أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - مهماتنا الثورة ومشكلات التنظيم















المزيد.....



مهماتنا الثورة ومشكلات التنظيم


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 3349 - 2011 / 4 / 28 - 01:39
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



مدخل

مسائل التنظيم لصيقة الصلة بالفهم المحدد لدور الحزب في أتون الصراع الطبقي. وبالتالي فهي مرتبطة بالثورة ككل. لهذا لن تكون هناك مشكلات تنظيمية منعزلة عن النشاط الثوري. لأن الحزب، المجسد والمعبّر عنه في صيغة تنظيمية، هو تعبير عن حاجة موضوعية تفرضها الظروف العيانية في منطقة معينة، وفي وقت محدد. وبالتالي فإن مشكلات بنيته لصيقة الصلة بهذه الظروف العيانية. وإن كانت التصورات النظرية والتجارب المختلفة، التي هي جزء من تجربة الإنسانية، تعطي رؤى عامة وأواليات، تبعد النظرة الواقعية عن التجريبية، وتعطيها بعداً معرفياً ضرورياً.
وبالتالي حين نتحدث عن الحزب لا نبغي الحديث النظري المجرد، بل نهدف الحديث عن حزب محدد، يلعب دوراً ثورياً في الظروف الراهنة في الوطن العربي. لهذا نجدنا أكثر انشداداً إلى ظروف التجربة العربية، وخصوصاً تجربة الحركة الشيوعية، لأننا نحاول دراسة ظروف معينة هي ظروفنا العربية، وتجربة محددة هي تجربة نضالنا الثوري.
في هذا السياق تبرز قضية ارتباط الحزب بنشاط الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء كقضية مفصلية، لأن الحزب ليس صانع معجزات، ولأن دوره ليس افتعال الثورات، بل أنه يمارس العمل الثوري في إطار ظروف محددة، تحكمها قوانين معينة ليس من الممكن القفز عنها، بل من الممكن فقط تفعيل العامل الإرادي من خلالها، بما يؤدي إلى تسارع العملية الثورية، بإعطائها طابعها الواعي، مما يجعلها أكثر مقدرة على تجاوز العفوية، وعلى التصاعد وصولاً إلى الانتصار. من هذا المنطلق تبرز أهمية ارتباط الحزب بنشاط الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، الذي لازال يتسم بالعفوية. ولعل مهمة الحزب الأولى هي أن يؤسس لتجاوز هذه العفوية، أو بشكل أدق أن لا يجعلها السمة الأساسية للنضال الجماهيري. هذا هو دور العامل الإرادي الذي يدخله الحزب في نشاط الطبقة، والذي هو جزء من الواقع الذي يعتمد تفعيله على الوعي.
لهذا من الضروري وعي أهمية قضية ارتباط الحزب بالنشاط الجماهيري، قضية حتمية ارتباط الحزب بهذا النشاط. وبالتالي من الضروري تحديد سمات النشاط الجماهيري ذاته، من خلال دراسة الظروف الاقتصادية الاجتماعية التي تعيشها هذه الجماهير، والتي تدفع بالضرورة إلى انطلاق النشاط الثوري وتبلور حركة جماهيرية لها قسماتها. وهنا نحن لا نحاول تجديد "النضال الاقتصادي" أو "النضال المطلبي"، المنفصل عن النضال السياسي، حيث كان يتفكك الصراع الطبقي إلى مطلبي وسياسي، وهو التفكك الذي كان ينتج عن رفض تطوير النضال المطلبي من أجل تحقيق التغيير السياسي، والاكتفاء بالنضالات الاقتصادية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى. الأمر الذي كان يحول النضال الاقتصادي إلى نضال ديمقراطي، أو كان يبقيه في حدود النضال الديمقراطي، المنطلق من الاعتراف المسبق بالنمط الاقتصادي الاجتماعي القائم، وبالتالي السعي لـ "تحسينه" فقط، أو لدمقرطته فحسب. وهو ما كان ينحي هدف الوصول إلى السلطة جانباً. وبالتالي لا تعود خصماً، أو هي التعبير عن الطبقة المسيطرة، بل تصبح أباً من واجبه تقديم الهبات لأبنائه المخلصين. ويكون المطلوب هو رفع شعارات جزئية تتعلق بتحسين الوضع المعيشي، أو تخفيف الظلم الطبقي، و"عقلنة" الاستغلال.
بل ندعو إلى الارتباط بنشاط الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية، وإلى تطويره بما يفضي إلى تحقيق التغيير. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال دراسة واقعية لظروفها، وتحديد مشكلاتها، مع اقتناعنا بأن النشاط الجماهيري لن يكون نشاطاً سياسياً هكذا بشكل عفوي، بل أن هذه هي مهمة الحزب على وه التحديد. وهنا يُطرح السؤال: كيف يلعب الحزب هذا الدور؟
هذا يطرح مسألة الحزب، والمهمة التي يلعبها في الصراع الطبقي. فالنشاط الجماهيري الذي هو نشاط عفوي، ينحكم لإشكالين: قصور الوعي لدى الطبقات الشعبية، فرغم إحساسها بمصالحها إلا أنها ملوثة بمفاهيم مناقضة لهذه المصالح، هي من منتوج الطبقة المستغِلة الحاكمة. بمعنى آخر، إن هذه الطبقات تمتلك وعياً زائفاً، وعي لا يعبّر عن مصالحها، بل يجعلها تتكيف مع عبودية الاستغلال، رغم تناقض وجودها الواقعي مع هذا الوعي. ورغم أن ظروفها المعيشية تدفعها إلى تجاوزه. وأن حسها الطبقي يدفعها إلى التمرد عليه. لهذا يجعلها هذا الوعي الزائف تقنع بنمط الاستغلال الذي تعيشه قناعة تامة، مما يحرمها من تصور أنها قادرة على إنهائه. وبالتالي فهي ترى أن الحل هو في تحسين ظروفها من خلال المطالبة والمناشدة والرجاء. من خلال "التوسل". ومن ثم التمرد والانفجار لحظة شعورها بأن لا خيار أمامها لكي تجدد حياتها. الأمر الذي يجعل وضعها مأزقياً، حيث هي لا تتوصل إلى الطريق الذي يحقق مصالحها. في هذا الوضع يُطرح دور الحزب. وانطلاقاً من ذلك تتحدد مهماته.
فالحزب كونه المعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء يجب أن يكون القادر على امتلاك الوعي المطابق لمصلحة هؤلاء. فهو يمثل، فيما يمثل، الفئة التي تمتلك الفكر، ويحوي مستوى غير المستوى المتعلق بالبناء التحتي والذي تتشكل فيه الطبقة بما هي طبقة، هو مستوى الفكر/الوعي. المستوى الذي يسمح بإنتاج الأيديولوجية المعبّرة عن هذه الطبقة، والمطابقة لمصالحها. وهو هنا يضيف عنصر الوعي/الفكر، حيث هي مهمة جوهرية من مهماته، وضرورة من ضرورات وجوده. وبهذا تتقوم مهمته في إدخال الوعي إلى الطبقة، وبالتالي إلى النشاط الجماهيري. وهنا تُطرح قضية الوعي وعلاقتها بالنشاط الثوري، وموقعها في العملية الثورية بمجملها. وما من شك في أن دور الحزب هنا يتمثل في تحديد التصور الإستراتيجي للعمل الثوري، وتحديد الأهداف، وبالتالي العمل على إقناع الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بها، في سياق العمل من أجل تطوير وعيها عبر هزيمة الوعي الزائف الذي يسكنها، والعمل على تأسيس وعي فلسفي/ سياسي/ اجتماعي مطابق لوجودها.
هذا ما عجزت الحركة الشيوعية العربية عن تحقيقه، حيث ظل الوعي هامشياً. وبدا الحزب أنه لا يضيف سوى الشعارات العامة دون الوعي، ويدور في حدود المطالب دون السعي إلى التغيير. مما أبقى النشاط السياسي نشاطاً عفوياً، وأضعف مقدرة الأحزاب على إيصال الحركة الجماهيرية إلى تحقيق التغيير. بمعنى أن الحركة الشيوعية فشلت في تطوير وعي العمال والفلاحين الفقراء، وتطوير نشاطهم المطلبي بما يجعله نشاط من أجل التغيير الذي يحقق مصالحهم. فظلت تطالب وتناشد وتلتمس الرجاء كما الحركة الجماهيرية ذاتها، وفي حدود مطالبها كذلك، دون وعي بأن تحقيق مصالحها يفرض أن تكون هي السلطة وليس غير ذلك.
الإشكال الثاني هو العفوية التي تجعل النشاط مرتبطاً بردات الفعل. وهنا يجب أن نتحدث عن التنظيم، حيث أن للوعي مسارب تتشربه الطبقة من خلالها، وحيث أن العمل العفوي يفرض تنظيم النشاط الجماهيري، ووضعه في سياقات تجعله قادراً على أن يتحول إلى فعل ثوري حاسم. وليست هذه السياقات من اختراع الحزب دائماً، بل أنها تكون في أحيان عديدة من مبادرات الطبقة، لكن الحزب يدعمها ويطورها وينظمها في إطار السياق العام للنشاط الثوري.
لكن المشكلة الهامة هنا هي مشكلة البنية التنظيمية للحزب ذاته، منظم النشاط الجماهيري. لقد استسهلت الحركة الشيوعية في الماضي اعتماد "صيغة جاهزة" ولدت في إطار ظروف معينة، وبعد تجربة طويلة لها خصوصياتها وإشكالاتها، والتباساتها، وأعني الصيغة الستالينية في التنظيم (التي تسمى عادة الصيغة اللينينية في التنظيم). ولقد كانت صيغة فاشلة، بل سيئة، لأنها أعادت إنتاج البنية البطريركية التقليدية الرائجة في مجتمع ريفي. لهذا كان من الضروري نقد هذه الصيغة الرائجة، ومحاولة رؤية الظروف الواقعية المؤثرة في بنية التنظيم في الوطن العربي، وليس في أي مكان آخر. وبالتالي محاولة تحديد تصورات تنظيمية جديدة.
هذا ما نتناوله. منطلقين من الحركة الجماهيرية التي هي أساس العمل الثوري، لأنها أساس تحقيق التغيير بلا منازع. ونؤكد على ضرورة ارتباط الحزب بها، ضرورة أن يندغم فيها، يندمج فيها. ولكن انطلاقاً من أنه يؤسس لوعي/فكر جديد، ينطلق من الجدل المادي، ليؤسس أيديولوجية تعبر عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء هنا في الوطن العربي. هي انعكاس ليس للواقع كما هو، فربما تكون هذه مهمة تفسير الواقع فقط، بل الواقع كما يجب أن يكون لكي يحقق مصالح هذه الطبقة. بمعنى أنها لا تكون تكراراً للوعي السائد لدي الطبقة، لأنها في ذلك تعيد تأسيس الأيديولوجية المسيطرة، بل أنها تؤسس الوعي المطابق لمصلحة العمال والفلاحين الفقراء. الوعي الذي يعبّر عن كينونتها كما يجب أن تكون.
إذن، الحزب يضيف الوعي والتنظيم لمجمل نشاط الطبقة، لكي يخاض الصراع الطبقي وفق أسس جديدة توصله إلى الانتصار.




























ـ1ـ

سمات النشاط الجماهيري ووضع الحركة الماركسية

تنتصر الثورة حينما تتحد الحركة الماركسية بحركة الطبقة العاملة، ليؤسسا معاً النضال الثوري. ولا يتم ذلك إلا حينما تتبنى الحركة السياسية أهداف الجماهير وتدافع عنها، وحينما تندمج بالطبقات التي تعبّر عنها.
هذا الأمر يطرح قضية الارتباط بنشاط الطبقات الشعبية، كما يطرح قضية وضع هذه الطبقات، نشاطها، وتصوراتها.. إلخ. لكنه يطرح أيضاً المهمات التي من الضروري أن تسعى الحركة الماركسية لتحقيقها. وكل ذلك يفرض دراسة الظروف الراهنة، وتحديداً فيما يتعلق بالوضع الجماهيري، ووضع الحركة الماركسية. ومن ثم تحديد دور الحزب الذي يطمح لأن يلعب دوراً ثورياً، يتجاوز الدور الذي باتت تلعبه الحركة الشيوعية الراهنة، وهو في كل الأحوال دور هامشي، ويقوم على الفصل بين السياسي والمطلبي، مما لا يحوّل الصراع إلى صراع طبقي
.
الارتباط بنشاط الجماهير:

إن انتصار الثورة القومية الديمقراطية في الوطن العربي يرتبط أشد الارتباط ليس بمسألة واحدة بل بمسألتين. لقد ساد في المرحلة الماضية، ومازال، منطق يعتبر أن التطور الموضوعي هو الذي سوف يؤدي إلى حدوث التغيير في بنية المجتمع العربي. أي باعتبار أن كل الظروف الموضوعية هي التي سوف تحقق «الحتمية التاريخية»، التي هي انتصار الاشتراكية في نظر البعض(1)، أو انتصار النظام الديمقراطي البورجوازي في نظر آخرين. ولقد عبَّر هذا المنطق عن اتجاه إصلاحي ارتبط بمطامح فئتين مختلفتين، أولهما، الفئات المثقفة التي درست وتعلَّمت وحصلت على شهادات جامعية، وأصبح منطقها يختلف عن المنطق السائد في المجتمع، نتيجة اعتناقها أفكار ومفاهيم جديدة. فأخذت تشعر بأن عليها أن تلعب الدور الرئيسي في قيادة البلاد، لكنها في الوقت نفسه، ضد الثورات، والتغييرات العنيفة (الراديكالية)(2). لهذا رأت أن التطور التدريجي هو خيارها. وهو خيار بورجوازي ديمقراطي (وإن كنا نتحفظ على ذلك، بسبب من العجز عن بلورة اتجاه بورجوازي ديمقراطي حقيقي، رغم أنه يحمل سمات هذا الاتجاه العامة، التي يمثل في أحيان كثيرة، صورة مسخاً).
وثانيهما، الفئات «الثورية» من العمال والفلاحين والمثقفين التي اتبعت الماركسية. لكن ليس الماركسية الثورية، بل «الماركسية الاصلاحية»، ماركسية الأممية الثانية، وماركسية المناشفة في روسيا، التي كانت تعتبر أن الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، قضية «حتمية»، كما هي «حتمية» قضية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، لأن الظرف الموضوعي، هو الذي يقود ـ بشكل حتمي ـ إلى ذلك، فالمجتمعات تنتقل من مرحلة في التطور الطبقي، إلى مرحلة أخرى، وفق قانون محدد. أما دور الحزب فيتمثل في كونه عاملاً مساعداً: مساعدة البرجوازية ضد الاقطاع، لكي تتحقق الثورة الديمقراطية البورجوازية(3). هذه الثورة التي سوف تخلق ـ بشكل حتمي أيضاً ـ طبقة عاملة كبيرة العدد، وقوية(4)، تستطيع هزيمة البورجوازية دون عناء كبير، ومن خلال الطريق البرلماني(5).
إن هذا المنطق يلغي العامل الإرادي، عامل الوعي والتنظيم، ويغلِّب العنصر العفوي، مما يجعل قضية التغيير الثوري حلماً هو أقرب إلى السراب منه إلى التحقق.
كما ساد في المرحلة الماضية، المنطق المقابل، أي منطق تغليب العامل الإرادي، واعتبار أن دور الطبقات الشعبية هو دور هامشي، ثانوي، تابع، لاحق... إلخ. ولقد مثَّل هذا المنطق، موقف فئات نزقة، حاولت تغيير ظروفها بسرعة فائقة، وبالتالي حاولت إلغاء الوضع القائم الذي تعيشه بلمحة بصر. وهذه فئات كانت تهدف إلى الإثراء السريع، لتتحول فجأة من فئات محدودة الدخل إلى فئات ميسورة الحال، أو فئات «ثورية»، لكنها لا تثق بالنشاط الجماهيري، ولا تلقي أي اعتبار للمطالب المعاشية البسيطة، وتعتبر أن قضايا التغيير الثوري هي من صنع الأبطال وحدهم(6)، لهذا لجأت إلى «العنف الثوري»، أو «الدعاية الثورية المسلحة»... إلخ(7).
إذا كان ساد هذان المنطقان في الماضي، وما زالا، فلا بدَّ لنا أن نؤكد اليوم أنهما لم يقودا إلى تغيير. فلا الاتجاه الاصلاحي أدى إلى تحقيق «تراكمات كمية» تسمح بتطور مضطرد يحسِّن من وضع الجماهير، ولا الاتجاه الطفولي أدَّى إلى أن يقرِّر العامل الإرادي مصير الثورة، مما جعل الوطن العربي يعيش دوامة صعبة، قادت إلى الفوضى أحياناً، وإلى عدم الاستقرار أحياناً أخرى، لكنها كرَّست وضع الفئات الحاكمة، وأطالت في عمرها، وإن أدَّت أحياناً إلى سقوط سلطة والاتيان بأخرى، أو تغيير حاكم بحاكم.
لذلك يمكننا الجزم أن الثورة القومية الديمقراطية مرتبطة بمسألتين: الظرف الموضوعي من جهة، والعامل الإرادي من جهة أخرى. وهذه بديهية في الماركسية(8)، رغم أنها بحاجة إلى التأكيد فيما يتعلق بوضعنا، لأنها ليست بديهية في كل الأحوال، ولا هي الفكرة التي تتبناها القوى الماركسية العربية، التي تراوح في سياساتها بين العمل الإصلاحي والعمل الطفولي، بين النضال الديمقراطي البرلماني، وبين الارهاب، المسمَّى بـ«العنف الثوري»(رغم هامشية هذا الاتجاه). لهذا كان من الضروري التأكيد على أهمية الارتباط بنشاط الطبقات الشعبية إذا كنّا نسعى، حقيقة، إلى تحقيق الثورة الجذرية في الوطن العربي.
إن مأزق التغيير يكمن دائماً في قدرة الفئات المسيطرة، أي الحاكمة، على ضبط حركة التطور والنهوض، والتحكم فيها، نتيجة تحكمها بالاقتصاد، من خلال امتلاكها لرأس المال. ولكن أيضاً نتيجة سيطرتها على الدولة، كقوة قمعية كبيرة الشأن. ولكن ثالثاً نتيجة امتلاكها لايديولوجيا تعبِّر عن مصالحها تعبيراً مطابقاً، مما يجعلها قادرة على فهم مصالحها، ومن ثمَّ تحديد السياسة التي تخدم هذه المصالح. هذا في جانب، لكنه جانب واحد، لأنه يمكن مواجهة القوة بالقوة، وهذا يقودنا إلى الجانب الآخر، لأن مأزق التغيير يكمن أيضاً في عدم توفر القوى القادرة على هزيمة الفئات المسيطرة، وبالتالي فتح آفاق التطور والنهوض.
لما كانت القضية هي قضية فئات حاكمة، وطبقات شعبية مضطَهدة ومستغَلة ومحكومة، فإن هذه الجماهير هي القوة المقابلة، التي يقع على أكتافها عبء التغيير. وحين تعاني قضية التغيير من مأزق، يكون السبب الجوهري هو عجز الطبقات الشعبية عن تحقيق هذا التغيير. لماذا؟ لافتقادها المزايا التي تمتلكها الفئات الحاكمة. كيف؟ إن إسقاط الفئات الحاكمة وتحقيق التغيير الثوري يرتبط بمعرفة آفاق هذا التغيير أولاً، أي بمعرفة أهداف الطبقات الشعبية، أهداف العمال والفلاحين الفقراء، والشرائح الديمقراطية الثورية من البورجوازية الصغيرة. وهذا يحتاج إلى الوعي، والطبقات الشعبية أمية أو شبه أمية وبسيطة الوعي، وبالتالي تكون عاجزة عن تحديد أهدافها بوضوح ودقة، رغم أنها تعيش آلاماً كبيرة وتتلمَّس من خلالها «مطالبها» التي تكون في العادة مطالب معاشية. وهنا يكمن المأزق الأول، مأزق غياب الوعي المطابق لمصلحة الطبقات الشعبية. وهذه القضية ناتجة من أن الفئات الحاكمة، المستغِلة، تحرص على ديمومة تخلُّف الجماهير، وعلى عدم امتلاكها الوعي. بل أكثر من ذلك، تحرص على إكسابها وعياً زائفاً(9)، يخدم مصلحتها هي، لهذا فإنه في الظروف الواقعية تتبنى الطبقات الشعبية الايديولوجيا السائدة، النابعة من مصلحة الفئات الحاكمة ـ المستغِلة.
ثم إن غياب الوعي المطابق لمصلحة الطبقات الشعبية لدى الطبقات الشعبية ذاتها، واكتسابها «الوعي الزائف» الذي تدخله الفئات الحاكمة ـ المستغِلة لها، يجعلها، بالضرورة، تبتعد عن أشكال النضال الثوري، وتميل إلى خيارات أخرى مختلفة، فإما العمل من أجل الكسب الفردي، وبالتالي التحوُّل إلى الانتهازية، وهذا ما يصيب الفئات الطامحة من مختلف الطبقات الفقيرة، أو العمل الاصلاحي الذي يقوم على أساس التحسين التدريجي للوضع، أو القبول بالوضع القائم والاقتناع به كـ«قدر إلهي»(10)، وهذا هو موقف الأغلبية عادة، وإن سياسة هذه الاتجاهات لا يمكَّن من وحدة الجماهير ضد مستغِليها، فتبقى قوة ضعيفة، محدودة التأثير.
أما عملية التغيير الثورية فتعتمد تحقيق مصالح الطبقات الشعبية، وبالتالي تعتمد أن تلعب هذه الطبقات دوراً ثورياً لأجل إسقاط الفئات الحاكمة ـ المستغِلة، وتأسيس سلطة جديدة تحقق مصالحها. فبدون الطبقات الشعبية لا يكون ممكناً تحقيق التغيير. ولكي تلعب هذه الطبقات دوراً ثورياً من الضروري إكسابها الوعي المطابق لمصالحها، وإكسابها القدرة على تحقيق هذه المصالح.
وهذا هو دور الحزب، الحزب الذي يمثِّل طليعة على صعيد الوعي، من خلال قدرته على امتلاك المنهج المادي الجدلي كطريقة في الدراسة والبحث والعمل، وقدرته على التعبير عن مصالح الطبقات الشعبية. والحزب الذي يمثِّل القوة المقابلة لقوة وجبروت السلطة من خلال قدرته على أن يصبح طليعة مكافحة، وأن يندمج بالطبقات الشعبية. ولكن أن يمتلك، أيضاً، القوة اللازمة لتحقيق التغيير الثوري. وهذا يطرح قضية الارتباط بالنشاط الجماهيري، بالطبقات. لكن لابدَّ من توضيح مسألتين هامتين هنا، وهما:
أ) أنه رغم السياسات التي تتبعها الفئات الحاكمة ـ المستغِلة تجاه الطبقات الشعبية، والهادفة إلى تحويلها عن النضال الثوري، فإن عمق الأزمات التي تعيشها هذه الطبقات يدفعها إلى خوض غمار النشاط الثوري، وهو نشاط يتسم بالعفوية في الغالب، وبالتالي بعدم ارتباطه بتصور ثوري للتغيير.
ب) أن دور الحزب يتمثَّل في بث الوعي في أوصال الطبقات الشعبية، و«إقناعها» بإستراتيجية التغيير الثورية، وهذا دور دعاوي تحريضي من جهة، ويتمثل من جهة ثانية في السعي لتنظيم نشاطها لكي «يتحوَّل التراكم الكمي إلى تغيير نوعي»، ولكي تنقلب العفوية إلى إرادة، إلى فعل واعي. والحزب في كل ذلك لا يخترع أفكاراً أو «يستورد» مفاهيم، ولا يؤلِّف أشكال تنظيم على هواه، بل يُعمِل الفكر بواقع الطبقات لكي يفهم مصالحها ومطامحها، ومن هذه النقطة ينطلق.
ولقد حددنا ضمناً، فيما طرح سابقاً، القضية التي تجعل من الممكن للحزب أن يرتبط بالنشاط الجماهيري. إن تبني موقف فلسفي يرتبط بقضية التغيير الثوري، الذي بدوره يسمح بتحديد استراتيجية تعبِّر عن أهداف الطبقات الشعبية ومطامحها، ومن ثَّم طرح الشعارات التي تعبِّر عن حاجة هذه الطبقات، هي كلها ما يسمح بالارتباط بنشاط الطبقات، وبالتالي تفتح إمكانيات بث الوعي فيها وتنظيمها، على طريق تحقيق الانتصار الثوري. لهذا فإنه من الضروري الانطلاق من الحركة الواقعية للطبقات بهدف تطويرها. إن تطور العمل الثوري مرتبط بمدى اندماج الحزب بحركة الطبقات. وهذا يقتضي رؤية وضعها ، ومعرفة نشاطها، وعلى أي الأسس تقوم.
وحركة الطبقات هي الحركة العفوية الناتجة عن حالة الفقر التي تعيشها (وهذه هي الحالة العامة في الوطن العربي)، أو عن حالات السيطرة الامبريالية المباشرة (الاحتلال)، وغياب الحريات الديمقراطية (وهي حالات لها أهميتها المعنوية). إن الارتباط بالحركة الجماهيرية يفرض فهم الأزمات التي تعيشها، على الصعيد المعاشي الاقتصادي أولاً، نتيجة اتساع الظاهرة، وليس الغرق في الحديث السياسي السطحي، لأن تحوُّل المجتمع من مجتمع إقطاعي أو شبه إقطاعي (مجتمع كفاف) إلى مجتمع رأسمالي تابع، أدخل الصراع الطبقي بكل حدَّته إلى كل بقاع الوطن العربي، وجعل النضال القومي مرتبطاً أشد الارتباط بالنضال الطبقي. مما أوجد ظروفاً جديدة، تختلف أشد الاختلاف، عن الظروف التي سادت في فترة الاستعمار المباشر. ظروف كون الصراع الطبقي بات هو أساس الصراع القومي، وليس العكس.
وفي هذا الوضع تتقوَّم مهمات الحزب في التالي:
أ) طرح التصور السياسي الشامل، أي استراتيجية العمل الثوري.
ب) ربط مشاكل الطبقات الشعبية بالمشاكل السياسية العامة، أي تسييس الصراع الطبقي، أو التأسيس على الصراع الطبقي، لأن هذا الربط هو في جوهر الصراع الطبقي، في مقابل النضال المطلبي فقط أو النضال الديمقراطي المنعزل.
ج) تطوير حركة الطبقات الشعبية ومحاولة إعطائها بُعدها السياسي المنظم، من خلال تطوير النشاط النقابي والمطلبي، السياسي والثوري، من أجل تحقيق التغيير في مرحلته الراهنة، مرحلة الثورة «القومية الديمقراطية».

