كتابة بلا حدود


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 2692 - 2009 / 6 / 29 - 10:12
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

لم أجد أفضل مما إفتتح به مترجما كتاب جاك دريدا " في علم الكتابة" (1) عندما نقلا عن لسان أبي العلاء قوله:

لا تُقيّد كلامي فإنّي
مثلُ غيّري تكلّمي بالمجاز

ولم أجد ما أقوله عن الكتاب، سوى أنه يخوض بمناهج تفكيك عسيرة، أصعب بكثير من الدبكة الحورانية أو الكردية (التي تثير الغبار والغريزة) وبالفعل فقد أطحت بالكتاب جانبا، قبل بلوغ ربعه الأول. فتعلم لغة المندرين الصينية أكثر يسرا وسهولة من هذه الطلاسم. مع أن المترجمين قاما بالعمل على مايرام، وشرحا الكتاب بعبارات وافية، لكن المشكلة تقع على كاهل فضائنا المعرفي، وعدم إمتلاكه الأدوات المناسبة لفهم هذه الأمور.

وقبل الذهاب شوطا بعيدا ألفت نظر القارئ المهتم إلى أن هذا النص إستمرارٌ في محاولة كتابية للإنعتاق من تضخمInflation الكلمة، الذي يشبه تضخم العملة، حين تتآكل قدرتها الشرائية، وهذا الأمر يؤكده علم اللسانيات. والعملية تزداد طرديا في عصر النت مع فيضان المكتوب، وتجعل حتى العناوين الساخنة مملّة ومُنفّرة.

فلو نظرنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن قصيدة ما لليازجي أو الزهاوي أو مقالة لطه حسين، كانت تحرك الوجدان والمشاعر، وتخلق قاعدة أخلاقية للتأثير وصناعة الرأي العام. أما لغتنا الحالية فتعاني من إفلاس وتضخم وغير قادرة على شراء بصلة. لذا أستميحكم عذرا إن تقصدت البلبلة، وترك المضمون هائما، يستمد نسغه من تداعيات الفوضى، أملا في إستعادة ما أشكل من أسئلة بديهية "مستعصية"
فمجرد الولوج عبر بوابة الفلسفة، إلى أسئلة الوجود والحقيقة، سنكتشف مدى هشاشة وضعف وسذاجة حججنا، إذ تبدو اللغة محاولة مستمرة للتمويه، وكل أنساق الكلام (الكتابي) إختزال للمعنى وتشويه له.. وأحيانا ضرب من الحماقة؟ هاكم هذين المثلين من عالم الميديا لتتأكدوا كيف تتحرك اللغة داخل مزيج هلامي من التعريفات الفوضوية والإفتراضات والعبث والقوة والبلاغة:

الخبر الأول: الحكومة الإنتقالية في الصومال، تُعلن حالة الطورائ بعد إنفجار بيدوا؟
إن كل الكلمات الواردة تقوم على عبث لغوي لتقريب الصورة : فالحكومة لا تحكم خارج القصر، ورئيسها نفسه (وهذه ملهاة) كان قائد المحاكم الإسلامية سابقا، وقد طردته أثيوبيا وأمريكا من الباب، ثم أعادته أمريكا وقطر من الشباك، بشكل سوريالي، والصومال نفسه لاينطبق عليه تعريف الدولة ذات السيادة، وعندما تسود الفوضى لعقدين، فما معنى أن تُعلن حالة الطوارئ؟

الخبر الثاني: الرئيس ساركوزي يرفض البرقع على الأراضي الفرنسية ويعتبره رمزا للإستعباد والإنحطاط؟؟ لو تأملنا الترجمة العربية المعتمدة "إنحطاط" فهي ذات دلالة مزدوجة، وتعني التخلف، لكنها تتضمن السفالة أيضا.. إن ساركوزي وجه كلمتين بمنتهى القوة والعنف للعالم الإسلامي (ربما ليرد على ميوعة اوباما) وكأنه يقول لحكام البلاد التي ينتشر فيها البرقع، بحماية التقليد والسلطة: كفّوا عن إستعباد المرأة واخرجوا من عالم السفالة والتخلف (شخصيا أتفق مع المضمون)؟! لكن مسيو ساركوزي، يتستر ضمنيا على شركاته المصدرة للسلاح، التي كان وقودها مئات آلاف البشر، ويغمض عيونه عن دعم أنظمة الإستبداد الأبوية العربية، لابل انه شخصيا كان عراب دخول إسرائيل إتحاد الشراكة الأوروبية، قبل أسبوعين من إرتكابها محرقة غزة. ربما يبدو هذا الكلام للبعض ضربا من السفسطة.. لكن جوهرالحقيقة كيان لايقبل القسمة والبيع بالتجزأة، ولعبة القوة تجعل من كلامه عن الإستعباد والإنحطاط، فوضى لغوية، إذ كان يكفيه التصريح بأن البرقع يتعارض مع القيم الفرنسية.
(لهذا أقترح على من طالهم رذاذ فم ساركوزي، أن يلجؤوا إلى أمرين: إما أن يمنعوا البرقع فورا، أو أن يقطعوا علاقتهم بفرنسا فورا؟ أوليسوا هم من نفخنا بكلمات: لا يسلم الشرف الرفيع؟ فلماذا يصمّون آذانهم عن تلك الإهانة)

