أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مرزوق الحلبي - أفكار في نقد الضحية،















المزيد.....



أفكار في نقد الضحية،


مرزوق الحلبي

الحوار المتمدن-العدد: 3196 - 2010 / 11 / 25 - 21:19
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تمهيد
هل يحق للضحية أن تستعمل كل الوسائل لرفع الظلم الواقع عليها؟ أو هل يحق للمناضلين ضد الاحتلال مثلا أن يعتمدوا طرقا غير أخلاقية في إطار مقاومتهم؟ سؤالان يشكلان مجتمعين أو مضافين إلى جملة أسئلة مماثلة أطروحة "نقد الضحية" ـ إذا صحّ التعبير. وهو نقد يعيد إلى الواجهة ذاك النقاش غير المعلن بين أولئك الذين يهتفون "لا تلوموا الضحية" مهما فعلت، وبين الأصوات الخافتة التي تقول بوجوب عدم تحرير الضحية لا سيما السياسية من عبء السؤال الأخلاقي بقولهم أن لا أحد محررا من تبعة هذا السؤال، ولا أولئك الذين يقاومون احتلالا أو حالة قهر. وهي حالة أخرى تجسّد ذلك التوتر الأزلي بين السياسة والأخلاق كما اختزلناها بمقولة الغاية تبرر الوسيلة.
في مثل هذه الحالة ينبني النقاش على مستويين من الادعاءات التي يسوقها المعارضون أو المؤيدون وأولئك الذين في الوسط. الأول، هو المستوى الأخلاقي وما ييسره لنا حقل علم الأخلاق من مسوغات بهذا الاتجاه أو ذاك. والثاني، هو مستوى قياس النتيجة أو الفائدة أو النفع السياسي العملي. وبطبيعة الحال فإن وجود مستويين من النقاشات يُفضي إلى الدمج بينهما وتوليد المستوى الثالث على الأقلّ الذي يقيس الأمور بالمعايير من الحقلين. ويدخل في حسابنا، أيضا، حقيقة أن هناك من يرفض أساسا هذا التوزيع إلى حقول ويعتقد بأن الظاهرة كلّ واحد لا يتجزأ.
المعارضون لنقد الضحية ينطلقون من فرضية أن أهم ما في الحالة هو إزالة الغبن أو الظلم ولا يهمّ كيف يتمّ ذلك، وينبغي ألا تتحمل الضحية مسؤولية البحث عن السبل السوية الأخلاقية لأنه ينبغي أن يُترك لها كامل المساحة لرفع الغبن أولا. الظلم هو العامل اللا ـ أخلاقي وليس مواجهة الظلم ومقاومته ـ يقولون. ويدعي بعض منهم أن تكليف الضحية بمهمة البحث عن سبل أخلاقية هو من قبيل الترف النضالي الذي لا وقت له، أو هو عبء إضافي يسعى القاهر إلى فرضه على الضحية ونضالها لإعاقته، أو في إطار إثقال كاهلها وإظهارها بمظهر سلبي ولغرض تشويه نضالها العادل. ومن الملاحظ أن ثقافتنا العربية تزخر بهؤلاء وبهذا النسق المتأصّل حدّ العمى التام عن مساءلة الضحية حتى، وهي مرتبة أدنى من محاسبتها ومن مواجهتها بالسؤال الأخلاقي. بل يبدو لي ـ من التأمل والقراءة والمشاهدة العيانية للخطاب العربي ـ أن هناك ميلا لتقديس الضحية ووضعها في منزلة التنزيه والتجرّد وربطها بالخالق والموروث الإيماني ونصوصه وخطابه حدّ العزوف عن مجرّد التأمل في أداء هذه الضحية، أو في نتائج ما تأتي به من أفعال أو محصّلة سيرورة نضالها. بمعنى أنه يكفي الهدف النبيل والفكرة المشرقة في نهاية مشروع ما لتبرّر كل ما تُحدثه على الطريق!

ذاك العنف "المقدّس"!
ندعي أن هذه الظاهرة في ثقافتنا تحولت إلى نسق متأصّل منذ مشاريع التحرير والاستقلال، مرورا بمشاريع بناء الدولة والوطن، وانتهاء ببناء حداثة عربية أو خلافة إسلامية كما يُقترح في الشوط الراهن من تطور الإسلام السياسي. وسندّعي ما يُمكن أن يكون مجازفة كبرى من ناحيتنا أن الثقافة العربية هي أكثر الثقافات مراوحة في خانة "الغاية تبرّر الواسطة" لأنها لا تزال ثقافة تعتبر نفسها في مواجهة وصدام بوصفها ضحية وبوصف ما عداها لا سيما الغرب، استعمارا جديدا أو آخر يمتلك مشروع هيمنة. فكل مركز سياسي عربي، دولة أو نظاما أو حركة أو ميليشيا أو مجرّد حزب، يطالبنا بالتريث أو بعدم المساءلة ريثما يُتمّ مشروعه النبيل أو المقدّس. بل أن انتشار هذا النسق من اعتبار الذات العربية حيث هي ضحية وكل ما عداها ظالما أو ضالعا في إيقاع الغبن بها، أو أنها في حرب مقدسة وجهادية مرة ضد الاستعمار ومرة ضد الكفّار، أفضى إلى العزوف كليا عن سؤال الأخلاق في الداخل وحصره في المساحة بين هذه الذات الضحية وبين الآخر الجاني، أو الذي يُعتقد أنه كذلك. نقول هذا لأن الثقافة العربية تفننت في إنتاج "العدو" و"المعادي" و"المستعمر" و"الآخر" و"الكافر" الذي يوجب التحشيد الداخلي والوحدة الداخلية والتعاضد. وهو ما يعني في واقع الأمر وجوب السكوت عن المظالم في الداخل، وعن غياب الحريات وحضور القمع والمعتقلات والمخابرات بكثافة. أما المحصّلة فهي الوقوع في شرك "الغاية تبرّر الوسيلة"، وهو شرك لا يوصل إلى الغاية ولا يغيّر من الوسيلة لأن "قدسية" الغاية أو "عدالة" القضية تُذهب النقد والسؤال بالضرورة، وهو ما يقلّص إلى الحد الأدنى شروط وجود قانون النفي!