سمة النشاط الجماهيري

لاشك أن هناك تزايداً في نشاط الحركة الجماهيرية في عدد من الأقطار العربية، يمكن تلمسه من خلال متابعة حركات الإضرابات التي تحدث في كل البلدان العربية. ويمكن ملاحظته بشكل أوضح في الانتفاضات التي حدثت في هذه البلدان تحديداً خلال ثمانينات القرن العشرين. وإذا كان سلاح الإضراب يعبِّر عن نضال الطبقات من أجل تحسين أوضاعها فتلجأ إلى كل وسائل الاحتجاج، فإن الانتفاضة تعبِّر عن مرحلة أعلى من الاحتجاج، تبلغ حد السخط، تستخدم فيها الطبقات الشعبية وسائل عنيفة. ولا يبدو أن هناك تدرجاً في الانتقال من سلاح الإضراب إلى سلاح الانتفاضة، بل إن الانتفاضة غدت تحدث بشكل دوري كلما نشأ اختلال في العلاقة بين الأجور والأسعار، إلى الحد الذي جعل سلاح الانتفاضة سلاحاً أساسياً في تحقيق عملية التغيير في الوطن العربي.
لماذا تحدث هذه الانتفاضات؟
إننا معنيون بتحديد السبب الجوهري لحدوثها فيما إذا كنَّا معنيون بالنضال الواقعي، ومصممون على الارتباط بالحركة الجماهيرية، لأننا نطرح الأهداف التي تطرحها الطبقات الشعبية، وإن كنا معنيين بأن نراها انطلاقاً من رؤية علمية، وأن نضعها في سياق النضال السياسي الشامل. وهذا الذي يجعلنا لا نرى النشاط الجماهيري العفوي فقط، بل نرى إشكالاته في الوقت نفسه، وأن نحدِّد مهام الحزب، في إطار سعيه لتحقيق الثورة الجذرية العميقة. إذن لماذا تحدث هذه الانتفاضات؟ لماذا «تنفجر» الجماهير حين يُصدِر نظام من الأنظمة قراراً يقضي برفع الدعم عن السلع الأساسية، مما يقضي زيادة أسعارها، لكأن هذا الارتفاع «المحدود» في أسعار هذه السلع هو الذي ينقل الإنسان من الحياة إلى الموت؟
يمكن تلخيص السبب الجوهري الذي يؤدي إلى ذلك في مسألتين، هما: بطء النمو الداخلي (أو قد يكون الأدق، في أحيان كثيرة، الحديث عن انعدام النمو، أو النمو السلبي)، بسبب تحويل المجتمع من مجتمع ينتج السلع الضرورية لمعيشة الطبقات الشعبية إلى مجتمع يستوعب السلع المستوردة بشكل متزايد، أي باختصار محدودية الدخل المحلي، ومحدودية نموه. ومن المعروف أن التخلف «المتوارث»، والذي جرى دعمه من قبل الامبريالية العالمية، هو سبب ذلك. لأن الامبريالية العالمية معنية بتكوين أسواق لها تستوعب بضائعها وسلعها، وهذا يفرض وجود مجتمعات غير صناعية، لكي تستورد منتجات الصناعة الرأسمالية، وغير زراعية لكي تستورد، أيضاً، المنتجات الزراعية للرأسمالية. والمسألة الأخرى هي النهب الامبريالي الذي يؤدي إلى خروج جزء هام من الدخل المحلي إلى المراكز الإمبريالية عبر قنوات مختلفة، منها اختلال الميزان التجاري لمصلحة الواردات، وفتح الوطن لاستثمارات رؤوس الأموال الأجنبية والشركات متعددة الجنسية في القطاعات غير المنتجة أساساً، ثم من خلال تهريب الفئات المستغِلة الحاكمة لثرواتها التي نهبتها من الدخل الاجتماعي العام.
وإذا علمنا أن عدد السكان يتزايد بشكل متسارع ـ وهي سمة النمو السكاني في الوطن العربي، حيث يتضاعف عدد السكان كل ربع قرن تقريباً ـ بينما لا ينمو الدخل المحلي بما يوفر مستوى معيشة موازٍ لما كان قبل سنة أو سنتين، نعرف بأن عملية الإفقار في تصاعد. وتزيد من حدة المشكلة تزايد وتيرة التبعية للسوق الامبريالي، التي توجد مسألتين مترابطتين: تزايد أسعار السلع بنسب مرتفعة(11)، وتزايد النهب الذي تمارسه الشركات الاحتكارية(12)، وكذلك تزايد شره الفئات المستغِلة الحاكمة(13). فتستحوذ هذه كلها على جزء هام من الدخل المحلي، مما يفرض تناقص حصة السكان من الدخل المحلي تناقصاً متسارعاً يؤدي إلى إفقار الطبقات الشعبية، إفقاراً مطلقاً، يصل إلى حد الموت جوعاً. عندها لا يكون ممكناً بقاء هذه الطبقات راكدة، خانعة، لأنها لم تعد تستطيع العيش.
هذا ما حدث في مصر عام 1977، وتونس عام 1978، والسودان عام 1979، والمغرب عام 1981، والسودان عام 1982، ثم تونس والمغرب ومصر عام 1984، ومن ثم السودان عام 1985، ومصر عام 1986، والجزائر عام 1988، والأردن عام 1989. ولعل الوضع ينذر بانفجارات جديدة من جديد، في تونس والمغرب، ومصر، والجزائر، و الأردن، وسورية واليمن ودول أخرى، بعد الركون الذي طاول سنوات التسعينات.
والمشكلة التي تؤدي إلى كل ذلك هي السياسة التي تتبعها الأنظمة الحاكمة، وخصوصاً في المجال الاقتصادي(14)، النابعة من مصلحة الفئات المستغِلة الحاكمة، هذه الفئات التي اغتنت نتيجة الدور الذي لعبته في العملية الاقتصادية، حيث عملت في الرشوة والسمسرة. ولهذا شجعت الاستيراد لأنه مجال السمسرة والرشوة، وضربت كل تطور إنتاجي محلي، ففتحت البلاد مشاعاً لنهبها، وأساساً لنهب الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، هذه الشركات التي تنهب دون حساب، ودون أن تحسب حساباً لفقر الجماهير أو لمصيرها. إن سيطرة فئة تسعى لأن تكوِّن ثروة كبيرة يدفعها إلى تكييف الاقتصاد المحلي في العلاقة مع السوق الإمبريالي بما يخدم هذا الهدف.
ولما كانت ظروف تطور الرأسمالية العالمية لم تعد تسمح بتطور بورجوازي مستقل، يقوم على أساس تطوير جدِّي في الصناعة والزراعة، يحقق فائضاً، تلجأ هذه الفئات من البورجوازية إلى أن تكون وسيطة تعمل في تسويق السلع المنتجة من قبل الشركات متعددة الجنسيات، لكي تقتصَّ عمولة ـ أو سمسرة ـ، ولكي تنهب الطبقات الشعبية من خلال بيع السلع في السوق المحلي بأسعارها في السوق العالمي. لهذا فهي تستفيد من سيطرتها على جهاز الدولة لكي تصدر القوانين التي تدعم الاستيراد وتسهِّله، وتحطِّم وسائل الإنتاج المحلية، سواء الصناعات التي بنيت خلال قرن من الزمان، وهي صناعات تحويلية ِأساساً، أو الريف كمنتج للمواد الزراعية الأساسية(15).
وتؤدي هذه السياسة إلى حدوث عملية معقدة، تطيح بالدخل المحلي العام، وبالتالي بنصيب الفرد منه:
فأولاً: تؤدي السياسة الاقتصادية التي تتبعها هذه الفئة إلى تناقص نمو الدخل المحلي تناقصاً شديداً، وحتى إلى تناقص قيمته، أي إلى نمو سلبي في قيمة الدخل المحلي.
وثانياً: نهب الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات من خلال بيع سلعها بأسعار مرتفعة في السوق المحلي، مما يؤدي إلى خروج جزء هام من الدخل المحلي، من خلال العجز في الميزان التجاري، كما من خلال الأرباح التي تحققها هذه الشركات من الامتيازات التي تحصل عليها في إطار عملها في الوطن العربي.
وثالثاً: النهب الذي تمارسه الفئات الحاكمة من خلال التحكم بأسعار السلع وبيعها بأسعار باهظة.
ورابعاً: نهب الدولة ـ السلطة الحاكمة ـ المفروض من خلال الضرائب على الأموال والأفراد والسلع.
لهذا يبقى جزء ضئيل من الدخل المحلي الذي هو ضئيل بالأصل، ليوزع على الأغلبية الساحقة من الجماهير، مما يجعلها، مع تزايد النهب الامبريالي، والنهب المحلي، غير قادرة على العيش. ولهذا يزداد فقر الفقراء، وتنعم قلة بجزء هام من الناتج المحلي، وتنهب الشركات الاحتكارية ما يحلو لها. فلا يكون هناك مناص من الانفجار، لأن الطبقات الشعبية لا تستطيع العيش وفق الوضع الذي كانت عليه، حيث يصل النهب الامبريالي إلى مستوى يجعل فئات اجتماعية واسعة لا تستطيع الحصول على ضروريات الحياة، وعندها لا يعود ممكناً بقاء الطبقات الشعبية خامدة هامدة قانعة بقدرها ومصيرها.
ولا نخالنا معنيين بدراسة الأرقام التي توضح كل ما جاء سابقاً، لأننا لا نود تقديم دراسة اقتصادية، لكن يمكننا إعطاء بعض المؤشرات التي توضح ما نحاول تأكيده. تبلغ مثلاً نسبة تكوين رأس المال الثابت، الخاص، والعام، إلى مجمل الدخل القومي في البلدان العربية الفقيرة، للأعوام 79، 80، 81، على التوالي 23%، 25%، 28%، رغم أنها تذهب في معظمها لما يخدم القطاع التجاري. بينما بلغت نسبة الاستهلاك العام والخاص، إلى الدخل القومي لنفس الأعوام، 80%، 86.2%، 87.7%، على التوالي(16). وهذه الأرقام تؤشر إلى غياب نمو القوى المنتجة، مما لا يسمح بنمو متسارع في الدخل القومي. أما على صعيد التجارة الخارجية فقد بلغت نسبة العجز في الميزان التجاري للسلع والخدمات إلى الدخل القومي للبلدان العربية الفقيرة للسنوات ذاتها، كما يلي: 30%، 28%، 37%، على التوالي، حيث كان العجز 22.825 مليار دولار، 25.441 ملياراً و 35.545 مليار دولار(17). أما نهب الشركات الاحتكارية فالأرقام قليلة حوله، وتشير دراسة أميركية إلى أن الشركات الأميركية ربحت وحدها في العام 1976 مبلغ 27 مليار دولار(18). كما بلغت 7.6 مليارات دولار عام 1985 بالنسبة لمصر وحدها(19).
أما على صعيد التمايز الطبقي فيمكن النظر لوضع مصر كي يتوضح وضع الطبقات الشعبية، حيث يحصل أدنى 44% من الأسر على 20 من الناتج، وأدنى 57% من الأسر على 32% من الناتج، و71% من الأسر على 46% من الناتج(20)، بينما تشير احصائيات أخرى إلى أن 20% من السكان تعيش حالة فقر شديد، و40% في حالة فقر نسبي، بينما يحصل 20% من السكان على 49.5% من الدخل(21).
لهذا فإن حالة الإفقار المطلق التي تعيشها الطبقات الشعبية، تؤدي بالضرورة إلى انفجارات واسعة، تهز عروش، وتطيح بأنظمة. وإذا كانت الانفجارات التي حدثت في العديد من الدول لم تؤد إلى تحقيق التغيير الجذري، فقد أشّرت إلى عمق الأزمة من جهة، وأكسبت هذه الطبقات خبرات نضالية كبيرة من جهة ثانية. لكنها أشّرت أيضاً إلى غياب القوى السياسية القادرة على قيادتها، وخصوصاً هنا القوى الماركسية. مما أصبغ الطابع العفوي على هذه الانتفاضات. وهنا مكمن الضعف في النشاط الجماهيري.

إشكالية النضال العفوي:

كانت نتيجة الانتفاضات التي حدثت هي الفشل،أو حدوث أشكال من التغيير في بعض الحالات، هذا التغيير الذي خدم شرائح من البورجوازية على حساب أخرى، ولم يؤد في كل الأحوال إلى تحقيق التغيير الجذري، الذي يعني انتصار القوى المعبِّرة عن مطامح الطبقات الشعبية صانعة الانتفاضات. ولاشك في أن النضال العفوي المعزول عن النضال السياسي العام الذي تمارسه قوى ثورية، يقود إلى هذه النتيجة، حيث تبقى الطبقات الشعبية دون "عقل" وهدف جوهري. وبالتالي فإن الفراغ الذي يحدث في الحياة السياسية يملأ من قوى مختلفة لا تعبِّر عن مطامح تلك الطبقات. والسبب يكمن في أن النضال العفوي يقوم على أساس مطالب محددة، آنية في أغلب الأحوال، مثل زيادة الأجور، أو الحفاظ على ثبات الأسعار، ولا يعود ينحكم لتصور سياسي يطرح قضية التغيير بأفقها الاقتصادي الاجتماعي والسياسي، أي لا يطرح قضية السلطة. وهذه قضية منطقية فيما يتعلق بطبقات بسيطة الوعي، تتغلغل الأمية في أوساطها، وبالتالي تحكمها الايديولوجيا السائدة، هذه الأيديولوجيا التي تلعب دوراًً مهماً في اقتناعها بأن المطلوب هو «إحقاق الحق»، والحق يعني أن تقدِّم الفئات المستغِلة بعض التنازلات التي تحسِّن من وضع هذه الطبقات الفقيرة، ما دام التمايز الطبقي قضية إلهية. إضافة إلى أن هذه الأيديولوجيا تحصر القضية في جانب مطلبي ضيِّق، لأنها تقنع الناس بأن للسياسة «القادرين على ممارستها»، وهم غالباً الوجاهات والفئات الميسورة (المستغِلة).
ومن يدرس شعارات كل الانتفاضات التي حدثت في الوطن العربي، يلاحظ أنها شعارات تطالب بتحسين الظروف المعاشية. ولقد انتهت حين تحققت بعض المطالب (مثل التخلي عن قرارات وقف الدعم عن السلع، أو التخلي عن قرارات رفع أسعار السلع الأساسية، وخصوصاً الخبز ومشتقاته)، ولم نلمس أي شعار سياسي يتعلق بطبيعة السلطة السياسية، أو طبيعة العلاقة مع الامبريالية(*). وهذا يشير إلى غياب الحركة الماركسية، وعجزها عن لعب دور في هذه الانتفاضات، لا بل إن دورها في العديد من الانتفاضات التي حصلت كان سلبياً، حيث أدانت معظم التحركات باعتبار أنها أعمال شغب وتخريب، ورأت أن المطلوب هو «التفاهم» مع الأنظمة، من خلال الحوار و«النضال الديمقراطي»، لكي يمكن التوصل إلى حلول شاملة للمشاكل التي تعانيها الجماهير.
لهذا يمكن التأكيد أنه لن تحقق أي انتفاضة الأهداف التي تطرحها الطبقات الشعبية إذا لم تلعب القوى الثورية دوراً مهماً فيها، من خلال تطوير الوعي العام لدى هذه الطبقات. وهذا يستلزم تطوير أساليب الدعاية والتحريض بهدف إكسابها وعياً مطابقاً لمصالحها ومطامحها، ومناقضاً لوعي عدوها (الفئات المستغِلة محلياً، والامبريالية عالمياً). لأن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجعل من الممكن أن ترفع الطبقات الشعبية الشعارات السياسية كشعارات مرادفة لشعارات النضال المطلبي، وأن تلعب القوى الثورية دوراً مهماً في تطوير أساليب التنظيم التي تجعل للنشاط الجماهيري جدوى، وتمكِّن من أن تصبح هذه الطبقات قوة لا تقهر.
أما ما يجري حالياً، فيوضح أن الحركة الماركسية غير قادر على لعب أي دور جدِّي.

وضع الحركة السياسية:

وتكتسب الحركة السياسية طابعها من الظروف التي تولد فيها، والوضع الذي تعيش فيه. وتتحدد مهماتها على ضوء الظروف العيانية التي يعيشها الوطن الذي تولد فيه، والطبقات التي تدافع عنها. هذا إذا أرادت أن تتحول إلى حركة ثورية جذرية، أما إذا افتقدت كل ذلك، فستصبح حركة هامشية، قد تلعب أدواراً مختلفة، لكنها لن تستطيع لعب دور قوة الطليعة.
ولقد ولّدت ظروف النضال ضد الاستعمار القديم الحركة الوطنية العربية منذ بداية هذا القرن، فاصطبغت بصبغة محددة تقوم على أساس رد الفعل ضد سياسات وممارسات القوى الخارجية، وحين انهار الاستعمار القديم وتمكنت بعض القوى الوطنية من الوصول إلى السلطة في عدد من الدول العربية، عجزت عن تحقيق الشعارات التي رفعتها في ميدان البناء الداخلي، وعلى صعيد الوحدة العربية. ولكن التحولات التي حدثت خلال السنوات الثلاثين الماضية، ومنها تصفية بقايا الإقطاع والبورجوازية التقليدية من جهة، ثم تزايد دور «الدولارات النفطية» من جهة أخرى، أوجدت وضعاً طبقياً جديداً، اتسم بـ«الميوعة» والاختلاط، حيث عملت القوى الوطنية على أساس «إلغاء الفوارق الطبقية». ولقد أوجدت هذه التحولات ظروفاً أسهمت في اتساع حجم البورجوازية الصغيرة والوسطى، وحصولها على امتيازات جعلتها تتكيَّف مع الأوضاع الجديدة، وحققت للطبقة العاملة والفلاحين تحسناً مهماً في أوضاعها المعيشية، رغم أن الفروقات الطبقية ظلت كبيرة، حيث كان الـ20% الأغنى في مصر، تحصل على 48.4% من الدخل المحلي سنة 1965، و48.1% في السودان سنة 1969. أما النفط فقد أثر في البنية الطبقية لكل الدول النفطية، وانعكس تأثيره على الدول الأخرى من خلال المساعدات والقروض، وتوظيف رؤوس الأموال، والعمالة.
وأخذ الوضع في التغير مع التحولات السياسية اليمينية التي حدثت منذ عام 1970، والتي كانت نتاج إشكالات المرحلة السابقة في المجال الاقتصادي الاجتماعي، حيث نمت فئات طفيلية استطاعت أن تتحول إلى قوة، وأفرزت تفارقاً طبقياً واسعاً. وقادت هذه التحولات إلى تزايد التبعية للإمبريالية سياسياً واقتصادياً، التي أدت بدورها إلى استشراء سياسة النهب. إن سياسة النهب الامبريالي هذه، والتي أوجدت حالة الإفقار المطلق، أدت إلى إحداث فرز طبقي جديد، اتسم بالاستقطاب الحاد، مما جعل الطبقات الشعبية في البلدان العربية الفقيرة تعيش حالة من الفقر الشديد، وصل لدى قطاعات معنية إلى حدّ الجوع، بينما عاشت فئات قليلة حياة مترفة. لقد ولد هذا الانقسام، وقادت هذه الحالة، إلى انتعاش الحركة الجماهيرية، واندفاعها في نشاط محموم، وإلى تحول ركودها الطويل إلى انتفاضات عارمة. وكلما ازدادت حالة الفقر، بسبب تعمق التبعية كلما تزايدت الانتفاضات، واتسعت وازداد تأثيرها.
لكن اتساع النشاط الجماهيري لم يرتبط بتزايد نشاط الحركة الماركسية، بل في تراجعه وانحداره. وكان ذلك يعبر عن مشكلة تعيشها الحركة الماركسية (سوف يجري تلمس بعض جوانبها لاحقاً). لكن يمكننا أن نتلمس طبيعة علاقتها بالطبقات الشعبية لارتباطه بما نحاول تبيانه في هذا الفصل. ويمكن القول إن الحركة الماركسية العربية اتسمت في السنوات الأخيرة بإحدى سمتين، الأولى: الإصلاحية، والثانية: الطفولية والانقلابية والتآمرية. وهذه السمة وتلك أبعدا الحركة عن الطبقات الشعبية إلى حد كبير، لأن الاتجاه الإصلاحي، يركز على «ضرورة إقناع» الفئات الحاكمة بتحقيق مطالب محددة، لا تكون ثورية في جوهرها، لهذا يركز الاتجاه الإصلاحي على إقامة علاقات أساسية مع هذه الفئات، ويتكيف مع سياساتها، ربما يحتجّ أو ينتقد لكنه لا يميل إلى الرفض ولا يفكر في التغيير، لهذا فهو يبتعد عن المشاركة في النشاط الجماهيري الثوري. أما القوى الطفولية (الانقلابية، التآمرية)، فإنها تعتقد أن التغيير يتم بتصفية الفئات الحاكمة (مستخدمة أسلوب القتل، أو الانقلاب). وهي انطلاقاً من ذلك لا تعتقد أن للطبقات الشعبية دوراً سوى التأييد. وهذا وذاك لا يجدان كبير دور تقوم به هذه الطبقات سوى «التأييد والدعم والمساندة». وهما معاً، لا يطرحان قضايا الطبقات الشعبية الأساسية، ولا يدافعان عنها، ولا يخوضان معاركها.
ولقد أظهرت الانتفاضات التي حدثت في مصر، وتونس، والمغرب، والسودان (مع استثناء محدود للانتفاضة الأخيرة)، أن القوى السياسية، عدا قوى محدودة، تقف على الحياد، حين يتفاقم الصراع بين الطبقات الشعبية والبرجوازية الكومبرادورية الحاكمة، وتتخذ مواقف مرتبكة مهزوزة، لكنها في جوهرها إصلاحية(22). فهي لا تطالب بإزالة الفئات المستغلة الحاكمة وتأسيس سلطة جديدة تعبّر عن مصالح الطبقات الشعبية، بل تطالب السلطة القائمة بتحسين أوضاع هذه الطبقات ، أي تخفيف الظلم عنها، وإعطائها بعض الحقوق المحدودة، وهي تأمل من النظام، أن يحقق ذلك. بمعنى أنها تقف عند القضايا المعيشية المطلبية فقط، دون تلمس أنه حتى هذه القضايا لا تتحقق إلا بتغيير السلطة ذاتها.
وإذا كانت الانتفاضة الجماهيرية لحظة زمنية تقيِّم هذه الطبقات من خلالها الحركة السياسية، لأنها وهي تخوض معركة وجودها تكون في لحظة شديدة «الحساسية» و«الرهافة»، تستطيع من خلالها تقييم القوى المختلفة في موقفها من الانتفاضة ذاتها، وفي دفاعها عن المطالب الجماهيرية، وفي دورها في كل ذلك،. لذلك كانت الانتفاضات المتتالية لحظات اكتشفت الطبقات الشعبية أنها وحدها في المعركة، وأن الحركة السياسية تعيش «أحلاماً» غير أحلامها، وهي لا تمت بصلة لأحلامها في التحرر وإزالة الاستغلال.
لهذا نستطيع القول إن الحركة الجماهيرية تتجاوز اليوم الحركة السياسية التي نشأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتبرزها كحركة إصلاحية. من هنا تأتي مشروعية البحث في تأسيس حزب جديد، حزب يقوم على ماركسية حقة، ويندغم بالطبقة العاملة والفلاحين الفقراء لكي يعبّر عن واقعهم، ويدفعهم للوصول إلى السلطة.


الاقتصاد والسياسة:
النضال المطلبي والنضال الثوري

ركزنا الاهتمام في الصفحات السابقة على مطالب الحركة الجماهيرية المباشرة، والمتعلقة أساساً بالجانب الاقتصادي، ولم نولِِ أي اهتمام للسيطرة الإمبريالية، أو للنضال السياسي، رغم الخطر التي تشكله القوى الإمبريالية، والذي يزداد تفاقماً، ورغم الإشكالات المعقدة التي يطرحها الواقع العياني، التي هي إشكالات أوسع مما تطرحه الطبقات الشعبية راهناً، مثل قضية تجاوز التخلف، وقضية الوحدة القومية مثلاً.. إلخ. فهل يعني الاهتمام بقضايا الجماهير انتقاصاً من النضال ضد الخطر الخارجي (الامبريالي الصهيوني)؟ وهل يعني طرح هدف عملي مثل هدف تبني المطالب الجماهيرية تغليب النضال الداخلي على النضال ضد الخطر الخارجي؟ وهل هناك أولوية في كل هذا النضال الداخلي والخارجي؟ وإذا كانت هناك أولوية على الصعيد النظري من منطلق أن مواجهة القوى الإمبريالية هي الهدف الأسبق قبل الخوض في غمار الصراع الطبقي، فهل يجوز إعطاء الأولوية لذلك في غمار النضال العملي؟ وأساساً هل تأخذ مطالب الطبقات الشعبية بعين الاعتبار؟ وإلى أي مدى؟
وما يزيد من أهمية الإجابة على هذه الأسئلة، «النضال الأحادي» الذي ساد العمل الثوري العربي في السنوات الماضية، حيث انفصم الربط بين النضال الطبقي والنضال القومي، وبين الداخل والخارج، فأولت بعض القوى النضال القومي الاهتمام الأول، وفي أحيان كثيرة الاهتمام الأوحد (النضال من أجل الوحدة، النضال من أجل فلسطين)، وأولت قوى أخرى النضال المطلبي المعاشي (الاقتصادي) الاهتمام الأول والأوحد. وإذا لمس الاتجاه الأول النضال المطلبي فمن بعيد، وبحياء شديد، وعادة مراعاة للنشاط الجماهيري. كما أنه إذا لمس الاتجاه الثاني النضال القومي، فخجلاً وعلى استحياء، وأساساً نتيجة المد الجماهيري العارم. لهذا انفصمت الحركة السياسية، انقسمت على نفسها، وقسمت الطبقات الشعبية، ثم انفصمت عن هذه الطبقات. وكانت الحركة الشيوعية العربية هي التي تعاني من الإرباك الأشد، حيث فصمت بين الطبقي والسياسي، فركزت على المطلبي من جهة، وفي الحدود المطلبية فقط، وعلى السياسي "الديمقراطي" من جهة ثانية، وعلى رفض الاستعمار دون نضال حقيقي ضده.
والآن، فإن أي فصم سوف يؤدي إلى تكرار تجربة فاشلة. لهذا كان من الضروري دراسة الحركة التاريخية الصاعدة، حركة الأمة باتجاه تحررها ووحدتها، وحركة الطبقات الشعبية من أجل تقدمها ونهضتها، من أجل إزالة الاضطهاد والاستغلال اللذين تعيشهما. وإذا كنا نسعى لتحقيق أهداف الأمة وجب علينا أن نربطها بحركة الطبقات الشعبية، لأنها بالأساس أهداف هذه الطبقات. وهذا يعني أن نتبنى مطالبها، أن ندافع عن أهدافها ومطامحها، وأن نبذل كل الجهود من أجل تحقيقها، في التحليل الأخير. لكن أزمات الطبقات الشعبية الملحة، أزمة الجوع والفقر والتخلف من جهة، وتخلف الوعي لديها من جهة أخرى، يجعلانها تخوض النضال المطلبي عموماً، وإن سعت بعض فئاتها إلى خوض النضال السياسي. وهنا لا يجب أن ننسى أن مهمة الحزب الماركسي تتقوم بالضبط في إكساب الطبقات الشعبية الوعي السياسي المطابق لمصالحها ومطامحها من جهة، وتنظيمها لكي تخوض النضال الثوري من جهة أخرى.
ولكي نضع القضية في إطارها الصحيح لابد من شرح لعدد من القضايا التي ترتبط بهذا الموضوع:
1ـ إن نمو الحزب، أي حزب، يرتبط بمدى انسجامه مع الحركة الجماهيرية، مع وضع الطبقات التي يسعى لأن يعبر عنها. والانسجام مع الحركة الجماهيرية لا يكون بطرح القضايا الكبيرة فقط (مثل التحرر والوحدة والديمقراطية)، لأن الطبقات الشعبية تعتبر هذه القضايا –في أغلب تقدير- حلم جميل، لكنه حلم «لا يسمن ولا يغني من جوع» بالنسبة لحالتها الراهنة تحديداً، وهي الحالة التي تكون مدخل اتحاد الحزب بها كطبقة، فالذي يكتوي بالنار لا يريد العسل. وهذا يعني بالضبط أن نربط بين البرنامج العام والمطالب الجماهيرية، وبتحديد المهام العملية التي تقنع الطبقات الشعبية. إننا لا نطرح «حلماً» فقط، بل ونطرح القضايا الواقعية أيضاً، أو بتعبير أدق نطرح الحلم الذي ينطلق من الواقع، حيث أن تحقيق الأهداف العامة هو الأساس الذي يسمح بتحقيق التطور والحداثة، وبالتالي تحقيق تحول في الوضع المعيشي لهذه الطبقات.
وإذا كانت هناك فئات تنسجم مع قضايا مثل قضية تحرير فلسطين، وتتطوع للقتال من أجل تحريرها، أو كانت هناك فئات أخرى تطالب بالديمقراطية والوحدة، فإن كل هذه الفئات ستبقى محدودة العدد، قليلة التأثير إذا لم ترتبط الحرية والديمقراطية والوحدة القومية بمواجهة الجوع والفقر، مادامت حركة الجماهير الأساسية تندفع، كما هو واضح في الكتلة الأساسية في الوطن العربي (الكتلة الأساسية من البشر)، في انتفاضات عفوية حين يهتز وضعها المعاشي، حين تزداد فقراً. فلماذا لا نعتبر هذه هي نقطة البدء لتسييس الحركة الجماهيرية، وإعطائها الوعي السياسي العميق، الوعي الذي يؤهلها لاستيعاب استراتيجية الثورة القومية الديمقراطية(*)، ومن ثَّم العمل من أجل تحقيقها؟ وهذه فكرة جوهرية في الماركسية، حيث أن الإنسان هو المبتدأ، وتحقيق الرفاه هو الضرورة.
ثم هل يستثير الخطر الإمبريالي كل الجماهير العربية لكي نعتبره الخطر الأول؟ على الصعيد النظري يمكن تحديد أن تحرير الأرض يحظى بالأولوية، ثم يجري تحقيق الثورة الديمقراطية، ومن ثمَّ الاشتراكية. وقد ينطبق ذلك على بلاد محتلة (مثل فيتنام قبل تحرير الشمال، وجنوب فيتنام قبل تحريرها)، ولكن وضعنا ليس كذلك، فالأرض المحتلة تشكل جزءاً من الوطن (رغم خطورة دور الكيان الصهيوني، ورغم اتساع دور الإمبريالية الأميركية واحتلالها العراق، وتهديدها كل الوطن العربي)، بينما الجزء الأساسي منه يعيش «مستقلاً» سياسياً، وتابعاً اقتصادياً، وهنا تتداخل السيطرة الامبريالية بأزمة الطبقات الشعبية، ويكون السعي لتحسين أوضاع هذه الطبقات سعياً لإزالة التبعية والتخلف. وهذا يعني ارتباط النضال من أجل «تحسين أحوال المعيشة» بالنضال ضد الإمبريالية، وضد أدواتها (ومن أدواتها الأساسيين الكيان الصهيوني والبرجوازية الكومبرادورية العربية)، وبالنضال من أجل الوحدة القومية. لذلك يمكننا القول إن الخطر الخارجي يستثير الجماهير في المناطق المحتلة (فلسطين، الأحواز، الإسكندرون، سبتة ومليلة...والآن العراق). أما في الوطن العربي فيمكن الإجابة بالنفي، حيث يمكن أن يستثير الخطر الخارجي فئات محددة فقط (خارج نطاق الأرض المحتلة مباشرة)، وقد يستثير عواطف قطاعات واسعة من الجماهير العربية بفعل الشعور القومي، ولكن استثارة كل الجماهير العربية تتطلب عملاً دعاوياً يوجد الوعي بهذه الحقيقة.
لذلك فإن خوض الطبقات الشعبية لمعمعان النضال الاقتصادي يفرض على القوى الماركسية أن تعمل من أجل إقناع الطبقات الشعبية بارتباط قضية تحسين الأحوال المعيشية بقضية السيطرة الامبريالية من جهة، وقضية استحالة النمو وتحقيق الرفاه دون تحقيق الوحدة القومية من جهة أخرى. لكن دون أن يكون شعار تحسين الأحوال المعيشية شعاراً راهناً للقوى الماركسية لا تستطيع إعطاء الحركة الجماهيرية توجهاً استراتيجياً مرتبطاً بتحقيق الثورة القومية الديمقراطية. هذا هو الشكل الواقعي، الذي علينا أن ننطلق منه، والذي نتج عن تحول وضع الوطن العربي من وطن مستعمر إلى وطن تابع بعض أجزائه محتلة.
2ـ إن الخطر الخارجي ليس هو الاحتلال المباشر فقط، إنه في هذه المرحلة يتمثل في السيطرة الامبريالية، التي تعني إخضاع الأسواق العالمية لنشاط الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات(23). وينتج عن إخضاع السوق العربي لنشاط الشركات الاحتكارية حالة إفقار مطلق، تم الحديث عنها في الصفحات السابقة. كما تأتي الإشكالات الأخرى، مثل الاحتلال والتجزئة، من السعي لضمان السيطرة على السوق المحلي. وهذا يعني أن الطبقات الشعبية العربية معنية بمواجهة الخطر الإمبريالي، ولن يتم ذلك إلا على أساس برنامج يعبر عن هذه الطبقات ويمثل مصالحها. وإذا كان تحرير الأرض المحتلة (كما في حالة الوطن العربي)، وتحقيق الوحدة القومية، هما هدفان أساسيان، وضروريان لتحقيق التطور، فإن الطبقات الشعبية، وبحكم عبء الأزمة التي تعيشها، تبتدئ بالأهداف الأكثر تأثيراً في حياتها. إنها ترى في التحرير والوحدة والديمقراطية مطامح مستقبلية، وأهدافاً بعيدة، وأحلاماً جميلة (وهنا نتحدث عن كتلة الجماهير الأساسية)، لكنها تنجذب بقوة إلى القضايا العملية، إلى المشاكل الراهنة، إلى اللحظة الراهنة، أي باختصار إلى وضعها «اليومي». ولذلك فهي تلحظ ارتفاع سعر رغيف الخبز، وتعتبر ذلك قضيتها الملحاحة. إنها تدافع عن قوت يومها لكي يتسنى لها أن تفكر بالتحرير والوحدة والديمقراطية. وحين تعيش حالة من الفقر الشديد، وتشعر أنها على حافة الموت، يكون الحديث عن الوحدة والديمقراطية والتحرير بالنسبة لها وعظاً لا مبرر له، فهي مع تجاوز جوعها أولاً، ثم تسعى لتحقيق القضايا الأخرى. رغم أن هذه الرؤية تحمل إشكالية هامة، وهي أن تجاوز الجوع يقتضي تحقيق القضايا الأخرى. وهذا ما يجب على الحزب الماركسي أن يؤسس الربط فيه.
لذلك فإن «تجاوز الجوع» يرتبط أشد الارتباط بثلاث قضايا جوهرية:
أولها: إن «تجاوز الجوع» يفرض إسقاط الفئات الكومبرادورية الحاكمة، لأن النمط الاقتصادي على تؤسسه، والسياسات الاقتصادية التي تتبعها هي التي تؤدي إلى الجوع والفقر. وثانيهما: الاصطدام بالامبريالية الأميركية ـ تحديداً ـ وأدواتها، لأنها تلعب دوراً مهماً في إفقار الطبقات الشعبية، ولأنها تدافع عن مصالحها أمام أي تهديد محتمل، حيث تلجأ إلى القوة لضمان «عدم انتهاج الدول النامية طريقاً مستقلاً، وبقائها خاضعة للاحتياجات الأساسية للديمقراطية الصناعية»(24). وفي هذا الإطار يطرح الصراع مع الكيان الصهيوني كمنفّذ للسياسة الإمبريالية في الوطن العربي، وثالثها: تحقيق الوحدة القومية لتجاوز التأخر والتبعية معاً. وهذه كلها أهداف الثورة القومية الديمقراطية.
وإذا كان شعار الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية، والسعي من أجل تحسين أوضاعها، هو شعار أولي، فإنه يفضي إلى صيرورة تحقيق الثورة القومية الديمقراطية، ومن هنا يكتسب أهمية راهنة. وإذا كان الحزب الماركسي يتبنى هذا الشعار، فليس لأنه ينزع إلى «النضال الاقتصادي المطلبي» كما ساد في الحركة الشيوعية القديمة، بل لأنه شعار أساسي مادام يعبر عن أكثر قضايا الطبقات الشعبية حساسية والتهاباً. وما دامت هذه الطبقات تخوض هذا النضال وتندفع للدفاع عن قوتها اليومي، وعن حياتها. ولأنه يفضي إلى الإستراتيجية السياسية الشاملة. ومهمة الماركسية الثورية وضع هذا الشعار في سياقه الصحيح. ولهذا يقع على عاتقها عبء طرح هدف إسقاط أنظمة الحكم، وتطوير النضال الجماهيري، من أجل تحقيقه أولاً، والعمل على مواجهة السيطرة الإمبريالية، من خلال تنظيم المقاومة المسلحة، والاهتمام بتأسيس القوى العسكرية اللازمة لتحقيق ذلك. وهي كلما نجحت في تجاوز مشكلة الفقر من خلال إسقاط الفئات الكومبرادورية الحاكمة (رغم أن تجاوز الفقر يحتاج أساساً، لنهوض شامل، يوفر إمكانيات التقدم الاجتماعي، لكن سيكون الأمر نسبي هنا)، وهذه خطوة أولية لابد منها، كلما مهدت الظروف المؤاتية لتطوير الصراع ضد القوى الإمبريالية.
3ـ وهناك قضية نظرية، يبدو أننا بحاجة لإعادة النقاش حولها، رغم أنها نوقشت كثيراً في الماركسية(25)، وهي هل أن للصراع مستوى واحد؟ أجابت الماركسية أن له ثلاثة مستويات، نظري، سياسي واقتصادي(26)، وهي مستويات مترابطة متداخلة، رغم أنه يمكن أن تكون الأولوية لأحدها في لحظة من اللحظات. والأولوية لا تعني تجميد، أو إلغاء المستويات الأخرى، بل تكون مدخلاً لتطورها.
لهذا فإن النضال الاقتصادي المطلبي يعبر عن مستوى في النضال. والنضال السياسي (مواجهة العدو الإمبريالي، تحقيق الوحدة القومية، إسقاط الفئات المستغِلة الحاكمة)، مستوى آخر. والنضال النظري مستوى ثالث. ولقد كانت مواجهة الاستعمار مدخلاً لتحقيق الثورة الديمقراطية في بعض البلدان، وكان النضال المطلبي مدخلاً لتحقيق الثورة الديمقراطية في بلدان أخرى، تبعاً للحالة المباشرة التي تواجهها الطبقات الشعبية.
ثم إن الجماهير العفوية تخوض نضالاً مطلبياً، بينما تخوض الحركة السياسية نضالاً مطلبياً وسياسياً ونظرياً. ومهمتها أن تخرج الطبقات الشعبية عن أسلوبها العفوي، وليس معارضة «تصور» الجماهير، بتصورها الخاص. ولا يجب أن تنظر من هذه الزاوية لأنها تكون قد وضعت الطبقات الشعبية في صف آخر يقابلها، بينما هي تفعل عبر ومن خلال الطبقات الشعبية. لهذا فحين يجري اعتبار شعار الدفاع عن مصالح هذه الطبقات شعاراً أولياً فلأن نشاط الطبقات الشعبية يتخذ منحى مطلبياً بسبب عمق الأزمة في هذا المجال، حيث إن حالة الفقر هي الطاغية اليوم. ولما كانت الحركة الماركسية تسعى لتحقيق مطامح هذه الطبقات، وبالتالي للارتباط بها، رفعت هذا الشعار، وأعطته الاهتمام الذي يستحق.. بعد ذلك يجب أن تعطي للحركة الجماهيرية أبعادها السياسية والنظرية. وهذا يعني البدء بالاقتصاد (على صعيد النشاط العملي) ما دام النشاط المطلبي الاقتصادي هو البارز على صعيد الحركة الجماهيرية، وهو الدافع لنشاطها. وهذا يطرح الخوض في المستويات الثلاثة:
أ) فالحزب لكي يبلور اتجاهاً نظرياً متماسكاً، ولكي يتبلور كحزب ماركسي ثوري، يخوض النضال النظري ضد الاتجاهات السلفية والطائفية الإصلاحية والطفولية.
ب) وهو لكي يصبح حزباً جماهيرياً، وبالتالي يوفر الظروف التي تسمح بتحقيق الثورة الجذرية، يطرح قضايا الجماهير الملتهبة، فيخوض النضال الاقتصادي المطلبي.
جـ) وهدفه الأساسي هو تحقيق المشروع السياسي الذي يطرحه، من خلال بلورة القوى الثورية، وتطوير نشاط الطبقات الشعبية، ليتحول من نشاط مطلبي إلى نشاط سياسي ثوري يسقط الأنظمة ويحقق الوحدة القومية، ويواجه السيطرة الإمبريالية.
إن تبني شعار الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية (أي خوض النضال الجماهيري) لا يعني أن تكرس القوى الثورية كل جهودها في هذا المجال، لأن من واجبها أساساً تأسيس القوة التنظيمية المتماسكة، القادرة على اكتساب الوعي الثوري. كما أن من واجبها تأسيس التحالفات الضرورية لخوض النضال القومي الديمقراطي، وأشكال العمل النقابي والديمقراطي لتأطير أوسع قطاعات هذه الطبقات. ولكن من واجبها العمل على تأسيس القوى المسلحة من أجل تطوير الصراع ضد الكيان الصهيوني، والاحتلال الأميركي، وللتصدي للخطر الخارجي عموماً. لكن القدرة على تطوير القوى المسلحة ترتبط بتغيير موازين القوى في الوطن العربي لمصلحة القوى الثورية.
إن النضال في الوطن العربي معقد، وهو ذو أشكال مختلفة، منها المطلبي الديمقراطي، ومنها الثوري العنيف، ولا يجوز أن نسقط شكلاً لمصلحة آخر، أو نقلل من أهمية شكل من أحل التهويل بشكل آخر، لأن ذلك سوف يؤدي إلى حدوث اختلالات أساسية، خصوصاً إذا ظل إطار الفهم ينطلق من أولوية مواجهة "العدو الخارجي".



