دريدا ومنهج التفكيك
جوهر عمل دريدا "في علم الكتابة" المشار إليه في المطلع، يقوم على سبر النصوص الأدبية والفلسفية الكبرى، ووضع الميتافيزيقيا الغربية تحت مشرط النقد، وتعريض مسلماتها للمساءلة. وإكتشاف التحولات الداخلية للنصوص، ورؤية أماكن الحذف والإزاحة والإختلاف والتكميل فيها. وهذا هو جوهر مدرسة التفكيك.
والمهم أن دريدا يتقاطع مع مقولة روسو، التي تعتبر الكتابة مُكمّلة للكلام وممثّلة له. فهو يجد أنها (الكتابة) تحتوي اللغة وتتجاوزها. أيا كان تعريفها (فعل، حركة، وعي، تشكيل للمعنى ..للفكر) ويرى أن جوهر الفكر الغربي من أرسطو إلى ليفي شتراوس، قام على أوليّة الكلام على الكتابة (ربط الدلالة بالصوت) وبالتالي تحويل الوجود إلى حضور، وهذا أدى حسب قوله، إلى فرض اللوغوس الأوروبي أو مايسميه: المركزية العرقية الأوروبية.
في الحقيقة أثارني هذا الموضوع، دون دراية كافية، فقد قرأت هوامشا من كتابه "الأجراس" وكيف إستفز دريدا قراءه وأثار سخطهم، عندما وضع نصا تجريديا لهيغل على الصفحة اليسرى (مفتوح البداية والنهاية) ونصا أدبيا لجان جينيه على الصفحة اليمنى، ثم أضاف هوامشه وتعليقاته.. ولما بوغت بغضب القراء ونرفزتهم وعدم إدراكهم للمكتوب قال: لا أعرف كيف كتبت هذا النص الخالي من الكلام؟!
أرجو الإنتباه إلى هذه الجملة "نص خال من الكلام" فالكتابة مهما كانت هي تمثيل للكلام (بما فيها الكتابة التصويرية أو الرمزية أو حتى الرياضية، فعندما يُكتب مثلا: مساحة الدائرة تساوي "باي" ضرب مربع نصف قطرها، فإننا نترجم فورا تلك العلامات المجردة إلى صور محسوسة مُدركة، ونعرف أن الحرف "باي" هو ثابت رياضي يساوي محيط الدائرة مقسوما على قطرها، ونعرف أن الدائرة (حسّيا) هي مجموع نقاط لخط منحن، تبتعد نفس المسافة عن مركز مُفترض..إلخ)

إذن هناك برأيه كتابة خالية من الكلام ستسود مستقبلا عندما تتعطل لغة الكلام (حسب أحمد شوقي: وتخاطب عيناه في لغة الهوى عيناها) فالكتابة أو نصوص الأبجدية الصماء، تحتوي الكلام وأبجديته الصوتية بشكل ما، وهذا يدركه المرء إذا ما قارن بين نص إبداعي (أو فكري ) وبين كلام كاتبه. ومن يتابع المناظرات التلفزيونية (غير العربية) يجد أن المثقف منسجم وطليق فيما يقوله، وينتقل بتلقائية بين ما يكتبه ويتكلمه، والفرق يظل واضحا، فالكتابة صيرورة بطيئة متأنية تتيح للمرء خلق الفكرة عبر عمليات " الحذف، والتكميل، والإزاحة" ونسج كيان كلامي هارموني يتيح إمكانية تدفق البلاغة والمجاز والبيان. إلخ أي أنها خلق وإبداع خارج منظومة الكلام وإن كانت تحتويه بآن معا.

