أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز العرباوي - بساتين الصمت : قصة















المزيد.....

بساتين الصمت : قصة


عزيز العرباوي

الحوار المتمدن-العدد: 3136 - 2010 / 9 / 26 - 15:27
المحور: الادب والفن
    


بساتين الصمت : قصة قصيرة :



ما أتعس هؤلاء النساء القادمات من الحاضرة بأزيائهن الهندسية !
يبدو عليهن من أول نظرة أنهن مثل عصافير فقدت حريتها واقتيدت إلى سجون أكثر ظلاما وانتهازية، وأحزانهن تبرز بين شفاههن خطوطا سوداء قاحلة، وبين عيونهن سوائل كدرة، وأحيانا حمراء فاقعة. بينما هذه الخطوط والسوائل الملونة لا تبدل من حسنهن وجمالهن شيئا، ولا تغير من حفاوتهن المليئة بالحب والعشق والنفس التي تنظرهن الانطباع بأنهن حمامات مطوقات توحين بالحياة والبقاء، أما الروح الطيبة المرحة فحدث ولا حرج!! .
ولكنني كرجل يمكن أن أتساهل مع عيونهن الخارجية لا الداخلية قطعا، بل وأتحرى وعيهن في أحيان كثيرة، إذ أن العشق المحروم منه منذ ولدت لا يصلني عبر الفاكس الشفوي أو عبر الابتسامات المتسللة إلى الفضاء، أو حتى عبر جميع النظرات المتخفية والظاهرة لتلك النساء الحائرات اللاتي شاركنني المنفى والموت .
وما أقبح هذه الأقسام بجدرانها التافهة، وألوانها الميتة، بل وبأفكارها الشوفينية! .
تدل عليها علامات الخوف والهلع مثل رواية من الكلمات صف بعضها فوق بعض حتى حققت أهدافها. تمرر إلي نشرات سكيزوفرينية لا أدري محتواها ولا مرسلها، نشرات شتى معظمها ألغاز فنية غير مفهومة، ولكنها تدل على حب وإعجاب وتفاعل عبارات تنتشر في داخلها، ربما عشق أو إعجاب حريمي جذاب، ضحكات امرأة رقيقة تتبعها همسات مجهولة، أو ربما روايات وقصص حب تستعرض على وجوه الحاضرين .
تظل النساء ترسلن تلك الإشارات المفعمة بجرس الحب والإعجاب، والمترعة بالنظرات المترددة، عبر نوافذ الحرية، فتتطاير في الهواء لتمتزج بنترونات الأكسجين لتكون عالما آخر من النفائس، إلى أن يصل وجه مرقط منقط بالسواد، يحتج على أن ضحكاتهن تسكب الجدية والواقعية من مؤتمراته واجتماعاته، فيخرسن ويسترسلن في البكاء .
غير أنني كنت أعجب لهذه الاختلافات وأتتبعها في كتاباتي، أسجلها كأسرار التاريخ، حتى يأتي بأسرار وحوادث أكثر جدية .
انتظرت اليوم كالعادة حادثة وقصة جديدة تحدث بين أبطال هذه الحياة تنقذني من صمتي وفشلي في الكتابة، وعرفت أنني بعد ساعات سأشهد قصة عشق متردية تستمر أياما وتنتهي بعدها إلى السراب.
حين يخرج يونس إلى الطبيعة شريدا حزينا من الأوضاع الداخلية لتلك الفصول، لأن كلام ذلك المستبد يكتم الأنفاس والتفكير في آن. ولكنني كنت أستعذب في تفكيري تلك الأفكار المستحدثة التي كان يحملها يونس وينشرها في الهواء على حبال من سراب .
وقتئذ، كنت فرحا، وتسليت بتلك الصور المتواترة التي اختلف فيها الحاضرون. آنذاك، كانت الحياة ترسم لي لوحة فنية غامضة لا ينتهي الخيال فيها وتبتعد عن الواقعية أكثر منها عن التعبيرية .
