نادر قريط في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الديني والدنيوي والنهضة العربية المبتورة


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 3129 - 2010 / 9 / 19 - 13:50
المحور: مقابلات و حوارات     

أجرى الحوار : حميد كشكولي

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا – 6 - سيكون مع الأستاذ نادر قريط حول : الديني والدنيوي والنهضة العربية المبتورة.

 

1- كيف يمكن التمييز بين السياسي والديني في الإسلام؟ وقد اعتدنا أن نسمع أن دولة الرسول في يثرب كانت دينية ودنيوية، فهل تعني (( الدنيوية) الإسلام السياسي؟


من البداهة القول بأن السياسي والديني إختلطا في العالم الإسلامي، فالشريعة كانت عنوان الحاكم لتحديد المرجعية القانونية والتشريعية .. هذا كلام نسبي وعام؟ لكن الأهم وضعه في سياقه التاريخي، فدولة ما قبل الحداثة كانت تقوم جوهريا على حكم السلالات، التي تؤسس شرعيتها وسلطانها على الغلبة والعصبية ..هذا ما حدث لكل الشعوب القديمة وبضمنها منطقتنا، ففي القرن السابع م ظهرت سلالة (أموية) ورثت فارس وبيزنطا (آنذاك إنتهت فارس بمقتل يزدجرد الثالث حوالي 650م، وبتسليم ورثة هرقل ممتلكات بيزنطا التي ضمت سورية ومصر وشمال أفريقيا) ثم جاءت سلالة عباسية فسلجوقية..ثم أيوبية وصولا إلى سلالة آل عثمان). والإسلام كدين ومكوّن أساسي للتراث عاش بظلال تلك السلالات بشكل براغماتي نفعي تبادلي، من خلال حضور فقهائه وسدنته ووعاظه، وهيمنته على التراث الكتابي. ودارس التاريخ يجد أن الإسلام لم يبلور طبقة كهنوتية فعلية ذات مركز (بابوي) مستقل كالكاثوليكية التي مارست سلطتها بالتوازي مع سلطة الملوك والنبلاء الإقطاعيين.. فالعلاقة داخل الإسلام ظلّت هلامية يطبعها ميل للنفعية
أما ما نسمعه عن دينية ودنيوية دولة يثرب فهذا جزء من تاريخ مُتخيّل، فما وصلنا عن تلك الدولة (عبر السير والمغازي) ينتمي برأيي لأدب ديني أكثر من تاريخ فعلي. أدب صاغته الرواية القصصية بعد مرور أكثر من قرن على نهاية الأحداث المبكرة [ سيرة إبن هشام (توفي عام 768م). مغازي الواقدي (توفي عام 822م.) طبقات إبن سعد (توفي 845م.) وتاريخ الطبري (توفي 922م.)] حيث تمت نمذجة شخصية المؤسسين بما يوافق الظروف السيا ـ دينية للعصور اللاحقة، إضافة إلى أن القرآن نفسه (بدون تفاسيره وتأويله، والقواميس التي فُصّلت على مقاسه) لا يمنحنا تفاصيل كثيرة، بإستثناء ورود بعض الأسماء بينها إسم محمد وزيد وبكة والمسجد الحرام أو الأقصى وضرار. وهذه المُسمّيات يمكن أن تكون تأويلا متأخرا إرتآه سباكو التاريخ في أزمنة لاحقة. الأمر الذي دفع المرحوم سليمان بشير في "التاريخ الآخر" إلى التخمين بأن دولة يثرب لم تكن سوى ولاية تابعة لدمشق (وعثمان واليا لمعاوية) وحروب الردة وموقعة الحرة صدى لحملات تأديبية (غائرة في النسيان) شنها أمراء (أمويون) على الجزيرة؟! عليه فإن التمييز بين ما هو ديني وسياسي في تلك العصور يستلزم معرفة بالدولة القديمة والشرعية الدولية آنذاك ويتطلب نفض الغبار الأسطوري والتقديسي عن المدوّنة التاريخية، وتعميق دراسات المقارنة وفلسفة التاريخ ومناهج الفحص الأركيولوجي
وبنفس السياق أجد أن إحالة الدنيوية إلى الإسلام السياسي تتسم بالضبابية وتخلو من إطار نظري، فالمعروف أن الأخوان المسلمين الممثل التقليدي للحراك السياسي الإسلامي لم يتحدثوا عن مشروع دنيوي محض، بل عن "حاكمية الله" المرادفة للدستور. لكني أميل إلى أن الدولة الإسلامية منذ نشأتها، وحتى إنتهاء الخلافة العثمانية كانت دولة (علمانية) براغماتية [دخول الأعراب الإسلام أفواجا، مع ضعف إيمانهم، إنشاء (لاهوت) وعلوم كلام تبريرية، تقوم على مساحة ضيقة من التأمل الميتافيزيقي، وفتح الشريعة لسد الذرائع وتبرير المتع المادية للنظام الأبوي ( كالغزو ـ العبيد .. والمال والتجارة) والوعد بغفران الذنوب. وصولا للجنّة التي تم علمنتها لتصبح ملاذا للمشتهيات واللذائذ الحسّية] والسؤال المهم هل بإمكان أي مشروع سياسي، أن يكون لاهوتيا بالمطلق..هذا مستحيل طبعا؟ حتى الحكم (الديني) في إيران هو حكم دنيوي براغماتي (يصنع الصواريخ ولا ينتظر مدد الملائكة)