النسق ذاته من تقديس الضحية أو المشروع النبيل وكل الوسائل المعتمدة في سبيل إحقاقه يُفضي إلى ظاهرة سياسية في الاتجاه ذاته من الخطورة في مساحة العلاقات الداخلية. إن هذا النسق هو إحدى ترجمات الاعتقاد بالحقيقة الواحدة الذي يُفضي بدوره إلى عدم الاعتراف بالتعددية إلا اضطرارا. في مثل هذه الحالة تقصر الطريق كثيرا بين الاختلاف وبين الاحتكام إلى القوة والعنف. وهي ليست سمة الأنظمة العربية فحسب، بل هي سمة الغالبية العظمى من مراكز القوة في المجتمع والثقافة، في محاورها وأطرافها. فغياب الديمقراطية سمة لا تميز الأنظمة السياسية في السلطة وتلك النُخب المتنفّذة، بل بشكل بارز تلك القوى المستأنفة، أيضا، التي لا تأتي ببدائل بقدر ما تأتي بنقائض للسلطة ومؤسساتها ومراكز قوتها. فإذا حالفها الحظ وشاركت في السلطة أو تربعت في رأس الهرم، لم تؤد أداء مختلفا خارج النسق المذكور. حتى القوى التصحيحية ـ في سوريا أو مصر أو العراق قبل الاحتلال، لم نرها حاضرة في تاريخ هذه الأقطار إلا ضمن الصورة ذاتها من إنتاج للعنف ومفاعيله باعتبار أنها تمتلك الحقيقة وتُنكرها على غيرها من قوى، ولا تبدي أي استعداد لمشاركة غيرها في الحكم وتصريف أمور الدولة والمجتمع.
مثل هذه التراكمات النافية للنقد والمساءلة ولفكرة التعددية في الرأي والحقائق، والمعارضة للحريات والحقوق، تؤدي في المحصلة إلى حضور العنف سيد الأحكام! فكل الخلافات الداخلية تسوى بالقوة والعنف وما يُمكن أن يشتق منهما. لأن العنف المقدّس الموجّه نحو الخارج يُبرّر من حيث "منطق الأمور" العنف الداخلي. فإذا كانت المواجهة الخارجية "مقدسة" وكانت القضية بهذا العدل فوق السؤال ـ والسائل في هذه الحالة كالسؤال ـ "يعطّل المسيرة" أو "يضعف الشعور الوطني"، كما يأتي في لوائح الاتهام السورية لمعارضين ومثقفين يحملون رأيا آخر! فالعنف المطلق غير المحسوب وغير المضبوط المستخدم ضد الآخر بدعوى عدالة "المقاومة" أو القضية لا يُطيق السؤال من الداخل. وقد زودتنا الثورة الفلسطينية، على سبيل المثال لا الحصر، بتداعٍ تلو تداعٍ للمنظومة الأخلاقية في صلب هذه القضية العادلة بامتياز. فقد انكفأت الثورة مرات عديدة وتصدعت لأنها لم تكن أخلاقية في أدائها وممارساتها. أو لأن أدواتها ووسائلها لم ترق إلى مستوى عدالتها. وكلما أوغلت في الابتعاد عن أخلاقيات النضال واستراتيجياته وانحكمت لمشاريع إقليمية أو ناورت وتكتكت على نحو عنفي دون داع تجاه "العدو" وتجاه الداخل، رأيناها تشيع خطاب القداسة والتضحيات والضحوية. وفي رأينا أن مثل هذا الخطاب في الثقافة العربية عموما ـ وفي سياقنا الفلسطيني ـ يُشاع كلما تعمق السقوط الأخلاقي في الأداء والممارسة. وقد رأينا الأمر يحدث في الثورة الفلسطينية مرارا آخرها انقلاب حماس وممارساتها السيادية العسفية في قطاع غزة. إلا أن الأمر المماثل حصل من قبل بعد انقلاب الضباط في مصر. فلنفترض أن انقلابهم على الملك كان عادلا فهل كان نظام العسكر الذي أتى بعد ذلك عادلا؟ وهل النظام الذي أقامته الثورة التصحيحية بقيادة الأسد الأب في سوريا عادلا على فرض أن المبادرة عادلة، وأنها وضعت لنفسها وللبعث أهدافا نبيلة وعادلة؟ والأمر ذاته يحصل في لبنان بعد الطائف. فمن شدة الولع بالمقاومة سجلت هذه المقاومة وأنصارها انقلابا على الوطن والدولة والشركاء فيه. بل حولت الميليشيات الدولة إلى رهينة لديها أو لدى عرّابيها الوافدين من الخارج، تماما مثلما قال أحد المتنورين الإسرائيليين عن التجربة الإسرائيلية التي عرّفها أنها لا تعدو كونها جيشا عنده دولة! مثل هذا الكلام لا يجوز وفق نسق تغييب السؤال والنقد داخل الثقافة العربية لا سيما عندما يكون الأمر بشأن جهة "تقاوم العدو" أو "تقاوم الاحتلال" أو "تناضل ضد القمع والقهر"!