ـ2ـ
الثورة وأهمية عنصر الوعي



تعيش الحركة الماركسية العربية اضطراباً حول العديد من القضايا الهامة، جعلها تتعثر، ثم تتراجع، وبالتالي تؤول إلى الانهيار. وإذا كان الخلاف الجوهري هو حول الرؤية التي تحدد مسار الحركة، وبالتالي أهدافها النهائية، فإن هناك مسائل محددة يكتسب الخلاف حولها مغزى هاماً. فقد كان هناك اختلاف خفي حول أهمية عنصر الوعي، واختلاف آخر حول كيفية اكتساب هذا الوعي. ونقول اختلافاً خفياً لأن هذه القضايا لم تناقش، ولم يقْدم أحد على تحديد موقفه منها، بل كانت مجال اختلاف في النضال العملي، في الممارسة.
ويمكننا القول إن الحركة لم يكن ينقصها النشاط، ولا الهمة، فقد لعبت الحركة الشعبية دوراً في كل مراحل النضال ضد الاحتلال والسيطرة الخارجية، وضد الفئات المستغِلة والمضطهِدة الداخلية. وتنوع نشاطها وفق الظروف العينية، فقد حملت السلاح وقاتلت ضد القوى الخارجية، كما خاضت النضالات السياسية والمطلبية المختلفة، حتى غدت السنوات بعد الحرب العالمية الثانية، هي سنوات نضال جماهيري كبير، قاد إلى انتصار قوى سياسية طرحت نفسها معبرة عن مصالح الجماهير الشعبية، وهي قوى عبرت عن فئات من البرجوازية الوسطى والصغيرة، هذه الفئات التي وجدت نفسها مع استمرار تغلغل الرأسمالية العالمية، ومع أزمة البرجوازية الكبيرة، ودورها في التكيف مع سياسة الاحتكارات العالمية، وجدت نفسها أمام مأزق كبيرة. فالأزمة الاقتصادية العامة التي تعيشها البلاد تعصرها وتقتل مطامحها. والسيطرة الاستعمارية تقف حجر عثرة أمام نهوضها، لهذا حملت بعضاً من آمال الجماهير الفقيرة، ولعبت دوراً قيادياً كبيراً أوصل بعض أحزابها إلى السلطة في عدد غير قليل من الدول العربية.
لقد كان النشاط الجماهيري كبيراً، وكان دور الحركة السياسية كبيراً أيضاً، ولا يمكننا إهمال دورها ونشاطها، بل يمكن القول إن كل هذا النشاط لم يؤد إلى تحقيق التغيير الجذري المنشود، بل أنتج أوضاعاً لا تقل سوءاً عما عانته الجماهير منذ قرون ماضية. وهنا يثار السؤال: لماذا حدث ذلك؟. ويمكن أن نجيب، أن الحركة لم تكن على قدر من الوعي يؤهلها لتحقيق التغيير الجذري، فإذا كان للفئات البرجوازية الوسطى والصغيرة أهدافها التي سعت لتحقيقها، واعتقدت أن الوصول إلى السلطة يمكنها من ذلك، ولقد مكِّن بعض فئاتها من ذلك فعلاً. فإن القوى التي طرحت نفسها معبرة عن مصالح الطبقة الأكبر جذرية، أي عن العمال، لم تكن على قدر من الوعي يؤهلها قيادة النضال الجماهيري في اتجاه التغيير الجذري. ولكن أيضاً لم تكن لديها إرادة التغيير الجذري، وإن كانت لديها إرادة الدفاع عن الجماهير الشعبية في المستوى المطلبي، هذه الإرادة التي جعلتها تتحمل كل قساوة القمع الذي صبَّته القوى الحاكمة، وكل الشراسة الهمجية التي تعرفها لدى أنظمة متخلفة قمعية. كذلك يمكن القول إن الحركة عانت غياب إستراتيجية التغيير الجذري، ومن القوى المؤهلة لتحقيقها.
وهنا تبزر قضية الاختلاف حول أهمية عنصر الوعي. حيث استحوذ النشاط العملي على جل اهتمامات المناضلين، وكان المقياس الوحيد. مما جعل الاهتمام بالوعي ثانوياً إن لم يكن معدوماً. وساد منطق أن العنصر الذي ينتمي لحزب شيوعي «ماركسي بالسليقة»، لهذا جرى «إهدار النظرية»، و«غاب البرنامج السياسي»(27). مما أبقى الحركة الماركسية عفوية، وبالتالي أبقى الحركة الجماهيرية حركة عفوية، حيث أن تجاوزها العفوية يعتمد على فعل الحركة السياسية بالتحديد. ومنطق «الوعي بالسليقة» يعبر عن رفض لأهمية عنصر الوعي، لأن الوعي لا يأتي عفوياً، بل يأتي من خلال الدراسة.
والحديث عن الوعي الذي يكتسب من خلال الدراسة يطرح القضية الثانية، وهي الاختلاف حول كيفية اكتساب الوعي، فهل فعلاً يكتسب من خلال الدراسة؟. أم من خلال الممارسة؟. أم منهما معاً؟. هذا ما لم يجر الحسم به بعد، رغم أن القضية الهامة في هذا المجال هي من أي منظور تتم الدراسة؟ وبأي القضايا يجري الاهتمام؟ إن الدارسين الأكاديميين يقومون بالدراسة، وربما يقدمون دراسات هامة، لكنهم لا يحققون التغيير الثوري، لا يؤسسون عملاً ثورياً منظماً، لأن هذا ليس هدفهم. كما أن كل النشاط الجماهيري، ونشاط الحركة السياسية وفق السمات التي تحدثنا عنها سابقاً، لم يؤد إلى تحقيق التغيير الثوري. وهذا يعني، وكما تحدث لينين منذ بدء تأسيس حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الدمج بين حركة «الأنتلجنسيا»، ونشاط العمال الثوري، وبالتالي تحديد أهمية كل قضية من القضايا في النشاط الثوري، أي أهمية الدراسة والتثقيف، أهمية الوعي، أهمية النظرية، وأهمية الممارسة الثورية، أهمية بناء الخلايا، العمل السري، مقاومة أجهزة القمع، تنظيم نشاط الجماهير (الاضرابات المظاهرات...)،... إلخ. إن كل نشاط من هذه الأنشطة يغني التجربة، ويسهم في بناء الثوريين المحترفين، القادرين على أن يكونوا قادة الحركة الجماهيرية وزعماءها. إن لكل نشاط من هذه الأنشطة قيمة محددة، وربما يفيد نشاط بما لا يستطيع النشاط الآخر الإفادة به.
كيف؟
هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه في الصفحات التالية، هادفين إلى تأكيد أهمية الوعي في النشاط الثوري، ومحاولين الإجابة على السؤال الصعب، كيف يتكون الوعي؟

الإشكالية في الوطن العربي:

ولكن لتوضيح وضع القضية في الوطن العربي، من الضروري دراسة كيف تعاملت القوى الماركسية مع هذه القضية، رغم إشاراتنا السابقة المتعلقة بهذا الموضوع.
كيف تعاملت الحركة الشيوعية العربية مع هذه القضية؟ هل شكلت وعياً ثورياً جديداً؟ إن ما يمكننا قوله هنا هو أنها حاولت ذلك، طرحت مفاهيم الديمقراطية والقومية والاشتراكية، مفاهيم التحرر والاستقلال. لكنها ظلت موصولة بالأيديولوجيا السائدة. لقد تبنت بعض مفاهيم الثورة الديمقراطية البرجوازية، والثورة الاشتراكية، لكنها لم تتشبع بالرؤية الليبرالية أو الماركسية، حيث ظلت طريقتها في الرؤية هي هي، الطريقة التقليدية السائدة التي تنهل من منطق أرسطو. أي أنها لونت أفكارها ولم تؤسس وعياً جديداً انطلاقاً من رؤية منهجية جديدة. ولهذا هزمت بعد انتصارات تكتيكية. ولكن لهذا أيضاً فتحت آفاق انبعاث الإيديولوجيا السائدة قوية من جديد، بشكلها الأكثر سلفية.
وهنا يمكن تلمس نقطة عجز الحركة الشيوعية. إنها لم تؤسس وعياً جديداً، ولهذا لم تؤسس نظرية مطابقة لمصالح الطبقات الشعبية. لقد رددت مفاهيم تأسست في بقاع مختلفة، ونتيجة ظروف محددة، لكنها لم تؤسس مفاهيم الثورة القومية الديمقراطية في الوطن العربي، لأنها لم تمتلك رؤية في التحليل. أو يمكن القول بشكل أدق، لأن رؤيتها في التحليل كانت موصولة بالإيديولوجيا السائدة في المستوى المنهجي، ولهذا كانت تعيد إنتاج الواقع الراهن، بأشكال مختلفة. لقد افتقدت الرؤية العلمية التي تجعلها قادرة على تأسيس إيديولوجية ثورية، تعبر عن مصالح ومطامح العمال والفلاحين الفقراء في الوطن العربي.
وبذلك تكون المشكلة هي مشكلة الوعي، الوعي القادر على تأسيس إيديولوجية ثورية تعبر عن مصالح ومطامح هؤلاء. والقادر على تأسيس التنظيم الفاعل الذي يمكن أن يكون طليعة كل الطبقات الشعبية. وبالتالي القادر على تحقيق التغيير الجذري.
كيف كان الوضع في الوطن العربي؟ ما هي إشكالية الحركة الماركسية؟ أين موقع الوعي والنشاط الثوري من كل ما حدث؟
لم يتوقف النشاط الثوري في الوطن العربي منذ نهاية الدولة العثمانية إلى اليوم. وكان دائماً هناك ثورات وانتفاضات، وحركات سياسية، وعمل مسلح. لكن الأهداف التي طرحت منذ بداية هذا القرن، على أقل تقدير، لم تتحقق، وظلت أهداف الحركة الثورية هي ذاتها، وظلت تناضل من أجل تحقيقها، وإن كانت اتخذت في كل مرحلة أبعاداً جديدة، وإطاراً نظرياً مختلفاً بعض الشيء.
ويمكننا تلمس مرحلتين فيما يتعلق بالإشكالية التي نحن بصددها، في التاريخ العربي الحديث، المرحلة الأولى هي المرحلة الممتدة إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، والمرحلة الثانية هي الممتدة منذ نهاية الحرب الثانية إلى الآن.
ولقد اتسمت المرحلة الأولى بثلاث سمات في هذا المجال، حيث ظهرت اتجاهات ثقافية متعددة، دعت للتغيير والتطور، وحاولت تأسيس إيديولوجيا مناهضة للإيديولوجيا السائدة، أي الإيديولوجيا اللاهوتية، كان أهمها الاتجاه الليبرالي الذي تبنى مفاهيم الثورة البرجوازية في أوروبا، والاتجاه الشيوعي الذي سلك طريق الثورة الروسية. ولقد انعكست هذه الاتجاهات على الإيديولوجيا السائدة ذاتها، فظهر اتجاه ليبرالي فيها، واستمر وجود هذين الاتجاهين إلى اليوم، وإن كان الاتجاه الليبرالي ضعف، واتخذ تلوينات مختلفة اليوم. هذه هي السمة الأولى، أما السمة الثانية فكانت انتشار الحركات الجماهيرية العفوية، التي كانت تتخذ في بعض الأحيان شكل انتفاضات مسلحة، ولقد غطت هذه الحركات جزءاً هاماً من التاريخ العربي الحديث، وأدت إلى حصول الدول العربية على الاستقلال الشكلي. أما السمة الثالثة فهي بداية تشكل الأحزاب السياسية، التي كان بعضها يعبر عن مصلحة الفئات الحاكمة، أو الفئات الطامحة للحكم، والتي أسهمت في قيادة الحركة الجماهيرية بهدف الوصول إلى مساومة مع الاستعمار، ولقد نجح بعضها.
وكان واضحاً أن نشاط المثقفين كان معزولاً عن الحركة الجماهيرية، وتركز في العمل التربوي بهدف إيجاد نخبة مثقفة. بينما كان النشاط الجماهيري عفوياً، ومحكوماً بالفكر السلفي والديني في الغالب، وتقوده فئات لها مصالحها الخاصة، المختلفة عن مصالح هذه الجماهير، بل المتناقضة معها. لهذا لم تنتصر الجماهير. وظلت المشكلات الأساسية التي تعانيها دون تغيير ملحوظ.
واتسمت المرحلة الثانية بوجود أحزاب طرحت قضايا الجماهير، وناضلت من أجل تحقيقها، كما اتسعت رقعة الفئات التي تتعاطى مع الثقافة، وكذلك استمر النشاط الجماهيري، بل تصاعد واتخذ مديات واسعة، أدت إلى الإطاحة بأنظمة. ولقد امتزجت الحركة السياسية بحركة الجماهير، وقادتها.
لكن هل استطاعت الحركة السياسية أن تخرج الجماهير من عفويتها، وبالتالي أن «تعقلن» النشاط الثوري؟
من الطبيعي أن يكون الجواب بالنفي على ضوء ما آلت إليه الظروف، حيث انهارت معظم هذه الأحزاب، وتراجع دورها جميعاً، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه في السابق. فظلت أهداف الطبقات الشعبية، وأهداف الأمة دون تحقيق، وأعيد إنتاج أنظمة هي في جوهرها كالأنظمة السابقة. لكن الأهم في هذا المجال هو دراسة تجربة هذه الأحزاب لتحديد نقاط ضعفها الأساسية.
فالبعث مثلاً، وهو أهم الأحزاب القومية التي لعبت دوراً أساسياً في السنوات الأربعين الماضية إلى وقت قريب، تأسس على أساس رؤية فكرية سياسية محددة، أدت إلى بلورة منطلقات نظرية مثلت تصوراً نظرياً حكم نشاط الحزب(28)، وأثر في جيل من المفكرين القوميين. كما ضم فئات من المثقفين والقطاعات الشعبية المختلفة (الطلاب، الموظفين، الجنود، العمال والفلاحين...) وسعى لقيادة الجماهير الشعبية، والتعبير عن أهدافها في «الوحدة والحرية والاشتراكية». لكنه، رغم كل ذلك، لم يستطع تطوير مفاهيمه النظرية، ولا استطاع تطوير وعي أعضائه، مع تطور دوره العملي، وتزايد دوره في قيادة الحركة الجماهيرية. فتوقف نموه النظري عام 1957(29)، رغم بعض المحاولات التي جرت في المؤتمر القومي السادس عام 1963(30)، والتي أجهضت بعد طرد الفئة التي حاولتها(31).
ورغم أن حزب البعث تأسس على أساس من الوعي، ووفق رؤية فكرية سياسية، إلا أن أكثر من عامل جعله يعود فيصبح جزءاً من الحركة العفوية للجماهير (قبل أن يحكم، ويصبح قوة حاكمة)، منها طبيعة الوعي الذي اكتسبه أعضاؤه، ومنها أيضاً أساليب عمله. فقد اعتبر أن «الوحدة حتمية آتية لا ريب فيها»، وهو بذلك «لم يطرح في الواقع أسلوباً إرادياً ومباشراً لتحقيق الوحدة"(32). وهو أساساً لم يشخص القوانين الموضوعية التي تدفع مسار تاريخنا باتجاه الوحدة(33). والحزب وفق هذه النظرة يغلب العفوية على الإرادة والوعي، ولذلك فقد عاش «طوال تاريخه بعفوية، فهو إذ اكتفى بتلخيص الأهداف الكبرى للنضال بالوحدة والحرية والاشتراكية، دون أن يحاول تلمس الطريق...»، وهذا ما منعه من «أن يلعب دور الطليعة الفعلية للجماهير»(34). لذلك «أصبحت الأحداث تسوق الحزب، أو تجره، وأصبح الحزب أسير ردود الفعل الصرفة. وحلت (الشعارات) محل الفهم الفكري العميق»(35). انعكس كل ذلك في ممارسة الحزب، ودوره العملي، فبعد ما كان يسعى للتغيير الثوري عن طريق النضال الجماهيري، قرر «استعجال الطريق»، من خلال «الإغراق في النضال البرلماني»، إلى حد التنازل عن المبادىء أحياناً، أو من خلال «الانقلابات العسكرية» التي هي «خطوة في الظلام»(36)، بعيدة عن نشاط الجماهير، وبديلة عنه، أو من خلالهما معاً.
لقد حاول الحزب أن «يعقلن» الحركة العفوية للجماهير، وأن ينظمها، لكنه حين التقى فيها غرق في عفويتها، لهذا أصبح كلما اتسع وضم فئات جديدة، ترهل وانقسم، قلَّ وعي أعضائه وتفكك تنظيمه. ولاشك أن السبب الجوهري في ذلك يتعلق في رؤيته المنهجية، هذه الرؤية، التي كانت رؤية مثالية(37)، انطلقت من قناعات مسبقة، تنطلق من أفكار مثل «الأمة قدر» و«الأمة جوهر»(38). إن هذه الرؤية ما كان لها أن تؤسس وعياً طليعياً، وبالتالي ما كان لها أن تؤسس تنظيماً صلباً متماسكاً قادراً على استقطاب الحركة الجماهيرية وقيادتها. وبالتالي تلخصت تجربته في التعبير عن فئات وسطى، ريفية في الغالب، سعت لأن تترسمل.
أما الناصرية، وهي القوة القومية الكبيرة، فقد كانت حركة عفوية بطبيعتها، لأنها لم تمثل في حزب، وكانت ضد العمل الحزبي أساساً(39)، رغم المحاولة التي قام بها جمال عبد الناصر في أواسط الستينات، تحت اسم «التنظيم الطليعي». أما على الصعيد النظري فكانت حركة عفوية تجريبية(40)، طورت مفاهيمها على ضوء التجربة العملية، لكنها لم تبلور نظرية ثورية لتشكل دليل عمل لمناصريها، لهذا ظلت سلطة حاكمة من جهة، تعتمد أجهزة الدولة (وخصوصاً المخابرات) في علاقتها مع الجماهير، وكان الاتحاد الاشتراكي العربي جزء من ذلك، لكنها ظلت من جهة أخرى جماهير عفوية بلا تنظيم، تؤيد عبد الناصر ولكنها لا تفعل أكثر من ذلك. وهي بذلك مثلت تجربة زعيم وجماهير محازبة. ولما كانت الناصرية القوة الأهم على الصعيد الجماهيري فقد عكست تجربتها على كل الحركة السياسية، وأسهمت في التصدي للعمل المنظم، مما أسهم في تكريس العفوية لدى الجماهير، وحوّلها إلى قوى «متفرجة» تنتظر الانتصارات، وتنتظر التغيير، دون أن تبذل أي مجهود، فلماذا تنشط مادام هناك أبطال يقومون بذلك نيابة عنها؟
في الجانب الآخر نشطت الأحزاب الشيوعية، وهي الأحزاب التي تتبنى الماركسية اللينينية، هذه النظرية التي تطرح موقفاً صحيحاً في العلاقة بين الوعي والنشاط الثوري. ما هي رؤيتها، وممارستها في هذا المجال؟ هل تجاوزت الأحزاب والقوى القومية؟ إن الوضع الراهن يعطي الإجابة، حيث إن وضعها لا يختلف كثيراً عن وضع الأحزاب الأخرى. فلقد اتسمت بما يلي:
1) إن وعي قادتها وأعضاءها كافة محدود (مع وجود استثناءات)، وإن جرت محاولات في السنوات القليلة الماضية لتجاوز ذلك لم تسفر عن شيء. واعتمد هذا الوعي على «نقل» نظرية في الماركسية تبلورت في روسيا منذ فترة حكم ستالين (1924ـ 1953). ولقد نقلت الشعارات العامة وردَّدتها، وتعلقت بما هو "سياسي". وهي بذلك، مهما كان نقدنا لهذه النظرية، نظرية بعيدة عن الواقع الراهن عندنا. وهذا الوضع جعل الوعي ليس محدوداً فقط، بل ومتغرباً أيضاً.
2) إن اهتمامها الأساسي تركز على خوض النضال النقابي والمطلبي، و"النضال الديمقراطي" في المستوى السياسي. حيث كانت تضع فاصلاً بين المطلبي والسياسي، مما جعلها عاجزة عن التعبير عن الصراع الطبقي الذي يفترض ربط المطلبي بالسياسي، بهدف تحقيق التغيير.
وهي بهذه وتلك ظلت عفوية، لأن محدودية الوعي، وعدم القدرة على بلورة الاستراتيجية الثورية، تجعل العمل العفوي هو الطاغي. ولأن النضال النقابي المطلبي دون أفق سياسي يعزز عفوية الجماهير ولا ينقلها إلى مرحلة النضال السياسي، حسب ما يطالب لينين(41). لقد فشلت في بلورة نظرية ثورية، تعبر عن الواقع الموضوعي، وتبنت أهدافاً «اقتصادية» مطلبية، أو سياسية عامة. ويعود سبب كل ذلك ـ رغم أن هذه القضية بحاجة لدراسة أكثر دقة ـ إلى أن العناصر التي أسست هذه الأحزاب كانت بسيطة الوعي، تمردت على الواقع الإقطاعي الذي كان سائداً آنذاك، في ظروف لا تشير إلى إمكانية حدوث ثورة ديمقراطية برجوازية، أو قدرة على طريق التطور الرأسمالي. فرأت في انتصار البلشفية طريقها للتحرر. لهذا لم تدرس الماركسية جيداً، وكان ما اطلعت عليه منها قليل(42). كما أصبحت الأدبيات التي تصدر عن الدولة السوفيتية هي منهلها الفكري، في ظروف طغيان شخصية ستالين، وبالتالي التقليل من أهمية كتابات ماركس، إنجلز، ولينين، على اعتبار أن ما أتى به ستالين هو قمة التطور الماركسي.
لهذا يمكن إجمال السمات التي حكمت المرحلة الثانية، بأن القوى التي تصدت للنضال، لم تستطع أن تبلور تصوراً نظرياً شاملاً، يمثل إيديولوجيا نقيضة للإيديولوجيا السائدة، هذه الإيديولوجيا النقيضة التي تعبر عن مسار الحركة التاريخية الصاعدة، حركة النهضة العربية، المطابقة لوعي العمال والفلاحين الفقراء أساساً، والفئات الأكثر سحقاً بشكل عام (الفلاحين و البرجوازية الصغيرة). لقد غاب دليل العمل، وفي مثل هذا الوضع يكون النضال العفوي هو الطاغي، وتصبح عفوية الجماهير هي القوة المقررة، وبالتالي المؤثرة في الأحزاب، وليس العكس، وهذا ما حدث بالفعل. فالذي رفع شعار الوحدة اعتبرها هدف بحد ذاته، ولم يربطها بمصلحة أي من الطبقات في المجتمع. وهو أيضاً لم يربط هدف الوحدة بأهداف النهضة الشاملة، ولا بالأهداف الشاملة للطبقات المسحوقة، أي الأهداف الاقتصادية الاجتماعية، فجاء مطلب الوحدة مقطوع الجذور، غير موصول بالحركة الجماهيرية، فأصبح طرحه مثالياً. والذي طرح المطالب الاقتصادية الاجتماعية لم يطرح أفقها السياسي، وبالتالي فقد تحولت إلى مطالب إصلاحية ضيقة، كرست عفوية الجماهير، ولم «ترفع» وعيها من المستوى النقابي إلى مستوى الوعي السياسي.
أم السمة الأخرى التي حكمت المرحلة الثانية، وهي ناتجة عن السمة الأولى، فهي أن هذه الأحزاب لم تستطع أن تنظم الجماهير، وأن تسهم في إكسابها وعياً مطابقاً لمصالحها ومطامحها، ورص صفوفها خلفها لكي تخوض النضال السياسي الثوري من أجل تحقيق أهدافها. على العكس من ذلك، تأثرت هذه الأحزاب بعفوية الجماهير، وأصبحت محكومة بها، خاضعة لها، مما أفقدها صفتها الطليعية الريادية، ودورها الواعي.
واليوم، رغم استمرار سمات المرحلة الثانية وتفاقمها، وبالتالي فنحن لم نتجاوز هذه المرحلة بعد، فإن ظروفاً محددة تحكم الوضع في الوطن العربي في هذا المجال، أهمها غياب الفئة (الحزب) القادرة على رؤية الواقع، وبالتالي بلورة «النظرية الثورية»، «الاستراتيجية الثورية»، «الإيديولوجيا الثورية»، فإذا كانت الماركسية تمثل بشكل أساسي نظاماً معرفياً (منهج)، ومجموعة من القوانين العامة التي أثبتت التطورات العالمية صحتها (مع ركام كبير من الأفكار، والآراء التاريخية والاقتصادية التي يمكن الاستغناء عنها، مع عدم تناسي أهمية دراستها»، وإذا كانت الماركسية قد «تطبعت»، أي اتخذت سمات أوضاع محددة، مثل الماركسية السوفياتية (الستالينية)، الماركسية الصينية (الماوية)، الماركسية الفيتنامية، التروتسكية، الشيوعية الأوروبية...الخ، فإنها لا تجيب أساساً على ما يطرحه الواقع عندنا، وهذا منطقي في إيديولوجيا تنطلق من منطق «التحليل الملموس للواقع الملموس»، ومن "أن النظرية الماركسية تدَّعي فقط تفسير التنظيم الرأسمالي للمجتمع وحده ـ دون غيره ـ من التنظيمات»(43) وبالتالي فإن ماركس وضع حجر الزاوية(44). إنها يمكن أن تعطينا إشارات محددة تفيدنا في دراسة واقعنا (وربما تفيدنا كثيراً)، هذه الإشارات هي «الأساليب القيّمة التي يستحيل بدونها فهم العلاقات الاجتماعية»(45)، أي منهجيتها التي هي الجدل المادي. لكنها لا يمكن أن تعطينا نظرية ثورية، باعتبار أن النظرية الثورية هي «التعميم العلمي للممارسة، وانعكاس الواقع في وعي الإنسان». إن ما نحتاجه هو تحليل واقعنا تحليلاً علمياً، بما يسمح لنا استخلاص تصورات تشكل نظرية ثورية تصلح لأن تكون مرشد عمل.
هذه هي القضية الأولى،
والقضية الثانية هي استمرار الحركة العفوية، لا بل اتساعها، بعد تراجع الحركة السياسية، وتحولها إلى قوة هامشية من جهة، واتساع الفئات الاجتماعية المشاركة في النضال الجماهيري من جهة أخرى. وإذا كانت الحركة السياسية الماضية عجزت عن تنظيم وقيادة الحركة العفوية، فهي غير قادرة على قيادة الحركة العفوية الجديدة بفعل اتساعها وتعمق مطالبها، وحِدَّة تناقضها مع البرجوازية الكومبرادورية الحاكمة. مما يفرض على القوى التي تعمل على التصدي لعملية التغيير الثورية أن تكتسب وعياً عميقاً، ورؤية شاملة، وأيضاً تنظيماً متراصاً، قوي الصفوف.
لقد كان وعي الحركة السياسية قاصراً، وعفوية الجماهير قوية. فلم يخلق الوعي حركة جماهيرية منظمة، ولا قادت العفوية إلى بلورة وعي الجماهير، وتطويره. إن جل ما أدت إليه هو فرز أعداد محدودة من المثقفين المناضلين الذي يحاولون بلورة تصور نظري جديد. وهذا ما يؤكد أن الممارسة العفوية لا تنتج الوعي الثوري، وأن الذي يبلور الوعي و«يدخله» للجماهير هي فئات من المثقفين.
ولذلك ظلت العفوية أساس العمل الثوري بشقيه: الحركة السياسية والحركة الشعبية، وأن الاتجاه نحو تطوير الوعي والتثقيف ظل محدوداً، ومحدوداً إلى حد كبير، فبقيت الحركة الثقافية ضعيفة، ولم تول الاهتمام الذي تستحق. ولقد رأينا كيف اندفعت الحركة الثورية منذ بداية الخمسينات لتصل أوجها عام 1958، ومن ثم لتبدأ بالانكفاء رويداً رويداً، ثم يتسارع انهيارها بعد عام 1967، في نفس الوقت الذي انكفأت فيه الجماهير، وتراجعت حركتها العفوية.
وهنا لن ننتقص من الدور الذي لعبته الحركة الشيوعية. لقد نشطت ولعبت دوراً مهماً في مرحلة صعبة، وقدمت الشهداء والمعتقلين، واكتسبت بعض خبرات العمل السري، وخبرات الصمود في السجون، وكيفية الاستفادة من الحركة الجماهيرية. لكنها أخفقت في القضية التي كان من مهماتها إنجازها، القضية الأهم، قضية بلورة مرشد للعمل. وكان سبب ذلك تخلف الوعي نتيجة قلة الدراسة والبحث، القراءة والتثقيف. لقد اكتفت بالشعارات العامة، والشعارات لا تنجح ثورة، وإن قادت إلى إسقاط أنظمة، ولا تحقق أهداف الجماهير الفقيرة، وإن قادت إلى إبدال فئة حاكمة بأخرى.
لقد كان ينقصها الوعي، ولم تكن الممارسة لتنقصها. حيث خاضت معمعان النضال الثوري، ونظمت وأسست النقابات، واستقطبت جماهير حاشدة. لكن نقص الوعي كان هو مقتل الحركة الماركسية خصوصاً، وبسبب النقص هذا استمرت الأيديولوجيا السائدة ولم تنقض، وأصبحت كل «النظريات» الأخرى أيديولوجيا لاهوتية، تقلد تجارب دون أن تدري واقعها(46). تنقل الأفكار دون أن تعرف حاجات مجتمعها. تردد ما تيسر لها دون أن تعرف موقع ما تردد من أفكار من حركة النضال الراهنة.
باختصار، لقد كانت الحركة الجماهيرية قوية عنيفة، لكن غاب عنها الوعي، غابت القيادة الفكرية والسياسية، وغاب التنظيم المتماسك الصلب.