 

2- نلاحظ أن الأنظمة العربية تمالئ وأحياناً تتنافس مع قوى الإسلام السياسي ، كل نظام بطريقته، و في نفس الوقت تحاول ترضية القوى والشخصيات العلمانية ؟ كيف تفسرون هذه الحالة؟ وما هي عواقبها؟ وكيف تحسم هذه اللعبة في نهاية المطاف؟

ما ورد أعلاه يقودنا أولا إلى السؤال عن طبيعة الأنظمة العربية والظروف الدولية التي أتاحت ولادتها بعد إنهيار الدولة العثمانية ونهاية حقبة الإنتداب الأجنبي. ثم السؤال عن وظيفة دولة الحداثة الموسومة بالعقد الإجتماعي والمواطنة (وتتلخص واجباتها في حفظ الأمن الداخلي، والحدود، والسيطرة على الثروة وتوزيعها بما يضمن كرامة الآدمي، وإحتكار العنف، وتسيير دفة الثقافة) هنا يمكننا أن نتحدث عن غياب الدولة الحديثة في منطقتنا، فدولنا لازالت تحتكم لمبدأ الغلبة والولاءات والعصبيات، وتستمد ديمومتها من لعبة توزانات داخلية (قبلية جهوية مذهبية) وخارجية (مساعدات، إتفاقيات قواعد..إلخ) لذا تجد الحاكم يتحالف مع قوى التراث تقديرا لما تمثله من زخم وثقل (شعبي) وسلطة معنوية، وبنفس الوقت يفتح خطوطه مع شخصيات حداثية علمانية لتلميع صورته أمام السفارات الأجنبية. فأولياته هي إحتكار الثروة والسلطة
ولعل إنكفاء المد الأممي (الذي يتجاوز صيغة الأمة القومية ذات اللغة، والعرق، والدين الواحد) وخصخصة الدول لصالح نيوليبرالية ربحية (ترتبط جوهريا ببروتستانتية مستحدثة لفكرة أرض الميعاد) قد إنعكس سلبا وساهم في ترسيخ حالة مسخة. وجعل الحاكم (بأمره) يستمرئ اللعبة ويستمر بها.. أما عاقبة الأمور فلا شك ستكون وخيمة. لأن إستمرار تكريس الفساد والفشل والنهب والتهميش وفقدان القدرة على تداول السلطة هو إيدز يفقد المجتمعات مناعتها ثم يفتك بها. فهل لك أن تتخيّل سقوط بغداد (بدبابتين) لو أن العراق قام على عقد إجتماعي متين؟! .