بعد لحظة الصمت هذه، أزاح يونس الغبار الخيالي عن عينيه وعن تفكيره وتوجه إلى مقعد خشبي وجلس بجانب فتاة شقراء فارعة الطول، ثم نظر إليها بنظرات متوسلة كادت تفقده رجولته، وأطل على داخل الفصل بنصف نظرة، بينما كنت أراقب هذه الصورة الغارقة في النور الرخو الذي تتساوى فيه ساعات النهار مع الليل، بياض يبدو فيه الفضاء صحنا هوائيا مشروخا تبعثرت أقطابه، كانت الفصول تتوزعها الأجساد المؤنثة، والأجساد المذكرة القريبة إلى الأنوثة .
تعمقت فيها بنظري من النافذة حتى ملت عيناي، فقعدت على كرسي يتيم لا تبرحه أنثى في انتظار لفتة حريمية ما، لم يكن انتظاري طويلا، لمحت جسما أنثويا جميلا جذابا يقترب مني، طـأطأت رأسي خجلا، كأني لمحت معلمي يحمل سوطا، كان أمرا مغريا، لكني تركت المكان مختفيا عن الأنظار، أخلاقي لا تسمح بذلك .
اقتربت من يونس وجليسته، بحيث لا يرياني متخفيا وراء شجرة فارعة الطول، أرهفت السمع متلصصا، وسمعت هذا الحوار الرقيق منه، والغليظ منها:
_ إذا رغبت زيارتك في البيت، فهل تقبلين؟
_ ومن قال لك أنني أستقبل الرجال في بيتي ؟
_ هل تخافين مني ؟ إن قصدي طيب، أقسم لك. لا أريد إلا أن أرافقك في وحدتك الليلية، فالليل طويل وموحش .
_ إما أن تتأدب في حديثك، أو تنهض من جانبي ولا تكلمني أبدا.
_ آسف، لم أقصد إزعاجك .
ولكنني أعرف أنه كان يقصد هذا الإزعاج، وبقلق أيضا، سواء كان يقصد ذلك أو لا يقصد، فالفتاة قد فهمت مطامعه وأهدافه ولا يمكنها أن تصدقه أبدا رغم ما يبدو في عينيها من إعجاب نحوه عندما تراقبه وهو يتحدث إليها. هذا نصيبها في أول رجل تعجب به، وهذا قدرها المستور، وقد وعت ذلك جيدا، ولابد أنها اكتشفت عاداته وسيئاته من خلال الحوار الذي جمعهما، ولم أتمكن من إحاطته كله .
همست في نفسي: لابد وأن يخرج عن هذه التراتبية شخص ما، لن يبقى الكل صامتا في هذه البقعة الأرضية كأنه مومياء فرعونية، النساء والرجال معا، سكنت دقائق معدودة وبدأت بقراءة كتاب، حتى لا يجف فكري جفافه النهائي .
التفت إلى يميني، وسمعت صوتا طفوليا يأتي من وراء الفصل الدراسي، ذلك التلميذ الجيد الجاد يخاطب رجلا مسنا بصوت جهوري: "لن أذهب إلى المدرسة اليوم، أقسم بذلك يا جدي". أنا أعرف أنه سيأتي إلى المدرسة، وأنا جد متيقن من ذلك كل التيقن. كلمات تعيد حركات غير مطاقة في عقلي. بالفعل، لم يحصل على مراده. ثم قال الشيخ: "أي بني! تعال إلي أقول لك شيئا، لا تخف مني يا بني، أنا لن أضربك، ولن أضغط عليك يا طفلي العزيز، أنت حر في أن تذهب أولا، حسن، افعل ما تريد، لا تذهب إليها، ولن أتدخل في ذلك، أنت الذي سيستفيد ويتعلم وليس غيرك. ولا يهم أي أحد هذا الأمر، تعال فقط، قبلني يا طفلي العزيز". توقف الطفل قليلا، ثم فر مسرعا لا يلوي على شيء. قال الشيخ: "اللعنة عليك يا عفريت، ألا تستحي من جدك؟ لو تمكنت منك فسأريك النجوم في عز الظهر".
لم يعد صوت الطفل باديا، ولا حركته، ولا صوت جده المسن، تطلعت من النافذة، فسمعت صوتا نسائيا، وهمسات حريمية لنساء مجتمعات في ركن الفصل الخارجي، تتبعها حشرجات المسؤول على المدرسة، وحركات أطفال ينتظرون شيئا لم يحصلوا عليه .
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية زوالا، قلت في نفسي سأذهب إلى البيت لأهيئ طعام الغذاء، ثم أعود .