الإشكالية على الصعيد النظري

هل ترانا نبالغ في الحديث عن الوعي؟ وهل هذا يقود إلى موقف مثالي يغلّب الفكر على الواقع؟
لكي نحدد ماذا نطرح بقدر من الدقة لابد لنا من التمييز بين أكثر من صيغة تطرح بها القضية مدار المناقشة. فهناك أولاً قضية الواقع والفكر، وفي هذه المعادلة حسمت الماركسية في أن الواقع هو محدد التصورات والأفكار، ولا نستطيع تجاوز ذلك، إلا إذا قررنا الانتقال إلى موقف إيديولوجي مثالي (غير علمي) فهذه مسألة علمية. وهناك ثانياً قضية الوعي والعمل، وهنا يحدث عادة خلط، فهل يُنتج العمل الوعي، هل ينتج الوعي عن العمل؟ وأي عمل؟ العمل الإنتاجي أو العمل الفكري؟ العمل السياسي أو النشاط الجماهيري؟ وإذا كان الجواب نافياً، فكيف إذن يتكون الوعي؟ وهناك ثالثاً قضية علاقة النظرية بالممارسة، ولا شك أن للوعي علاقة بالنظرية في حالة أن الوعي مطابق لواقع محدد، فالوعي العلمي هو رؤية الواقع، والنظرية هي نتاج ذلك. إذن ما هي علاقة النظرية بالممارسة؟. وهنا ترتبط هذه القضية بالقضية السابقة إلى حد معين، ولكن أيضاً النظرية هي الفكر، وهذا يعني أن الواقع المحدد يفرز أفكاراً معينة. والوعي هو معرفة هذه الأفكار المطابقة للواقع. هذا هو الوعي العلمي، المرتكز إلى المنهج المادي الجدلي كطريقة في الدراسة والبحث والعمل.
وهذا يعني مسألتين، وبالتالي ليس مسألة واحدة، الأولى أن الوعي العلمي يفرض التفكير في الواقع، دراسته والبحث فيه، والثانية أن كل ذلك يحتاج إلى الممارسة، ما هي الممارسة؟ وهل أن الممارسة الاجتماعية تقود إلى اكتساب الوعي؟ وأي وعي هذا الذي تعكسه الممارسة الاجتماعية؟ أو بتحديد أدق، هل أن أي نشاط جماهيري، حتى لو كان ثورياً، يقود إلى اكتساب الوعي؟ وهنا توضع الحاجة إلى نظرية ثورية محل تساؤل، كما توضع الحاجة إلى التنظيم محل تساؤل أيضاً. بعد ذلك لابد أن نضيف، هل أن التفكير في الواقع ودراسته يعبر عن شكل من أشكال الممارسة؟ الممارسة النظرية؟
لمحاولة توضيح القضايا بشكل دقيق، من الضروري أن نفصل بين قضية فلسفية عامة وقضية أخرى تتعلق بالنشاط الثوري والعمل الثوري، لأن هذا الفصل هو الذي يجعلنا نضع قضية الوعي في موضعها الصحيح، فلا ننزلق إلى المثالية، أو نخلط القضايا بما يؤدي إلى سيادة النزوع العفوي، لأن الوعي الذي نقصده هو وعي الواقع، أي فهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية المحددة هنا، في الوطن العربي وليس أي وعي آخر. الوعي الذي ينتج النظرية وليس «الوعي» الذي يقود إلى اجترار النصوص، وتكرار الأفكار.
القضية الأولى تتعلق بعلاقة الفكر بالواقع، ولقد كانت المسألة الأساسية الكبرى في الفلسفة هي مسألة علاقة الفكر بالكون، «فالذين كانوا يؤكدون أسبقية الروح بالنسبة إلى الطبيعة، وكانوا يقبلون، في آخر الأمر، وتبعاً لذلك، بخلْق العالم، من أي نوع كان... هؤلاء يشكلون معسكر المثالية. والآخرون الذين كانوا يعتبرون الطبيعة سابقة، ينتمون إلى مختلف مدارس المادية»(47). حيث كان السؤال الأساسي الذي شغل الفلاسفة منذ نشوء الفلسفة، وبرز بشكل ملح أكثر في القرنين السابع عشر والثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، هو «هل الأشياء انعكاسات للفكر، أو هل الفكر انعكاس للأشياء»(48). ورغم أن فلاسفة عديدين حاولوا التصدي لهذه المسألة(49)، بتأكيد أولوية المادة (الطبيعة)، فقد حسمت الماركسية في أولوية الوجود على الفكر، «فالمادة قد وجدت إذن قبل الوعي»(50)، أو كما يصوغها لينين، بأن المادة هي «ما يُحدث الإحساس بفعلة في حواسنا، المادة هي الواقع الموضوعي المعطى لنا في الإحساس»(51). إذن، فالمادة «الطبيعة» الوجود، هي الأساس، وما الفكر سوى انعكاس لها، وأي قلب لهذه الصيغة يقود إلى السقوط في مصب المثالية.
إن تأكيد أولوية المادة يجعل النظرية تعبيراً عن «التعميم العلمي للممارسة، وانعكاس الواقع في وعي الإنسان"(52). لكن تأكيد هذه الحقيقة يجب أن لا يقودنا إلى التبسيط واستنباط صيغ غير علمية، باللجوء إلى المادية الميكانيكية التي تعتبر الوعي انعكاساً ميكانيكياً للمادة، أو تجعل الممارسة الفردية هي مقياس الوعي، لأن الممارسة «لا تتألف من التجرية الفردية وحدها، فنحن لا نعتمد في نشاطنا على تجربتنا الشخصية وحدها، بل أيضاً على تجربة الآخرين، أي التجربة الجماعية للإنسانية قاطبة»(53). ولهذا يمكن الاستنتاج أن «النظرية تولد من الممارسة»، «ولا يمكن أن توجد نظرية من دون ممارسة، لكن من دون نظرية ثورية، لايمكن كذلك أن توجد ممارسة ثورية. النظرية بدون الممارسة جثة، وفي هذا المجال لا تفيد المبادىء النظرية، ولا تغني شيئاً. لكن بدون نظرية علمية، تكون الممارسة عمياء، بلا أفق...»(54).
لكن هذا الوضوح في تحديد القضية يخفي إشكالية معقدة، إذا لم نستطيع فهمها غلب عندنا اتجاه التركيز على الواقع، مما يبرز اتجاهاً مادياً مبتذلاً، تجريبياً وحسياً. والإشكالية تتمثل في كيفية انعكاس الواقع في قالب نظري، أي تحوله إلى وعي، فهل الانعكاس مباشر؟ هل تتولد الأفكار من الممارسة مباشرة؟ هل تتولد من الواقع (المادة، الطبيعة) مباشرة؟. لقد «برهنت (الماركسية) أيضاً على أن العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي ليست بسيطة، وإنما مركبة ومرنة»، حيث إن «تقسيم المجتمع إلى طبقات وظهور السياسة والقانون والصراع السياسي، أخذ الوجود الاجتماعي يؤثر ـ بطريقة حاسمة ـ في أذهان الناس، من خلال حشد الروابط المتوسطة، مثل الدولة ونظام الدولة، والعلاقات القانونية والسياسية إلخ... في هذه الظروف يقضي الاستنباط المباشر للوعي الاجتماعي من العلاقات المادية، إلى الفجاجة والتبسيط..."(55)، وهنا يكمن "جوهرالقضية الأخرى، التي سوف نناقشها لاحقاً، لأن الأفكار والنظريات تتطور بالتوازي مع تطور المجتمع. وهذا يظهر الاستقلالية التي تجعل الإيديولوجيا ليست نتاج الواقع فحسب، بل إن لها، بدورها، تأثير مقابل"(56). ولأن الأفكار والنظريات (الايديولوجيا) تتطور بالتوازي مع تطور المجتمع، جاءت الماركسية تتابعاً وإتماماً للتيارات الفكرية الرئيسية الثلاثة في القرن التاسع عشر «والتي تعزى إلى البلدان الثلاثة الأكثر تقدماً في العالم: الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والاقتصاد السياسي الانجليزي، والاشتراكية الفرنسية المرتبطة بالتعاليم الثورية الفرنسية بوجه عام»(57).
لقد أثيرت قضية العلاقة بين الفكر والواقع، الوعي والممارسة، في مواجهة الفلسفة المثالية، هذه الفلسفة التي اعتبرت أن الفكر (الوعي) هو محدد الواقع. ولهذا شدد ماركس على أن الواقع هو الذي يحدد الوعي. هنا كان ماركس يتحدث عن الواقع الاجتماعي الذي ينتج الوعي الاجتماعي، ولم يتحدث عن الممارسة الفردية التي تنتج الوعي الاجتماعي، لأن انعكاس الواقع النظري لا يأتي مباشرة، بل يمر عبر طرق متعرجة، ويحتاج إلى وسطاء، لهذا يجري الحديث عن الوعي في المجتمع عموماً، وتُرد جذور الأفكار السائدة إلى الواقع الاجتماعي، وتربط بطبقات، رغم أن غالبية هذه الطبقات لا تعي إيديولوجيتها، هذه الايديولوجيا التي هي انعكاس لوجودها في ظل علاقات اجتماعية محددة. بل إن الواقع يفرض أن تتبنى الطبقات الفقيرة المضطهدة الايديولوجيا السائدة مادام المفكرون لم «يكتشفوا» ايديولوجيتها المستقلة، لأن هذه الإيديولوجيا السائدة تتغلغل في صور شتى، منها العادات والتقاليد، الدين، والأفكار السياسية الاجتماعية المنتشرة. وهذا يسمح لنا بالحديث عن وعي زائف لدى طبقة محددة، أي اكتسابها وعياً غير مطابق لواقعها (لمصالحها)، بل مناقض له، وهو عموماً الوعي السائد، الإيديولوجيا السائدة حيث «تعكس معرفة الإنسان الاجتماعية (أي مختلف الآراء والمذاهب الفلسفية والدينية والسياسية...ألأخ)، نظام المجتمع الاقتصادي»(58). إن الإيديولوجيا السائدة، وهي الإيديولوجيا الحاكمة على كل حال(59)، تنتقل إلى الجماهير عن طريق العادات والتقاليد المتوارثة، وكذلك عن طريق الطقوس الدينية، ولكن أيضاً عن طريق المدرسة. وإذا لم يرسِ المفكرون والفلاسفة طريقاً جديداً، يتأسس على أساس مصلحة الأكثرية في المجتمع، ضد الأقلية الحاكمة، يبقى الوعي زائفاً، مهما خاضت الجماهير من نضالات ثورية، ومهما تلونت الفئات الحاكمة.
لكن الأفكار والنظريات المعبرة عن مصلحة الأكثرية تنمو على هامش المجتمع في البدء، لدى المفكرين ورجال العلم، ومن ثم تأخذ بالاندماج بالطبقة التي تعبر عنها، من خلال المناضلين الذي يجعلون من الدفاع عن مصلحة هذه الطبقة وتلك الفئة شغل حياتهم. لقد كان هذا هو حال الفكر البرجوازي الأوروبي، الذي نمى على هامش النظام الإقطاعي، وفي التعارض معه، وشكل أساس نهضة جديدة. وهو حال الماركسية التي نمت لدى مفكرين ليسوا من الطبقة العاملة، بل من البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة. لقد انبثقت التعاليم الاشتراكية «عن النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المتعلمون من ممثلي الطبقات المالكة، وضعها المثقفون. إن مؤسسي الاشتراكية العلمية المعاصرة، ماركس، وإنجلز، ينتسبان أيضاً من حيث وضعهما الاجتماعي إلى المثقفين البرجوازيين، وكذلك الأمر في روسيا...»(60).
إذن، يمكن التلخيص أن الواقع هو مصدر الأفكار، لكن هذه الأفكار لا توجد كانعكاس مباشر للواقع، بل إن وجودها وتبلورها (وإن شئنا الدقة اكتشافها) يحتاج إلى الوسطاء، وهم عادة الفئات الأكثر وعياً وثقافة، الفئات التي تشتغل في الثقافة، والذين يقررون التعبير عن مصلحة طبقة غير طبقتهم، بسبب اكتسابهم وعياً مناقضاً لوعي هذه الطبقة، هذا الوعي الذي يفرض عليهم النضال من أجل خدمة الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. ولقد أثبت التاريخ أن الطبقات المضطهدة (بفتح الهاء) لا تستطيع ـ اكتشاف ـ وعيها (أو لنقل ايديولوجيتها)، بسبب تخلفها الثقافي.
وهذا يدخلنا في القضية الثانية، قضية العلاقة بين الوعي والممارسة في النشاط الثوري. والمسألة الهامة هنا هي، هل أن ممارسة النشاط الثوري من قبل الجماهير تقود إلى اكتسابها الوعي الثوري؟ لعل الحديث السابق عن العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي يجيب جزئياً على هذه القضية، لكنه لا يعطي الإجابة الكاملة. إن النشاط الثوري للجماهير مستمر منذ أقدم العصور، ولقد خاضت الجماهير دائماً وفي مختلف المراحل معارك ضد مستغليها، وقامت بثورات كبيرة، لكن كل هذه المعارك والثورات لم تحقق انتصارها، ولهذا ظلت مستغلة مضطهدة، تثور مرة ثم تعود إلى سباتها سنوات وربما قرون، ثم تعود ثائرة مجلجلة تطالب بحقوقها (أو ببعض هذه الحقوق)، وقد يستفيد مضطهد (بكسر الهاء) آخر من نشاطها، فيقود ثورتها ليحقق مصالحه، ثم يعيد لجمها ربما بشكل أشد. والسبب الجوهري الذي يسمح بتكرار ذلك منذ آلاف السنين هو أن هذه الجماهير لم يتطور وعيها من خلال نشاطها الثوري، رغم شمول هذا النشاط وتعمقه في حالات كثيرة، فظلت أسيرة "وعي" مستغليها، ظلت تحمل الأيديولوجيا التي تبقيها أسيرة العلاقات الاجتماعية القائمة (الوعي الديني في العصور القديمة والوسطى، وفي العصر الحديث عندنا، والوعي البرجوازي في العصر الحديث في أوروبا وأميركا).
إن هذه الواقعة فرضت على لينين، ومن قبله على كاوتسكي، أن يتحدثا عن أن الوعي الاشتراكي الديمقراطي لن يأتي العمال «إلا من خارجهم»(60). كما يتحدث كاوتسكي عن مدى خطل الأفكار التي تعتبر أن الوعي الاشتراكي يأتي كنتيجة مباشرة للنضال الطبقي البروليتاري، بل أن يذهب إلى حد التأكيد على «أن الاشتراكية والنضال الطبقي ينبثقان أحدهما إلى جانب الآخر لا أحدهما من الآخر «إنهما ينبثقان من مقدمات مختلفة"، ويضيف أن «الوعي الاشتراكي الراهن لا يمكنه أن ينبثق إلا على أساس معارف علمية عميقة»، ثم ينتهي إلى التأكيد «وعلى ذلك كان الوعي الاشتراكي عنصراً يؤخذ من الخارج»(61).
وهنا نصل إلى قضية الوعي، «فالوسطاء» هم الواعون، الذين يعتنقون إيديولوجيا محددة هي الماركسية، ويحاولون إيصالها لـ ـ أصحابها ـ الذين لا يستطيعون الوصول إليها مباشرة. وهذا يعني رؤية دور المثقفين الذين يعتنقون الإيديولوجيا المعبرة عن مصلحة أكثر الجماهير جذرية في المراحل التاريخية المختلفة للنضال الثوري، أي رؤية دور المثقفين الثوريين القادرين على استيعاب وتمثل النظرية الثورية، أي الماركسية. وبالتالي التأكيد على أن مهمتهم الأولية هي إيصال الأفكار التي يحملونها للطبقة العاملة. وهذا يعني السعي لتأسيس التنظيم، التنظيم المعبر عن اتحاد الفئات الطليعية من العمال والفلاحين الفقراء، والمثقفين الذين يعتنقون الماركسية من البرجوازية الصغيرة. وهذه المهمة تحدد مجموعة كاملة من المهام البسيطة والمعقدة، منها مثلاً الدور الدعاوي التحريضي الذي يفرض نفسه كشكل من أشكال مواجهة الايديولوجيا السائدة، وبالتالي «إدخال» الوعي المطابق للجماهير، ومنها أيضاً تنظيم الحركة الجماهيرية، واكتساب خبرات العمل السري، و...إلخ.
إن قضية الوعي الثوري ليست قضية هينة، فمذ غدت الاشتراكية علماً، «تتطلب أن تعامل كما يعامل العلم، أي تتطلب أن تدرس»(62). ولهذا فإن موقعها في العمل الثوري ليس محدوداً ضيقاً، بل إن على حلها يتوقف تطور النشاط الثوري، وإن كانت بدون النشاط الثوري لا تؤدي إلى النتائج المرجوة، أي إلى الانتصار. وتنبع أهمية التركيز على الوعي في النشاط الثوري بسبب من عمق الطابع العفوي للحركة الجماهيرية، حيث كلما كانت الحركة الجماهيرية عفوية كانت هناك حاجة ماسة للقوة التي تمتلك قدراً كبيراً من الوعي، لأن الجماهير العفوية، محدودة الوعي، أو بشكل أدق، التي تمتلك «وعياً زائفاً»، أي التي تعتنق الإيديولوجيا السائدة، بحاجة إلى القوة التي تكسبها وعياً مطابقاً، الوعي الذي يعبر عن مصالحها، ويسهم في تحقيقها الانتصار. والحزب السياسي الثوري، ليس المنظم والقائد والطليعة للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء فقط، بل إنه أساساً «مُدخل» الوعي إليها، لأنه بذلك، وبذلك فقط، يجعلها قادرة على فك عرى الارتباط بالفئات المستغِلة، وبالتحول إلى النضال الجذري ضدها، أي التحول من النضال من أجل تحسين الظروف الحياتية المعيشية وإصلاح الوضع الاجتماعي، إلى النضال من أجل إسقاط السلطة كمعبر عن مصالح طبقة، وإلغاء الاستغلال، وبالتالي تحقيق أهداف الأمة كلها. وهذا يعني التحول من النضال المطلبي إلى النضال الثوري.
إننا هنا، أمام شكلين من الممارسة، لا يجوز لنا الخلط بينهما، وإن كنا مع تأكيد أهميتهما معاً. لكن تنبع أهمية قضية الوعي بالنسبة لنا من أن النشاط الجماهيري العفوي قضية تفرضها الظروف الموضوعية، ولهذا فهي عفوية، تحدث كلما وصلت الجماهير إلى مأزق، بسبب النهب الطبقي الذي تعيشه، مما يفرض عليها العجز عن مواصلة العيش، لهذا فإنها تعبر عن ردود فعلها بأشكال مختلفة، وكلما كانت الظروف صعبة كلما كانت ردود الفعل قوية. أما قضية الوعي فهي عامل إرادي لا تنتجه ظروف موضوعية بشكل عفوي، بل يقرره مناضلون. ولما كان نقصه يعني عجز الحركة الجماهيرية عن الانتصار، كان التركيز عليه من قبل المناضلين أمر ضروري. إن النشاط الجماهيري العفوي هو الشكل الأولي للعمل الثوري، وهو نشاط لا يقود إلى وعي مطابق، أي وعي معبر عن مصالح هذه الجماهير، بل يبقيها أسيرة «الوعي الزائف»، أي أسيرة الأيديولوجيا السائدة، وهي أساساً ايديولوجيا الطبقة الحاكمة، والمعبرة من مصالحها. ولقد أظهرت التجربة أن هذا النشاط لا يقود إلى تحقيق تغييرات جذرية. أما نشاط المناضلين فهو نشاط أكثر تعقيداً، وتتحكم الإرادة فيه إلى حد كبير. هؤلاء المناضلون الذين يتسلحون بالوعي الثوري، ويسعون لإدخال هذا الوعي للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. وهم هنا يقومون بنشاط مزدوج، يقوم جانب منه على اكتساب الوعي والمعرفة النظرية عموماً، ومعرفة الظروف المحددة خصوصاً، أو اكتساب المعرفة من أجل وعي الظروف الواقعية، وبالتالي يسعون إلى بلورة نظرية ثورية تعبر عن مصلحة الجماهير الفقيرة، وتشكل سلاحاً ايدولوجياً في يدها في حربها ضد الفئات المستغلة، والحاكمة. إن تحقيق ذلك يفرض زيادة المعرفة بشكل مستمر، والجد في الدراسة والبحث. أما الجانب الآخر فيقوم على دور هؤلاء في إدخال الوعي للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، إلى تعريفها بمصالحها، وإلى تنظيم معاركها. وهذا بالضبط ما يفرض تأسيس حزب ثوري، يكون اكتساب الوعي من بديهيات تكوينه، ويسعى لكي يلف من حوله الحركة الجماهيرية، ليصبح طليعتها، وقوتها المنظمة، وأداتها في الحكم.
ولقد واجهت هذه الإشكالية كل الثورات التي حدثت في القرن العشرين. وإذا كان لينين تحدث عنها كثيراً، وخصوصاً في كتاب «ما العمل؟»، فقد حاول ماوتسي تونغ أن يوضح هذه الإشكالية أيضاً، حيث أكد أنه من الصحيح كل الصحة «أن القوى المنتجة، والممارسة العملية والقاعدة الاقتصادية، تلعب عادة الدور الرئيسي الحاسم. ومن ينكر هذه الحقيقة لا يكون مادياً. لكن يجب أن نعترف كذلك بأن علاقات الإنتاج، والنظرية والبناء الفوقي تلعب بدورها، في ظل ظروف معينة، الدور الرئيسي الحاسم... وحين لا توجد نظرية ثورية لا يمكن أن تكون هناك حركة ثورية، كما قال لينين، فإن خلق النظرية والدعاية لها يلعب الدور الرئيسي الحاسم. وعندما ينبغي القيام بعمل ما (وهذا ينطبق على أي عمل كان)، لكن لم ترسم بعد سياسة عامة أو طريقة أو خطة أو سياسة محددة، فإن رسم كل هذه يصبح العامل الرئيسي الحاسم. وعندما يعوق البناء الفوقي، كالسياسية والثقافية، تطور القاعدة الاقتصادية، فإن التجديدات السياسية والثقافية تصبح العامل الرئيسي الحاسم. أترانا نخالف المادية بقولنا هذا؟ كلا... ليس هذا مخالفاً للمادية، بل يعني بالضبط تفادي المادية الميكانيكية والتمسك الحازم بالمادية الديالكتيكية» (63).
بعد ذلك يمكن القول إن الواقع هو الذي يحدد الوعي، هو مصدر الوعي. لكن، وهنا القضية الأهم، ليس الوعي المطابق لمصلحة الطبقة المضطهَدة، بل إن العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة تكتسب الوعي الذي تمدها فيه الايديولوجيا السائدة، رغم تناقض وضعها ومصالحها معها، ومع الوضع السائد كله. رغم أن الظروف الاقتصادية الاجتماعية التي تعيش فيها هذه الطبقات والفئات تهيؤها لكي تكتسب الوعي الثوري، الوعي المطابق لمصالحها ومطامحها. ورغم أن هذه الظروف تدفعها للنشاط الثوري ضد الفئات الحاكمة المضطهِدة والمستغِلة، وتفرض عليها خوض المعارك، وصنع الانتفاضات، إلا أن كل هذا النشاط العفوي لا يسهم في تطوير وعيها تطوراً جذرياً، لأن للوعي مستوى آخر من النشاط. إن النشاط الثوري قد يُكسب، وهو يُكسب بالضرورة، خبرات في التخريب، وفي الدعاية والتحريض والتنظيم والتظاهر، والقيام بالإضرابات...إلخ، لكنه لا يكسبها الوعي الثوري، بل إنه يكسبها مقدرة تقنية، وربما «وعياً أخلاقياً» ليس إلا. هذا الوعي هو الذي يجعلها تتمنى على مستغليها ومضطهديها تقديم بعض "الهدايا» و«الهبات» لها. وغالباً ما تسير الحركة الجماهيرية في هذا المسار، ليس حين تخوض المعارك الطبقية فقط، بل وحين تخوض المعارك الوطنية. لهذا فهي تسلم قيادها للفئات المساومة المترددة.
لكن هذا النشاط، وأمام انسداد آفاقه من خلال رفض الفئات الحاكمة التنازل، يقود إلى اعتناق فئات من الجماهير، وهي فئات محدودة على كل حال، طريق الإرهاب. والإرهاب مرادف للإصلاحية في الجوهر. فإذا كان الاتجاه الإصلاحي يراهن على إقناع الفئات الحاكمة بتعديل (ترشيد)(*) سياساتها، و«عقلنتها»، أو يضغط لتحقيق ذلك. وفي هذا الإطار يجري تغييب النشاط الثوري وتطوير الوعي، ويتم القفز عن قدرة الجماهير في تحقيق التغيير الجذري فيما إذا اكتسبت الوعي الثوري، وقاتلت تحت شعارات حزب ثوري، فإن الإرهاب ينطلق أيضاً من إجراء التغيير بعيداً عن دور الجماهير الثوري، من خلال «أبطال»، يملكون القدرة الفائقة.
وهنا تطرح إشكالية الوعي والممارسة، حيث إن العمل الثوري يفترض عملاً تثقيفياً فكرياً، كما يفترض عملاً تنظيمياً ودعاوياً وثورياً. وإذا كان تحقيق الثورة لا يتم إلإ بهما معاً، فإن فهم أولويات كل منهما، يغدو أمراً ضرورياً، رغم أن الحاجة إلى نظرية ثورية قضية تقرر مصير العمل الثوري كله، ولا إمكانية لتأسيس حزب ثوري، دون نظرية ثورية.
الوعي والممارسة:
محاولة تحديد الإشكالية
ولكي نصل إلى نتائج صحيحة، وبالتالي توضيح ما التبس، من الواجب وضع القضية مدار الحوار في سياقها الصحيح، فما هي القضية إذن؟.
إننا نتحدث عن الوعي والممارسة، ونتحدث عنهما في تنظيم ثوري. والحديث عن الوعي والممارسة، وفي تنظيم ثوري تحديداً، يطرح أكثر من قضية هامة. فأولاً من الواجب فهم وضع الحركة الجماهيرية، لأنه أساس العمل الثوري، لأن الجماهير أداة النضال، وهي هدفه، وهي التي تخوض الصراع الطبقي. لهذا وجب علينا أن نتساءل حول قدرة هذه الجماهير على وعي مصالحها وتحديد أهدافها. ثم هل إنها بأشكال تنظيمها التي تقيمها قادرة على تحقيق هذه الأهداف؟ في المقابل، ولكي تكون الأمور واضحة، والإجابة على هذه التساؤلات دقيقة، من واجبنا أن نفهم طبيعة القوى التي تستغل الجماهير، وتضطهدها، تسيطر عليها، وتحكمها. ولكي لا ندخل في موضوع طويل، يمكننا الحديث بشيء من الاقتضاب عن هذه القضايا، من الزوايا التي تتعلق بموضوعنا، مدار البحث.
في معادلة الصراع بين الجماهير ومستغليها يكون الفارق في أن هؤلاء المستغلين يملكون القوة والجبروت، حيث لديهم قوى منظمة تستطيع البطش، ولقد وجدت من أجل ذلك (الجيش، المخابرات، الشرطة ...)، ولديهم أيضاً في قوة الإيديولوجيا السائدة أداتهم الفكرية، ومكمن قوتها في أنها تغلغلت في أعماق الجماهير، إلى الحد الذي يسهم في شل حركتها، حيث إن هذه الايديولوجيا تعلم الجماهير كيف تقبل الاستغلال والاضطهاد، وكيف تتجه صوب العمل الإصلاحي، والتطوير التدريجي، أو تستكين خشية وخوفاً. وهذه وتلك (القوى المنظمة والايديولوجيا)، هما الجبروت الذي يواجه حركة الجماهير، ويجعل تأثيرها محدوداً في أغلب الأحيان. بينما، وفي المقابل، لا تمتلك الجماهير قوى منظمة، و«وعيها» يوصلها بالفئات الحاكمة، فهو «الحبل السري» الذي يجعلها، مهما تمردت، تعود لتقبل الوضع القائم، ويخرج من ايديولوجيتها ـ التي هي ايديولوجيا الفئة الحاكمة ـ كل مبررات «العودة إلى السكينة والهدوء»، و«حمد الله» على نعمته... إلخ. إن فقرها يدفعها للتمرد، لكن «وعيها» يدعوها للسكينة، مما يجعل حركاتها تفور سريعاً وتغور سريعاً، وهكذا دواليك، حالات سكون وهدوء، ثم ثورات وانتفاضات، ومن جديد عودة إلى الهدوء والسكينة.
وهي في كل ذلك تواجه القوى المنظمة بكتل متفرقة، وتواجه الأسلحة بالأيدي. ولكنها أيضاً في كل ذلك تعجز عن مواجهة الايديولوجيا السائدة، لا بل تتمسك بها، وتدافع عنها. ويطرح هذا الوضع قضيتين هما: الوعي والتنظيم، فهل تستطيع الجماهير تطوير وعيها وتنظيم صفوفها؟ إنها عاجزة عن ذلك، لأن التنظيم والعمل التنظيمي، وكذلك مواجهة القوى الحاكمة، بحاجة إلى تقنية عالية وإلى الوعي. كما أن الوعي بحاجة إلى الثقافة والدراسة والاضطلاع، والجماهير لا تستطيع هذا ولا ذاك، بسبب من أن الفقر والاضطهاد يمنعانها من تلقي العلم، خصوصاً في البلدان المتخلفة، حيث نسبة التعليم متدنية، بل إن ما تفعله الجماهير يتمثل في أنها تندفع بين فترة وأخرى تحت ضغط أزماتها معلنة العصيان ضد السلطة، أو ضد القوى الخارجية المسيطرة، أو ضدهما معاً. وقد يندفع بعضها فقط تحت ضغط أزماته الخاصة. وهي في هذه الاندفاعة توجد أشكال عمل محددة، قد تكون مؤقتة، كما يحدث في الغالب. وأكثر أشكال النشاط الجماهيري ثباتاً، هي النقابات والاتحادات المختلفة، وهي أشكال أولية في مجال العمل التنظيمي، محدودة الأهداف ومحدودة الأساليب، تتوافق مع الوعي الإصلاحي للجماهير، ولهذا تلعب دوراً في تحسين أوضاع فئات اجتماعية معينة. وهنا لا بد أن نوضح أهمية هذه الأشكال من العمل التنظيمي، وكل الأشكال التي توجدها الجماهير، خلال نشاطها الثوري. ورغم حاجة الحزب لمثل هذه الأشكال، لكن يبقى أن نؤكد أنها لا تستطيع تحقيق الأهداف الجذرية للجماهير.
وفي هذا الإطار تبرز أهمية الوعي والتنظيم، الوعي الذي يرسم آفاق الطريق، والتنظيم الذي يسير بالجماهير حتى نهايات هذا الطريق، عاملاً على توحيد الحركة الجماهيرية، وتبصيرها. وهنا يبرز دور الفئات الواعية، المناضلة والمثقفة، لأنها القادرة على امتلاك الوعي، وبناء التنظيم. فهي وحدها القادرة على تأسيس الايديولوجيا المناهضة للايديولوجيا السائدة، والقادرة على هزيمتها. والمعبرة عن حركة المجتمع الصاعدة، وعن الفئات الأكثر فقراً فيه، أي عن العمال والفلاحين الفقراء. فهي التي تتعامل بالفكر، وتدرس النظريات، وتمحص بما هو سائد من أفكار، وتدقق بالواقع العيني المحدد، لتؤسس من كل ذلك تصوراً نظرياً، يصلح لأن يكون أساس منعطف جديد. والأزمة التي تواجهها الحركة الثقافية في هذا المجال، تتعلق بقدرتها على تجاوز منطق «الثقافة من أجل الثقافة»، أو «الثقافة من أجل الجاه، والصعود الطبقي»، لتصبح الثقافة في خدمة الحركة الجماهيرية، وإذا لم تحقق ذلك تبقى حركة معزولة. ولقد فشلت الحركة الثقافية في الوطن العربي في أن تكون كذلك إلى الآن، رغم أنها أساساً لم تعبر عن الحركة التي تستطيع أن تكون أساس منعطف جديد(*). ولعل هذا السبب هو الذي أبقاها معزولة عن الحركة الجماهيرية، ومرتبطة بالفئات الوسطى الطامحة لتحسين وضعها الطبقي، والتي تميل إلى الإصلاح و"النضال السلس".
لكن هذا الفئات الواعية، المناضلة والمثقفة، هي الأقدر أيضاً على بناء التنظيم، لسعة أفقها، وقدرتها على الاستفادة من تجاربها وتجارب الآخرين، واستطاعتها الاضطلاع على التجربة العالمية في هذا المجال. ولكن أيضاً لقدرتها على تجاوز «البنية التكوينية» للجماهير التي تصاغ بها خلال مسيرة تربيتها و«تشذيبها». وهذا ما يوفره لها الوعي الجديد. وتبرز هذه الإشكالية بشكل أكبر في البلدان المتخلفة، التي يقوم أساس عملها على الفوضى، والصدفة، وبالتالي فمن مهامها العمل على أن تتجاوز الفئات الأكثر نشاطاً من الحركة الجماهيرية هذه «البنية التكوينية»، في سبيل اكتساب عادات الانتظام والدقة، والعمل الجماعي. وهي من خلال ذلك تعمل على تأسيس القوة التنظيمية القادرة، في إطار قيادتها للحركة الجماهيرية، على مواجهة قوى السلطة الحاكمة، مواجهة أجهزتها القمعية، وأساليب عملها البوليسية المعادية لكل نشاط ثوري، ومواجهة أداتها العسكرية، والقادرة أساساً على تنظيم نشاط الجماهير الثوري، وقيادته نحو الانتصار.
في هذا الإطار يمكن تحديد إشكالية الوعي والممارسة. وإذا جرى الفصل في البدء بين قضيتين، قضية فلسفية وأخرى تتعلق بالعلاقة بين الوعي والممارسة، فإن الهدف كما تم تحديده سابقاً، يتمثل في وضع الإشكالية في موقعها الصحيح. فالواقع هو الذي يحدد الوعي، وهو الذي ينتجه. كما توضح حين مناقشة القضية الأولى. وهنا لابد من التوضيح أيضاً أن النص السابق يؤكد على أن الواقع هو الذي ينتج الوعي، ولم يؤكد أن العمل هو الذي ينتج الوعي. والسبب في ذلك هو أن المنهج المادي ينطلق من هذه الحقيقة، وهي المسألة الأساسية الكبرى في الفلسفة، حسب وجهة النظر المادية، أما العمل فقد ينتج وعياً، وهنا يكون العمل هو العمل الثقافي الفكري، وقد لا ينتجه، ولهذا فشلت الحركة الجماهيرية العفوية عن أن تؤسس وعياًُ ثورياً، في كل مراحل التاريخ.
إذن يبرز جوهر الإشكالية في شقين، الشق الأول يتعلق بتوفير الوعي الثوري لدى الفئات الساعية لتأسيس تنظيم ثوري، حيث لا تنظيم ثوري بدون وعي ثوري، والشق الثاني يتعلق بكيفية استمرار تطور الوعي الثوري وتعمقه، مع تطور نشاط التنظيم، وتزايد ارتباطه بالحركة الجماهيرية.
إن الوعي دون ممارية ثورية لا يؤدي إلى انتصار. وكذلك فإن الممارسة الثورية دون وعي ثوري لا تحقق نفس الغرض. إنهما معاً طريق الانتصار، لأن الوعي الثوري يضيف للحركة العفوية العقل والتنظيم، وهما مكمن قوة. ولأن النشاط العفوي، يوجد الأزمة الشاملة التي تحاصر الفئات الحاكمة، وتجعل الهجوم لإسقاطها ممكناً، بل وضرورياً، لأنه يعطي التنظيم القوة الجبارة التي تدعمه وتجعل انتصاره محتماً. ثم إن لاكتساب الوعي طريقاً، كما أن لتنظيم النشاط الجماهيري طريقاً، لكنهما متحدان، متراصان، وإذا ما انفصلا قادا إلى أحد موقفين، أولهما ما يمكن أن نسميه «نزعة المثقفين»، هذه النزعة الانعزالية التي ترى أن الانتصار ممكن فقط بالتطوير الثقافي العام. ثانيهما الاتجاه العفوي الذي يقدس النشاط الجماهيري، ويعتقد أن هذا النشاط سوف يقود إلى انتصار محتم.
وهنا ربما نكون وصلنا النقطة الجوهرية، وهي أهمية الوعي في النشاط الثوري. هل يقود التأكيد على أهمية الوعي إلى تقديس الفكر؟ وهل يقود إلى إهمال النشاط الجماهيري؟ لقد حاولنا في الفقرات السابقة التحديد الدقيق لهذه الإشكالية، حيث أكدنا على ضرورة أن يخدم الوعي الثوري الحركة الثورية. وإنني لأرى أن هذه النقطة هي فعلاً النقطة الجوهرية، لأنها «مفتاح» التطور الثوري، أي «مفتاح» الانتقال من الحركة العفوية إلى الحركة المنظمة. إن ما ينقصنا هو الوعي، الوعي العلمي الثوري، بينما تتوفر الهمة ويتوفر النشاط، فالجماهير تخوض النضال اليومي بأشكال مختلفة، وهي تنفجر من حين لآخر، ولقد أثبتت أنها على استعداد للقتال في مختلف المراحل. لكن الحركة السياسية عجزت عن استثمار كل ذلك، ولم تستطع إنجاز القضية الأهم في الثورة من أجل انتصارها، أي قضية الوعي والتنظيم.

