانوا أعلنوا، أجمعين، عن عزمهم النزول إلى الشارع لتحقيق المطالب الشعبيَّة، سعى د. نافع علي نافع، نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ومساعد رئيس الجُّمهوريَّة، إلى دمغ د. الترابي "بالتدبير لـ (فتنة)، وتنفيذ (مخطط اغتيالات) لإحداث (خلل أمني) كبير"؛ وأكد للصَّحفيين وضع (الأجهزة المعنيَّة) يدها على معلومات (مؤكدة وموثقة) عن تفاصيل تلك التدابير؛ ولم يستبعد تنفيذ (المعارضة نفسها) لـ (مخطط الاغتيالات)، و(إحداث البلبلة)؛ وقال "ليس من باب (المسئوليَّة) أن يُترك إتمام (المخطط الآثم) و(الفتنة) أمام أعين الناس كأننا نعيش في جمهوريَّة من خيال"، وشدَّد على "حتميَّة (اعتقال) كلِّ من يثبت ضلوعه في تلك (المخططات)، وذلك لـ (الوقاية) .. الخ"، كما ألمح إلى أن (الاغتيالات) ستطال "بعض (المساكين) من فئات الشَّعب .. الخ" (الأحداث 19/1/11).
وبعد، هل يصعب، الآن، وضع اليد على الرَّابط المنطقي الذي يشدُّ هذه الحكايات الثلاث إلى بعضها البعض؟!

الخميس
إيمانويل الحاج بيجو مواطن جنوبي يعمل بالأمم المتحدة، ويقطن، مع أسرته، منذ أكثر من 20 عاماً في بيت بشارع البلديَّة بالخرطوم، مملوك لأحد الأقباط المهاجرين خارج البلاد، وقد استأمن إيمانويل عليه. صباح الأربعاء 12/1/11 اقتحم البيت رجل شمالي، يلبس الجَّلابيَّة، ويبدو عليه يُسر الحال، وفاجأ إيمانويل وأهله بادِّعائه ملكيَّة البيت، وبسؤالهم لماذا لم يرحلوا، بعد، إلى الجنوب؛ ثم أنذرهم بالإخلاء الفوري، صباح الغد، قبل أن يُحضر السيارات التي ستبعدهم لإقليمهم!
إتصل إيمانويل بصحيفة (التيار) التي هرعت، عند الصباح، إلى المكان. في الموعده المحدد وصل الرجل، وكرَّر طلبه. إتصل إيمانويل بشرطة النجدة التي خفت إلى الموقع؛ كما وصل أيضاً الأستاذ أسامه جاه الله المحامي مستشار المالك المهاجر. عندئذٍ بدا الارتباك علي الرجل، وسارع لإنكار ادِّعائه ملكيَّة البيت، وزعم أن لديه قطعة أرض في ذلك الحي لا يعرف مكانها، وقد جاء يبحث عنها. لكن الشرطة ألقت القبض عليه، رغم محاولته الإفلات، واقتادته إلي قسم الخرطوم شمال، لتتخذ الاجراءات القانونيَّة في مواجهته (التيار، 13/1/11).
ذكرتني هذه الحادثة بنكتة كان رواها لي أحد ظرفاء المدينة في تسعينات القرن المنصرم، قال: "تصادف أن استقلَّ أحد بصَّات مدني شابٌّ ملتح، وشاب أمرد، وشابَّة، ورجل خمسيني. جلس الشابُّ الملتحي على يمين الشَّابَّة، والشَّابُّ الأمرد على يسارها، أمَّا الخمسيني فجلس في مقعد خلفهم. بعد أن قطع البص نصف المسافة تقريباً، نهضت الشَّابَّة، فجأة، وصفعت الشَّاب الملتحي! ونهض الشَّابُّ الأمرد، كذلك، وصفع الشَّابُّ الملتحي! فما كان من الخمسيني إلا أن نهض، هو الآخر، وصفع الشَّاب الملتحي من الخلف!
لم يجد السَّائق بُدَّاً، إزاء الفوضى التي عمَّت البصَّ، من أن يتوجَّه به إلى أقرب قسم شرطة على الطريق. هناك سأل الشُّرطي الشَّابَّة عن سبب صفعها للشَّاب الملتحي، فأطرقت وقالت على استحياء:
ـ "ده واحد قليل أدب"!