في ضوء غياب السؤال الأخلاقي عن أداء الضحية العربية (حصل الأمر ذاته في ثورات امتدت من مشارق الأرض إلى مغاربها) غاب الجدل حول استراتيجيات عملها وأفعالها في داخل الثقافة العربية. فلم يناقش الفلسطينيون أبدا جدوى "العمل الفدائي" في زمن كانت فيه كل التنظيمات والفصائل في لبنان مخترقة تقريبا وإن الشبان المرسَلين إلى فلسطين في غالبيتهم الساحقة قتلوا بنيران الكمائن الإسرائيلية أو أسروا! ولم يسأل أحد عن جدوى "مقاومة" لبنانية يعرف الجميع أنها مرهونة بكاملها لمشروع ليس لبنانيا ولا هو عربيا، أيضا! حتى عن الأثمان الأخلاقية الداخلية لا يسأل أحد! فما رأيت القيامة تقوم حيال مقتل حوالي 1300 لبناني ولبنانية في حرب تموز 2006 لكنها قامت تهليلا بنصر أو ما يُشبه، وبتحليل ما حصل. قلّما ذكر أحدٌ ضحايا هذه الحرب من اللبنانيين لأن الجميع تقريبا كانوا مشغولين بإحصاء خسائر العدو! وهنا يكمن إخفاق أخلاقي ثوري وثقافي في آن. فقد اعتاد العرب المناهضين لإسرائيل وسياساتها أن يُعظموا أمر خسائرها في كل مواجهة حتى لو كانت طفيفة ولا تذكر. بالمقابل، أخفوا خسائرهم الفادحة خاصة تلك المتعلقة بالأرواح. فكان لا يهم أن يموت عشرة من الشبان الفلسطينيين لأن المهم جرح جندي إسرائيلي، أو هكذا بدت الأمور! والحجة جاهزة: "كل مهر تطلبه فلسطين يرخص"، وأن "كلنا مشاريع شهادة"! حياة الناس لا حساب لها في نهاية الأمر لأننا تحدثنا عن "قوافل الشهداء" وجنّدنا الأطفال عرسانا لموت سُدى علما بأن المقاومة والنضال هو حصرا من أجلهم ولغرض أن يحيوا.
يستفيد المصرّون على إعفاء الضحية من السؤال الأخلاقي من كون العدو شرسا أو أكثر عنفا ومن كونه، في حالة إسرائيل وسياساتها مثلا، غير محق أصلا! هنا، يصير من الصعب مناقشة من يشتغل بمقاومة إسرائيل أو سياساتها. فكيف تنتقده أو تسأله وإسرائيل هي المعتدية دائما أو الظالمة بالأصل؟ فكيف أمكننا أن نسأل حزب الله عن حقه في توريط لبنان وأهله في حرب غير ضرورية ما دامت المعتدية هي إسرائيل؟ أو كيف تسأل حماس عن قصف مدنيين إسرائيليين بصواريخ القسام ما دامت إسرائيل تقصف المدنيين الغزيين يوميا؟ ومنه، كيف تسأل سياسيين فلسطينيين عن تخلفهم في استنكار قصف المدنيين الإسرائيليين في حين أن قادة إسرائيل مستمرين في عدوانهم؟ بمعنى، أن ما دامت هناك إسرائيل مثلا أو أمريكا أو الغرب فإن كل ما يفعله الفلسطيني أو الحزب اللهي أو العربي عموما مبررا سلفا وأخلاقي في الوقت نفسه. وإذ لم يكن أخلاقيا فإن عدوانية إسرائيل تطهره وتجعله في منتهى الأخلاقية! بعدها لا يجوز الكلام ولا السؤال! يظنّ البعض ويصرّ أنه ما دامت إسرائيل هي المعتدية فإن كل ما يفعله نقيضها مبرر سلفا وأخلاقي مئة بالمئة. فمناقضة إسرائيل أو مناهضتها تكفي في ثقافتنا العربية لإضفاء شرعية أخلاقية على الراغبين بها حتى لو كانوا من السفاحين أو الجلادين. فكلما طرحنا مسألة قمع الحريات والحقوق السياسية والمواطنية في سوريا انبرى قوميون مرموقون يرموننا بحجة أن سوريا هي قلعة الصمود في وجه المشروع الأمريكي! أو إذا أشرنا إلى ارتهان حزب الله للمشروع النووي الإيراني ولولاية الفقيه، وأنه يلتف على الدولة اللبنانية ويخطفها موردا في إثر مورد، قال لنا القوميون ذاتهم، أنظروا كيف آلم هذا الحزب إسرائيل وأربكها! وإذ لم تكن إسرائيل في الميدان فهناك أمريكا. وفي هذا الصدد تحضرني كتابات قائد حزبي في بلادنا تؤكّد منذ إدارة نيكسون أنه يؤيّد كل من هم ضد أمريكا ـ هكذا! يكفي أن تكون ضد أمريكا ليكون أمرك مفوّضا وكل ما تفعله أخلاقي بأربع وعشرين قيراط!
لهذا العنف الممتد في الثقافة العربية مبرراته في الأيديولوجيا أو في الموروث الديني. وهو استراتيجية مقبولة على نحو جارف في اليسار العربي مثل اليمين العربي، في الشق العلماني من السياسة وفي الشق الديني منها. فما دامت الفرضية أن الثقافة العربية بتاريخها وناسها ومجتمعاتها ودولها وأنظمتها "ضحية كبرى" للغرب أو للعولمة أو للغزو فإن النزعات الأوالية ومنظومات الدفاع عن النفس هي الفاعلة وتشكّل قوة الدفع الأساسية لدى هذه "الضحية". أو أن الحركة الأساسية لهذه الثقافة القائمة على مواجهة "العدوان" عليها تُنسخ إلى داخل هذه الثقافة على شكل استراتيجيات عُنفية، وأكثر على شكل عناقيد لا تنتهي من "المراكز والأعداء"، ترتبط بينها بعلاقات عنف في الأساس، فيها المراكز والأطراف والسيد والعبد، والمنتصرون والمهزومون، والقاهرون والمقهورون. نسق شمل العلاقة بين القوى السياسية في المجتمع الواحد وبين الهويات والمجوعات المختلفة، وبين المراكز والدول العربية، أيضا.