3- كانت حملة نابليون على مصر في القرن الثامن عشر صدمة للنخب العربية و تحولا نوعيا و كميا في الفكر و التنوير ودفعة قوية لنهضة عربية واعدة ، لكننا نعيش اليوم تراجعا خطيرا في كل الميادين المدنية و في كل المجالات الإنسانية ، و اشتدادا في القوى الظلامية والرجعية ، وخصوصا بعد احتلال العراق وأفغانستان, وقبل ذاك, انهيار الاتحاد السوفييتي، رغم ادعاءات الغرب بأن قواته احتلت مناطق في العالم الإسلامي بهدف نشر الحرية والديموقراطية ومبادئ حقوق الإنسان. ترى كيف تنظرون إلى اختلاف الظروف بين الغزوتين الأولى والأخيرة ونتائجهما؟

صحيح أن صهيل خيول نابليون في باحات الأزهر عام 1798م كان صدمة لأنها حسب التأويل الأرثودكسي إستئناف للحروب الصليبية على دار الإسلام بعد إنقطاع، مع أنها في الجوهر هزيمة لسيوف المماليك القروسطيين أمام مدافع الحداثة، بيد أنها تظل حدثا محمّلا بالرمزية. ولاشك فقد إحتاجت الحداثة لقرن إضافي كي تطرق أبوابنا بجدية، فهي عملية تنال البنى الفوقية (الفكر) وتختلف نسبيا عن تحديث الدول وتطوير إداراتها وعتادها، الذي بدأ مع أسرة محمد علي ومع دخول المطبعة الإنجيلية بيروت في الربع الأول من القرن19 وتدفق الإرساليات التبشيرية إلى الشام، ثم إستمراره نهاية القرن 19 عبر إصلاح الدولة العثمانية وتجديد شبابها وإعلان الدستور وبناء سكك الحديد العملاقة.. عليه تكون غزوة نابليون فألا حسنا على المنطقة، وصدمتها لاتزال تذكرنا بالمطبعة وشامبليون والبعثة العلمية التي رافقته .. لكن صدمة السابع من أبريل 2003 كانت من نوع مختلف، فبلادنا التي عاشت إرهاصات النهضة وصدمة الحداثة والإنبهار بحضارة الغرب وآلاته وعلومه، سرعان ما شعرت بالإحباط والخذلان جراء السياسات الإستعمارية الإحتقارية والعدوانية الظالمة التي مورست في المنطقة (تحالف آيزنهاور آل سعود وسيطرة آرامكو، وإحباط ثورة مصدق وتمويل الإنقلابات العسكرية، ودعم إسرائيل على حساب الحق العربي، وأخيرا دعم الأصولية وحركات المجاهدين) هذه الأمور جعلت مشهد الدبابتين على جسر الشهداء تراجيديا، فالسيد بوش وعصبة محافظيه الجدد لم ينقلوا معهم المطبعة ولا بعثات علمية بل دمروا دولة قائمة وتركوا مرافقها ومتاحفها نهبا للسراق وطعما للنيران، ثم أدخلوا العراق في لعبة التشظية والتفتيت وحروب المخابرات الخفية (التي اصطلح عليها تسميتها: الإرهاب) وإشعال حرب أهلية وتهجير وتطهير طال ملايين السكان.. إذن فالمقارنة بين الغزوتين لا تخلو من السخرية فلكل غزوة سياقها وأهدافها وآثارها، ولا أظن أن هيغل الذي وصف نابليون ب "روح العالم على حصان" سيرى في بوش أكثر من "كاوبوي أرعن على حصان"


4- بعد 9 سنوات من إعلان الحرب على الإرهاب تقوم أمريكا و دول الناتو بمفاوضة طالبان والقوى المتطرفة بل إعادة مواقعهم السياسية التي فقدوها, فهل أن أمريكا و الغرب جادون في محاربة الإرهاب؟ وهل أن هدفهم هو نشر الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي؟