أي وعي، وأية ممارسة؟

ما دمنا جزمنا بأن النشاط الجماهيري لا يؤدي إلى اكتساب الوعي الثوري، وما دامت الإشكالية القائمة في مجتمع متخلف، تتمثل في تقدير أهمية عنصر الوعي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يتكون الوعي؟ إن المعادلة المصاغة في هذا المجال تتمثل في ربط الوعي بالممارسة، واعتبار أن الممارسة جزء عضوي من تكوين الوعي، وتعني الممارسة هنا النشاط العملي. حيث من الواضح أنه يجري القفز عن أن النشاط الفكري ممارسة، لهذا من الضروري تحديد كيف يتكون الوعي، وما هي الممارسة في النشاط الثوري؟ انطلاقاً من أن الوعي هو أعلى أشكال انعكاس الواقع الموضوعي في دماغ الإنسان(64). إذن، يفرض البحث عن إجابة لسؤال كيف يتكون الوعي صياغة جديدة، قد تسهم في استيعاب الإشكالية مدار البحث، حيث يمكننا التساؤل: كيف نفهم الواقع؟
أكد كارل ماركس «أن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة، ولكن المهمة تتقوم في تغييره»(65)، وهو بذلك يربط بين الوعي والممارسة، بين وعي الواقع وتغييره. ولعله يشير بشكل أو بآخر إلى أولوية «تفسير العالم»، حيث يكون التغيير لاحقاً للتفسير. رغم أن الفهم الذي درج هو تجاوز التفسير من أجل التغيير، وهذه مسألة مناقضة للماركسية ذاتها، حيث أنها تقوم على الوعي لأنها فكر. إذن كيف نفهم الواقع؟ إن للاضطلاع والدراسة والبحث، أي للثقافة عموماً، دوراً أولياً في هذه المجال، ما دام النشاط الجماهيري لا يقود إلى اكتساب الوعي. مادام خوض النضال الثوري لا يؤدي إلى اكتساب الوعي الثوري. وبشكل منطقي لا يقود إلى تحديد الاستراتيجية الثورية. إن معرفة الواقع تفرض عمقاً ثقافياً، وسعى اضطلاع، ودراسة مستمرة، للسببين التاليين:
أولاً: إن دراسة الواقع تفترض وجود منهج معين، نظام معرفي معين، كي نرى الواقع من خلاله. وامتلاك المنهج، وهذه قضية فلسفية، يفترض الدراسة. إن امتلاك المنهج الماركسي (المادية الجدلية) يتطلب قراءة كل ما جاءت به الماركسية، ولكن أيضاً الاضطلاع على جذورها، أي على كل ما جاءت به البشرية، مادامت الماركسية استكمالاً وإتماماً للتيارات الفكرية الرئيسية التي نشأت في الدول الأكثر تقدماً في القرن التاسع عشر. إن دراسة الواقع من خلال وجهة النظر السائدة يعني إعادة إنتاج الوعي السائد، لهذا كان من الضروري إمتلاك وجهة نظر جديدة، أكثر تقدماً من الايديولوجيا السائدة، وتخدم مصلحة الجماهير الشعبية. وامتلاك المنهج المادي الجدلي قضية بحاجة إلى الدراسة الجادة، وليس إلى اعتماد نصوص محنطة، أو كتب مدرسية(66). لأن الهدف من كل ذلك ليس ترداد الجمل والشعارات، واقتباس النصوص، بل اكتساب طريقة علمية في التفكير، تساعدنا في فهم الواقع فهماً علمياً.
ثانياً: كما أن دراسة الواقع تفترض توفر «مادة خام»، أي توفر المعلومات والإحصاءات والدراسات، التي تسمح بالخروج باستنتاجات دقيقة نسبياً. وفي إطار ذلك تجري دراسة التاريخ، مادام الحاضر هو استمرار للماضي، وتكثيفاً له، ويجري البحث في الظروف الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية، والتطور الفكري.... إلخ. وكل ذلك يوجد في الكتب وليس للرؤية العيانية أي دور فيها.
وهنا يكون امتلاك المنهج ودراسة الواقع طريق رسم الاستراتيجية الثورية، التي هي بالضرورة أساس العمل الثوري، وبدونهما لا يمكن رسم هذه الاستراتيجية. من هنا يمكن القول إن تكون الوعي يتم بشكل أساسي من الدراسة والتثقيف المستمر، لأن اكتساب الوعي مرتبط بالفكر، والفكر موجود في الكتب، حيث ترجم دماغ الإنسان الواقع إلى أفكار، في المراحل التاريخية المختلفة، وبأشكال شتى، مما كوَّن هياكل (أشكال، إفرازات، رموز) وسيطة بين الإنسان والواقع، فأصبحت معرفة الواقع تقتضي دراسة هذه الأفكار. إن «وعي المجتمع ككل» يتكون من «المعرفة المتراكمة بالتاريخ والأفكار السياسية والقانونية، والمنجزات الفنية والأخلاقيات والدين وعلم النفس الاجتماعي»(67). وهذا ليس تقديساً للكتب، بل طريق معرفة الواقع، هذا الواقع الذي نعيشه، لكن تمنعنا التعقيدات التي تقولبه من معرفته عيانياً، رغم أن للمعايشة والمشاهدة ـ أي للإحساس ـ دور محدد في تكوين الوعي، لكنه دور بدائي لا يؤدي إلى المعرفة العلمية للواقع، «وهكذا فإن الإحساس ثانوي بالنسبة للواقع المادي»(68). كما أن للممارسة دور. فالممارسة تغني الوعي وتصوبه. لكن تجب ملاحظة أن الممارسة دون وعي لا تؤدي إلى تراكم الوعي، كما أوضحنا سابقاً، ولا إلى تطور الممارسة كذلك.
ولهذا فإن معرفة الواقع تقتضي دراسته. لكن المشكلة التي قد تتأسس على ذلك في حال الإخلال في الفهم الصحيح لذلك، تتمثل في موقفين، الأول: قد تؤدي دراسة الفكر العالمي ـ ما دمنا نسعى لاستيعاب أرقى الأفكار الفلسفية، وأكثرها تعبيراً عن مصلحة الجماهير الفقيرة ـ إلى أن ننقل الفكر من الآخرين، وبذلك لا نكون قد أسسنا نظرية ثورية، ولا نكون قد حددنا استراتيجية لثورتنا، لأننا لا نكون قد عرفنا واقعنا. وعندها لا نكون قد جعلنا الوعي جزءاً من العملية الثورية، من النشاط الثوري في وطننا، بل نكون قد تحولنا إلى مرددين لا دارسين، ناقلي شعارات لا محللين. لنعاني من جراء ذلك من حالة «فُصام»، حيث نردد ما ليس له علاقة بواقعنا في المجال النظري، وننساق وراء الحركة العفوية في النشاط العملي. أما الموقف الثاني فيتمثل في أن تقودنا الدراسة إلى أن نعي واقعنا، لكن لا نكون ثوريين بما فيه الكفاية فلا نخوض النشاط الثوري لتحقيق التغيير الثوري المطلوب. وهنا يكون وعينا عاملاً مساعداً في التغيير، وإن لم نكن نحن المعنيين بذلك. ونحن حين نتحدث عن الوعي من الضروري أن نرفض الموقفين، وأن نصّر على أن نفهم الواقع وأن نغيره، وهذا يقتضي أن نطور وعينا، وأن نخوض غمار النشاط الثوري.
إننا هنا أمام ثلاث مهام مترابطة، يمكن تلخيصها بالتالي:
1) الاهتمام الجدي بالدراسة والبحث ومعرفة الواقع. فالمطلوب تكوين وعي جديد، انطلاقاً من رؤية منهجية جديدة (نظام معرفي جديد) ـ ونقصد بالجديد هنا أن يكون جديداً بالنسبة لواقعنا ـ يتناقض مع الرؤية المنهجية السائدة، وكذلك انطلاقاً من معرفة علمية للواقع الراهن، الواقع بمختلف أوجهه الاقتصادية الاجتماعية والفكرية السياسية. إن الهدف العملي الراهن يتمثل في تأسيس ايديولوجية جديدة (أي نظرية ثورية جديدة، ونحدد ذلك خشية الوقوع في لبس أننا نسعى لتجاوز الماركسية مثلاً)، ننطلق من تحليل مادي جدلي لوضعنا، لنصل إلى استنتاجات نظرية تسهم في تأسيس وعي جديد، والقراءة والدراسة والبحث قضايا ضرورية في هذا المجال ضرورة مطلقة، حيث لا تنظيم ثوري دون وعي ثوري، كما أسلفنا القول.
2) إن التغيير لا يقتضي القراءة والدراسة فقط، بل يقتضي «العمل» أيضاً، العمل التنظيمي أولاً، هذا العمل الذي يقوم على أساس بناء الخلايا واللجان، تطوير وعي الأعضاء، وتأسيس حياة داخلية ديمقراطية، أي باختصار تأسيس تنظيم متماسك، صلب، وديمقراطي. ولكن يعني «العمل» أيضاً، العمل النقابي الجماهيري، أي الاشتراك في النشاط الجماهيري، الديمقراطي والثوري، من خلال العمل في النقابات واللجان، وكذلك من خلال الاشتراك في الإضرابات والمظاهرات وكل أشكال الاحتجاج الجماهيري، والعمل على إيجادها وقيادتها. ويستتبع كل ذلك الاهتمام بالعمل التربوي التثقيفي، الهادف إلى تطوير وعي القطاعات الجماهيرية، وتعريفها بمصالحها، والاهتمام أيضاً بالعمل السري القائم ـ إضافة إلى بناء التنظيم، والعمل السري في النقابات وبين الجماهير ـ على توزيع النشرات، والبيانات، والكراسات، المعبّرة عن وجهات نظر التنظيم، والتي توضح وتحرض.
3) إن ارتباط هذه وتلك يقود إلى أن يقدم التنظيم رؤية نظرية شاملة، تسمح بتحديد الاستراتيجية الثورية، القادرة على هزيمة الإيديولوجيا السائدة، كما يصبح التنظيم قادراً على استقطاب فئات واسعة من الفئات الطليعية في المجتمع، وبالتالي الاندماج بالطبقة العاملة وبالفلاحين الفقراء، كما يكون قادراً على قيادة النشاط الجماهيري إلى الانتصار.
وإذا كانت معرفة الواقع تعتمد، بشكل كبير، على الدراسة والبحث والتثقيف، فإن «التجربة الثورية، والمهارة التنظيمية أمران يكتسبان اكتساباً»(69).
هل استطعنا، بما جاء سابقاً، توضيح الإشكالية المتعلقة بقدرتنا على تحديد طبيعة العلاقة التي تربط الوعي بالممارسة؟ وبالتالي فهم دور الممارسة في تكوين الوعي؟ لاشك أن ما سبق حدد تصوراً للقضية، لكن مازالت بحاجة إلى التكملة.

دور الظروف العينية

لكن هل يكفي الحديث المجرد عن الوعي والممارسة؟ أليس لظروف العمل الثوري دور محدد في تعيين أهمية هذا أو ذاك؟ ما قيل في الصفحات الماضية هو حديث مجرد إلى حد معين، لأنه لم يرتبط بواقع محدد، وبظروف محددة. وأعتقد أن الحديث المجرد لا يكفي، لأنه لا يعطي صورة دقيقة للقضية التي نبحث. فالواقع الموضوعي هو الذي يحدد أهمية أي منهما، حيث يفرض التركيز على الدراسة والبحث حيناً، ويفرض التركيز على العمل وخوض غمار النشاط الجماهيري حيناً آخر.
فإذا اعتبرنا أن هناك علاقة جدلية بين النظرية والممارسة، خلال العمل التنظيمي، فإن الظروف العينية هي التي تحدد لأي منهما الأولوية، والذي على حله يتوقف تقدم النشاط الثوري. وهذا ما أشار إليه لينين مراراً، وحاول تأكيده، حيث «إن الثوروية المبتذلة لا تدرك أن الكلام هو أيضاً عمل، وهذه الحقيقة ثابتة لا جدال فيها، مطبقة على التاريخ بوجه عام، أو على المراحل التاريخية التي ينعدم فيها نشاط الجماهير السياسي السافر. وهذا النشاط لا يمكن اصطناعه، ولا الاستعاضة عنه بالفتن التآمرية. أما ذنبية الثوريين، فإنها لا تدرك أنه متى دقت ساعة الثورة، متى تداعى (البناء الفوقي) الاجتماعي القديم، من كل الجهات، متى غدا نشاط الطبقات والجماهير التي تبني لنفسها بناء فوقياً جديداً، متى غدا نشاطها السياسي السافر أمراً واقعاً، متى بدأت الحرب الأهلية، فإن الاكتفاء (بالكلام)، كما في السابق، دون صياغة هذا الشعار الواضح، شعار الانتقال إلى (العمل)، والتهريب من العمل آنذاك بحجة (الشروط النفسانية) و(الدعاية) بوجه عام، إنما يعنيان الانزلاق في النظرية الميتة المتحجر، في التزمت العقيم، أو تسليم الثورة، خيانتها...)(70).
إن (الكلام) عمل. وهذه حقيقة لا يمارى فيها، وهذه من المهام الأولية (الأساسية، البديهية) للتنظيم، حيث إن العمل الدعاوي التحريضي أساسي وضروري طيلة مسيرة النشاط الثوري، وخصوصاً في المراحل الأولى للنشاط، لأن هذه الأشكال من العمل الثوري هي مدخل «تطوير» وعي الجماهير، وإكسابها وعياً ثورياً. إن «الكلام» عمل، وله دور أساسي في مرحلة. والاشتراك في النشاط الثوري، والعمل على تنظيمه والسعي لقيادته عمل، وله دور أساسي في مرحلة أخرى. والذي يعطي الأولوية (للكلام)، أي للدراسة والبحث والتثقيف والتنظير والدعاوى، هو وجود حالة ركود لدى الجماهير، مما يعطي الأولوية، ويوفر الظروف، لإعداد القادة، وتنظيم الخلايا واللجان، وتطوير فاعليتها ونشاطها، وإكسابها خبرات جديدة، ووعي جديد، كما يوفر الظروف لتصعيد النضال الإيديولوجي(71)، عبر التصدي للايديولوجيا السائدة، وإعمال معول الهدم فيها لتفسيخها، وإضعاف تأثيرها في الجماهير. أما حين تتقدم الجماهير الصفوف، فيكون لزاماً علينا أن ندخل الحرب، لا منعزلين، بل مدججين بحشد هائل، وصفوف طويلة من الجماهير، وحماس لا يضاهيه حماس. وهنا تكون الأولوية (للعمل)، حيث من الضروري أن تكون القوى الثورية على رأس النشاط الجماهيري، أن تندفع بحماس، وأن تقاتل لكي تنتصر هذه الجماهير في الحرب الطبقية المتأججة.
لقد أكد لينين منذ بدء نشاطه الثوري، على أهمية عنصر الوعي الثوري، وخاض صراعاً إيديدلوجياً ضد اتجاهات مختلفة، لكنه مع انفجار ثورة 1905، دعا إلى خوض غمارها، ثم حين فشلت الثورة، رأى أنه من الضروري المشاركة في الانتخابات ودخول (البرلمان الرجعي). وبعد فشل الثورة، وخفوت النشاط الجماهيري، أكد «أن ديالكتيك تطور التاريخ قد ارتدى (في روسيا) في المرحلة الأولى شكلاً، وضعت معه على جدول الأعمال، مسألة تحقيق تحويلات مباشرة، في جميع ميادين الحياة في البلاد، كما ارتدى شكلاً في المرحلة الثانية وضعت معه مسألة صياغة التجربة المكتسبة، وحمل أوساطاً أوسع على استيعابها، وإدخالها إذا جاز التعبير، في باطن الأرض، في الصفوف المتأخرة من مختلف الطبقات»(72).
إذن، لكل مرحلة سماتها، التي علينا أن نقوم بتحديدها، لكي تتحدد على ضوئها مهماتنا، وأولويات عملنا، فلا نقع في (الديماغوجية الثورية) حيناً، وفي (التنظير) حيناً آخر. ويمكننا أن نؤكد أنه في مرحلة النشاط الثوري للجماهير ما علينا سوى خوض الحرب. وأي موقف غير هذا الموقف، ضارٌّ، وربما يكون مدمراً. أما في مرحلة الركود والتراجع فإن نشاط التنظيم يتمحور في ثلاث طرق، تبرز واضحة للعيان، وتكون ملحة إلى الحد الذي يجعل تجاوزها أمراً ضاراً ومدمراً أيضاً، فهناك أولاً طريق النضال الايديولوجي، وهناك ثانياً طريق البناء التنظيمي، وهناك ثالثاً طريق النضال الاقتصادي المطلبي. فالحروب تخاض بالجماهير المهيأة، والجماهير لا تكون مهيأة دائماً «إنها تنفجر حينما تشعر أنها لا تستطيع العيش، ثم تعود راكدة، حتى لكأنك تحسبنها جثة ميتة".

بداية النشاط الثوري

لكن مازال الحديث في العام، كما يبدو، رغم تحديد معنى النظرية، ومعنى الممارسة، ثم ربط أهمية هذه وتلك في المراحل المختلفة. إننا نريد أن نعرف أهميتها في ظروف نشوء الحزب ، أي بداية العمل الثوري المنظم، حيث يكون الحزب ناشئاً، أو أن هناك من المناضلين الذين يعملون على إنشائه. فأية أهمية تكتسب هذه أو تلك في هذا الوضع؟.
لنلاحظ أولاً، أن هناك سمتين تبدوان واضحتين في الوطن العربي، السمة الأولى هي أن الاتجاه العام يسير نحو التراجع، حيث تسيطر البرجوازيات الكومبرادورية، وتحكم قبضتها، ويضعف دور الحركة السياسية. ثم إن الحالة الجماهيرية العامة، هي حالة الركود، رغم أن الجماهير في عدد من الدول العربية تنتفض بين فترة وأخرى، وهذه بداية نشاط جماهيري كبير، قد يتسع في السنوات القادمة. والسمة الثانية: أن الحزب المعبر عن مصالح ومطامح الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، وعن الطبقات الأكثر فقراً، غير موجود. وأن هناك قوى ومجموعات عديدة، تتكون، تطرح نفسها كمعبرة عن هذه الطبقة. وهي قوى مبعثرة وغير مبلورة التوجه الفكري السياسي بعد. لذلك فإن لمرحلة تأسيس حزب يعبر عن هذه الطبقة مهام محدودة، حيث يكون وعي المناضلين محدوداً، وبالتالي لا يكون التنظيم قد بلور تصوراً نظرياً شاملاً، ويكون ضعيف الروابط، غضاً في الممارسة، ومنعزلاً عن الطبقة ذاتها التي لن يكون حزباً جديراً بها إلا حينما ينغرس في بنيانها.
وهنا يتصاعد الاختلاف حول أهمية الوعي، وضرورة الممارسة، ويثور النقاش، البعض يؤكد على أهمية الوعي، فيتهمه البعض الآخر بأنه يمثل «ظاهرة مثقفين»، ويؤكد البعض الآخر على «العمل.... العمل» فيتهمه البعض بأنه تجريبي عفوي. فلمن الأولوية في مرحلة النشوء والتكوين إذن؟ لقد أسبقنا في الصفحات الماضية الوعي على «العمل»، وإن بتحفظ محدود، حيث لا تنظيم ثوري دون وعي ثوري، وحيث إن الممارسة تغني النظرية وتصوبها وحيث إن للظروف العينية دوراً في تحديد أولويات هذه «الوحدة الجدلية». وها نحن نعود إلى نفس الإشكالية.
لقد أثير هذا النقاش في روسيا في سنوات تأسيس حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، وحاول كل طرف أن يدعم وجهة نظره بتحليلات ونصوص، وأدلة. فاستشهد بعضهم بفقرة من ماركس، كتبها في كراس «نقد برنامج غوتا»(73)، تقول الفقرة «إن كل خطوة تخطوها الحركة العملية أهم من دزينة من البرامج»، فيعلق لينين على ذلك ساخراً «إن تكرار هذه الكلمات في مرحلة التفكك النظري، يشبه صراخ من يصرخ (إن شاء الله دايمة) عند رؤية جنازة»، ثم يؤكد أنه «لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية»، ليصل إلى النقطة الهامة، حيث «تزداد أهمية النظرية بالنسبة للاشتراكية ـ الديمقراطية الروسية لثلاثة أسباب، كثيراً ما ينسونها»، أولها، «إن حزبنا مايزال في دور التأسيس، ما يزال في دور تشكيل سيمائه، وهو ما يزال بعيداً عن أن يصفي اتجاهات الفكر الثوري الأخرى، التي تهدد بإخراج الحركة عن الطريق القويم». وثانيها، دراسة تجارب البلدان الأخرى والتمحيص فيها، والتحقق منها. وثالثها، المهام الوطنية للثورة الروسية(74).
إن لمرحلة التأسيس ظروفها، وتكون النقطة الهامة فيها هي الانتقال من العفوية إلى الوعي والتنظيم، في ظروف ضعف القوى الثورية وغياب أفكارها، وقوة الاتجاهات الأخرى، سواء المعبرة عن الايديولوجيا السائدة أو التي تحاول تجاوز ذلك، لكنها «تهدد باخراج الحركة عن الطريق القويم»، أو التي لا تستطيع تحقيق القدر الكافي من الوعي والتنظيم، فتكرس عفوية الجماهير، وبالتالي لا تؤدي إلى انتصار حركتها. ونحن نشهد فيضاً من الاتجاهات الفكرية، بعضها قوي وله جذور عميقة، وبعضها الآخر نامٍ وفاعل. وبذلك يكون خوض المعركة الايديولوجية ضرورة ماسة، ولكن لكي نخوض المعركة الايديولوجية ، من الضروري أن نؤسس خطنا الفكري، أن يكون لنا أيديولوجية. ولن يكون ممكناً إنجاز بناء تنظيمي صلب دون تأسيس هذا الخط وهذه الأيديولوجية، حيث التنظيم انعكاس للفكرة، وهو شكل التوسط بين النظرية والممارسة(75). شكل التوحد بين النظرية والنشاط العملي للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. إنه الوحدة بينهما، أو هو هما متحدين.
تفرض مرحلة التأسيس إذن، بلورة اتجاه فكري يعبر عن حركة المجتمع الصاعدة، حركة عماله وفلاحيه الفقراء. كما تفرض العمل على تأسيس الخلايا المتماسكة الصلبة، والقادة الأشداء، تشكيل النواة الفاعلة. مما يعني إيلاء القضية النظرية إهتماماً خاصاً. وهنا لا يكون التركيز على هذه القضية تعبيراً عن «اتجاه ثقافي»، أو«دعوة حزبية ضيقة»، بل تعبر عن حاجة موضوعية، تفرضها الظروف العينية. إنها العمل الأكثر أهمية في هذه المرحلة من أجل فتح آفاق مرحلة ثورية جديدة، فالمطلوب هو بلورة الدليل المرشد لحركة الجماهير العفوية. وهو ما لم يستطع أحد بلورته بعد، رغم الجهود الكبيرة التي بذلها ويبذلها مثقفون ثوريون كثر.
إن الخطوة الأولى تبدأ بالنظرية، الرؤية العلمية لواقعنا الراهن، لكي نكون قادرين على مواجهة القوة الأخطر، أي الايديولوجيا اللاهوتية السائدة، بمختلف تفرعاتها وألوانها، سواء الدينية ـ الطائفية، أو البرجوازية المثالية، أو الماركسية الجامدة.
وهذا يعني السعي لتأسيس رؤية علمية محددة، تنطلق من المنهج المادي الجدلي، ومن تحليل الظروف الواقعية في الوطن العربي، لتخرج بتصور نظري علمي، يصلح لأن يكون مرشد عمل. وإذا كان الواقع هو الذي يحدد النظرية، فإن «اكتشاف» النظرية ليس قضية آلية (ميكانيكية)، ولا تأتي من الممارسة ـ بمعنى العمل الجماهيري ـ ، بل تأتي من الدراسة والبحث، وفتح آفاق الحوار والنقاش، والصراع الايديولوجي.
إن أي تنظيم ناشىء من المفترض أن يعمل من أجل أن يبلور النظرية الثورية، وفي خضم ذلك تطوير وعي الأعضاء بما يؤهلهم، أو يؤهل فصيلة منهم، لأن يكونوا طليعة واعية، قادرة على اكتشاف الحركة التاريخية في المجتمع، والدفع بها إلى الأمام.
* * *
إننا لا نتحدث عن الوعي والممارسة (أو النظرية والممارسة) في اللامكان واللازمان، ولا ندرس قضية فلسفية من أجل الدراسة فقط. بل إننا نحاول أساساً أن نؤسس عملاً ثورياً في واقع محدد، كما في زمان محدد أيضاً، وفي هذا الوضع يكتسب عنصر الوعي أهمية محددة، ومعنى محدداً.
فإذا كان العمل الثوري يقوم على أساس اكتساب العلم من أجل دحض إيديولوجية وتأسيس أخرى. أي من أجل بلورة مرشد للعمل الثوري، وهزيمة إيديولوجيا تشكل «وعي» الجماهير في اللحظة الراهنة. وإذا كان العمل الثوري يقوم على أساس الاندماج بحركة الجماهير لإكسابها وعياً مطابقاً، وتنظيمها، وقيادتها من أجل الظفر بالسلطة السياسية، وإعادة تأسيس المجتمع على ضوء هذه الحقيقة، وفي مصلحة الطبقات الشعبية، فإن هذه العملية تخضع، ولاشك، للواقع المحدَّد أيضاً، ولا تخضع لأمزجة و«مركبات ذهنية»، لأن حركة الواقع متعرجة، حيث إن نشاط الجماهير متفاوت، متقلب، متذبذب، والظروف السياسية متغيرة. وفي هذا الوضع يختلف عمل الثوريين من مرحلة إلى أخرى، يكون التثقيف وإتقان العمل السري، وبناء الخلايا واللجان، مهمة أساسية في بعضها، كما يكون الإسهام الكامل في النضال الجماهيري (المظاهرات، الإضرابات، العمل المسلح) مهمة أساسية في بعضها الآخر.
كما تخضع هذه العملية لوضع التنظيم وظروفه، خصوصاً حين يكون في مرحلة التأسيس، حيث يكون تصوره النظري غير مكتمل، وربما مشوشاً. ويكون وعي أعضائه بسيطاً، وخبرتهم محدودة، وقدرتهم على العمل السري ليست ذي بال. ويفرض هذا الوضع التركيز على مهمات محددة، فحين يغيب التصور النظري، وتكون الايديولوجيا السائدة قوية، مؤثرة، وقادرة على أن تجعل وعي الجماهير مستلباً، تصبح المهمة الأولى لتنظيم يتأسس، هي التركيز على الوعي، من أجل تطوير قدرات الأعضاء (أو جزء منهم)، لكي يصبح ممكناً بلورة تصور نظري، ورؤية شاملة، تشكل ايديولوجيا جديدة، تعبر عن مصالح الجماهير الفقيرة، وتؤسس لديها وعياً جديداً، مطابقاً لمصالحها ومطامحها. ولكنها، من جهة أخرى، تكون قادرة على هزيمة الايديولوجيا السائدة، وهزيمة تأثيرها في أوساط الجماهير الفقيرة.
إن العمل الثوري، مادام يهدف إلى تنظيم حركة الجماهير وإعطائها وعياً ثورياً شمولياً يقطع «الحبل السري» الذي يربط «وعيها» بالايديولوجيا السائدة، هذه الحركة العفوية، التي غالباً ما تكون راكدة هامدة، لكنها تنفجر بين الحين والآخر بشكل عفوي، ولسبب قد يكون بسيطاً(*)، وبالتالي ما دامت هذه الحركة تعاني من العفوية والتخلف، وما دام العمل الثوري يهدف إلى التصدي للقوى الحاكمة بكل بنية سلطتها، فإن هذا العمل يحتاج إلى توفر مسألتين مترابطتين، أولاهما الوعي، أي اكتساب الوعي الثوري القادر على تأسيس نظرية ثورية جديدة، كما أسلفنا الحديث، وبذلك يكون الوعي أساس العمل الثوري إذا كان الهدف «عقلنة» الحركة العفوية، وتنظيمها، ولكن إذا كان الهدف أيضاً تأسيس مجتمع جديد، وثانيهما التنظيم السري القادر على العمل «غير الشرعي» ما دام الهدف تحقيق التغيير الجذري للوضع.
ولهذا فإن تأسيس عمل ثوري جديد يفرض إيلاء القضايا النظرية اهتماماً خاصاً، مادام أن المطلوب هو «عقلنة» الحركة الجماهيرية، وتنظيمها، لأنه من باب أولى أن يجري العمل على تأسيس ايديولوجية ثورية مادام التغيير لا يتحقق إلا من خلال اكتساب الجماهير وعياً مطابقاً. إن تأسيس الايديولوجيا المعبرة عن الحركة التقدمية للمجتمع تغدو المهمة الملحة، أو بشكل أدق، المهمة الأكثر إلحاحاً. إن المطلوب وضع أسس صحيحة لعمل ثوري كبير، وهذا يعني تحديد الاستراتيجية الثورية، وتكوين الثوريين القادرين على تحقيق هذه الاستراتيجية. والذي يجعل المشكلة ذات أبعاد معقدة هو إن العمل الثوري ينطلق دون تراث فكري كبير، ودون وعي كاف بالظروف العربية الراهنة. ولهذا يجد من الصعوبات الكثير. وهو إن لم يميز نفسه عن كل التيارات والاتجاهات القائمة، إن لم يستطع التحديد الدقيق لمبررات وجوده الايديولوجية والسياسية، التنظيمية والثورية، فلن يكتب له التطور والتقدم.
وأخيراً لا بد أن نؤكد أن النظرية تتأسس من دراسة الواقع، لكن انتصار الثورة لا يتم إلا بالعمل الثوري. ولذلك فإن مهماتنا الآن تتمثل في دراسة الواقع الذي نعيشه، ولكن أيضاً العمل من أجل انتصار الثورة. ولهذا فإن تكوين ثلة من الثوريين الأكفاء والواعين هو الطريق لتدعيم النشاط الثوري، وتطوير الحركة العفوية للجماهير، وبالتالي فتح آفاق الانتصار. كيف يتم ذلك؟ هذا ما يجب أن يدرس.
