فالعقائد القومية مارست أشدّ أنواع العنف ضد كل ما لا يستوي مع مفهومها للقومية والهوية الواحدة. والعقائد الثورية، أيضا، حذت حذوها في تثبيت النظرية وتكريس سؤددها. وها هي المشاريع الإسلاموية، أيضا، على الطريق ذاتها. تكفّر أولا كمقدمة لاغتيال الخصوم، أو أنها تخرج مجموعات بكاملها خارج حسابات الحياة وتدرجها ضمن المرشحين للموت! فبعد أن تحول مسيحيو العراق إلى أهداف في مرمى "المقاومات" الإسلامية يتعرض الأقباط في مصر إلى تهديد الداخل ممثلا بحركات إسلاموية نازعة إلى الاستحواذ عليهم بالعنف إلى تهديدات "القاعدة" بالانتقام منهم! ولم يكن نصيب مسيحيي فلسطين الداخل والضفة وغزة بأفضل بكثير. إذ أنهم يتعرضون إلى تهديدات علنية ومضمرة أدت حتى الآن إلى هجرة ثلثي مسيحيي منطقة بيت لحم ـ بيت ساحور إلى الخارج في العقدين الأخيرين! والتهديد ذاته من المشاريع الإسلامية الممتدة يطال كل الأقليات. وكان مشروعا البعث السوري والعراقي تفننا في محاصرة الأكراد وقمعهم! هذا العنف الذي يجعل من كل المشاريع "النبيلة" مجرّد ستار لكل الموبقات والسقوط الأخلاقي الممكن وغير الممكن.

فك المطابقة!
صعوبة أخرى في طرح السؤال الأخلاقي عربيا كامنة في أن مراكز ثقافية خارجية تطرح بدورها أسئلة تحديات على الثقافة العربية ومنتجيها! فكيف لي أن أسأل، أنا العربي، سؤالا يُمكن أن يسأله الأمريكي، عن قمع المرأة العربية مثلا أو عن جدوى العنف المدمّر في شوارع بغداد؟ أو كيف أناقش لا أخلاقية انتحار شاب فلسطيني بحزام ناسف وسط جمهرة من اليهود يحتفلون بعيدهم ما دام المذيع الإسرائيلي أو رئيس الحكومة الإسرائيلي سيسأل السؤال ذاته على مرأى من مشاهد التقتيل المبثوثة؟ أو كيف يُكن لمثقفين عرب أن يطالبوا بالديمقراطية وبانتخابات نزيهة وحق الترشّح في الانتخابات ما دامت أصوات أوروبية وأمريكية جلية تنادي أو تحثّ على ذلك؟ بمعنى، إننا نرتدع عن السؤال الأخلاقي كي لا نبدو متبنين لرواية "العدو" أو "الغرب". فكلما نشطت عندنا المنظمات النسوية من أجل رفعة المرأة ومساواتها والجندر والتغيير الاجتماعي، اتهمها قوميون وإسلاميون أنها تستورد خطابا غربيا وتقليعات أجنبية غريبة عن مجتمعنا! يتمّ تصنيف السؤال الأخلاقي في خانة أسئلة "أعداء الأمة" وهي استراتيجية فاعلة، وإن لم تكن ذكية لصدّ السؤال الأخلاقي وإسكات صداه في الحياة العامة. وعلى الخط نفسه، ذاك السجال الدائر أبدا بمبادرة اليمين العربي المتدين والعلماني، على السواء، عن تمويل الصناديق الغربية لمشاريع قِيَمية في العالم العربي. في ضوء استناد معظم مؤسسات المجتمع المدني العربية إلى دعم صناديق في أوروبا وأمريكا أو سواهما، وهو ما يشكّل "ثغرة" بالنسبة لأوساط عربية في الحكم أو في المعارضات الإسلامية والقومجية اليمينية لتهاجم منها كل النشاط القِيَمي والأخلاقي في المجتمعات العربية لا سيما تلك الأنشطة المتصلة بحقوق الإنسان والحريات العامة والشخصية، وبقضايا المساواة للمرأة والأقليات. وكأن هذه المؤسسات الطالعة من صلب احتياجات المجتمعات العربية ومواجعها، والتي تحمل رسائل قيمية أخلاقية، تصير متهمة من ليلة إلى ضحاها بـ"العمالة" للغرب أو بـ"تمثيل" أجندات غربية في أقلّ تعديل.
صحيح أنه قد يكون هناك تطابق بين أسئلة أخلاقية في المجتمعات الغربية وبين تلك في المجتمعات العربية، وهو تطابق بحكم التشابه في تنظيم المجتمعات البشرية وطبيعة العصر وما فيه من أفكار وقضايا عابرة للحدود. إلا أن الثقافة العربية تفهم هذا التطابق على أنه "أمر غير أخلاقي" وينبغي ألا يتجنّس في رحابها وكياناتها. ومن هنا الهجوم على "السؤال الأخلاقي" العربي على أنه غربي أو صدى للغرب! وفي هذا السياق تبرز إشكاليتان أخلاقيتان في المجتمعات العربية، الأولى ـ أن الثقافة العربية لا تقترح نظاما أخلاقيا بديلا على فرض أن السؤال "الأخلاقي" هو غربي الهوى والمصدر! أما الإشكالية الثانية الأكثر حدة، فهي تلك الدلالة الضمنية لمثل هذا الانقضاض على المؤسسات المدنية العربية بحجة التمويل الغربي لها. فالمبادرون إليه يفترضون ضمنا أن الأخلاق هي من إنتاج الغرب وحده، وأن هذا الغرب إنما يريد أن يُحرج المجتمع العربي بأسئلة أخلاقية! كأن "الأخلاقيات" هي من صنع الثقافة الغربية التي تقوم هنا ـ وفق هذه الفرضية ـ بغزو أخلاقي للمجتمعات العربية! أما المحصّلة فهي قصور أخلاقي يتجسّد في العودة إلى أخلاقيات الماضي والموروث الديني، وهي في غالبية الأحيان لا تتماشى مع حركة الزمان، أو أنها تُظهر أصحابها قساة قلوب ومتخلفين، في أحسن الأحوال، أو مصاصي دماء أو عنيفين لا يقيمون وزنا لا لحياة الإنسان ولا لحقوقه خاصة عندما يكون الأمر بشأن المرأة أو مجموعات مستضعفة ـ كالمثليين والمثليات جنسيا. وهو، بطبيعة الحال، الفرار الجماعي والفردي من استحقاق التحديات والأسئلة الحاضرة إلى معارج نص ماضوي تقادم وصدئ تماما، أو إلى "ثقافة القبيلة" ومفاعيل الثأر والانتقام والغزو والسبايا والغنائم.