ففهم الشُّرطي الكلام! ثمَّ التفت إلى الشَّاب الأمرد سائلاً إياه عن سبب صفعه هو للشَّاب الملتحي، فأجاب قائلاً:
ـ "دي يا جنابو بت خالتي"!
ففهم الشُّرطي الكلام! ثمَّ التفت إلى الرَّجل الخمسيني وسأله:
ـ "وانت الجابك من ورا عشان تضرب الزول ده شنو"؟!
فما كان من الخمسيني إلا أن أجاب، بنبرة اعتذاريَّة، وعيناه تبرقان هلعاً:
ـ "أنا والله يا جنابو افتكرت الحكاية قلبت"!
لا شكَّ أن موقف الرَّجل الخمسيني في حادثة (بصِّ مدني) أشجع من موقف الرَّجل الجَّلابي في حادثة (بيت شارع البلديَّة)؛ فالأوَّل اعترف، على الأقلِّ، بالحقيقة، مع الفارق! وعلى العموم فإن شرَّ البليَّة ليس، فقط، ما يضحك، بل، أيضاً، ما يستدعي النكات السَّوداء إلى الذاكرة!

الجمعة
في مايو 2003م تقدَّم ستة من نوَّاب البجا بالمجلس الوطني بمذكرة لرئيس الجمهوريَّة حول افتقار منطقتهم إلى التنمية. المهم أنها مُجرَّد مذكرة، وأن عضويَّة أصحابها في الحزب الحاكم لم تحُل دون أن يقدِّموها إلى رئيس الجُّمهوريَّة، وبأسلوب غاية في الهدوء والسِّلم. مع ذلك ثارت ثائرة السَّيِّد محمد طاهر إيلا، إبن نفس التكوين الإثنى، ونفس الانتماء الحزبي، وزير الطرق والجُّسور، وقتها، وعضو المجلس الوطني، هو الآخر، عن نفس المنطقة، معلناً عن ترتيبات سوف تتخذ، واجتماعات سوف تنعقد، ودنيا، بأسرها، سوف تقوم ولن تقعد، للنظر فى ذلك (الخطأ الجَّسيم!) الذى ارتكبه أولئك النوَّاب بعدم اتباعهم (الخطوات الصحيحة!) لتقديم مذكرتهم التي وصفها إيلا، في سورة غضبه عليها، بأنها "إطاحيَّة لا تحلُّ قضيَّة!"، أو كما قال (الخرطوم، 14/5/03).
وقع الوصف عندى، لأوَّل وهلة، في بداهة ذمِّ (العنف اللفظي) بصيغة مبتكرة. غير أنني حين تأمَّلت دلالاته الملتبسة، حمَّالة الأوجه، خطر لي أن ثمَّة تناقضاً مُحَيِّراً بين رفض الأسلوب (الحربي) لرفع مطالب الفور في غرب السودان، من جهة، وبين رفض الأسلوب (السِّلمي) لرفع مطالب البجا في شرق السودان، من جهة أخرى (!) وأن نظام النخبة الاسلامويَّة نفسه الذي يتحدث إيلا باسمه هو أكبر ممارس (للعنف اللفظي)، ضمن مختلف أشكال وألوان (عنف الدولة) ضدَّ معارضيها السِّياسيين، مدنيين أو عسكريين، كما وضد رافعي المطالب، نقابيين أو جهويين، مذ تآمرت هذه النخبة على سحق الدِّيموقراطيَّة الثالثة، وتسنَّمت سدة الحكم على صهوة انقلاب يونيو 1989م!