من المعروف أن حركة طالبان هي من بركات الحرب على السوفييت في أفغانستان، وقد أنشأتها المخابرات الباكستانية في كتاتيب بيشاور، ورعتها الأموال الوهابية، وأمريكا والناتو على علم يقين بأنهم يخوضون حربا عبثية على البشتون الذين يتم إختصارهم بمسمى "طالبان" فقصة الإرهاب من بدايتها نكتة سمجة، وطالبان أنفسهم لم يكونوا ضالعين بأحداث سبتمبر ولا علم لهم بها.. وكلّ جريمتهم تمثلت في إستضافة بن لادن حليفهم السابق في الجهاد، وهذه قضية ذات طابع قبلي ترتبط بتقاليد الضيافة البشتونية وحماية الدخيل، علاوة عليه فإن أحداث 11 سبتمبر الرهيبة ووفق مقاربة سوسيولوجية، تبدو لي أشبه بتصفية حسابات بين عصابات المافيا وحلفاء الماضي؟! وطبعا ذات طابع ثأري مغلف بهلوسة دينية. فمن تابع الحدث في لحظاته الأولى الطازجة، لابد يكتشف روحا من التشفي والشماتة بسياسة أمريكا، تجاوزت الإسلاميين لتغطي عموم اليسار العلماني (خصوصا الأوروبي) الذي نظر للحدث (وبرغم المشهد المروّع للضحايا) كواقعة ضد عولمة متوحشة، أي ضد رموز الرأسمالية التي تمثلت في البرجين، لذا فإن هذه الجريمة ليست صدام حضارات فعلي، لعدم وجود تناظر في القوة بين المتصادمين، فالغرب فعليا وعمليا يسيطر على منطقتنا ويملي عليها ما يريد، ويحرك خيوط الدمى فيها.
وإسمح لي أستاذ حميد أن أقول لك رأيا غريبا، فمنطقتنا لا تعاني من الإرهاب بل من قلة الإرهاب. العرب يعانون من الإستكانة والخنوع وإستباحة بلادهم منذ قرون، ويساقون بالعصا من أتفه جنرال أو شرطي، دون أن يرفعوا عقيرتهم، وأظن أن بن نبي لم يكن مخطئا عندما تحدث عن قابلية العرب للإستعمار (لاحظ أن فلسطيني غزة والضفة لم يلقوا حجرا واحدا على جنود الإحتلال الإسرائيلي إلا بعد مرور 20 عاما على الإحتلال فيما سُمي بالإنتفاضة الأولى، وهذا مثل أضربه للبعض لعلهم يتقون)
ما نعاني منه هو عنف داخلي عشوائي يُعبّر عن طبيعة المجتمع الأبوي، ويسري داخل هرم المجتمع بدء من الطفل إلى الأم التي تضربه إلى الأب الذي يضربها إلى الشرطي، المدير، الوزير. وصولا إلى قمة هرم الدولة الذي يعيد توزيع العنف نحو الأسفل. أما الإرهاب (الذي لا تعريف له في القانون الدولي) فقد أريد له أن يكون غطاء تبريريا لحروب الهيمنة، وأريد له حسب رؤية المفكر الفرنسي إ.تود أن يكون بلا عنوان لتبرير الحروب في أي مكان. أما دريدا فقد شكك أصلا بمصطلح الإرهاب وقال:“كلما إزداد المصطلح غموضا، أصبح عرضة للتطويع الإنتهازي" وكل لبيب يعلم أن كثيرا من ذلك الإرهاب هو فبركة مخابراتية في أقبية مظلمة (مع إستثناءات قليلة في العراق والجزائر وغيرها)
فلا غرابة إذن أن يتفاوض الناتو مع طالبان، فهم يعلمون ما خفي من المستور، ويعلمون أن الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تُصدّر بالدبابات ورشاشات بلاك ووتر .. إنها أساسا سلعة غير قابلة للتصدير.