منظومة الصدّ الأخلاقي هذه ـ فك كل تطابق أخلاقي مع الغرب حتى لو كان محصلة حاصل أو ثمرة التوقيع على الوثيقة ذاتها مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو حظر التمييز العنصري ـ تؤثر في المجتمعات العربية وتفخّخ حراك النشيطين والنشيطات في الساحة الأخلاقية الأخلاقيين وتحدّ من إمكانية تحوله إلى تحدٍ حقيقي للمجتمع ومراكز القوة فيه. فهم لا يُريدون أن يُحسبوا على الغرب الذي يناهضون نزعات فيه أو ظواهر في ثقافاته أو عدوانيته تضرب المجتمعات العربية من حين لحين، فيرتدعون عن قول كل "حقيقتهم" الأخلاقية أو يلجأون إلى مسايرة مجتمعاتهم والدخول فيها سعيا للابتعاد عن الآخر الغربي ومنظومة أخلاقياته علما بأنها أخلاقيات كونية وإنسانية شمولية غير محصورة في غرب أو مراكز غربية! وكثيرا ما تكون أفعالهم محصورة في نُخب النُخب أو أن تكون شعبوية المضامين تساير المزاج العام. فنراها تركّز جهدا خاصا في نقد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي وتناهض القمع في كل مكان في العالم سوى المكان الذي تتحرك وتنشط فيه، في بلادها! بمعنى، إنها تقوم بفعل الإزاحة والإسقاط. ومن المفارقات ضمن هذه الظاهرة هو دأب هذه القوى على كيل المدائح للفكرة الديمقراطية وعقد الندوات والحلقات المتمحورة حولها والامتناع في الوقت ذاته عن مناقشة الاستبداد والقمع وأنظمة المخابرات ومصادرة الحريات، وهي القضية الأساس في هذه المجتمعات! بمعنى ما، يتنازل العرب وفق هذا النسق للغرب عن "السؤال الأخلاقي" وينقضّون على كل عربي وعربية تسول لهما نفساهما أن يقتربا منه!

البُعد الأخلاقي ـ المستوى العملي
في المستوى العملي لنقد الضحية أسئلة تتعلق بالجدوى من هذا الفعل أو ذاك (من خطف الطائرات مثلا أو من إرسال المنتحرين إلى المراكز التجارية في إسرائيل والعراق وأفغانستان وغيرها). هل هناك جدوى تبرر العمل اللا أخلاقي؟ هذا سؤال بدئي سنفترض جدلا فقط أن الإجابة عليه بالإيجاب! لأننا إذا افترضنا أن ما من جدوى تشرعن الأفعال غير الأخلاقية مهما يكن، فإننا سنغلق هذا الملفّ هنا ونكتفي بما أوردناه من مقاربة نقدية للضحية العربية وأنساق تفكيرها وأدائها! لكننا سنقبل التحدي لأنه جزء مما يحصل عندنا في الثقافة العربية التي يعدنا أصحاب المشاريع فيها بقبول الهنات والممارسات الخطأ وحالات الطوارئ والقمع والتقتيل الجماعي كمسائل هي في عداد الخطأ أو في عداد المؤقت ريثما يستوي الأمر وتختفي من مشاريعهم كل علامات الجور والغبن واللا أخلاقية.
كان الماركسيون العرب ذرائعيين بامتياز عندما قالوا بإمكانية وقوع أخطاء في الثورة وهي مبررة مسبقا بحكم الغاية ـ التحرر والاستقلال وإقامة النظام الاشتراكي تمهيدا لتحقيق الشيوعية. ومثلهم كان القوميون العرب الذين رفعوا الأمة ـ نظيرا على الأقل ـ إلى مصاف المقدس والخلود! فهم، أيضا، كانوا ذرائعيين في تبرير مشاريعهم واعتبروا الدموية والعنف الداخلي المدمّر من مقتضيات المشروع. وطالبونا بتفهّم القمع والاستبداد ودوس الحريات وأنظمة المخابرات وحالات الطوارئ كضرورات لا غنى عنها لتحقيق مجد الأمة بل وحتى ترسيخ بناء الدولة! وأتى الإسلامويون ، ومنهم من كانوا ماركسيين وقومجيين، وبزوا من سبقهم في محاولة تبرير العنف غير المبرر. بمعنى ما، لقد جعلوا من العنف سيد الأحكام متجاوزين ما عرفناه ممن سبقهم من قيادات تيارات أخرى. أي، أن هذا العنف الطاغي الآتي من كل المشاريع العربية منفصلة مؤتلفة كان الاستراتيجية الأساس في كل نضال وقضية بما فيها العادل والمحقّ!