ـ 3 ـ

النشاط العفوي وأهمية التنظيم



إن التأكيد على أن سمة النشاط العفوي هي السمة البارزة في النشاط الثوري في الوطن العربي يدعو إلى التأكيد على أهمية البحث في قضية التنظيم. وإذا كان إدخال الوعي الثوري عاملاً هاماً في تجاوز النشاط العفوي، والارتقاء به إلى مستوى العمل الثوري ذي الاستراتيجية الواضحة، والطبقة التي تعي مصالحها، فإن قضية التنظيم هي العامل الثاني المرادف، حيث إنه من الضروري أن يأخذ الوعي الثوري قنواته المنظمة، التي تسهم في خلق حالة ثورية تتسم بالوعي والتنظيم، تستطيع أن تعمق من أزمة الفئات الحاكمة، وتقود إلى انهيارها.
إن تأسيس تنظيم ثوري، سري، ومكافح، هي قضية هامة إلى الحد الذي يضعها في أولويات العمل الثوري. فلا ثورة دون تنظيم ثوري، كما لا تنظيم ثوري دون وعي ثوري.

إشكالية التنظيم الستاليني

كما تمت الإشارة سابقاً، فقد ظلت الأحزاب التي تأسست منذ عقود عاجزة عن أن تنظم نشاط الجماهير الثوري، وأن تجعله موحداً فاعلاً. وإذا كان المنهج المثالي سبب ذلك لدى الأحزاب القومية كلها، مادام التنظيم هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة(76)، فقد اجتمع عاملان لدى الأحزاب الشيوعية والقوى الماركسية الأخرى، أديا إلى النتيجة ذاتها، أي غياب التنظيم الثوري المكافح. العامل الأول هو سيادة المنهج المثالي لديها، رغم أنها تتبنى الماركسية، هذه النظرية العلمية الوحيدة، فقد كانت رؤيتها للماركسية رؤية مثالية من أساسها، حيث غاب عنصر الدراسة في تبني الماركسية، والدراسة سمة اكتساب كل علم. لقد تبنتها الفئات بسيطة الوعي (عمالية وفلاحية، وأساساً من البرجوازية الصغيرة) بشكل عفوي، بسبب أزمة مستفحلة داخلياً، وعلى ضوء تطور خارجي، لا بسبب التطور الداخلي، الذي كان يمكن أن يقود إلى أن تعي الفئات المثقفة الواعية، الماركسية، وأن تعتنقها كطريق وحيد للخلاص. وكان نجاح ثورة أكتوبر في روسيا، ثم النجاحات في الصين والفيتنام، هو هذا العمل الخارجي. لهذا ولدت «الماركسية العربية» مثالية منذ البدء، وغدت لاهوتاً يحفظ(77)، وليست منهجاً علمياً، ونظرية علمية، تنطلق من مقولة «التحليل الملموس للواقع الملموس»(78)، مما غيَّب الروح الانتقادية فيها، سوَّد أسلوب النقل عن الآخرين، وترداد الجمل التي تناقش زمان ومكان مختلفين، كما غابت الرؤية العلمية للواقع، وبالتالي تأسيس النظرية المطابقة له، والمعبِّرة عن حركة طبقاته الصاعدة.
لقد غدت الماركسية أقنوماً، وأصبحت مقياس الواقع، فأصبح الفكر هو محور الواقع وليس العكس. الفكر هو الذي يصيغ الواقع، وما على الواقع سوى أن يمتثل له، وهذا هو جوهر المثالية. وحين يسود «الجمود العقائدي» التنظيم تسود فيه ظواهر محددة. فالجمود العقائدي يجعل الحوار الفكري مرفوض مسبقاً، لأن هناك «مرجعاً» جاهزاً، ومقياساً ثابتاً. مما يجعل هناك «آباء»، أو «أئمة» في التنظيم، هم الأوصياء عليه وعلى تطوره، وبالتالي على كل العمل التنظيمي.
والعامل الثاني هو «النظرية التنظيمية» كما تبلورت في مرحلة ستالين. ولابَّد من التأكيد أنه بقدر ما كان «التنظيم الستاليني» استمراراً للتنظيم اللينيني بقدر ما وجدت الفروقات الواسعة بين «التنظيمين». ولسوء الحظ إن النقطة الفاصلة بينهما هي انتصار ثورة أكتوبر. ورغم أن لينين استمر يقود الحزب إلى أواخر عام 1923، إلا أن ملامح «التنظيم الستاليني» تبلورت في الفترة بين ثورة أكتوبر وموت لينين أوائل عام 1924. ويمكن القول إن الفرق بين «التنظيمين» هو ذات الفرق بين النظرة المثالية والنظرة المادية للواقع. فلينين المفكر الجدلي، والقادر على استيعاب تناقضات الواقع، وانعكاساتها داخل الحزب، كان قادراً على تقبل اختلاف الآراء، وبالتالي الانطلاق من القناعة العميقة بأهمية الحوار والمناقشة. كما كان قادراً على الثقة بالأعضاء، انطلاقاً من ثقته بالحركة التاريخية، وبحتمية انتصار الطبقة العاملة. لهذا كان الحوار أساس العمل، وكان الالتزام نتيجة الحوار والاقتناع، مما جعل الحزب «ورشة عمل»، لكنه أساساً «منتدى حوار»، اتسم بالحدة في الغالب. ولم يكن الحوار والنقاش «محاصراً»، ومقيَّداً بضوابط كبيرة، مما جعله حواراً على صفحات الصحف العلنية للحزب، وفي الكتب والكراريس التي توزع للجماهير.
أما التنظيم الستاليني فقد «تأسس» بعد سيطرة ستالين على السلطة، ثم على الحزب ، ومسكه بكل مكامن قوة الحزب والسلطة. وكانت قناعة ستالين أن هناك شعارات ناضل الحزب من أجل تحقيقها طيلة ما يقرب من عشرين سنة، وها هي الظروف سانحة لذلك بعد وصوله إلى السلطة، فلماذا السفسطة والحوار والحديث عن الطرق المختلفة؟ فالمطلوب الآن هو «مجموعة» تلتزم وتنفذ، تطيع الأوامر دون مناقشة، لأن الجيش الذي ينتصر هو الجيش الذي يسوده الانضباط الشديد. والحزب، حسب ستالين، «ليس جمعية للمناظرات، فروسيا محاطة بذئاب الامبريالية...»(79). ويؤكد «إن هناك لحظات يستحيل فيها تبني مثل هذه الديمقراطية، ويصبح ذلك ضرباً من السخف»، حيث «يجب أن يكون الحزب كتلة واحدة، حزباً من الفولاذ، حزباً متراصاً، متناغماً»(80). ولقد شرح سولتس أسباب النظام المشدد داخل الحزب فقال: «لقد كنا نعرف جيداً كيف نتحدث عن الديمقراطية في جيش كان لزاماً علينا أن نفرقه، ولكن عندما أصبحنا في حاجة إلى جيش خاص بنا، غرسنا فيه النظام المشدد الضروري لكل جيش»(81).
لهذا اعتمد «التنظيم الستاليني» على الاجبار، وإلزام الأعضاء برأي محدد، ومسلك معيَّن. وكان استلام السلطة وسيلة حاسمة في فرض رأي القيادة، حيث كانت تمسك بكل مكامن قوة السلطة، على الحزب كله. مما جعل قوى المجتمع المتخلفة، أي الفئات المتخلفة من الطبقات، وهي الفئات التي تعمل في أجهزة القمع عادة(*)، هي القادرة على سحق أية معارضة حزبية مهما كبرت(82). فأصبحت القيادة هي السلطة التي تحدد خط التنظيم، ومهام الأعضاء، وأعضاء اللجان والهيئات الفرعية والمركزية، مما جعل التنظيم يقف على رأسه، وليس على قدميه. من هنا برزت ظواهر مثل «عبادة الفرد» كما أسميت في الأدبيات السوفياتية بعد موت ستالين(83)، و«طاعون البيروقراطية»(84)، وغياب المبادرة لدى الأعضاء، وسلطة المكتب السياسي، والأمين العام.
لقد صيغ الخط التنظيمي الستاليني في السنوات اللاحقة لثورة أكتوبر من خلال بلورة رؤية جديدة لأهم المفاصل في الحياة الداخلية للتنظيم، مثل الهيكل التنظيمي، قضية الحوار والديمقراطية، الالتزام، وضع الأقلية. وهذه هي القضايا التي أعطت للتنظيم الستاليني سماته المحددة. ففيما يتعلق بالهيكل التنظيمي اتسم بسيطرة المكتب السياسي، وتحديداً الأمين العام. وإذا قارنَّا بين النظام الداخلي لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي المقَرّ في المؤتمر الثاني، والمعدّل في المؤتمر الثالث، وبين النظام الداخلي الجديد المقرّ في المؤتمر الثامن، نجد أن هناك فرقاً أساسياً. ولعل ظروف الانتقال من العمل السري إلى العمل العلني هي التي فرضت هذا التغيير. حيث نصَّت المادة الرابعة من النظام الداخلي المقر في المؤتمر الثاني على أن مؤتمر الحزب يقوم بتعيين اللجنة المركزية وهيئة تحرير الجريدة المركزية ومجلس الحزب، وأن مهمة اللجنة المركزية هي توجيه «جميع أوجه نشاط الحزب والتنسيق بينها، وهي التي تدير مالية الحزب، وكذلك جميع المنشآت الفنية التابعة له. وهي التي تتولى بحث النزاعات التي قد تنشب بين مختلف تنظيمات الحزب ووحداته، أو داخلها» (المادة الخامسة). و«تقوم هيئة تحرير الجريدة المركزية بتقديم التوجيه الايديولوجي للحزب عن طريق تحرير الجريدة المركزية للحزب والنشرات والكتيبات العلمية» (المادة السادسة). كما يتولى مجلس الحزب «تسوية النزاعات والخلافات التي قد تنشب بين هيئة تحرير النشرة المركزية، واللجنة المركزية حول القضايا العامة للتنظيم والتكتيك... ويعين مجلس الحزب لجنة مركزية جديدة في حال القبض على جميع أعضاء اللجنة القديمة» (المادة السابعة)(85).
وعدِّلت هذه الصيغة في عام 1906، بحيث أصبح «هناك جهاز مركزي واحد للحزب، أي أنه يتعيَّن على مؤتمر الحزب أن ينتخب لجنة مركزية واحدة، تقوم هي بتعيين هيئة تحرير الجريدة المركزية للحزب، إلخ»(86).
وما تتسم به هذه الصيغة هو أنها توجد هيئة مركزية تقود العمل كله، ينتخبها المؤتمر، تؤسس هي هيئة أخرى لمتابعة قضايا العمل الفكري، وتكون خاضعة لها. وهي صيغة «بسيطة» تناسب ظروف العمل السري، وتستطيع توحيد العمل كله، على أن تخضع لمحاسبة المؤتمر. ولقد عُمِل بهذه الصيغة منذ عام 1903(بعد انقسام المناشفة عن البلاشفة واستئثار المناشفة بمجلس الحزب، وهيئة تحرير النشرة، رغم أنها أقرت رسمياً في المؤتمر التوحيدي الذي عقد عام 1906)، إلى عام 1919، حيث جرى في المؤتمر الثامن للحزب تقديم نظام داخلي جديد، أنشىء بموجبه ثلاث هيئات قيادية جديدة، هي المكتب السياسي، والمكتب التنظيمي، وسكرتارية اللجنة المركزية. وحُددت مهمة المكتب السياسي باتخاذ «القرارات في المسائل التي لا تسمح بتأخير»، والمكتب التنظيمي بمتابعة «كل العمل التنظيمي للحزب»(87). وما لبثت السكرتاريا، التي كانت تعنى بتحضير جدول أعمال اجتماعات المكتب السياسي، وبتزويده بكل الوثائق اللازمة، أن استحوذت على مهام المكتب التنظيمي، حيث عهد إليها «بإدارة الشؤون الجارية ذات الطابع التنظيمي والتنفيذي»، ولم يترك للمكتب التنظيمي سوى «التوجيه العام للعمل التنظيمي»(88).
وفي المؤتمر الحادي عشر، المنعقد في عام 1922، تمَّ استحداث منصب الأمين العام، الذي أصبح معنياً بقيادة المكتب السياسي واللجنة المركزية، وبمتابعة أعمال السكرتاريا، وكل الهيئات المركزية الأخرى. وجرى تعيين ستالين أوَّل أمين عام. وهي اللحظة التي دفعت لينين إلى أن يعلن موقفه بوضوح، مبرزاً الفرق بين «التنظيم اللينيني» و«التنظيم الستاليني»، حيث أكد «أن الرفيق ستالين، الذي أصبح أميناً عاماً، قد حصر في يديه سلطة لا حدَّ لها»(89)، رغم أنه أسهم في إقرار كل الصيغ التي طرحت في المؤتمرات السابقة.
إذن، تبلورت في نهاية المطاف الصيغة التي يعتمدها الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وتلتزم بها معظم الأحزاب الشيوعية، والتي تقوم على أساس أن ينتخب المؤتمر اللجنة المركزية، التي تقود «كل نشاط الحزب والهيئات الحزبية المحلية...»، التي تقوم بدورها بانتخاب المكتب السياسي «من أجل قيادة عمل الحزب بين دورتين»(90)، كما تنتخب الأمين العام، وسكرتاريا اللجنة المركزية. ولقد أظهرت التجربة أن اللجان التي تنتخبها اللجنة المركزية «سرعان ما تقاسمت اختصاصاتها، واغتصبت كل السلطة، باستثناء مظاهرها الخارجية»، وسرعان ما صار المكتب السياسي هو "المصدر الرئيسي لقرارات السياسة الكبرى»(91). وصار الأمين العام هو مصدر قرارات المكتب السياسي. فتمركزت سلطة اتخاذ القرار في أقلية ضئيلة لم تنتخب من المؤتمر مباشرة ولا تحاسب أمامه.
وهذه إشكالية هامة ارتبطت بتحكُّم هذه الأقلية بمصير التنظيم، وببنائه وفق أهوائها، من خلال قنوات عدة، منها سيادة نظام التعيين في مختلف الهيئات واللجان، أو استخدام هيبة القيادة وجبروتها في انتخاب أعضاء هذه الهيئات واللجان، وكذلك أعضاء المؤتمر، مما كان يجعل المؤتمرات صيغة غير ذات معنى، الهدف منها «إقرار» ما تود القيادة إقراره.
وساعد على ذلك افتقاد هذه الأحزاب لـ«الروح»، حيث تحوَّلت إلى «جثة ميتة»، بعدما تحوَّلت النظرية إلى «جثة ميتة»، على ضوء سيادة منطق الجمود العقائدي، وترداد الشعارات، و«المنهج التدريسي». فقد غاب الحوار والنقاش فيها، وأصبحت مهمات الأعضاء تتقوَّم في مهمة مركزية وحيدة، وهي «الالتزام والانضباط»، أي الخضوع لقرارات وتوجيهات الهيئة القيادية، لأن الحزب ليس «جمعية مناظرات»، حسب تعبير ستالين.
لقد حاول الحزب أن يلملم صفوفه بعد صراعات تفاقمت بعد ثورة أكتوبر، حول طبيعة الحكم الجديد، دور الحزب في السلطة، دور النقابات، كيفية التعامل مع جهاز الدولة، الخطة الاقتصادية الجديدة، الثورة العالمية، ودور النظام السوفيتي الجديد ..ألخ. ووصلت هذه الصراعات إلى حد تأسيس «أحزاب» داخل الحزب، حيث أصبح لكل تكتل برنامجه، وقيادته، وعلاقاته، مما هدَّد بتقويض وضع الحزب، والوصول إلى الانشقاق، فأصدر المؤتمر التاسع للحزب قراراً يمنع «أي أعمال تكتلية»، ويحل جميع المجموعات التي تشكلت على أساس تكتلي، ويقرر طرد كل من لا يلتزم بذلك(92)، كما أكد القرار على ابقاء باب الحوار والنقاش مفتوحاً. وهذه قضية مبررة في حزب يواجه الأعداء من كل حدب وصوب، خصوصاً أنه مازال حديث العهد بالحكم، ولأن الديمقراطية في الحزب لا تستدعي «تشكيل مجموعات لكل منها منبرها الخاص»، مع سعيها لأن تنعزل « وأن يكون لها انضباطها الخاص داخل مجموعتها»(93). أما ستالين فقد أولى هذه القضية اهتماماً كبيراً إلى الحد الذي جعلها سمة أساسية من سمات الحزب. فالحزب «هو وحدة في الإرادة لا تقبل وجود التكتلات الانقسامية»(94). ولن يظهر الغرض من هذا الاهتمام إلا عام 1927، حيث أقرَّ المؤتمر المنعقد في ديسمبر من ذلك العام، قاعدة تنص على أن الأقلية التي هزمت في المؤتمر عليها ليس فقط العدول عن الدفاع عن آرائها علنياً حتى الحقبة اللاحقة من النقاش، ولكن عليها العدول عن أفكارها، والارتداد عنها بوصفها خاطئة(95)، وأعلن المؤتمر «أن الانتماء إلى المعارضة والدعاية لوجهات نظرها، لا يتفقا وعضوية الحزب»(96).
ثم حدد المؤتمر السابع عشر للحزب، المنعقد عام 1934 مفهوماً للمركزية الديمقراطية (وهو التعبير الذي بات يستخدم منذ سنة 1906 دون أن يحول إلى قانون) يقوم على أربعة أسس هي التالية:
أ) تطبيق المبدأ الانتخابي على جميع الأجهزة الرئيسية للحزب من أعلاها إلى أدناها.
ب) المسؤولية الدورية لأجهزة الحزب تجاه التنظيمات الحزبية المقابلة لها.
جـ) النظام الحزبي المشدد وخضوع الأقلية للأكثرية.
د) الالتزام الكامل المطلق بقرارات الأجهزة العليا من جانب الأجهزة التي هي أدنى ومن جانب جميع الأعضاء(97).
وهكذا أصبحت المركزية الديمقراطية تعني السلطة، وتعني الخضوع للهيئة القيادية، والالتزام بكل ما تصدر. أما الحوار والنقاش والانتقاد، فتخضع للمركزية المشددة، مما كان يؤدي إلى غياب الثقة في داخل الحزب، هذه القضية التي كان لينين يعتبرها البديل الجوهري للديمقراطية الواسعة(98). كما غاب النقد الذي أصر لينين وهو يقرر إلغاء الكتل على أن الحياة الحزبية تحتاج إليه بشكل مطلق(99). وفي هذه الأجواء تصبح الانتخابات قضية شكلية، تقرر نتائجها الهيئات الأعلى دائماً.
وفي هذه الأجواء يصبح العضو «شيئاً»، ولا يعود فرداً له دوره. ويصبح الحزب، ليس مجموع أعضائه، بل «قائد ومنفذين». فـ«الحزب دائماً على حق»، أما الحزب لكل الأعضاء فهذا أمر نسبي، بينما الحزب للحزب فهو الجانب المطلق(100).
بذلك تبلورت سمات محددة للتنظيم الستاليني أبعدته عن الصيغة اللينينية، وكان الوصول إلى السلطة هو العامل الذي حقق هذا الانفصام. إن جوهر الخلل في صيغة «التنظيم الستاليني» تكمن في القضايا التالية:
1) أنها كرست سلطة الهيئة القيادية الأعلى وخصوصاً سلطة الأمين العام.
2) أنها، وانطلاقاً من الجمود على الصعيد النظري، كرَّست صيغة قمعية، منافية للحوار والنقاش والنقد.
3) أنها كرَّست خطاً أحادياً لدور الأعضاء، يتمثل في أن يكونوا منفذين فقط، من واجبهم الالتزام بقرارات الحزب، لأنه دائماً على حق، ودون أن يكون لهم حق المشاركة في صياغتها.
4) وهي صيغة لا تستوعب العمل السري، خصوصاً بالنسبة للقوى التي تعمل في ظروف سرية، لأن «الهيكل الستاليني» هيكل علني، وُجد لكي يناسب ظروف روسيا بعد ثورة أكتوبر، وفي ظل النشاط العلني.
ولقد أصبح نمط العلاقات في الحزب هو نمط العلاقات البيروقراطية السائدة في أجهزة الدولة، حيث تتلقى «أوامرها» من مصدر أعلى، لتقوم هي بالتنفيذ، دون حق في الاعتراض، وأساساً دون سيادة روح الثقة، والعلاقات الرفاقية الديمقراطية، التي تسمح بالتفاعل والحوار والانتقاد. وتصبح المركزية الديمقراطية سلطة بيروقراطية تسيِّرها «نظرية الإمامة»، أو نظرية الحاكم المطلق، حيث يستمد حاكم شرعية وجوده من تمثيله لسلطة غيبية، هي سلطة الله. فيكون هناك «الله» جديد، ويتحوَّل الأعضاء إلى «رعايا» تتحكَّم فيهم القناعة الدينية القائمة على أساس أن الإنسان (العضو) معرَّض للخطيئة دائماً، أما الله (القيادة) فبعيد عن الخطيئة. وفي هذا الوضع ينتفي حق الحوار والانتقاد لأن الأعضاء من طينة أدنى من طينة القيادة.
من هنا كان من الضروري التأكيد على أهمية إعادة النظر في صيغة «التنظيم الستاليني»، سواء من حيث طبيعة الهيكل، أو قضايا الحوار والنقاش، والانتقاد ووضع الأقلية. أي باختصار الانتقال من صيغة التنظيم الذي كان نتاج علاقات الاستغلال الطبقي منذ عهد الرق إلى الرأسمالية، حيث كانت الطبقة المستغِلة تبني صيغة التنظيم الذي يسهل عملية الاستغلال ويكرسها. والذي أُعطي الشرعية من خلال نظريات مختلفة أهمها النظرية الدينية للسلطةن والتي حاولت الماركسية تجاوزها من خلال مجمل الأفكار والممارسات لكل من ماركس ـ انجلز، ولينين على وجه الخصوص، إلا أنها عادت تخترق الماركسية من خلال العودة إلى «بعض عناصر التقاليد البيزنطية المتأصلة في روسيا، وبعض عناصر أسلوب الروم الأرثوذكس»(101).الانتقال من صيغة كهذه إلى صيغة التنظيم الثوري الذي يمتلك روحاً ديمقراطية حقة، حتى وهو «يخضع» لسلطة مركزية، لأن استمرار هذه الصيغة في الاتحاد السوفياتي نابع من قوة السلطة، ومن رسوخ التقاليد الحزبية التي تشكلت في زمن ستالين، وليس نابعاً من صحتها. ولقد أظهرت الانقسامات المتزايدة في الأحزاب الشيوعية العربية، والتي وصلت إلى حد التفتت، عقم هذه الصيغة، وعدم قدرتها على استيعاب الوضع الراهن، وظروف النشاط الجماهيري، واتجاهات القوى الطليعية.
إن تأسيس حزب جديد يفترض تحديد تصور نظري للمعضلة التنظيمية، كما يفترض تحديد خط تنظيمي جديد يتوافق والظروف التي يعيشها الوطن العربي، كما يتوافق ووضع الطليعة الثورية.