دشَّن النظام عهده بأن وصف نفسه بأنه "قطار ليس أمام الناس سوى ركوبه أو .. المكوث على الرصيف"! وكان ذلك بمثابة إعلان فصيح بأن أقصى طموح حزبىٍّ أو إثنىٍّ أو نوعىٍّ أو مهنىٍّ ينبغى ألا يتجاوز (عربة البريد) الملحقة بقطار الجَّبهة الإسلاميَّة التى لا تعترف بأيَّة مشروعيَّة لأدنى معارضة تواجهها. وعندما اضطرَّت آلاف العناصر الحزبيَّة، والمدنيَّة، والأهليَّة، وجلهم من المستعربين المسلمين، فضلاً عن ممثلي إثنيَّات الجنوب، وجبال النوبا، وجنوب النيل الأزرق، محاربين وغير محاربين، بالإضافة إلى ممثلي إثنيَّات دارفور والبجا مِمَّن لم يكونوا قد التحقوا، وقتها، بأقسام (الهامش) المحاربة، عندما اضطرَّ أولئك أجمعين للتسلل إلى خارج البلاد، تحت الضغط المتواصل لما لا عين رأت من أنواع القمع والملاحقة، وما لا أذن سمعت من صنوف التشريد والاعتقال، تحرَّك الإعلام الرَّسمي يرميهم، في أصقاع المنافي، باردها ودافئها على السَّواء، بأرتال من أوصاف المتاجرة بالضمائر والقضايا والأوطان في أسواق الاستكبار العالمي (!) ويحصبهم بوابل من تهم الارتزاق والعمالة والخيانة العظمى في أبهاء قصور السَّماسرة الفرنجة، ودِعَةِ فنادقهم المخمليَّة!
ثم ما لبث النظام أن ذهب إلى أبعد من ذلك بإلقاء قفاز التحدِّى غير المسبوق في وجوه الخصوم المعارضين: "نحن انتزعنا هذه السلطة بالسِّلاح، فيتعيَّن على من يريد انتزاعها منا أن يرفع سلاحه هو الآخر"!
بأثر ذلك التحدِّي لجأت حتى معارضة المستعربين المسلمين الشَّماليَّة، أو، بالأحرى، ألجأتها دعوة (المبارزة) الاقطاعيَّة تلك، فى بلد جُلُّ أهله بدو، وغالب ذهنيَّته رعويَّة، لاقتفاء طريق التمرُّد الجنوبي المُسلح، فاحتلت مدناً حدوديَّة، وروَّعت الطريق الشرقى، وهدَّدت أنابيب النفط، ورفعت شعارات (سلم تسلم) و(الاجتثاث من الجذور)! غير أنها ما كادت تفعل حتى انبرت آلة البروباغاندا الحكوميَّة تتهمها، دون هوادة، بالإثم والبغي والعدوان!
كتبت عن ذلك كله في حينه، طالباً من النظام الذي كان يتهيَّأ للاحتفال بعيد ميلاده الرابع عشر، أن يفعل خيراً بأن يصوغ إجابة واضحة على سؤال واحد أساسي، كي يتبيَّن الناس على أيِّ جنب يضطجعون، أو ما يتعيَّن عليهم "أن يفعلوا بأصابعهم العشرة"، على قول الحكيم كونفوشيوس، وذلك على النحو الآتي: طالما ثبت لكلِّ ذي بصيرة أن المطالب، حزبيَّة كانت، أو إثنيَّة، أو نقابيَّة، لن تتوقف أبداً، وأن المعارضة سُنة ماضية إلى يوم الدين، فكيف يريد النظام من المعارضين أن يفاوضوه، ومن رافعي المطالب أن يرفعوها: بالمذكرات أم بالمظاهرات؟! من داخل السودان أم من خارجه؟! بالأساليب السِّلميَّة أم بالأساليب .. (الإطاحيَّة)؟!
أعادني، مؤخَّراً، إلى تلك الذكرى، ما ظلت مجالس بورتسودان تمضغ وتثفل بشأن الاختفاء المتطاول للسَّيِّد محمد طاهر إيلا، والي البحر الأحمر، والذي بلغ حدَّ الغياب عن استعراض عسكري جرى قبل أسابيع بمنطقة عروس بالولاية، وحضره رئيس الجُّمهوريَّة شخصيَّاً، فضلاً عن عدد كبير من الوزراء والقيادات العسكريَّة والأمنيَّة (أجراس الحُرِّيَّة، 6/1/11). ويذهب ذات التقرير الصَّحفي إلى انتشار شائعة بأن الوالي غادر، مغاضباً، إلى جهة غير معلومة، إثر خلاف بينه والمركز، مِمَّا تجاوز منطقة الهمس، لترتفع حنجرة التساؤلات عن الجِّهة التي قد يكون توجَّه إليها، وما إن كان بسبيله للمفاصلة، نهائيَّاً، مع السُّلطة وحزبها الإسلاموي الذي قضي فيه أكثر من أربعين عاماً!