ويسأل هنا ذاك السؤال "العملي" الذي يقترحه علينا "العمليون" بقولهم "الامتحان في النتائج"! ـ كما برّر عَبَدة ستالين جرائمه! وذهبنا لقياس النتائج من مرحلة التحرر العربية إلى فلسطين ولبنان والعراق، فلم نجد سوى الخيبات والفشل والإخفاق. فلا الدولة العربية ارتقت إلى المنشود المعقول، ولا المشاريع السياسية أطلعت للناس الفجر. فنضال على الطريقة القومية أفضى إلى إضاعة فلسطين، والنضال على الطريقة الثورية المركبة أفضى إلى مزيد من الضياع. هذا فيما قوضت المشاريع الإسلامية "المقاومة" أسس العروبة من جذورها ماضية على ما كان قائما من سيادة ودولة. صحيح أن حزب الله قد أحرج إسرائيل لكن بثمن ضياع الدولة اللبنانبة أو وشك ضياعها! وصحيح أن "حماس" "صمدت" في غزة لكنها كرّست انشطار الحق الفلسطيني ونظام الإرادتين المنفصلتين!
إن القصورات الأخلاقية في المشاريع العربية بنيويا لم تُفض إلى تحقيق نتائج عملية ترفع الرأس وتشرّف الجماعة. بمعنى، أن "قبولنا" لغرض فتح النقاش بفحص النتائج وعدم الوقوف عند "الأخطاء في التطبيق"، أو "هفوات الثورة" أو "العنف الزائد عن اللزوم"، لم يوصل القوميين ولا الثوريين ولا الإسلاميين إلى نتائج عملية يُمكن أن تشكل نجاحا يُنسي المآسي على الطريق. حتى تضحيات بلد كالجزائر التي كبرنا على ما أنتجته من مقولة تُهنا بها ردحا ـ بلد المليون شهيد ـ انكفأت على ذاتها ليفرّ الوطنيون وخيرة أبنائها إلى فرنسا التي قاوموها طلبا للأمن والسلامة! أما الثورة الفلسطينية فقد انقصم ظهرها مرات عديدة بفعل العنف الداخلي وتغليب استراتيجيات العنف غير المحسوب والسياسات غير المنصفة تجاه العدو الإسرائيلي وتجاه الصديق ـ الأردن ولبنان مثالان ـ وظلت أسيرة أنماط غير أخلاقية في منطلقاتها ولا في مؤداها.
أمكننا أن نعود بالسؤال عن النتائج العملية للمشاريع العربية التي دعتنا وتدعونا إلى إغفال قصوراتها الأخلاقية وعدم محاسبتها من هذا الباب إلى مفاصل متعددة في التاريخ العربي والإسلامي الحديث. لكننا سنصاب في كل مرة بخيبة متجددة بدلالة أن مشروع الدولة يعيش منذ البداية تقريبا ـ بتفاوت من موقع لموقع ـ بدون مواطنة تُذكر، وإن مشاريع المقاومة مشغولة حتى الآن بحساب الضحايا والخسائر! بمعنى، أن لا أحد استطاع أن يحقق "غاية" تبرر لنا وله "الوسائل" مثل العنف والاستبداد وقتل المدنيين بالجملة والمفرّق والتخلي عن الأخلاق في أدائه وسياساته! لا أحد في العالم العربي يستطيع أن يقف ويعلن أنه إنما حقق غايات تبرر الوسائل!

"العزاء" في لا أخلاقية الآخر
إعدام صدام حسين استقدم عليه رحمات من كل حدب وصوب. فموعد إعدامه وطريقتها وسلوك الفاعلين والاحتلال الأمريكي وإخراج الجريمة، كلها شكلت حافزا للرحمة والشفقة علما بما صنعته يداه من جرائم لا تقلّ بشاعة. بل أن الحقبة المستمرة التي أعقبت حكم صدام جعلت الكثيرين ـ وعبروا عن ذلك بشتى الطرق ـ يحنون إلى عهده وحكمه. يُمكن فهم ما نشأ من حالة عبثية يحن فيها أناس عاديون لحكم نظام مجرم في أدائه ومؤداه. وفي رأينا أن المر لم يأت فقط من ثقافة قومجية أو عهر سياسي يبرئ ساحة القائد ولو جار وطغى وتجبّر ـ أنظر ما فعله شيوعيو ستاين أو تشاوشيسكو ـ بل جاء بسبب انزلاق العراق إلى دورة عنف مبثوث ومعلن ضاق به الناس وأنهكت أرواحهم. بمعنى، أن ما فُهم عند الناس كحقبة أكثر دموية وعنفا وتقتيلا، ظلل على ما فعله صدام وأضاء فترته بضوء مقارن وأدخل في حساب الأمور النظرة النسبية. فما دام التقتيل الآن أكثر مما كان، أو على الأدقّ، يتم على الهواء وبالبثّ المباشر، فإن حقبة صدام تبدو "أرحم"! بمعنى أن جرائم صدام انغسلت بجرائم الحقبة التي تلتها! أو كلما ظهر سفاح أغفلنا السفاح الذي سبقه! هذا هو "المعيار الثقافي" كما رصدناه في العراق وغير العراق من مواقع عربية. "أخلاقية نسبية" درجت على تبرير العنف السياسي وجرائم الأنظمة بالتأشير على جرائم أكثر فظاعة لنظام يخلف أو يعقب!