5- حقق الغرب نجاحاً في عملية التنوير الديني في الديانة المسيحية وفصل الدين عن الدولة, فهل يمكن تحقيق مثل هذه العملية الحضارية في الدول ذات الأغلبية الإسلامية؟ وما هي مستلزمات ذلك؟

بادئ ذي بدء أسجل ملاحظة على صيغة وردت في السؤال "التنوير الديني" فهذه جملة لا محل لها من الإعراب، لأن إقتران الدين بالتنوير (مصادرة على المطلوب) ربما كان المقصود "الإصلاح الديني أو لاهوت الحداثة" لهذا تذكرت كانط الذي إرتبط إسمه بمصطلح "التنوير" وبالضبط في رسالة دبجها لأحد اللاهوتيين بعنوان: الإجابة على سؤال: ما هو التنوير عام1784م، وفيها يقول: "بأن التنوير هو خروج الإنسان من حالة العجز وبلوغ الرشد من خلال إعتماده على عقله دون الخضوع لأقوال الآخرين، ويختصر مفهوم التنوير: بالقدرة على التفكير المستقل عبر الممارسة النقدية المتواصلة" وبهذا فإن شرط التنوير هو تحرير الإنسان من هيمنة المقدس، أما خطوته الثانية فكانت بوضع أسس "الأخلاق" وتحريرها من وصاية الدين..وهذان المبدأن أصبحا فيما بعد أساس الحداثة..إلا أن كلّ ما قاله كان سيبقى محض كلام (وثرثرة) لولا وجود الطبقة البرجوازية، التي كانت رحم الحداثة أو الحامل الإجتماعي لمشروع التغيير. ولاشك فإن الكاثوليكية نفسها ساهمت أيضا في هذا الحسم، كونها سلطة موازية ذات عنوان معروف (الفاتيكان) يسهل الوصول إليه. في المقابل فإن حالتنا مختلفة تماما .. فالإسلام لا عنوان له (كل شيخ هو فاتيكان خليوي) من ناحية أخرى فإن طبيعة إقتصاد الكفاف وعدم الوفرة في المشرق وحضور القبيلة (العصبية) في النسيج الإجتماعي، لم يتح بلورة حقيقية للطبقات..فما لدينا هو هلام متداخل من الشرائح الإجتماعية التي تتوزع بين أغلبية من المساكين (بروليتاريا رثة: حسب المصطلح الماركسي) وأقلية من السلاطين وحاشيتهم وعسسهم. ومع إزدهار الريع البترولي وتآكل مفهوم العمل والإنتاج أصبح لدينا في بعض الدول طبقة وحيدة متخمة (مهنتها متابعة مسلسلات التلفزيون) وعندما لا يتوفر الحامل الإجتماعي للنهضة، يصبح النقد الديني عبثا وصراخا في برية؟ فالحاكم يحتاج الدين لإكتساب بعض الشرعية، والغني يحتاجه أيضا لمزيد من الربح (مادام الله يعطي من يشاء بدون حساب) والفقير يحتاجه أيضا؟ فعندما تكون الدنيا بؤسا وخرابا ويبابا فعليه بالآخرة وحسن المآل.
وبالعودة إلى جوهر السؤال يمكن القول بأن ما حدث في أوروبا لم يكن قطيعة بين الدين والدولة (التعبير يحتوي شيئا من الإعتباطية) بل فصل بين سلطة الكنيسة والدولة، مما أتاح للدولة إعتماد مرجعيات وضعية في التشريع والقانون وإستبعاد ما هو إلهي، لكن علينا الإعتراف بأن "القاعدة القانونية" التي تحكم المشرّع ترتبط جوهريا بمفهوم "ضمير الأمة" وعلى هذه المساحة من الضمير يمكن أن يلتقي الديني باللاديني.. أما في عالمنا العرب ـ إسلامي فإن سلطة المسجد هلامية، فالإسلام سلطة لغوية سيوسيو ـ تاريخية إمتازت بشريعة تحكمت في مفاصل الحياة وضبطت نظام رؤية العالم، لهذا يجب أن تكون العلمنة مبادرة ذاتية وصيرورة داخلية ضمن سياق وأفق مجتمعاتنا، وسعي وكدح بإتجاه إصلاح ديني يتزامن مع خفض شديد في التكائر الأرنبي للسكان وإصلاح التعليم، وتحفيز قوة الإنتاج لتحقيق أمن ووفرة غذائية (تقلل من زوار موائد الرحمن) ومزيد من الدراسات العلمية والنقدية الرصينة.. فكثير مما يُنشر هو خواطر ورؤى منفعلة أو جلد للذات أو هروب وتعليق لمشاكلنا على مشجب الماضي المُتخيّل، وهكذا ننأى بأنفسنا من مواجهة الحاضر وهراواته الغليظة