ويستطرد التقرير بأن أعضاء في حكومة إيلا يبرِّرون غيابه، في مؤانساتهم، بذهابه إلى العاصمة السُّعوديَّة لإجراء فحوصات. لكن، وعلى حين يؤمِّن التقرير على وجود إيلا بالرِّياض، فعلاً، يعود ليتشكك في السبب الحقيقي لوجوده هناك، خصوصاً وأنه لم يعتد على إجراء فحوصاته بالرياض، وإنما بالأردن ولندن! هذه الشُّكوك دعمها همس المدينة الساحليَّة حول اجتماعات قيل إن الوالي درج على عقدها، قبل غيابه، مع مقربين إليه، يناقشون فيها العلاقة مع المركز، والوضعيَّة المستقبليَّة لقوميَّة البجا! بل وتذهب هذه المجالس للزَّعم بتنسيق إيلا مع رئيس مؤتمر البجا السابق عمر محمد طاهر الموجود، في حالة كمون، في منطقة حدوديَّه يجري تفويج مجموعات شبابيَّة إليها!
لتعزيز هذا التحليل يضئ التقرير عدة وقائع، أقواها (السِّجل الطويل) لاحتكاكات الرَّجل مع المركز، جازماً بأن آخرها، والذي يُعتقد أن تفاعلاته هي السَّبب في تطور الخلاف، حدث في مؤتمر المانحين بالكويت، خلال ديسمبر المنصرم. فوفقاً لعدد كبير من حضور اجتماع عقد علي هامش ذلك المؤتمر، بحضور رسميين سودانيين وكويتيين على مستوى عالٍ، طلب إيلا، بقوَّة ووضوح، توجيه أموال المانحين للولايات، مباشرة، لا بطريق المركز، لأن لهم مع الأخير تجارب كثيرة لم تصلهم من خلالها الأموال، مِمَّا سبَّب حرجاً بالغاً لمستشار الرئيس، د.مصطفي عثمان، أمام مضيفيه! بعدها، مباشرة، زار إيلا الدَّوحة، حيث بحث مجالات تعاون القطريين مع ولايته، تنمويَّاً واقتصاديَّاً، كنوع من الضغط علي المركز والكويتيين لا يحتاج فهمه لذكاء خاص!
ويغلب التقرير أن وجود إيلا الطويل في المركز، كوزير اتحادي (1992م ـ 2005م)، أفاده في فهم تعقيدات العلاقة بين المراكز المختلفة لاتخاذ القرار. ويتهمه معارضوه، كواحد من أصحاب الرَّساميل الضَّخمه، بالسَّيطرة علي عقود مشاريع التنمية في الولاية لصالح شركاته، والمقرَّبين منه، الأمر الذي ساهم في مضاعفة ثروته، وتعزيز مصادر قوَّته ونفوذه! لذا يري الكثيرون أن طموحات الرَّجل، وتركيبته الشَّخصيَّه، واعتداده بنفسه، وميله للاستقلال الكامل، وترك بصمته علي مختلف مناحي الحياة بالولاية، كلَّ ذلك كان لا بُدَّ أن يفضي به للاصطدام بالمركز؛ بجانب أن ارتباطه بعلاقات خارجيَّة، وجولاته بين عدد من العواصم الأجنبيَّة، كالقاهرة وأسمرا ولندن وباريس، وتميِّزه عن رصفائه من الولاة، ربَّما شكل نقطة التخوُّف الرَّئيسة من المركز تجاهه. هذا فضلاً عن أن زيارة علي عثمان طه، نائب رئيس الجُّمهوريَّة، لبورتسودان، خلال الأسبوع الثالث من ديسمبر المنصرم، ولقاءاته مع إيلا في بعض المناطق السِّياحيَّة، ربما شكلت عامل توتر إضافي لعلاقة المركز مع الأخير!
ويخلص التقرير، بالاستناد لبعض المصادر، إلى أن إيلا قد استدعي من الخرطوم، قبيل اختفائه، حيث طلب منه الرئيس تقديم استقالته، والعمل كمشرف للمؤتمر الوطني علي الولايات الشَّرقيَّه، غير أنه رفض ذلك، مبرِّراً رفضه برغبته في مواصلة تنفيذ برنامجه الانتخابي!