إن ما تقدم من مشهد يمهّد للمشهد الثاني الأكثر شيوعا وهو نسق تبرير جرائم الذات بجرائم الآخر. أو بصيغته الأخرى، رؤية كل ما ينمّ عن الجماعة العربية المحقّة في مطلبها ـ كنس الاحتلال الإسرائيلي مثلا، أو مناهضة الإمبريالية أو الأمريكية ـ كأمر مشروع بل ومطلوب ما دام يستهدف الآخر أو قياسا بما يأتي به الآخر. وهما أمران متّصلان في دفعهما نحو نسق آخر أشدّ فتكا بإمكانية نشوء ضوابط أخلاقية في السياسة العربية والإسلاموية. في البداية، تمّ تبرير كل فعل ضد العدو باسم "الحق العربي" الذي صوّر على أنه مطلق، وباسم مقارعة "العدو الغاشم" الذي بدا غاشما بشكل مطلق! وهنا، كانت السماء هي الحدود لأفعال العنف المدمّر التي ردّ عليها الطرف الإسرائيلي عادة بأضعاف من الهول والترويع. وقد كان الردّ الإسرائيلي عادة ما يشكّل تبريرا للعنف العربي باسم المقاومة وللعنف الذي سيأتي رداً على العنف الإسرائيلي. من جانبها، تفننت الثقافة الإسرائيلية في تبرير عنفها الأول ـ لدى إقامة إسرائيل على وطن الفلسطينيين ـ والتالي ـ السعي إلى تثبيت السيادة الإسرائيلية وتحصين البيت القومي اليهودي. وهو ما شكّل في الجهة العربية، على تعدد الفاعلين فيها، "عزاء" برّر العنف العربي مسبقا وأوتوماتيكيا، ذاك العنف الموجّه نحو هدف إسرائيلي وذاك العنف الموجّه نحو الذات بذريعة أن الوقت كل الوقت، والموارد كل الموارد لمحاربة إسرائيل! بمعنى أن إسرائيل كتمثيل للعدو بامتياز زوّد الثقافة السياسية العربية بذريعتين "معزيتين"، الأولى ـ أن عدل القضية العربية ـ الفلسطينية مثلا ـ يجعل من كل فعل شرعيا وممكنا طالما أنه يستهدف إسرائيل على نحو ما ولو تيمّنا! وهو ما تطور كنسق متأصل في الثقافة السياسية حتى دارت دفة العنف نحو الذات دون أن يشعر العرب بالفارق أو بالمفارقة! الثانية ـ أن العنف الإسرائيلي وتجسيداته المروّعة من قبل ومن بعد ظلّلت على العنف الداخلي العربي وتسترت عنه. بل إن الطرف العربي على أنظمة الحكم والحركات الثورية والمقاومات الحقيقية والموهومة غالت في اعتقادها بأخلاقيتها قياسا بلا أخلاقية الآخر الإسرائيلي. بمعنى، أن لا أخلاقية إسرائيل المطلقة حسب الرؤية العربية ومحورة الحِراك والخطاب وصناعة الوعي الجمعي حولها، ساعد في هروب الثقافة العربية من لا أخلاقيتها هي. ولعلّ أبرز ما تشكّل في الوعي العام العربي هو الاعتقاد بأن ما دام العربي ينشط ضد إسرائيل وسياساتها وضد أمريكا وهيمنتها فإنه على حق دائما! أو أن "نضالاته" و"مقاومته" لمشاريع أمريكا وإسرائيل، حقيقة كانت أو موهومة، تبرئ ساحته من كل ما يُمكن أن يقترفه على الطريق، حتى لو كان تكريس ضياع القضية الفلسطينية أو هدم الدولة اللبنانية ومؤسساتها! بل أكثر، هناك مَن يركّز الحديث عن أمريكا أو إسرائيل كتمثيل مرعب لمشاريع هيمنة، لكنه، يصرّ، وباليسارية الطفولية ذاتها، أو بالتدين الشعبوي ذاته، أنه يناصر إيران ومشروعها الاستحواذي والنووي كنقيض لمشاريع إسرائيل أو أمريكا. بمعنى، أن لا أخلاقية العدوّ لا تبرر لا أخلاقية الذات فحسب، بل تدفع نحو النقيض اللا أخلاقي في القطب الثاني للمعادلة.
غياب السؤال الأخلاقي من غيابات أخرى!
أعتقد أن الثقافة العربية في أدائها العام هي أكثر الثقافات مراوحة في دهاليز مقولة "الغاية تبرر الوسيلة"! وهي مقولة إما أن تصرف النظر عن الاستراتيجيات أو تبررها مسبقا بدعوى نُبل الهدف النهائي. هذه من ناحية، لكن سأردّ الأمر إلى بنية المجتمع العربي التي ولّدت أنساق ثقافته. فقد لاحظنا ضمور الطبقات الوسطى في المجتمعات العربية وهي المرشّحة تاريخيا لفعل النقد وتطوير المعايير الأخلاقية. وعلى المستوى ذاته، فقد لاحظنا، أيضا، ضمور المجتمع المدني بسبب ضمور مفهوم المواطنة العربية والتطابق الحاصل بين المجتمع والدولة، وبين الدولة والسلطة التنفيذية. إنها ثقافة واحدية في حاكمها وحُكمها، تتحرّك فيها الأفعال باتجاه واحد، من الحاكم إلى المحكوم. ولأنها كذلك، فما استوعبت التعددية ولا قبلت بالاختلاف. بل أن ميزة ثقافتنا هي قصورها في ترتيب الخلاف والاختلاف، في تصريفهما. لقد عجزت المشاريع العربية عن إنتاج آليات أو ميكانيزمات متفق عليها تنظّم العلاقات الخلافية وتبتّ فيها. فلم نأخذ من التجربة الإنسانية الذي مرّت بأفظع مراحل وحقب، لا الفصل بين السلطات ولا التداول على الحكم ولا حق الأقلية في أن تصير أكثرية ولا الكوابح الدستورية التي تحمي من التفرّد والاستبداد، ولا المواطنة وما تفرضه على الدولة من واجبات حقوقية نحو الفرد والمجموعات. مثل هذه الآليات هي ثمرة الفكرة الديمقراطية والحداثة وما بعد الحداثة، وهي ليست مجرّد أزمان أو حقب تاريخية أو فكرية، بل نظام حياة وسلسلة من المؤسسات والمرتكزات المفقودة في الثقافة العربية. ومع فقدانها فقدت هذه الثقافة القدرة العملية على نقد الذات أو قبول قانون النفي عليها وبالتالي على طرح السؤال الأخلاقي المنظم أو غير المنظم. وهو عجز يتحول في حال وجود ضحية عربية إلى سابع مستحيل! إلى مسألة غير واردة بالمطلق. ففي الحالة الفلسطينية أو اللبنانية يستمدّ "المناضلون" أو"المقاومون" الحقيقيون والمتخيلون شرعيتهم، ليس من عدل قضيتهم فحسب، بل من ثقافة عربية مساندة لا تسأل السؤال الأخلاقي في العادة والمألوف، فكم بالحريّ في حالة الضحية الفلسطينية أو اللبنانية!