6 - لقد قام كثيرون من المهتمين العرب, وأنتم من بينهم, بترجمة مقولة كارل ماركس " الدين أفيون الشعب". لكن نادرا ما علم الناس بالجملة التي سبقتها ، وهي " الدين هو تنهيدة المضطهد، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح ظروف لا روح لها" ..ألا تحسون من المقولة المبتورة ( عن قصد غالبا) بتعاطف ماركس مع مؤمنين مضطهدين أصابهم اليأس من نيل السعادة في هذه الدنيا؟ وهل تعتقدون أن للدين دور تخديري اليوم في ظل سيادة أنظمة استبدادية تستند في دساتيرها بشكل كبير إلى الشريعة الإسلامية, وقوى الإسلام السياسية؟

أعترف لك وللقارئ بأن هذا النص سحرني بلغته وبلاغته، ومرد الدهشة أن كاتبه كان في الرابعة والعشرين من عمره، ولعل إختصار النص في عبارة "الدين أفيون الشعب" جاء بسبب هيمنة الشحنة البلاغية لهذه العبارة، لكن الواضح أن ماركس كان قريبا من خلجات الناس ودقات قلوبهم وأنّاتهم، حتى بدا لي شخصا رومانسيا رقيقا (هذا تلمسه أيضا في رسائله لزوجته جيني) ولا تنسى أنه عانى الفاقة والألم ودفن أطفاله بسبب العوز.. لذلك لم يكن عدوانيا تجاه الناس ومعتقداتهم، مقارنة بالماديين الفرنسيين ويعاقبة روبسبير، الذين عاشوا قبله بعقود، وطالبوا بإجتثاث المسيحية ولو بحد المقصلة. وعندما تعقد مقارنة في سياق تاريخي ما يمكنك أن تقدّر شروط تلك اللحظة، فالنص كان حميما دافئا دافقا إنسانيا، لكن صعوبة نقله لفضائنا اللغوي تعود أيضا إلى عدم إلمام بسياق الفلسفة الألمانية، ومصطلحاتها المعقدة، فكثير من مقولات ماركس إعتمدت نحوتا فلسفية لهيغل وكانط يصعب هضمها بمعدة الصحفي. ولو أن لينين وخلفاءه إستلهموا هذا النص جيدا، وأتاحوا الحريات الدينية لما سقط الإتحاد السوفيتي سقوطا مروعا ولما قُرعت أجراس الكنائس بشماتة، لأن البطش والترويع لا يكفيان لإبادة ضمير ووجدان الناس.
أما الشطر الثاني من السؤال: بكل تأكيد فالدين يمارس دورا تخديريا، ويعد المؤمن بدار باقية وقطوف دانية، بيد أن القضية مبالغ بها، وتصوير الدين بأنه كليّ القدرة ومهيمن على لحظات الحياة مبالغة شعرية، فالمسلمون عبر التاريخ تسللوا دائما عبر الشريعة وتمتعوا ببحبوحة من الحياة. ومن يقرأ شعر الخمريات والأغاني وغيرها سيعلم أن الناس عاشت حياة مليئة ولم تقتصر على السجود وتطبيق الحدود، وقبل مئات السنين قالت ولادة بنت المستكفي:
أمكّن عاشقي من صحن خدي ــــــ وأعطي قبلتي من يشتهيها؟!
وفالت عن إبن زيدون:
إبن زيدون على فضله ــــــــ يعشق قضبان السراويل
لو أبصر الأيّر على نخلة ـــــــ صار من الطير الأبابيل
لهذا يبدو لي أن الإسلام السياسي، وشيوخ الميديا يحصرون التاريخ والتراث والدين في زواياها الميتة والمتخيّلة. فالإعتقاد هو ظنيّ (لغويا) والناس حملت دائما بذور الشك، رغم أنها رضخت بالنهاية لمنظار عصرها. قبل أيام أعرب صديق (شديد التديّن) عن خشيته ركوب الطائرة. فقلت له (بخبث): لو كنت مكانك لما خشيت الموت وملاقاة وجه ربي، والتمتع بجنان خلده! فقال مبتسما: ما هو الضمان لوجودها؟!