وتربط أقوال أخرى بين غياب إيلا وبين موقفين منسوبين إلى سليمان علي بيتاي وعمر محمد طاهر حول استقلال شرق السودان! ويشار، في السِّياق، إلى المقال الشهير الذي نشرته (صوت برغوت)، بقلم عبد القادر باكاش، مدير تحريرها؛ ومن المعلوم أن أبو عيشة كاظم هو الذي يرأس تحريرها، وجميعهم من عناصر المؤتمر الوطني المقرَّبين من إيلا بولايتي البحر الأحمر وكسلا!
قد تكون أجزاء من هذا التقرير حقيقيَّة، أو غير حقيقيَّة، وقد يكون السَّبب في اختفاء إيلا جزءاً من خطة الإنقاذ لإبعاده شخصيَّاً، أو لإبعاد كلِّ من طال بقاؤهم في الولاية العامَّة. لكن، مهما يكن من أمر، وبما أن (الوقائع السُّودانيَّة) عوَّدتنا على أنه ليس ثمَّة شئ مستبعد، فمن غير المستبعد، بالتالي، أن يكون حقيقيَّاً الجانب المتعلق، في التقرير، باحتكاكات الرَّجل مع المركز، أو استرابة المركز في علاقاته مع أقطاب بعض التيَّارات ذات الطموحات المناوئة، وعلى رأسها الرئيس السَّابق لمؤتمر البجا! فإذا ما صحَّ ذلك، فإن إيلا يكون قد اختار التعاطي مع حزبه وسلطته بأسلوب (إطاحي) لطالما نعى على زملائه نوَّاب الشرق استخدامهم لمحض صورة مخففة منه قبل نحو من ثماني سنوات، مِمَّا يدفع للتفكير في ما إن كانت هذه (الإطاحيَّة)، بأيَّة صورة جاءت، قدراً مسطوراً على كلِّ من يرغب من منسوبي (الهامش) في الالتفات إلى بعض (هامشه)، حتى لو كان .. إيلا نفسه!

السبت
رأيت في حياتي طواغيت كثيرة تسقط، وأصناماً عديدة تتهاوى، مثلما رأيت صوراً من التهافت المخجل في النزع الأخير، وأشكالاً من البتابت الشائنة لدى ساعة الختام، غير أني لم أر كتهافت (بن علي) تهافتاً، ولا كبتابته بتابتاً؛ بل ولم أر لزوجة كلزوجة نظامه، ولا تباطئاً كتباطئه في لفظ أنفاسه الأخيرة!
لكن، مع درجة الفرح العالية التي تمنحها بطولة وجسارة الشعب التونسي، فمن باب الحصافة عدم التلهِّي بالألوان المبهرة لهذا الفرح عن التماس العبرة الأساسيَّة التي ما تنفكُّ تتجلى من بين تفاصيل ملحمته الرَّائعة، بالأخصِّ في حلقتها الأخيرة المحتدمة حاليَّاً، وفحواها الصِّراع الذي ما يزال دائراً بين إرادتين، والذي يكاد ينطق به كلُّ خبر، وكلُّ تقرير، وكلُّ شريط مصوَّر: إرادة (الثورة)، وإرادة (الإصلاح).
(الثورة) هي العنوان الضَّخم للفعل الشَّعبي التونسي الذي لم ينقطع صهيله النبيل، لحظة، على مدى أكثر من شهر، منذ أوَّل شرارة انقدحت في جسد الفتى البوعزيزي، حتى آخر (لا) داوية انفجرت، بإصرار، في وجه مَن تبقى مِن رهط الطاغية؛ إنها ملايين القبضات المحتشدة بهتاف الشَّارع الرَّاديكالي: تفكيك منظومة الاستبداد، أجمعها، بتصفية أجهزة القمع، وحلِّ حزب التجمُّع الدُّستوري الحاكم (ليس حزباً، بل جهاز تسلط)، حتى يرحل عن كراسي السُّلطة آخر قاتل، وآخر لصٍّ، وآخر مأجور، وآخر شيطان أخرس، وآخر ذي وجهين، فيتسلم ممثلو الجَّماهير الحقيقيين آلة الحكم كاملة، غير منقوصة، كي ينهضوا بمهام (الثورة) في بسط سيادة حكم (القانون)، وتصفية (المعتقلات) السَّوداء، واستعادة (الحُرِّيَّات) المقموعة، ونصب ميزان (العدل) الغائب، وضرب جيوب (الفساد) المستشري، والكشف عن كلِّ (حقِّ) سَّليب، واسترداد أيِّ (مال) منهوب، وفوق هذا وذاك إعادة تركيب (الحياة) بـ (القصاص)، لا يحول دون ذلك هروب (الطاغية)، أو أيٍّ من أهله، أو زبانيته، أو حاشيته، فتنبغي ملاحقة كلٍّ منهم، في أيَّما مهرب في الكون قد يكون اختبأ فيه، حتى يرى الفضاء، بأكمله، مجرَّد ثقب إبرةٍ، بل الدنيا، بأسرها، محض جُحر ضبٍّ خربٍ!