شرع المؤذن بصوت متشنج يعلن وقت صلاة الظهر، فحولت مسألة الجوع إلى ما بعد الصلاة والبحث عن الحسنات، متجاوزا في داخلي طقطقات معدية وقلقلة معوية أحسست بها تقطع أوصالي. استسلمت في سري ثم في جهري، حتى أيقنت أن هذا الجوع الطفولي لا يمكنه أن يتركني حتى أنتهي من أمر الصلاة، شلت يداي عن الاقتراب من ماء الوضوء، حدقت في الطاجين ورأيته يستغيث بشهوة. لابد أنه هو أيضا أحس بنفس الألم والجنون، ترددت مرات كثيرة قبل أن أستسلم للجوع .
انتهيت من إعداد الطعام وأكلته بشراهة، أحسست بموجة من الراحة والطمأنينة تغمرني، وفجأة سمعت دقا على الباب وحركة قلقة تماثلها. فتحت الباب وأدخلت يونس إلى الصالة، وأغلقت الباب وراءنا. جلسنا واحدا قبالة الآخر على فراش يثلج الصدر مقارنة مع فراش الأصدقاء. كان الصمت يملآ المكان وحشة وسكونا مغالى فيه، يونس يتابعني بعينيه، فقلت له:
_ مبروك للحب الجديد، يا سيدي، سمعت الحوار كله .
_ أنت مخطئ وحسود .
_ أرجوك، في هذا الأمر لا أقدر أن أكون كذلك. أخلاقي لا تسمح بذلك .
_ وسمحت لك بالتجسس، المهم، كل شيء انتهى قبل بدايته، اطمئن ونم على جنب الراحة .
_ حب وطمع، لا يمكنهما أن يلتقيا .
انفجر وصاح في وجهي وكأنه صعق صعقة كهربائية، أفقدته صوابه:
_ أنت لا تعرف شيئا عن الحب، اصمت وابق في جهلك وكبتك الدائم .
تمالكت نفسي قبل أن أجيبه:
_ شكرا لك على كل حال، فأنت ضيفي وأعذرك .
كنت أعذره فعلا، بل ومتسامح معه إلى حد النهاية. ولكنني كنت أود من كل قلبي أن يكون في هذه المرة صادقا وعاشقا حقيقيا لامرأة، لكنه خيب آمالي فيه .
خرجنا معا بعد أن ألح علي بذلك، واتجهنا إلى الفصول الفارغة، الكل غادر، جلسنا على مقعدين والصمت يلف المكان بغباره، كان ينفخ بحنق وشرود مبهمين. كنت أراقبه وهو شارد الذهن لا يبالي بوجودي. ثم أدار وجهه نحوي وبدأ يتطلع في صورتي المشخصة أمامه، وبالفعل قمت بذلك أنا أيضا، ثم انهمكنا في قطف الثمار المرة في بساتين الصمت !! .....



#عزيز_العرباوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وجوه الألم ....: قصة قصيرة
- الحاقدون.....: قصة قصيرة
- لقاء محزن ....: قصة قصيرة
- الكتابة لعنة ونقمة...: ق.ق.ج
- نفس القصة : قصة قصيرة
- فشل.....: قصة) قصيرة جدا
- محمد الماغوط رائد قصيدة النثر ومبدعها الكبير :
- إنسان = قصة قصيرة
- تداخل : قصة قصيرة
- انتظار : قصة قصيرة
- الحكامة في التربية والتكوين : الأسس والمعايير :
- المناهج الأدبية في خدمة التنمية : قراءة في كتاب الدكتور حسن ...
- المفاوضات غير المباشرة طريق نحو الهاوية :
- -منظومة التكوين في ضوء المخطط الاستعجالي- موضوع الندوة الوطن ...
- شهادة الشرف --- قصة قصيرة
- عبارة ....: قصة قصيرة جدا
- حوار مع الكاتب المغربي عزيز العرباوي :
- السراب .... : قصة قصيرة جدا
- التكوين الأساسي والمستمر والبعد عن الشفافية :
- جماليات القصة القصيرة : لإدريس الكريوي


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز العرباوي - بساتين الصمت : قصة