إشكالية الواقع

إذن ما هو التصور التنظيمي الذي يمكنه أن يلائم الوضع الراهن في الوطن العربي؟
هناك مؤشران هامان في هذا المجال، من الضروري دراستهما، وتحديد إطار العمل المناسب لهما.
أولهما الظروف الراهنة، وهي تتمثل في إشكالين أساسيين لهما انعكاسهما على بينة التنظيم، وعلى طبيعة الحياة الداخلية فيه. فهناك الوضع الطبقي الذي من الهام دراسته بدقة وشمول، حيث إن ضعف الطبقة العاملة، وطبيعة الثورة كونها ثورة قومية ديمقراطية، يفرض التحالف مع الفلاحين الفقراء. وكون الريف قد انهار لمصلحة اتساع البرجوازية الصغيرة في المدن، يفرض أيضاً التحالف مع البرجوازية الصغيرة. هذا التحالف هو الذي يشكِّل القاعدة الأساسية للحزب الثوري المكافح، وإلا عجز عن الارتباط بحركة المجتمع الصاعدة، وظلَّ معزولاً، غير قادر على الفعل. وهذه الإشكالية تفرض نفسها على الحزب، مما يفرض فيه التركيز على الوعي، لصهر هذه الفئات في بوتقة واحدة متماسكة، قادرة على أن تكون طليعة واعية مكافحة.
هناك أيضاً قضية التجزئة السياسية، و«الدول» الواحدة والعشرين الموجودة في إطار الوطن العربي، خصوصاً أنها ارتبطت بتفاوت مستويات التطور الاقتصادي الاجتماعي، الذي يؤدي إلى وجود تمايز محدود في المهمات التكتيكية. إن وجود التجزئة السياسية والتفاوت الاقتصادي الاجتماعي معاً يفرضان مسألتين متناقضتين، المركزية الشديدة، لكي يكون ممكناً قيادة العمل الثوري في كل الوطن العربي، وتوحيد النضالات الجماهيرية، في مواجهة الحلقات الرئيسية، وضد الأعداء الأساسيين، ويفرضان أيضاً الديمقراطية الواسعة، بسبب تنوع الظروف، والإشكالات التي توجدها التجزئة، مثل تمايز المهمات التكتيكية، صعوبة الاتصال والتنقل و... إلخ.
كيف يمكن التوحيد بين المركزية الشديدة، والديمقراطية الواسعة؟ ما هي الصيغة التنظيمية المناسبة لذلك؟ ما هي طبيعة المركز القيادي؟ ما هي طبيعة الهيكل؟ ما هي طبيعة القوانين التي تنظم العلاقات الداخلية؟
وثانيهما وضع الفئات الأكثر وعياً، التي خاضت تجربة العمل في إطار الأحزاب القائمة، أو التي تعرفت على تجربة هذه الأحزاب من خلال الدراسة والاضطلاع، حيث عاشت إشكالية «التنظيم الشمولي»، و«الحكم العسكري»، داخل هذه الأحزاب، فيتحول العضو إلى آلة، ويفقد انسانيته، ويتخلى عن قيمته المعنوية، وهذا ما تم شرحه في الفقرة السابقة. إن غياب الديمقراطية، وسيطرة الهيئة القيادية، وإلزام الأعضاء بالتنفيذ فقط، أدى إلى حدوث ردة فعل طبيعية ترفض النظام الشمولي، وتتطلع نحو الديمقراطية. ولقد قادت تجربة الأحزاب عندنا إلى أن تتبنى بعض الفئات "الهاربة" من جحيم النظام الشمولي موقفاً ليبرالياً صرفاً، يقوم على أساس تغييب المنطلق الايديولوجي للحزب، والانطلاق من ضرورة الجمع بين تيارات مختلفة في حزب واحد(103) (التيار الماركسي، القومي، الليبرالي، الإسلامي المتنور)، بهدف إسقاط وحدانية الفكرة التي كانت سائدة لدى الأحزاب السابقة. وهذا الموقف ضار، في جوهره، لأنه يلغي أهم قضية في الماركسية، أي قضية (النظام المعرفي)، لمصلحة اختلاط ايديولوجي غير واضح المعالم، وإن كانت نتيجته سيادة منهج مثالي غيبي، وبالتالي تسلط تيار معين، وتحكمه بالعمل التنظيمي. فالمشكلة ليست في تبني تيار ايديولوجي معيَّن، بل في سيادة المنطق الغيبي داخل هذا التيار، ومن ثمَّ تأسيس الإطار التنظيمي الذي يساعد على إعادة إنتاج هذا المنطق، وعلى نموه.
في المقابل، برزت الحاجة إلى حزب لا يلغي «كيان» أعضائه، ولا يحوِّلهم إلى شيء، كما فعلت الرأسمالية في الطبقة العاملة(104)، بل يحافظ على هذا الكيان ضمن الكيان الشامل، الذي هو الحزب. لقد برزت الحاجة للديمقراطية، للنقد والحوار، والصراع الفكري والسياسي، لتأكيد الحقيقة الأساسية، وهي أن الاختيار الحر في الانتماء لحزب يفرض الاقتناع بما يُطرح، والقناعة بأن اختلاف الآراء أمر طبيعي، وأن الوحدة الفكرية والسياسية لن تقوم إلا على ضوء حوار عميق يؤدي إلى الخروج باتفاق عام، أو باختلاف يُحسم ديمقراطياً. لهذا يبرز سؤال بحاجة للإجابة، وهو هل هناك إمكانية للحفاظ على التنوع في الوحدة؟ هذه هي الإشكالية التي تنتظر الإجابة.
وحين نسعى لأن تشكل الفئات الأكثر وعياً أساس حزب جديد، لايسعنا إلا أن نأخذ هذه القضية بعين الاعتبار ـ رغم أنها قضية مبدئية في الأساس ـ. فإذا كانت الفئات الفلاحية بسيطة الوعي، وغير البعيدة عن النظام العشائري الأبوي، لا تعرف الديمقراطية، ولا تشعر بها، وبالتالي تقبل سلطة القيادة بديل سلطة الأب، أو بديل سلطة زعيم القبيلة، وتقبل «الالتزام والانضباط» (الذي يعني الخضوع)، ولا تعرف حقوقها، فإن الفئات المتنورة التي عاشت تجارب «الأنظمة الشمولية»، وشعرت بذوبان كيانها في خضم هذا الأقنوم الذي أطلق عليه اسم الحزب، لا تقبل كل ذلك، وهي تسعى لأن تؤسس حزباً ديمراطياً، يعتمد العمل الجماعي، ويمتلك روح التعاون والحوار والنقاش، والروح الانتقادية.
هذان المؤشران يطرحان أكثر من قضية هامة تتعلق ببنية التنظيم الأساسية، منها دور الهيئات ودور الأفراد. دور الهيئة القيادية، ودور الهيئات واللجان القاعدية. الشكل التنظيمي القاعدي، وطبيعة الهيكل الذي يراعي إشكالات الاختلاط الطبقي والتجزئة السياسية، ويحقق المركزية الضرورية لتنظيم يعمل في ظروف معقدة، كما يحقق الديمقراطية القادرة على أن توجد الحيوية الضرورية في الحزب لكي يكون طليعة النضال في مجال الفكر، وفي مجال العمل.
ولن نجيب هنا بأن صيغة المركزية الديمقراطية تفي بالغرض، لأن كل الأحزاب تضعها في صدر أنظمتها الداخلية، رغم أنها ليست أحزاباً ديمقراطية كما أثبتت التجربة. إن صيغة المركزية الديمقراطية ليست "نصوص جاهزة" قادرة على «فك ألغاز» كل الظروف وكل الأوضاع، خصوصاً أنها ارتبطت بصيغة «التنظيم الستاليني" أكثر من ارتباطها بالتنظيم اللينيني، رغم أن لينين هو الذي طالب بأن تصبح مبدأ من مبادىء الحزب منذ عام 1906، على الرغم من أنه لم يعطها «التحديد» الذي أعطاه ستالين(105). لكنه كان يعني بها مجمل الحياة التنظيمية، القائمة على الانتظام وقبول الأقلية بقرار الأغلبية، وخضوع كل التنظيم لقيادته، إضافة إلى «روح» الحياة الداخلية، التي ألغيت فيما بعد، والمتمثلة في التالي:
1) أهمية المؤتمرات، واعتبارها قاعدة العمل التنظيمي وأساسه، لأنها المقررة لكل سياسات التنظيم.
2) الحوار الواسع، والنقاش الفكري والسياسي، الذي لا يقف عند حد، داخل الحزب، في مؤتمره وهيئاته ولجانه، وخلاياه. وخارجه في مجلات الحزب، ومن خلال الكراريس والكتب(106).
3) الانضباط الصارم والمركزية المطلقة(107)، وتأمين تبعية الهيئات الدنيا في الحزب للهيئات العليا(108).
4) إن دور القيادة يتأتى من ثقة الأعضاء فيها، ومن اقتناعهم بدورها ونشاطها، ونتيجة الميزات التي تتميز بها.
لذلك فإن غياب هذه الأسس، أو غياب بعضها، أعطى سمات محددة للمركزية الديمقراطية، حدا بالبعض لإعطائها اسماً آخر غير المركزية الديمقراطية، وأعني «المركزية البيروقراطية»، هذه الصيغة التي حافظت على الشكل وأبدلت الروح، من روح ديمقراطية ثورية، إلى روح بيروقراطية محافظة.

العمل السري

غالباً ما يثار موضوع أشكال العمل الثوري في مجال التنظيم، وخصوصاً في المراحل الأولى من نشاط الحزب، ولقد أصبح واضحاً أن أسلوب العمل العلني هو السائد، رغم أن هناك اتجاهات ما زالت تتمسك بأسلوب العمل السري كأسلوب وحيد. بينما يقتضي العمل الثوري الأسلوبين معاً، لأن الحزب ليس «عصابة» تقوم بعملها في الخفاء وتحقق أهدافها دون حاجة للجماهير، بل إنه «عصبة» سرية، لكنها تقيم صلات مختلفة مع العمال والفلاحين، ومع البرجوازية الصغيرة المدينية، لأن مهمة الحزب الأساسية هي «تطوير» وعي الجماهير، وإكسابها وعياً مطابقاً لمصالحها، ولأن مهمته أيضاً، تنظيم نضالاتها، وتطوير صراعها مع الفئات الحاكمة المستغِلة، وقيادتها نحو النصر. وبذلك فالحزب «عصبة» تندمج بالجماهير، تلتحم فيها، لتصبح طليعتها المكافحة، «دينامو» العملية الثورية، القائد والمربِّي، المنظِّم، ومحدِّد الاستراتيجية والتكتيك.
لذلك فالحزب يجب أن يمارس العمل السرِّي، وكذلك العمل العلني. فهو حياة داخلية (حزبية) مغلقة من جهة، لكنه من جهة أخرى علاقات مع الناس، مع العمال والفلاحين. إنه تنظيم تآمري لفئة محددة من الثوريين المحترفين، لكنه أيضاً يسعى لأن يقود الجماهير، أن يعبِّر عن مواقفها، أن يطرح قضاياها، وأن يلتحم بها. إنه يخطِّط، يقرِّر، يحيك المؤامرات، يخوض العمل «غير الشرعي»، الخارج على القانون ـ حسب لغة النظام الحقوقي السائدـ، يحارب المفاهيم السائدة نظرياً، يهيء القوى لتهديم بُنى ومؤسسات. لكنه لا يستطيع تحقيق ذلك إلا من خلال الجماهير، ومن خلال الارتباط بحركتها العفوية. مما يفرض أن تكون هناك علاقة بين هذه الفئة السرية المحترفة، وبين الجماهير العفوية البسيطة. كيف؟ هذا يفرض الحديث عن العلاقة بين العمل السرِّي والعمل العلني(*)، وعن الصيغة التي تحدد أشكال العمل في كل مرحلة.
فما هي سمات المرحلة الراهنة؟
إنها باختصار، هيمنة القوى الإمبريالية والرأسمالية التابعة في الوطن العربي، حيث تفرض الامبريالية الأميركية هيمنتها العامة، وتقوم الفئات الكومبرادورية المرتبطة بها بدور قوة القمع التي تحاول «تدجين» القوى السياسية، وتحويلها إلى قوى إصلاحية، أو تابعة، من جهة، وسحق النشاط الجماهيري والقوى الثورية من جهة أخرى. ولتحقيق هذا الغرض، عملت هذه الأنظمة، وبدعم امبريالي، على تأسيس أجهزة قمع كبيرة، ومتطور، ورصدت لها الميزانيات الكبيرة، وبذلت جهوداً مهمة في تدريبها، وتوجيه عملها في الاتجاه الذي يسمح لها أن تكون فاعلة ضد النشاط الثوري.
من هنا تنطلق رؤية أهمية العمل السرِّي، فالحزب يمارس العمل «غير الشرعي»، أي العمل المناهض للفئات الحاكمة والقوى المسيطرة، لأنه يحاول التعبير عن مصلحة الفئات المستغََلة المضطهَدة، ضد الفئات المستغِلة ـ الحاكمة، في وضع يدعو إلى تحقيق التغيير الجذري. ويهدف هذا العمل إلى هزيمة الفئات المستغِلة ـ الحاكمة وإحداث تغيير جذري في المجتمع، يسقط طبقات ويهزم قوى، ويأتي بطبقات أخرى. إن الحزب يسعى إلى تهديم الايديولوجيا السائدة لكي يفتح آفاق تطور وعي الجماهير، كما أنه يسعى إلى دعم كل الأعمال الثورية التي تقوم بها الجماهير، من الاحتجاج، إلى الإضراب والمظاهرة، إلى الانتفاضة الثورية والعمل المسلح، بل إن دوره هو تعميق هذه الأعمال، بتحويل الاضراب إلى عصيان، والمظاهرة السلمية إلى مظاهرة عنيفة، والانتفاضة الاحتجاجية إلى انتفاضة مسلحة، والعمل المسلَّح إلى حرب شعبية. وهو بذلك «يلقي» بنفسه خارج إطار المفاهيم الحقوقية التي كرَّستها الفئات المستغِلة ـ الحاكمة، ومنها مثلاً تحريم الاضرابات، أو المظاهرات، أو تجريم العمل المسلَّح، وهي الأساليب الضرورية لأي انتصار ثوري، والتي لا انتصار بدونها. والحزب بذلك يقع تحت طائلة «العقاب القانوني»، فتلجأ هذه الفئات المستغِلة ـ الحاكمة إلى اعتقال «مثيري الشغب»، و«المحرضين على الإضرابات»، و«الداعين إلى سقوط الأنظمة»، وتحاكمهم «فتقتصَّ» منهم، ويتخذ القانون مجراه!!
ولما كان للفئات المستغِلة ـ الحاكمة أجهزة كبيرة، وقوى تنفذ أوامرها، ولأن الأجهزة تتغلغل في النقابات، والمصانع، والمدارس، والأحياء الشعبية والدوائر المختلفة...إلخ، كان من الضروري إتباع أساليب العمل السرِّي، حيث تبرز الحاجة الماسة لأن يحذر المناضلون تحركات هذه الأجهزة، لأنها تعتبر أن ملاحقة العمل الثوري مهمتها المركزية. إن العمل الثوري يجري في مواقع ترصدها الأجهزة القمعية، وتراقب كل نشاط فيها، لتتدخل في اللحظة التي ترى أن تدخلها ضروري. إن مهمة «الجواسيس» هي الاندساس بين صفوف الجماهير، بهدف كشف نشاط القوى الثورية. لهذا يجب ملاحظة أن في علاقة الحزب بالجماهير «طرف ثالث» يجب الحذر منه، ويجب إتباع كل أساليب العمل السري التي تجعل كشف التنظيم من قبل الجواسيس مهمة صعبة.
إذن، ما هي طبيعة العلاقة التي دعونا إليها منذ البدء، بين التنظيم والجماهير؟
إن المهام المتعددة الأشكال التي يسعى التنظيم لتحقيقها تفرض تنوعاً في الأساليب، أساليب العمل السرّي، ونصف السرّي، والعلني. لكن ولكي تحقق هذه الأساليب الأغراض التي وضعت من أجلها كان من الضروري أن تمارس بالشكل الذي يجعلها تخدم العمل الثوري، ولا يقود بعضها للإضرار بالبعض الآخر. ولهذا يمكن التأكيد على التالي:
أولاً: ليس كل الرفاق معنيين بالعمل العلني، لأن التنظيم السري يحافظ على معظم خلاياه سرية، ولا يسمح بإنكشافها، ولأن المهام الثورية لا تفرض على كل الخلايا القيام بالعمل العلني، بل تحتم على جزء كبير من التنظيم ممارسة المهام التنظيمية السرية. إن اللجان القيادية سرية، ويجب أن تبقى سرية، لأنها المعنية بمتابعة العمل كله، ولأن انكشافها يقود إلى تحطيم رأس التنظيم، مركز التنظيم، مواقعه الحساسة، مما يؤدي إلى تشتته وانهياره. ثم إن خلايا الاستقطاب سرية أيضاً، لأن اللبنات الأساسية يجب أن تكون سرية. لكن على التنظيم أن يفرز أعضاء، أو خلايا، مهمتها العمل الدعاوي التحريضي، وتكون عادة علنية أو شبه علنية، وأيضاً أعضاء أو خلايا للعمل النقابي والجماهيري، وهي علنية أو شبه علنية كذلك، شرط أن يكون ارتباطها بالتنظيم حساساً، فهي مفصولة عن الهيكل، في المناطق أو الأحياء، لكنها موصولة بشكل دقيق من خلل عضو قيادي، أو صلة وصل جيدة، لأنهم معرضون للاعتقال دائماً، كما أنهم معرضون للمراقبة. لهذا فإن اتصالها بالتنظيم يجب أن يخضع لدراسة أمينة دقيقة.
إن الحديث عن العلاقة مع الجماهير لا يفرض علنية كل الأعضاء، بل عدد محدود يستطيع إيصال رأي التنظيم، وممارسة العمل العلني، أما باقي التنظيم فسري، ويخضع لكل شروط العمل السري.
ثانياً: إن العمل الدعاوي علني بالضرورة، لأن هدف التنظيم الأساسي هو تطوير وعي الجماهير، وإقناعها بأهداف التنظيم، وتعريفها بالظروف العامة التي تعيشها. لهذا من الضروري أن تصل آراء ومواقف التنظيم للجماهير. وهذا لا يستلزم كشف الأعضاء ـ سوى نفر ضئيل فقط ـ، ويعتمد على العمل السري في أغلب الأحيان، لأن توزيع النشرة يجب أن يكون سرياً، رغم الحاجة لأن يشمل قطاعات واسعة من الجماهير. وإيصال الشعارات للجماهير يعتمد البيان أو المنشور الذي يوزع بشكل سري أيضاً. وكذلك توزيع الكراريس والكتب و... إلخ. لذلك فإن الأفكار والشعارات التي تتبلور داخل الأطر السرية تستلزم تقنية عمل سري متطور لكي يتم إيصالها للجماهير، خصوصاً في مراحل العمل الثوري الأولى، وفي ظل انكفاء الحركة الجماهيرية، وقوة القوى المعادية. وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من «العمل الشرعي»، أي الجرائد والمجلات الرسمية، دور النشر العلنية، المسارح والنوادي الثقافية، إضافة للخلايا المختصة بالعمل الدعاوي، التي تعمل بشكل شبه علني.
ثالثاً: إن الممارسة التنظيمية بين الجماهير التي يمارسها معظم الأعضاء، لا تفترض العمل العلني بالضرورة، بل تفترض أشكالاً من العمل تجعل الاتصال بالجماهير ممكناً، دون كشف التنظيم، أو حتى العضو الممارس. إن العمل السري لا يعني انعزال الأعضاء في خلايا معزولة، ولا في غرف مغلقة، لأن الممارسة لا تعني العمل العلني فقط، بل تعني العمل السري أيضاً. إن العلاقات مع الناس تسمح لعضو التنظيم التأثير فيهم دون أن يكون مضطراً لإعلان انتمائه، ولا تفرض عليه الحديث المباشر بأفكار ومفاهيم التنظيم، بل عليه أن يوصل أفكار وشعارات التنظيم، رويداً رويداً، وعلى مراحل. لكن يمكن للعضو أن يمارس بصفته عضواً في المجتمع، وبالتالي أن يخوض في الممارسة ضمن الحدود الشرعية، أو ضمن حدود لا تعتبرها الفئات الحاكمة خطراً كبيراً، وبالتالي فعقوبتها محدودة. ومنها:
1) العمل النقابي، والشعبي والمطلبي. إن هذا العمل وسيلة اتصال هامة بالجماهير، وهي وسيلة متاحة في أغلب الأحيان، لأن نضالات الجماهير تفرض أشكالاً من العمل النقابي والشعبي والمطلبي، تكون الفئات الحاكمة مضطرة لقبولها، خصوصاً وأنها تسعى لتعزيز الاتجاه الإصلاحي في صفوف الجماهير. لذلك من الضروري أن يشارك الأعضاء في ذلك، مع الحذر الشديد، والحرص على عدم كشف انتمائهم التنظيمي بأي شكل من الأشكال، ولأي سبب كان، إلى حين يرى الحزب ضرورة ذلك.
2) العمل الثقافي والاجتماعي والرياضي، وهي قضايا مسموح بها، ولا يطالها القانون.
3) المشاركة بالمظاهرات، والإضرابات مع جموع الجماهير، لأن ذلك يجعل العقوبات عامة في حال حدوثها، ولا تشير المشاركة فيها إلى انتماء تنظيمي بسبب مشاركة قطاعات مختلفة فيها.
4) وقد يتم العمل في المجال السياسي، وفق أحداث إصلاحية فقط، ويكون ذلك مدخلاً لتطوير وعي قطاعات من الجماهير ودفعها للعمل الثوري.
إن المشاركة في كل هذه الأعمال مسألة ضرورية، وهي جزء من العمل الثوري، كما أنها تسمح بالحفاظ على سرية الأعضاء، رغم الدور الكبير الذي يمكنهم القيام به في تطوير وعي الجماهير، وفي تنظيمها، وتطوير نشاطها. إن العمل لا يقتضي العلنية فقط، بل يقتضي السرية في أحياة كثيرة، والعمل السري ليس العمل التنظيمي فقط، بل وأشكال عديدة من العمل الجماهيري.
رابعاً: لكن العمل الثوري يخضع للظروف الموضوعية ولا يمكن أن ينمو خارجها. وضمن ذلك تخضع أساليب العمل العلنية والسرية للظروف المحددة، أي وضع التنظيم من جهة(أي كونه ناشئاً أو قوياً متراصاً، قليل العدد أو واسع الانتشار، لديه تجربة واسعة أو قليل التجربة)، وبالجماهير من جهة أخرى (أي هل تمر بحالة إحباط وتراجع، أم تعيش حالة نهوض ثوري؟ وهل ظروف القمع شديدة أم هناك انفراجات؟). فمرحلة النهوض الثوري تقتضي فعلاً عملاً علنياً واسعاً ـ دون تناسي إمكانيات الانتكاس، وبالتالي إمكانية انكشاف التنظيم ، وهذا يفرض التمسك بالعمل السري ـ. أما في مرحلة استقرار الوضع وتوفر ظروف عمل علني ـ إصدار صحيفة، مشاركة في انتخابات ـ فإن التوجه العلني ضروري، لكنه أكثر حساسية من الحالة الأولى، ولهذا من الضروري التمسك بأشكال العمل السري المختلفة. أما في ظل بطش القوى المعادية، وجبروتها، فالعمل السري فقط ـ رغم سلبية الفقط هذه ـ هو الأسلوب المناسب. وأيضاً حين يكون التنظيم ناشئاً، ويعمل في ظروف غير مؤاتية، يتم التشديد على العمل السري، ويعتبر «الأسلوب الرئيسي للعمل»، وكلما تطور وضع التنظيم، واتسعت صفوفه، استطاع أن يلقي في خضم العمل الجماهيري أعداداً متزايدة من الرفاق الذين يخوضون النضال شبه العلني والعلني.
خامساً: إن تنوع أشكال العمل، ووجود هيكل سري، وأعضاء علنيين، يفرض أن يستوعب الهيكل التنظيمي كل ذلك، بحيث لا يقود عمل الأعضاء العلنيين إلى كشف العمل السري، ولا أن يفرض العمل السري توقف نشاط العمل العلني.
إن العمل الثوري ضمن الظروف التي نعيشها يفرض أن يكون التنظيم سرياً لكنه مندمج بالجماهير، وأن يمارس أشكال العمل العلني المختلفة دون أن ينكشف. إن الحديث عن ضرورة العمل العلني لا تعني أن يمارس كل التنظيم العمل العلني، بل أن يمارس أعضاء محددون ذلك. ولا يقود الحديث عن العمل السري إلى الانعزال عن الجماهير، فالعمل السري بين الجماهير يعني الممارسة (أي تطوير وعيها، محاولة تنظيمها، تحريضها)، بشكل لا يكشف انتماء العضو. وهذا ممكن، وضروري.
فالنشرة هي اللسان المحرض بين الجماهير، ولتكن خلايا الدعاية والتحريض، داعمة لها. والخلايا السرية، القوة المؤثرة، القادرة على الفعل بعيداً عن أعين المخابرات، والجواسيس، والقادرة على أن تكون «لولب» النشاط الجماهيري.

الديمقراطية ضمن المركزية

إن وجود عامل التجزئة مترافق مع سيادة الأنظمة الشمولية، القمعية، وبالتالي الحاجة للعمل السري، «غير الشرعي»، «الخارج على القانون»، في ظروف نضال قومي، وحاجة ماسة لتأسيس حزب ماركسي في الوطن العربي، يسهم في توحيد النضال القومي وتوطيد أركانه في كل الوطن العربي. إن كل ذلك يفرض الحاجة لهيئة مركزية تقود العمل كله، وتنسق بين مختلف أجزائه، تكون معنية بتحقيق الاستراتيجية العامة للنضال، مادام النهوض القومي، هو أساس النهوض القطري، المحلي...إلخ.
كما أن ظروف العمل السري تفرض دوراً مهماً للهيئة المركزية في توجيه العمل الثوري، والتخطيط له. كما تفرض التأكيد على ضرورة وجود القادة المحترفين الذين يكرسون نشاطهم للعمل الثوري.
إن الهيئة المركزية ضرورية ضرورة مطلقة، ولا يجوز اعتبار أن العمل في الإطار العربي هو محصلة تطور قطري عفوي، يكفي فيه الاتفاق على المنطلقات العامة، أو الشعارات المتقاربة.
والهيئة المركزية هي المؤتمر العام الذي يحدد استراتيجية النضال، وينتخب لجنة قيادية تتابع العمل الثوري، التي تشكل بدورها مركزاً يلعب دوره في قيادة النشاط التنظيمي، وتنسيق الجهود بين مختلف اللجان والهيئات، التي من الضروري إيجادها، في الأقطار، وأساساً في المصانع والتجمعات العمالية، في الريف، وفي الأحياء الشعبية، لكي تكون صلة الوصل مع الجماهير، ولكي تكون العصب الثوري، القادر على تنظيم الحركة الجماهيرية، وبث الوعي الثوري في أوصالها. إن تطور العمل الثوري، وتطور قدرة الحزب، تتقوم في مدى القدرة على تأسيس الهيئات واللجان المختلفة في المواقع الحساسة للمجتمع، أي بين العمال والفلاحين الفقراء، والشرائح الثورية من البرجوازية الصغيرة، لأن هذه القوى هي قاعدة التغيير الثوري الجذري.
والهيئة القيادية هي المعنية بمتابعة هذه الهيئات واللجان، ولها الحق في معرفة كل أوضاعها، كما أن لها القرار «في التحليل الأخير»، فكونها الهيئة المركزية يجعلها الهيئة الأكثر قدرة على فهم ظروف التنظيم العامة. لكن ذلك لا يفرض تحول هذه الهيئات واللجان إلى أدوات منفذة، و«أشياء ميتة»، أو آلات تحتاج إلى من يديرها، ويبث فيها الحركة والنشاط. فالتنظيم كونه مجموع الخلايا واللجان ومجموع الأعضاء، لا يلغي هذه الخلايا واللجان، كما لا يلغي الأعضاء. وضمن هذا الفهم يمكن تأسيس الحياة الداخلية، حيث من الضروري توفر قدر كبير من الديمقراطية، التي تسمح بالحوار والنقاش، والانتقاد، بما يشعر الهيئات واللجان والأعضاء، إنهم جزء من عمل شامل، لكنهم جزء فاعل، ومؤثر، وله موقعه ودوره في مجمل الحياة الداخلية.
وإذا كانت ظروف النضال في الإطار العربي، وطبيعة العمل السري، وكذلك طبيعة أي حزب سياسي يعمل على تحقيق هدف معين، تفرض وجود هيئة مركزية، فإن ضمان عدم تحول هذه الهيئة إلى هيئة مطلقة الصلاحيات(109)، يفرض الانطلاق من الحاجة إلى الديمقراطية. وإذا كان ستالين قد استطاع أن يفرض سلطته اعتماداً على أجهزة الدولة، فإن ظروف العمل السري تجعل أي ميل نحو التسلط والتفرد قضية تفضي إلى تفتت الحزب، لأن ظروف العمل السري تجعل مبدأ الاختيار الحر هو المبدأ الأساسي الذي يجعل الفئات الطليعية تنضم للحزب، وتشارك في نشاطه، انطلاقاً من قناعة بالاستراتيجية العامة للحزب. وحين لا تجد وضعاً يسمح لها بأن تلعب دوراً ثورياً يقوم على أساس أن لها رأيها وملاحظاتها وانتقاداتها ورؤيتها للعمل والنضال، أي باختصار لها كيانها، حين لا تجد ذلك تنسحب من العمل بهدوء، أو تنشق، ولن يردعها خوف من سلطة الهيئة القيادية مادامت لا تستطيع فرض سلطتها بالقوة، والإجبار.
لهذا فإن الحوار والنقاش قضية من جوهر النشاط التنظيمي، ليس لأننا نريد تأسيس «منتدى حوار»، بل لأن الحاجة لتوحيد كل الفئات الطليعية، والحاجة لصيانة الوحدة، وتأكيد استمرارها، ولأن وعي الواقع ذاته لا يتحقق إلا بالنقاش والحوار، تفرض أن يبقى الحوار والنقاش قضية حية، إنها «روح» الحزب، وبدونها يتحول إلى «جثة ميتة»، والجثة الميتة سرعان ما تتفسخ.