7- لم يركز اليسار العربي على انتقاد الأديان بشكل جذري, واقتصر أحياناً في نقده على الفكر الديني, وإلى الآن الكثير من قواه وأحزابه لا تطرح العلمانية بشكل صريح في برامجها, فما هو برأيكم الموقف الأمثل تجاه الأديان؟ وما رأيكم بضرورة تبني الأحزاب اليسارية والتقدمية في العالم العربي العلمانية باعتبارها تؤكد أهمية فصل الدين عن الدولة؟

عموما يبدو هذا السؤال مركبا وعويصا، وعليه أستسمح ببعض المجاز الأدبي والمبالغة، فاللغة الكتابية عموما تظلّ أداة للتمويه وحجب الوقع.. شخصيا لدي مشكلة مع مفاهيم: مثل القومية والأحزاب واليمين واليسار..إلخ وأعتقد بعبثية هذه المسميات في واقعنا العربي. لكونها إسقاطات ثقافوية مترجمة على واقع لا يستطيع إحتضان دلالاتها. فمفهوم "الحزب" بوصفه إنتماء لفعل إجتماعي ذي بنية طبقية فكرية، غير موجود في واقعنا. بسبب هيمنة قانون العصبية الذي يصيغ شبكة العلاقة داخل الجماعة. حتى على المستوى اللساني أرى أن اللفظ العربي "حزب" مشتق من قصة "أحزاب" الخندق ونزاع القبائل، وربما يكون الإسلاميون حاليا، هم الحزب الوحيد الذي يتجاوز هذا المعنى إلى عصبية أخرى ترتبط بالأممية الإسلامية..وما عداهم أشبه بنوادي ثقافية؟! لا بل أزعم بأن يسارنا العربي (القومي والماركسي) قد جعل من ماركس شيخ قبيلة، أكثر منه فيلسوفا للجدل والصراع الطبقي، وجعل الإنتماء الحزبي ولاءا لرومانسية طبعت الحداثة وليس للحداثة ذاتها..من هنا أتفهم موقف اليسار العربي (الموجود لفظا والمنسوخ دلالة) من مسائل الدين والهوية، حيث أن نكوصه وضعفه يعود لتردي ونكوص ثقافتنا عموما..مع أنه والحق يقال قد ساهم جديا في صياغة روح العصرنة التي تجلّت في إبداعات أدبية وشعرية وفنية وأعمال مسرحية، بعكس فشله السياسي الذريع، لهذا فإن تبني فصل الدين عن الدولة لن يبرح مكانه الشعاراتي، فالواقع تقرره صيرورة وفعل إجتماعي.. وللأسف فإن واقعنا يشبه مرآة شوبنهاور المتشائم.. آنذاك أعاد له الناشر رزم كتابه المعروف "العالم كإرادة.." فأوروبا الغارقة حينها في الحروب، لم يكن لديها وقت للقراءة، فعلق وقال للناشر: "كتابي كالمرآة فلا تنتظرن من القرد أن يرى نفسه فيه ملاكا" بمعنى آخر علينا أن نرى ذاتنا كما هي في واقعنا، فالحقيقة هي فيما يقوله العقل عن العالم.