أما (الإصلاح) فمشروع معاكس لكلِّ هذه الأهداف؛ إنه، وعلى حين يعلن، صباح مساء، لكن بـ (مضمضة الشِّفاه)، فقط، عن (جديَّته) في تحقيق أهداف (الثورة)، إنما يسعى، بالأساس، إلى تخدير الثوَّار، وتهدئة الشارع، ريثما ينكر كمون (الحياة) في (القصاص)، ويتفادي ملاحقة (الحقِّ) السَّليب، وعرقلة استرداد (المال) المنهوب، والتغطية على أدلة (الفساد)، وعلى جرائم (المفسدين)، وتعطيل استعادة ميزان (العدل) من مفازة غيابه الطويل! وهكذا فإن (الإصلاح) منزلة بين منزلتين، فلا (الطاغية) داما، ولا (نظامه) رحلا!
(الثورة) خيار الشَّعب المستقبلي، أما (الإصلاح) فخيار بواقى الطغمة الماضية، وبينهما أمور مشتبهات ترفضها الجَّماهير بحزم؛
(الثوَّار) يريدون القطع التام مع العهد البائد، أما (الإصلاحيون) من بقايا العهد البائد فيريدون الاستمرار في التشبُّث بالأعِنَّة كلها، كي يحدِّدوا هم، لا الجَّماهير، مجريات الأحداث، ومئالاتها النهائيَّة!
لذا فإن انتصار (الثورة) التونسيَّة إنما يتوقف، في نهاية المطاف، وبصورة حاسمة، على بقائها مشتعلة ما بقي هدف من أهدافها لم يتحقق، وأوَّل ذلك تكوين حكومة انتقاليَّة يرتضيها الشارع، وجمعيَّة تأسيسيَّة تعنى بوضع دستور وقانون انتخابي جديدين، لتجري، بموجبهما، انتخابات رئاسيَّة ونيابيَّة حُرَّة ونزيهة!

الأحد
يقول الفرنجة في بعض لعبهم على الألفاظ، بما ينطوي على معنى بعيد، وحكمة عميقة: "War does not determine who is right - only who is left"! ـ "الحرب لا تحدِّد مَن على حق؛ بل مَن على قيد الحياة"!

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لَيْلَةُ الخَنَاجِرِ الطَّويلَة!
- أَنُوصِدُ الأَبْوَابَ أَمْ نُوَارِبُهَا؟!
- حَالَةُ الجَّوْرَبِ المَقْلُوب!
- الثُّقْبُ فِي سَقْفِ البَيْت!
- يَا فَنْدُمْ أعْدَمْناهُ .. يَشْهَدُ الله!
- أَمَامَ كُلِّ جَنُوبٍ .. جَنُوب!
- فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلاً!
- الأَيْدِيُولوجِي المُضَاد!
- أَبْنَرْكَبْ الكَرْكَابَة!
- سِرِّي!
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (الحلقة الأخيرة)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (6)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (5)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (4)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (2)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)
- الأَمَازُونِيَّات!
- إِنْزِلاقَاتُ الصُّدُوع!
- عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!


المزيد.....




- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...
- إدارة بايدن تتخلى عن خطة حظر سجائر المنثول
- دعوة لمسيرة في باريس تطالب بإلإفراج مغني راب إيراني محكوم با ...
- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - الإِطَاحِيَّةُ!