حول الصراع الفكري
الأقلية والأغلبية

إن تكريس منهج ديمقراطي في التنظيم يفرض الاعتراف باختلاف الآراء، وبإمكانية تبلور وجهتي نظر أو أكثر، تتصارعان لتحظى إحداهما بموافقة الأغلبية، والأخرى بتأييد أقلية محددة. إن الوصول إلى هذه النتيجة يفرض محددات أخرى لأن تبلور وجهة نظر غالبة، وأخرى تحظى بتأييد الأقلية، لا ينهي الصراع، بل يطرحه في شكل جديد، هو شكل تصارع «تكتلين»، أكثري وأقلي.
وهنا تنطرح حقوق الأقلية على وجه التحديد، لأن حقوق الأكثرية واضحة من خلال ما يحويه النظام الداخلي، حيث تكون وجهة نظرها هي وجهة نظر التنظيم، وهي وجهة النظر الملزمة لكل التنظيم. وهي كأكثرية التي تقود التنظيم. أما حقوق الأقلية فلا رؤية حولها. ولقد اعتمد الخط الشيوعي التقليدي (الستاليني)(*)، سياسية تلغي الأقلية، وتعتبر أن مجرد كونها أقلية يعني أنها على خطأ، وهي السياسة التي أقرها ستالين منذ عام 1927 في الحزب الشيوعي السوفياتي، والقائمة على أساس «أن أقلية هزمت في مؤتمر، عليها ليس فقط العدول عن الدفاع عن آرائها علنياً حتى الحقبة اللاحقة من النقاش. ولكن عليها العدول عن أفكارها، والارتداد عنها بوصفها خاطئة»(110، خالطاً بين الأقلية وبين «الكتل» التي قامت، أو تقوم، على أساس برنامجي، (أي الأحزاب داخل الحزب)، وهي السياسة التي أكدها لينين، وأقرها المؤتمر العاشر للحزب المنعقد عام 1921(111).
ولقد أدت السياسية الستالينية إلى تكريس مبادىء خاطئة في هذا المجال، مما فرض «موت» الأحزاب الشيوعية، من خلال منع روح الحوار والنقاش والانتقاد، وبالتالي ظهور الأكثرية والأقلية، وسيادة الرأي الواحد، والالتزام بتوجيهات الهيئات القيادية، دون حوار، أو قدرة على الاعتراض، أو المناقشة.
إن سيادة هذا المنطق يفرض التحديد الدقيق لماهية الأقلية؟ ولحقوقها؟. انطلاقاً من أن هناك بديهيات لا يمكن تجاوزها، وهي أن الالتزام بمنهج علمي مادي جدلي يفرض الحوار والنقاش الانتقاد، وبالتالي يفرض تبلور أقلية وأغلبية، رأي ورأي مضاد، فكرة وفكرة مخالفة، تصور وتصور نقيض. إن المنطق اللاهوتي هو وحده الذي يتجاوز هذه البديهية، لأنه يقوم على أساس وحدانية الفكرة، وبالتالي وحدانية المفكر، مما يحول التنظيم إلى مفكر وقائد عظيم!!، وإلى أتباع ومنفذين، مرددين ومادحين.. ولهذا لم يكن غريباً أن التحول الذي أحدثه ستالين في الحزب الشيوعي السوفياتي اعتمد أساساً على تحويل الماركسية إلى نصوص جامدة، وقوانين مطلقة، ثم تحوله هو إلى قائد فذ، ومفكر كبير. لقد ماتت روح الماركسية، قبل أن تموت روح الحزب...
ما هي الأقلية؟.
إنها ببساطة كل مجموعة تبنت فكرة لم تحظ بموافقة أكثرية أعضاء التنظيم. لكن هذه البساطة في التحديد تثير إشكالية معينة حول طبيعة الفكرة التي تتبناها هذه المجموعة، هل من الضروري أن تمثل تصوراً استراتيجياً؟ وهل الخلافات حول التكتيك يمكن أن تقود إلى تبلور أقلية؟ أي بشكل أدق، هل هناك اشتراطات معينة، على الصعيدين الفكري والسياسي، يمكن من خلالها تحديد الأقلية؟ وهل تحتاج إلى فترات تاريخية لكي تتبلور؟ وهل هي ثابتة مستمرة أم تتعلق برؤية محددة وموقف معين؟
لاشك أن تحديد الأقلية لا يرتبط بمستوى محدد من الأفكار والمواقف، ولا يرتبط بمدى زمني محدد، فالأقلية هي أولاً المجموعة التي تعارض موقفاً محدداً أو قراراً معيناً، وهي ثانياً المجموعة التي تطرح تصوراً سياسياً أو تنظيمياً أو عملياً أو ثقافياً... ولا يحظى بأغلبية الأصوات، وهي ثالثاً المجموعة التي تتبلور من خلال الحوار لتمثل موقفاً موحداً لا يحظى بالأكثرية. ولذلك فإن وجود أقلية يفترض وجود فكرة محددة متبلورة يطرحها بعض الأعضاء، وقد تكون الفكرة موقفاً تنظيمياً أو تصوراً نظرياً، أو قضية سياسية، وقد تكون عميقة إلى حد المساس بالبنية الأساسية للتنظيم، أو بسيطة تتعلق بتكتيك محدد، أو موقف سياسي معين(112).
إن وجود أقلية لا يشترط الخلاف النظري فقط، لا بل إن الخلاف النظري يؤدي إلى الانشقاق. إن الخلاف في القضايا الأساسية يفرض الانشقاق وإن تأجل لفترة محدودة، أو جرت محاولات الاتفاق. إن الرؤية الاستراتيجية هي أساس العمل الثوري، وحين يكون الخلاف حول الرؤية الاستراتيجية لا يكون ممكناً العمل المشترك في تنظيم واحد، ويكون الانشقاق هو الخيار المنطقي والضروري، بينما تكون الوحدة عملاً ضاراً. أما الخلاف في القضايا التكتيكية فيسمح بتكوين أقلية مؤقتة، لكن لا يؤدي بالضرورة إلى حدوث انشقاق.
وإذا درسنا تجربة الحزب الشيوعي السوفياتي نجد تنوعاً في تبلور «الأقليات» (جمع أقلية)، فقد تبلورت الأقلية في المرة الأولى في المؤتمر الثاني للحزب، وتركز الخلاف الجوهري حول العضوية في الحزب، و«كانت المسألة تدور حول أي نوع من أنواع التنظيم ينبغي أن يكون الحزب: أحزب انتهازي أم حزب مجاهد، أحزب ليبرالي لا شكل له، أم بروليتاري ثابت؟»(113). ولأن قضية الخلاف جوهرية، ولا تتعلق بموقف من قضية تكتيكية فقط كان الانشقاق أمراً حتمياً، رغم أشكال الوحدة والاختلاف التي طبعت العلاقة بين الأغلبية والأقلية حتى عام 1912 حين تكرس الانشقاق نهائياً. ولقد ظهر أن هناك نقاط خلاف أخرى كثيرة، مثلت اختلافاً جذرياً في رؤية الثورة والأهداف التي يسعى لتحقيقها كل من التكتلين. فقد عارض المناشفة دور البروليتاريا القيادي في الثورة الديمقراطية على اعتبار أن البرجوازية هي القائد الطبيعي لها، وأن دور الحزب الشيوعي يتقوم في دعمها(114). كما سلك المناشفة طريقاً تصفوياً حين دعوا إلى تصفية حزب البروليتاريا الثوري السري»(115)، والتمسك بالنضال العلني فقط.
لقد كان الخلاف جوهرياً بين اتجاه إصلاحي واتجاه ثوري، مما جعل الانشقاق قضية حتمية، وإن تعايش التياران لسنوات داخل الحزب، رغم أن الحزب عاش مرحلة شهدت وجود مركزين قياديين، وتنظيمين على الصعيد الواقعي، لكل هيئاته ونشراته واجتماعاته.
ظهر التكتل الآخر في سنوات الردة الرجعية، وأسمي «ببناء الله». وهو تيار وعظ لبناء دين جديد اشتراكي. ولقد حاول التوفيق بين الماركسية والدين(116)، كان من بين أعضائه لونا تشارسكي الذي أصبح أول وزير للثقافة في الاتحاد السوفياتي. اتخذ الحزب قراراً سنة 1909 باعتبار أن البلشفية لا يجمعها أي جامع بهذا التشويه للاشتراكية العلمية، كما أصدر لينين كتاباً ضد هذا الاتجاه(117). ومن الواضح أن الخلاف كان جذرياً ويتعلق بجوهر الماركسية. ثم ظهر سنة 1918 «الشيوعيون اليساريون» الذين عارضوا الصلح مع ألمانيا، ودعوا إلى استمرار الحرب الثورية، وكان من بينهم تروتسكي، رادك، وبوخارين. وكما يبدو واضحاً فإن الخلاف الأساسي كان سياسياً، وحول تكتيك محدد. ولقد انتهى التكتل بعد فترة وجيزة بعد أن «اعترف أبرز ممثلي ـ الشيوعيى اليسارية ـ الرفيقين رادك وبوخارين، اعترافاً علنياً بخطئهم»(118). ثم ظهرت «المعارضة العمالية»، الداعية إلى النقابية صراحة(119). وظهر بعد ذلك «المركزيون الديمقراطيون» الذين أصروا على حرية تكوين التكتلات والمجموعات داخل الحزب، وكانوا ينكرون ضرورة قيادة الحزب للسوفيتات ويطالبون بإدخال القيادة الجماعية في الصناعة(120).
وبعد وفاة لينين تبلور تكتل تروتسكي، زينونيف، كاينيف. لكن الأمور كانت قد تغيرت، فجرى تصفيته، بطرد تروتسكي من الحزب، وإخضاع العضوين الآخرين، اللذين صفِّيا، فيما بعد.
توضح هذه الصورة، أكثر من قضية هامة، فأولاً كان الصراع الفكري أساسياً في حياة الحزب، وكان صراعاً داخلياً، وعلنياً على صفحات الصحف، ومن خلال الكراسات والكتب. وثانياً كان الصراع يتخذ أشكالاً مختلفة من مرحلة إلى أخرى، فقد كان الخلاف مع المناشفة جوهرياً أدى إلى انقسام الحزب وقيام حزبين، أحدهما إصلاحي والآخر ثوري، وكان الخلاف في الحالات الأخرى ثانوياً، عدا حالة «بناء الله».
وثالثاً، كانت التكتلات تتأسس ثم تنتهي بعد فترة وجيزة، حيث كانت تقوم على أساس الاتفاق على نقطة محددة، نظرية أو سياسية أو تنظيمية.
إن الصراع يفرز الأغلبية والأقلية، وقد يكون الصراع شاملاً، أو محدوداً في قضايا محددة. فبينما كان الصراع مع المناشفة شاملاً، خصوصاً أن الحزب كان في مرحلة تأسيسية، كان مع الكتل الأخرى محصوراً في قضايا محددة، فلسفية، أو سياسية، أو تنظيمية. المهم أنه لا يتخذ قالباً محدداً، ولا يحصر في صورة معينة، فقد يكون صراعاً طويلاً يؤدي إلى تبلور اتجاهين مختلفين، وقد يؤدي إلى تبلور تكتلات مؤقتة، سرعان ما تنتهي. إن ثبات التكتلات يؤدي إلى الانشقاق، وإن اختلافها المحدود يجعل الصراع الديمقراطي أساس العلاقة بين الأقلية والأغلبية.
كيف تتحدد الأقلية والأغلبية؟
إن الصراع هو الذي يحددها، وتظهر واضحة في مجالات مختلفة، خلال النشاط التنظيمي في مستوياته المختلفة، الفكرية السياسية، التنظيمية، ونشاط التنظيم في المجتمع، أي نضاله السياسي والاقتصادي. وتتبلور الأقلية والأكثرية، في مجالات عدة، يمكن إجمالها بمايلي:
أولاً: الحوار الفكري والسياسي الذي يمارسه الأعضاء، داخلياً وخارجياً. هذا الحوار الذي يمارس في النشرات الداخلية والمجلات العلنية، أو الذي ينشر في كتب وكراسات تصدر بأسماء مختلفة.
وإذا كانت بعض الأحزاب تفرض قيوداً في هذا المجال، فإن عدم خوض الصراع في هذا المستوى يؤدي إلى انشقاقات مبكرة، وإلى تحول الصراع من مستوى الصراع النظري السياسي إلى مستوى متدن يتخذ شكلاً ذاتياً.
إن الحوار الفكري والسياسي يفرض تبلور وجهتي نظر واضحتين، أو تبلور وجهة نظر مخالفة لموقف التنظيم وخطه. لقد عاش حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي مرحلة شهدت نضالاً نظرياً مهماً، أسهم في تبلور وجهات النظر المختلفة انطلاقاً من موقف لينين القائل أنه لكي نتحد يجب أن نحدد التخوم التي تفصل بينننا(121). لهذا كان الحوار علنياً طيلة السنوات منذ تأسيس الحزب إلى عام 1918، فقد كانت المجلة مجال حوار هام بين الكتل المختلفة. كما نشرت عشرات الكتب والكراسات التي تطرح وجهات النظر المختلفة. ولم يتغير هذا الوضع إلا بعد ثورة أكتوبر، حيث رأى لينين أن الظروف العالمية المحيطة تفرض وضع قيود معينة، منها أن الحوار يبقى حراً إلى أن يتخذ الحزب قراراً بالموضوع المناقش(122)، ولقد كان الحوار الذي دار في الحزب أساس تبلوره وقوته، بينما أدت القيود إلى وضع قيود دائمة أشد وطأة منها، أدت إلى ضعف حيوية الحزب، وانتشار الأساليب البيروقراطية فيه.
ثانياً: الحوار في المؤتمرات العامة، لاشك أن الحوار في المؤتمرات العامة هو استمرار للحوار الفكري والسياسي في المنابر المختلفة كما في الهيئات واللجان المختلفة، لكن أهمية المؤتمرات تكمن في أن أسلوب التصويت الذي يمارس فيها يؤدي إلى توضيح المواقف وتحديد الأقلية والأغلبية. وقد تتبلور أكثر من أقلية وأغلبية، وفق القضايا المطروحة، حيث يكون الخلاف حوال القضايا السياسية مجال تبلور أقلية وأغلبية، بينما يكون الخلاف حول القضايا التنظيمية مجال تبلور أقلية وأغلبية أخرى. لكن عموماً تتبلور أقلية واحدة، حيث يؤدي الخلاف السياسي إلى خلاف تنظيمي، والإثنين إلى خلاف فكري، وهكذا، وخصوصاً في المراحل الأولى من تكون التنظيم، حيث يكون الحوار النظري السياسي التنظيمي ذو أهمية كبيرة بسبب افتقار التنظيم للتراث النظري، وبالتالي بسبب الحاجة إلى بلورة تصور نظري جديد.
إن أهمية المؤتمر أنه يحدد طبيعة وحجم الأقلية، كما يحدد أعضاءها، وعادة ما تكون المؤتمرات مجال هذا التبلور، ومجال حدوث الانشقاقات، بسبب الخلافات المستفحلة، وبسبب حسم الصراع لمصلحة كتلة ضد أخرى، خصوصاً إذا كان الخلاف جوهرياً وشاملاً.
ثالثاً: في اللجان المختلفة، وتظهر الأقلية في اجتماعات اللجان المختلفة، اللجنة المركزية على صعيد الخلافات العامة، واللجان الأخرى، على صعيد الخلافات العامة، والخلافات حول الأوضاع المحددة، والظروف المعنية، التي تهتم بها هذه اللجان. وهنا تكون حاجة إلى تحديد طبيعة الأقلية، فإذا كانت في الحالات الأولى تعتبر أقلية في التنظيم عموماً، فإنها في هذه الحالة تكون أقلية في اللجنة المركزية، حيث يحدث الخلاف في اللجنة المركزية، وأقلية في اللجان الأخرى التي يحدث فيها الخلاف.
إن القفز عن كل ذلك، والسعي لقوننة الصراع، ووضع أسس مبادىء، وقوانين و... إلخ لقضايا مثل الحوار والنقاش والانتقاد، وللصراع الديمقراطي، يجعل أسساً مثل الالتزام والانضباط، أسس ضبط داخلي، وإطاراً نظرياً يبرر سيادة منطق التسلط والتفرد والقمع في القيادة. ويجعل القيادة سلطة مطلقة، تلعب دور المقرر والمحدد لكل نشاط التنظيم الأساسي والثانوي، مما يجعلها سلطة شمولية، تلغي الآخرين، سواء الهيئات أو الأفراد. لقد أصر لينين على أهمية الضبط الحزبي، وكان يتكلم أحياناً عن الضبط الحزبي الصارم. كما كان يطالب بأن يكون للهيئة القيادية «سلطة» و«هيبة»، لكنه كان يصر دائماً على الديمقراطة(*)، وعلى الصراع الفكري والسياسي، وعلى حق كل هيئة، وحق كل عضو في الانتقاد، وفي إبداء وجهة نظره، لأنه في خضم كل هذا الصراع تبرز الحاجة للضبط الحزبي، وفيها وحدها تطالب الهيئات الأدنى بالالتزام بقرارات الهيئات الأعلى، ويطالب الأعضاء بالالتزام والانضباط.

الحاجة للضبط الحزبي
لهذا فإن الحديث عن الحوار والنقاش والانتقاد، وعن الصراع الفكري على وجه العموم، لا يلغي الحاجة للضبط الحزبي، والضبط الحزبي الصارم، بل يجعله حاجة موضوعية، لكنه يضعه ضمن الإطار الذي لا يحوله إلى قمع وتسلط وسيطرة، بل يجعله يسهم في تأسيس بنية تنظيمية صلبة ومتماسكة.
إن الضبط الحزبي ضرورة، وبدونه يستحيل الانتصار، «إن المركزية المطلقة، ونظام الطاعة البروليتاري الصارم للغاية هما أحد الشروط الأساسية للانتصار على البرجوازية»(123). وهذه قضية لا يجوز تجاوزها.
لكن نتساءل، كما تساءل لينين بعد تجربة عقدين من الزمان، خاض فيها نضالاً لا هوادة فيه، نتساءل «بم يدعم نظام الطاعة في حزب البرولتياريا؟ وبأي شيء يجري تجريبه؟ وبم يعزز؟ أولاً: بوعي الطليعة البروليتارية ووفائها للثورة، وبثباتها، وبطولتها وروح التضحية عندها. وثانياً: باستطاعتها الترابط، والتقارب، وإذا شئتم الاندماج إلى حد ما، مع أوسع جماهير الكادحين، وفي الدور الأول مع جماهير البروليتاريا، وكذلك مع الجماهير الكادحة غير البروليتارية. ثالثاً: بصحة القيادة السياسية التي تقوم بها هذه الطليعة، وبصحة إستراتيجيتها وتكتيكها السياسيين، شرط أن تقتنع أوسع الجماهير الكادحة بهذه الصحة بتجربتها الخاصة. وبدون هذه الشروط لا يمكن تحقيق نظام الطاعة في حزب ثوري كفء حقاً ليكون حزب الطبقة المتقدمة، المدعوة إلى إسقاط البرجوازية وتحويل المجتمع كله. وبدون هذه الشروط تتحول محاولات إيجاد نظام الطاعة ولا مناص إلى هراء، وطنطنة وهذر». ثم يضيف أنه «لا يمكن أن تنبثق هذه الشروط فجأة، فهي لا تحصل إلا بعد كدح طويل وتجارب شاقة، ومما يسهل إيجادها، هو النظرية الثورية الصحيحة، التي هي بدورها ليست عقيدة جامدة، بل إنها تكتسب شكلها النهائي فقط بالترابط الوثيق مع نشاط حركة جماهيرية حقاً وثورية حقاً»(124).

تنوع أشكال العمل الثوري

لاشك أن تنوع الظروف يفرض تنوع الأساليب، خصوصاً أن التجزئة قد أوجدت خصوصيات مختلفة، مما يفرض التأكيد على ضرورة اتباع كل أشكال العمل الثوري، من الأشكال البسيطة إلى أكثرها تعقيداً.
وهنا تبرز الحاجة لكل وسائل التحريض والدعاية، مثل المنشورات، والبيانات، النشرات، والكراريس، لأن الهدف الأولي الذي يساعد على نمو العمل الثوري يتمثل في الدعاية للأفكار الثورية، وتحريض الجماهير من أجل النضال لتحقيق حقوقها. وهذا يتطلب توفر التقنيات اللازمة، والخلايا المتخصصة. فالحزب «مطبعة ورفيق»(رغم أن التطور التقني الهائل يؤسس لنشوء أشكال أكثر أهمية تساعد في ذلك، مثل الانترنيت). وإذا كانت الأحزاب في الوطن العربي قد أغفلت أهمية الدعاية والتحريض في السنوات الماضية، فإنا معنيون بإعطائها كل الأهمية اللازمة، وإلا فشلنا في استقطاب الحركة الجماهيرية، وبث الوعي فيها وتهيئتها للعمل الثوري المنظم.
ثم أن تطوير النشاط الثوري يفرض التأكيد على أهمية تنمية كل وسائل الاحتجاج التي تظهر لدى الجماهير، التي تكون سلبية مكبوتة في البدء، والحرص على أن تصبح أكثر إيجابية من خلال تطوير النشاط الإضرابي، والسعي للقيام بالمظاهرات. لأن المقدرة على ذلك تجعلنا ندفع بفئات واسعة من الجماهير إلى معمعان النضال الثوري. وهذه خطوة هامة على طريق تحقيق انتصارات ثورية، بسيطة وكبيرة.
إن تطور النضال الثوري، بعد اتساع عمليات الدعاية والتحريض، وتصاعد وسائل الاحتجاج المختلفة، وصولاً إلى بدء نشاط إضرابي، ومظاهرات واسعة، يجب أن يقود إلى حدوث انتفاضة عارمة كبيرة. ولعل تفاقم حالة الفقر التي تعيشها الجماهير يؤدي، وكما أوضحت التجربة الماضية، إلى حدوث انتفاضات كبيرة تهز أركان الأنظمة وتفتح آفاق الإطاحة بها. إن الوصول إلى هذه الحالة يعني أن الثورة قد حانت، وأن الهجوم ضروري. وإذا كانت الأنظمة الحاكمة تمتلك الأسلحة المتطورة، وقوى القمع كبيرة العدد، فإن نجاح الثورة يتوقف على تحولها من حركة احتجاجات وإضرابات إلى إضراب عام، ومن تحركات محدودة إلى انتفاضة، ومن «انتفاضة سلمية» إلى انتفاضة مسلحة، إلى أن تمتلك الجماهير السلاح. وهنا يبرز دور الحزب، دوره الحاسم، حيث يتوقف على مدى استعداده لتحقيق هذه النقلة الهامة مصير الثورة كلها.
إن أهمية السلاح قضية لاشك فيها، في مجتمع يعاني من الاحتلال، ومن امتلاك الأنظمة لأطنان الأسلحة المتطورة، كما يعاني من تعمق الحدود السياسية بين دوله. إن الحرب مع الكيان الصهيوني قضية لا خيار فيها، فالأرض لا تحرر إلا بالحرب الثورية، مما يفرض الحاجة لتأسيس القوى المقاتلة، القوى التي تسعى لتطوير الحرب المسلحة ضد الكيان الصهيوني، وضد الوجود العسكري الأميركي، الذي أخذ يتموضع في مناطق مختلفة من الوطن العربي، وبات يحتل العراق، وهدفه مواجهة حالة النهوض القومي العربي، أي مواجهة نشاط الجماهير الشعبية العربية، في حالة تحولها إلى قوة مؤثرة، قادرة على تغيير موازين القوى في الوطن العربي، وإسقاط أنظمة فيه.
والسلاح ضروري لتحقيق الوحدة القومية، لأن تحقيق الوحدة سوف يواجه بعقبة الوجود العسكري الأميركي، والدور الصهيوني من جهة، وهذا يفرض تطوير الحرب المسلحة ضدهما كما أوضحنا سابقاً، لكنه سوف يواجه أيضاً برفض الأنظمة الكومبرادورية العربية وسعيها للتصدي لحركة الوحدة القومية. مما يفرض العمل من أجل هزيمة هذه الأنظمة. وإذا كان تطوير النشاط الجماهيري المحلي أساساً في ذلك، فإن امتلاك هذه الأنظمة للأسلحة المتطورة، وموقفها المعادي عداء مطلقاً للوحدة، وكذلك تعاونها مع الإمبريالية الأميركية، سوف يفرض اللجوء إلى السلاح.
إن تنوع الظروف، والخصوصيات التي نتجت عن التطور غير المتكافىء قبل تأسيس «الدول» الراهنة أو بسببها، أو نتجت عن اختلاف ظروف النضال بسبب اختلاف طبيعة دور القوى الامبريالية والصهيونية والكومبرادورية العربية، يفرض تنوع أشكال النضال، والهدف منها كلها هو تحقيق التغيير الجذري في بنية المجتمع العربي، لمصلحة وحدة الوطن وتحرره، كما لمصلحة تحقيق الجماهير الشعبية مطامحها في التقدم، والرفاه.
ولا يجب أن يلغي شكل الأشكال الأخرى، أو بعضها، بل يجب أن يخضع العمل بهذه الأشكال للظروف المحددة ذاتها. فالماركسية «تعترف بكافة الأشكال المتنوعة للنضال، ولا تبتدعها، أو تلفقها، وإنما كل ما في الأمر، أنها تعمم وتنظم تلك الأشكال من النضال الثوري، التي تنبثق من تلقاء نفسها في مجرى تلك الحركة، وتجسدها تجسيداً واعياً»(125).
ونحن لا نستطيع أن نبتدع الانتفاضة إذا كانت الظروف غير مهيأة لذلك، لأن الدعوة لها والظروف لم تتهيأ بعد يعني نوعاً من العبث، كما أننا لا نستطيع تحويل «الانتفاضة السلمية» إلى انتفاضة مسلحة إذا لم تكن الأزمة في المجتمع وفي الفئة الحاكمة قد وصلت إلى مرحلة حاسمة، وإذا لم تكن القوى الثورية مهيأة لهذه النقلة النوعية في النضال، فحيث ليس هناك احتجاج واضح، وبل يسود الاحتجاج السلبي، يجب أن يلعب الحزب درواً في الانتقال من الاحتجاج السلبي إلى الاحتجاج العلني الواضح، المعبر عنه بالكلمة أو تقديم العرائض، أو الإضراب، ومن ثم المظاهرة. وحيث تسود المظاهرات من الضروري العمل من أجل انتفاضة عارمة. وفي كل الأحوال من الضروري العمل من أجل تطوير العمل المسلح ضد الكيان الصهيوني، وضد الوجود العسكري الأميركي. أما الانتفاضة المسلحة، فمن الضروري حساب الظروف الموضوعية بدقة، واختيار اللحظة المناسبة تماماً لذلك، لأن الدقة ضرورية، والحذر مطلوب، في قضية لا تحتمل اللعب، ولا تقبل الاتجاهات اليسارية المغامرة، والطفولية. وفي وضع يمكن ألا تكون هناك حاجة إليها إذا ما استطاعت قوة الجماهير تحقيق التغيير.

بنية الحزب

كيف يمكن أن تكون بنية التنظيم في وضع كهذا، حيث يمتزج الاختلاط الطبقي، التجزئة السياسية، بظروف العمل السري، وتنوع أشكال النضال؟
وكيف يمكن أن تكون بنية الحزب في وضع يحاول تجاوز نمط «التنظيم الستاليني»، إلى بنية ديمقراطية حقيقية، لا يلغي فيه الحزب الفرد، ولا يتحول العضو إلى كم عددي فقط؟
ونحن لن نجيب كما أجابت القوى السياسية الأخرى، وتحديداً الأحزاب الشيوعية، والقوى الماركسية الأخرى، وإلى حد معين القوى التقدمية، حيث لجأت إلى نقل تجربة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي باعتبار أن الخبرة الحزبية لديه تفرض أن ننقل عنها انطلاقاً من النتائج التي وصل إليها، وهي أساساً الصيغة الستالينية للتنظيم، لأن النقل لا يحل الإشكالية التنظيمية عندنا مهما كانت خبرة الحزب السوفياتي كبيرة، حيث تطور الشكل التنظيمي هناك على ضوء التجربة، تجربة النضال ضد القيصرية، ثم تجربة بناء الاشتراكية. وبالتالي مهما كانت أهميته فهو نتاج هذه التجربة، خصوصاً أن الصيغة الستالينية للتنظيم تبلورت في ظروف وجود الحزب في السلطة وليس في ظروف العمل السري.
رغم أن كل ذلك لا ينفي حقيقتين، الأولى: أن هناك خطوطاً عامة يمكن الاستفادة منها، مادام العمل الثوري هو تراكم خبرات، يأتي اللاحق فيها أكثر تطوراً من السابق. والثانية: أن دراسة التجربة قضية هامة لمراجعة هذه الخطوط العامة من جهة، ولبلورة أفكار تسهم في إنضاج الأفكار والمفاهيم المطبقة في جوانب محددة. وفي كل الأحوال يكون النقل ضاراً لأنه يؤدي إلى نقل التفاصيل وليس الخطوط العامة ـ كما أثبتت التجربة العملية ـ ولأنه لا يقود إلى دراسة التجربة، وبالتالي إنضاج الأفكار والمفاهيم، مما يجعل العمل الثوري يسير في حلقة دائرية، كل تجربة تكرر التجربة السابقة، وهكذا.
إننا معنيون بتحديد الصيغة التنظيمية التي تتوافق مع الظروف المحددة في الوطن العربي، وإن كنا لا نطالب بصيغة تتولد من العدم. ما هي هذه الصيغة؟
إنها تقوم أولاً، على أساس أن مبدأ الاختيار الحر الذي يمثل قانون الانتظام في الحزب، يفرض أن يكون الحوار، والنقاش والانتقاد، أساس العمل التنظيمي. ولا يجوز أن يخضع لأي نظام يعيقه، مادام يخدم النضال الثوري، ولا يخرج عن الالتزام بمصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية. فالحوار هو «روح» الحزب، وبدونه يتحول إلى «جثة ميتة»، وهو به يشكل بديل كل المؤسسات السائدة (مؤسسات الدول، الأحزاب، المؤسسات القبلية والعشائرية والطائفية...)، وبدونه يتحول إلى مؤسسة موازية لها جميعها. كما أنه به يستطيع أن يكون طليعة القوى المناضلة، وقائد النشاط الثوري، والقادر على أن يتطور باستمرار.
وتقوم ثانياً: على أساس أن دور الهيئة المركزية لا يلغي دور الهيئات واللجان الأخرى. فبقدر ما هنالك حاجة للمركزية هناك حاجة لأن تكون كل لجنة وهيئة وخلية قادرة على أن تلعب دوراً قيادياً في مواقع عملها، مادام الحزب هو طليعة. إن الحاجة إلى هيئة مركزية موحدة يجب أن لا يؤدي إلى أن تصبح الهيئة الوحيدة، لأن هذه الصيغة تلغي صيغة التنظيم الثوري، وتكرس صيغة التنظيم البيروقراطي الواقف على رأسه. فاللجان والهيئات والخلايا حلقات أساسية في بنية التنظيم، لها دورها ودورها الأساسي، التي لن يصبح قادراً على قيادة الجماهير الشعبية، من خلال تطوير وعيها وتنظيمها، إذا لم تلعب هذا الدور.
كما تقوم ثالثاً: على ضرورة التشديد على أهمية الضبط الحزبي، على ضرورة الالتزام بالبرامج والقوانين المحددة للعمل، وعلى احترام هيبة الهيئات القيادية، لأن «الفوضى» لا تجعل العمل الثوري يراكم الخيرات، ولا يؤدي إلى تواصل النشاط، ولا انتظام تبلور البنية، وبخلق التماسك. إن الضبط الحزبي ضروري، لكنه ضروري في وضع يتسم بتوفر الحياة الديمقراطية فقط، وهذا ما لا يجب القفز عنه.
وتقوم رابعاً: على أساس أن تنوع أشكال النضال يفرض تنوع الخلايا بتنوع مهامها. وهنا يجدر بنا إعادة النظر بالهيكل التنظيمي الذي ساد بعد انتصار ثورة أكتوبر، والذي كان ينطلق من استقرار الوضع، والقدرة على العمل العلني، مما كان يسمح بوجود «هيكل تراتبي» موحد، أما في ظروف العمل السري، وتنوع أشكال النضال، فيكون «الهيكل التراتبي» ضرباً من المحال، إنه نتاج العمل العلني، لذلك فهو يفيد في العمل العلني. أما ظروف العمل السري فتفرض تنوع الهيئات واللجان والخلايا(126)، حسب حاجة العمل الثوري لأشكال العمل، رغم الحاجة لهيئات ولجان موحدة ومنسقة تعمل على خلق «التناغم» بين أشكال العمل المختلفة، في إطار عمل اللجان والخلايا المختلفة.
وتقوم خامساً: على أساس أن عقد المؤتمر العام قضية لا يجوز التساهل فيها، لأنه ضروري لاستمرار العمل، ولتطوره. وهو «شكل» الديمقراطية الممكن والضروري. فهو الذي يقر الاستراتيجية العامة، وينتخب الهيئة المركزية، كما أنه المعني بالمحاسبة، وبإقرار السياسات العامة للحزب. لهذا يجب أن يعقد في فترات متقاربة بحيث لا تزيد عن ثلاث سنوات. أما مؤتمرات «الساحات» أو «المناطق» فتخضع للظروف العينية، رغم أهمية العمل من أجل عقدها، في حال توفر الظروف المناسبة.
وتقوم أساساً على أساس سيادة مبدأ المركزية الديمقراطية، الذي ينطلق من كل ما جاء سابقاً، لأن المعنى الذي أعطي لها في «التنظيم الستاليني» يجعلها مركزية غير ديمقراطية، حيث يتغلب عنصر السيطرة والتوجيه والتقرير من قبل الهيئة المركزية على أي عنصر آخر. إن تطبيق المركزية الديمقراطية يرتبط بثلاث قضايا جوهرية، أولها وضوح الخط السياسي ـ الفكري وصحته، بتعبيره عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء، والشرائح الديمقراطية الثورية من البرجوازية الصغيرة. وثانيها، توفر الثقة بين الأعضاء عموماً، وبين الهيئات واللجان خصوصاً. من خلال توفر مبادىء الاحترام المتبادل، والتفاهم والتعاون. وثالثها، قدرة الهيئات القيادية في أن تحظى باحترام الهيئات الأدنى من خلال تفوق وعيها وقدرتها النظرية، ودورها العملي، وقدرتها على تفهم ظروف العمل وإشكالاته، وصلابتها.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصراع الطبقي في الوطن العربي في الثمانينات
- المسألة الطائفية كتحدي للمسألة القومية العربية
- طريق الانتفاضة لماذا تثور الطبقات الشعبية؟
- أطروحات من أجل ماركسية مناضلة
- بيان لن يصدر حول الدعاية الصهيونية باسم اليسار
- الدفاع عن الصهيونية -ماركسياً-؟
- سلامة كيلة في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الماركسية ...
- الليبرالية بصفتها يسار ملاحظات حول أطروحات كريم مروة الأخيرة
- عن الأفق الاشتراكي: علينا أن ندفن موتانا
- عن عودة المفاوضات المباشرةالسلطة تكيفت مع المشروع الإمبريالي
- قضية الصحراء المغربية سنوات من حرب لا معنى لها
- العودة إلى مفاوضات فاشلة
- الحياة مفاوضات فاشلة
- هل ستتغيّر السياسة الأميركية؟
- اليسار العربي والصهيونية والدولة الصهيونية (حوار مع يعقوب اب ...
- ماركس وحلم الرأسمالية
- لم يخطئ غطاس
- النضال التحرري حينما يسقط في نظرة ضيقة
- حول مشروع المهمات البرنامجية-2 الذي نشره تجمع اليسار الماركس ...
- حول مشروع المهمات البرنامجية- 1 الذي نشره تجمع اليسار المارك ...


المزيد.....




- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...
- اعتقال عشرات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في عدة جامعات أمريك ...
- كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في المهرجان التضامني مع ...
- ال FNE في سياق استمرار توقيف عدد من نساء ورجال التعليم من طر ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - مهماتنا الثورة ومشكلات التنظيم