صالح الياس الفراتي
الحوار المتمدن-العدد: 3145 - 2010 / 10 / 5 - 01:09
المحور:
الادب والفن
كثيرا ما تراودني ذاكرتي عن نفسي لتستدعي لي صورا صارت ملائكية في زمن تسيَّدت فيه الشياطين وارتفع فيه الحضيض وانتكست القمم .
زمن بلا موازين فيه مقياس كل شيء فوضى عارمة دبت في ادق التفاصيل ولا تكاد تنتهي .
صورة تجتاحني في لحظات يئس، ذات وجه تقول ملامحه انه ما عاش شقاءً او ضراءً ، صورة تختصر عناصر الطبيعة العجيبة ، هواء ، ماء ، الوان طيف ساحرة ... على علاقة غرامية بالاميرة .
المدنية تسكن في مخيلتي بوجهيها الشقي والسعيد ، ولان الصورة واحدة في عين نظرتـُها او في اثنتين ، اضطر كل مرة ان اتجاهل نصفي المأساوي لاسترد الاخر عسى ان يعينني على اهوال ترافقني حيثما وجدتني في ازقة تكاد تقتلع جذورها وتهرب شاردة الى حيث لا مكان ، الى حيث الامان .
كانت ام الربيعين "حلوة وفلة" هكذا تغنى بها ،امساً، المرحوم (حضيري بو عزيز) .
فماذا تقولين يا ترى لو شاهدت نفسك وانت بهذه الحُلة الرثة ؟
لاول وهلة ستتسائلين .. من هذه ؟
بالتاكيد لن تتعرفي عليك ، لان ام الربيعين فقدت ولديها وتوشحت بالسواد والهوان ، وامتلا وجهها تجاعيدا وحفرا .
نعم . لن تعرف نفسها عندما تجد ابنائها يقتـِّل بعضهم بعضا ، ومن ائتمنتهم على نفسها واهلها قد خانوا الامانة وفرطوا بها لقاء "ثمن بخس" .
ويقينا ستشفقين على هذه المدينة التي هي انت ، دون ما تدرين !
لكن عندما تتيقنين انك هي ، ستحل عليك الفاجعة ...
سيتجمد الدم في عروقك .. ثم فجأة تبدأين بالغليان .. ستعترضين وربما تـُجنـّين فتنفجرين صارخة :
لا...هذه لست انا !
انا الجميلة ،العريقة ،العظيمة ،المنيعة...
انا التي اطعمتُ الجياع ، وانجبتُ السباع ، واحتضنتُ الانبياء ، وآويتُ الغرباء...
وكلما توغلت المدينة في نفسها تسارعت دقات قلبها وازدادت هواجسها وبدات تهمس لنفسها :
ما هذا يا الهي ؟
نفايات متراكمة ، كتل اسمنتية مبعثرة تقطع اوصال الشوارع المضطجعة ، المرهقة؟
عجيب امر هذا المكان !
أ حل وباء اهلك ساكنيه ؟ ام ان ارواحا شريرة احتلت المدينة ففروا منها هاربين ؟
تدمدم الزائرة التي ترتعد فرائسها :
أ هذه الشوارع والجسور بلا معيل ؟
وتلك البنايات المهدمة ، أي معول هدم قادر على احداث هذا الخراب؟
ترى ماذا فعلت ليقام عليها الحد؟
زنت ؟ سرقت؟ قتلت؟ ام خانت؟ ...؟؟؟ اي ذنب عظيم اقترفت؟
وأي مدينة هذه ليس فيها اشارة ضوئية واحدة تصلح للعمل !
وفق اي نظام تسير اذن والى اين ؟؟
يبدو انها تسير مسرعة في الاتجاه المعاكس ... نحو المجهول ، الى مصير مهول ، ومن يدري قد تكون الهاوية وجهتها !؟
وان توقفت فهي على شفا جرفٍ هار!
ثم تسمَّرت انظار الزائرة "المترفة" على خرق ممزقة تشبه الاشباح ، كأن ارواح اصحابها الموتى تلبستها .
ينعى ... انتقل الى رحمة الله ... بمزيد من الحزن والاسى ...
أ يعقل ان يصل الاعلان عن الموت بهذا الشكل الاحترافي !؟ لا اكاد اصدق ما ارى !
لماذا هذا الجسر مغلق والاخر مقعد ؟
كيف يطيق الناس عيشا في هذه الخربة ، بل المقبرة؟
كل شي في المكان مهان ... الحجر والانسان ، القانون والفنون ، الدين ... نعم الدين ... القتل والتسليب ينسب للدين وباسمه ، والاخير براء من المجرمين ... لا قيمة لاي شيء هنا سوى العنف ، ودائما العنف .
السكون عميق جدا في ليل "المدينة المسكينة" واذا اسدل الظلام ستاره يُهزم الجميع امام سلطان يتقمص كل شيء في هذه المنازل المتراصة، الا الموت الذي يابى نعاسا او فتورا .
هل "الاميرة" تطيل نومها ؟ ام انها تتظاهر؟
أ تهرب من شيء ؟ ظالم مثلا ؟
صحيح ، فنوم الظالم عبادة ، وما اكثر الظالمين في ام الربيعين !
المدينة لا تنام وهل يقوى على النوم ذو جرح نازف ،قد تقرّح وتقيّح !
"المسكينة" تنصت لهذ الدمدمات والتساؤلات المتهجمة ، فتطأطأ خجلا ومرارة.
تحاجج نفسها : ليس ذنبي .. وما جريرتي
انا لا قوة ولا حول لي
الكل مقصر ، مذنب ، متهم ... هذا لفعله وذاك لصمته
الجميع يرى ويتظاهر انه لا يرى
وانا البريئة ، انا المجنى عليها
فما حكمك يا قاضي؟ ام ان صوتك بُحَّ وملىء البارود كفة ميزانك فخالط حكمك الهوى ، والخوف ؟!
وانتم تعسا لكم ايها المجرمون تعسا لكم .. فانني منتصرة وانكم لمنهزمون
انني باقية وانكم لراحلون ، ولملعونون الى يوم تبعثون ...
مدينة الموصل الحدباء "اميرة مجروحة" قالتها شاعرتنا (بشرى البستاني):
الموصل
أيتها الغراء
أيتها الغزالة التي تنام في العراء
لا تفزعي إن جئت للشهادة
فسارق البلدة إن صدقت
سيأمر الثور الذي يحمل فوق الماء
عرشك أن ينفض قرنيه
فلا يبقي سوى الصحراء
أيتها الأرض قفي في الجلسة الأخيرة
ولتكشفي عما وراء الدغل من حروق
ولتصحبي شهودك ...
الأشجار،
والأنهار،
والطيور..
أمام هذا الإثم الكبير
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