لقد اعتقد العربي أنه محقّ في مواجهته الحقيقية أو الوهمية للغرب. ولأنه محقّ، فإن كل ما يأتي به من أفعال محقّة بالضرورة. وقد سارت الضحية العربية في المسار ذاته خطوات أبعد حينما طالبت بإعفائها من تبعة أي سؤال أو محاسبة، وليس فقط في المستوى الأخلاقي بل في مستوى الجدوى والنتائج، ومدى علاقة ما تفعله بتحقيق الهدف أو المشروع. وقد حصلنا في "نهاية التاريخ" على أنظمة ومشاريع وثورات خارج المساءلة وخارج مدى السؤال الأخلاقي مندفعة بقوة نحو رسم الراهن العربي والإسلامي، استراتيجيات ووسائل ابتعدت بنا عن الأهداف النبيلة والجنة الموعودة. وهل يُمكن دخول الجنة بغير نظام أخلاقي؟ نقرّ بضرورة العنف لغرض التغيير وإحقاق الحق لكنه لا يُمكن أن يكون عنفا منفلتا. بل أن مشروع الدولة ـ أي دولة ـ يقوم على احتكار العنف لكنه عنف محسوب ومكبوح بالدستور واستقلالية القضاء وسلطة القانون وحقوق المواطنة وجبهة من المنظمات المدنية الحقوقية والنقدية. ثمة علاقة بين غياب السؤال الأخلاقي في الثقافة العربية وبين ضمور المواطنة في الأقطار العربية إلى حدود التلاشي. وضمور المواطنة هو محصّلة حاصل خصوصية ثقافية، أو أنساق ثقافية، وتطور تاريخي خضعت له على العموم المجتمعات العربية بتفاوت ما.
نقد الحالة العربية يأتي في أغلبه من "خارج" هذه الحالة إذا صحّ التعبير. فالتنظيرات النقدية تفد في العادة من أوساط عربية خارج "الوطن"، في دولة مجاورة أو في دولة المنفى. لأن الثقافة العربية كما صيغت في العقود الأخيرة، لا تقبل النقد الذاتي أو المعارضة إلا في هوامش أضيق من خرم إبرة. ولأن النُظم العربية تميل إلى الاستبداد إذ لم تكن مستبدة فإن كل معارضة تتحول في مسارها إلى مشروع انقلاب مضاد. وهنا تنشأ وضعية من الشك والارتياب الشديدين بين أي نظام وأي معارضة. ويكون الأمر مشحونا إلى درجة تتعطل فيها كل الأسئلة لأن المعارضات تنزلق نحو طرح النقائض ـ وليس البدائل ـ أو لأنها تقضي حياتها في المنافي تحب أوطانها من هناك. إنه نسق يقبض على عنق الثقافة وأفضى بغالبية مثقفينا إلى العجز عن مغادرة مواقع الالتزام نحو آفاق الاستنارة.



#مرزوق_الحلبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسار عيّ على الطريقة العربية!
- في ذكرى 11 سبتمبر:الإرهاب الإسلاموي حين يكون بديلا للسياسة!
- نظريات وحقيقة بسيطة!
- هدايا من باريس
- وحده المزيّن!
- بوابات فاس
- عن المسألة الإيرانية: كيفما اتفق وليس أبعد من ذلك
- عن أسر الإسلام والتمثيل به!
- لو أني عرفت!
- سنوات
- عن محاكم التفتيش العربية
- تعب من الذاكرة
- أحاديث في الحالة السورية!
- الإرهاب في مومباي: نهاية دولة العقد الاجتماعي!
- -الصحوة الإسلامية- كطور من أطوار الهوية
- العرب والتأثير على النُخب في إسرائيل!
- الحرية من الدين الآن!
- قوميون بعمامة!
- الدولة الشعب المجتمع وضمور الدلالات!
- لبنان عشية الاستحقاق الرئاسي: جدلية التسميات المضلّلة!


المزيد.....




- شاهد: دروس خاصة للتلاميذ الأمريكيين تحضيراً لاستقبال كسوف ال ...
- خان يونس تحت نيران القوات الإسرائيلية مجددا
- انطلاق شفق قطبي مبهر بسبب أقوى عاصفة شمسية تضرب الأرض منذ 20 ...
- صحيفة تكشف سبب قطع العلاقة بين توم كروز وعارضة أزياء روسية
- الصين.. تطوير بطارية قابلة للزرع يعاد شحنها بواسطة الجسم
- بيع هاتف آيفون من الجيل الأول بأكثر من 130 ألف دولار!
- وزير خارجية الهند: سنواصل التشجيع على إيجاد حل سلمي للصراع ف ...
- الهند.. قرار قضائي جديد بحق أحد كبار زعماء المعارضة على خلفي ...
- ملك شعب الماوري يطلب من نيوزيلندا منح الحيتان نفس حقوق البشر ...
- بالأسماء والصور.. ولي العهد السعودي يستقبل 13 أميرا على مناط ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مرزوق الحلبي - أفكار في نقد الضحية،