كل ما ذُكر أعلاه بداية لفكرة قديمة حاولت معرفة إشكاليات لغتنا العربية، حيث يبدو لي أنها سبب مهم لإستمرار هيمنة العقل الدوغمائي (الذي يستمد صورة العالم من لغة كلاسيكية قديمة، أشبعها الإكليروس الديني، وفق متطلبات قانون المجتمع الأبوي الشرقي وشبكة عصبياته ونظام الإنتاج فيه)
وهذه اللغة كنظام للعلامات الصوتية (الفونيم) تقوم بعمليات تمويه مركّبة، كونها بالدرجة الأولى تمثيلا لمحسوسات ومدركات نسبية، ثم تنتقل كتابيا عبر المجاز والبلاغة إلى خطاب أكثر تمويها ومخادعة؟ ومشكلتنا كناطقي عربية تكمن في هذه الآلة: العقل ـ لغوية القديمة، التي نستخدمها بشكل فصامي.. إذ يتوجب علينا الكتابة بها (لإستحالة الوسائل الأخرى، حيث أن العاميات ولأسباب دوغمائية، تم قمعها وتحقيرها ومنع تطورها اللساني وتعطيل قواعدها، مع أنها لغة الشعب والنكتة والأحاسيس العميقة)

وهذا يسبب فصاما قسريا للمثقف، فهو بالعادة لايمارس لغة الكلام الفصحى (إلا في الكتابة أو المناظرة أو محاضرة) في حين يمارس حياته العامة والخاصة بلهجته العامية. حتى فحول خطباء الفصحى يتأوهون في مخدع الزوجية بلغة الشبق العامّية والساقطة أحيانا، ولو فعلوا ذلك بالفصحى، لأضحكوا عليهم العباد.

وبسبب هذه القطيعة وفقدان المراس داخل الآلة (العقل ـ لغوية) يتلعثم المرء أثناء تجسيد أفكاره مشافهة. إذ عليه مراعاة لغة الثقافة العليا (الفصحى) وضبط صرفها ونحوها (ليبدو جهبذا لا يشق له غبار) مما يشتته ويُحدث إرتباكا وتلكؤا في خطابه خصوصا إذا خانته ملكة الخطابة والصوت الصادح والنبرة المسموعة وسرعة البديهة..إلخ

يكفي مثلا مشاهدة ذبائح المفكرين وهي تُعلّق في محل جزارة فيصل القاسم في الجزيرة..وكم يصاب المرء بالحزن والأسى، وهو يرى شخصيات مثقفة مثل محمد أركون تتلعثم أمام أحد خطباء الجمعة من أنصاف الأميين. أو يرى مثقفا نبيلا مثل عبدالحسين شعبان، وهو يحمّر ويصّفر أمام تكفيري يحتكر خطاب الحقيقة كالشيخ النفزاوي.
لكن المشكلة أكثر تعقيدا بكثير إذا عرفنا أن المثقف نفسه يساهم بها، ويقف بهشاشة أمام الموروث وحراس المقدس. ويا لها من خيبة عندما يقرأ المرء هاشم صالح، وهو يذود عن محمد أركون، ويشهد له بأنه مؤمن قانت ومثابر على فروضه وصلواته، وكأنه يستجدي القارئ ضمنيا، ويطلب منه العفو (على ذنب إقترفه)

وربما تُفهم الدوافع، فالتمرد والوقوف بوجه عاصفة الدهماء ليس سهلا، فكانت نفسه (فيلسوف التنوير) لم بستطع أن يجاهر بقطيعة وعداء الكنيسة.
من هنا تتجسد أهمية الخروج من هذا الإلتباس المُربك، فالدين هو مستويات مركبة على المرء الفصل بينها، إذ إن المحتوى الميتافيزيقي منه (الله ملائكة أنبياء يوم آخر) مسألة ذاتية للتأمل، ولم تعد تُشغل إنسان الحداثة كثيرا، وقد يجوز القول بأن الأرثودوكسيات الكبرى خلقت ميتافيزيقا رثة وكسيحة (تسيئ حتى للذات المتعالية التي رسمتها) وهنا لابد للمرء أن يجاهر ويتحدى هذه الصورة البدائية لإحتكار "أسئلة الوجود" وخلق لغة تحفر في جدار لغتنا "الأنطو ـ تيولوجية" التي شيدت مداميك الوجود على أسس لاهوتية.
أما المستوى الآخر للدين فهو التاريخ وهو لغة سلطوية، وطقوس، ساهمت في تشكيل هوية الجماعة البشرية، وهنا تتجلى أهمية النقد التفكيكي لإزالة ركام الأسطرة من أمام السابلة.

إذ لابد للغة الحديثة (هكذا أعتقد) أن تقول رأيها في قضايا العقائد بدون مواربة وتمويه، وخوف من تهمة الإساءة للذات الإلهية. فإلتباس الخطاب والفصامية وتملق العامة. هو مساهمة لإستمرار تكريس لغة الحمدلة والحوقلة، المعادية لجوهر الحرية. وعلى رأسها حرية الفرد وحقه في الإعتقاد وتغيير العقيدة (كما تنص لائحة حقوق الإنسان رضي الله عنها) وهذا الأمر صعب للغاية، ويحتاج إلى إرادة وبيئة تترعرع فيها قيم الحرية.

ولتقدير تلكم الصعوبات، أتذكر حادثا طريفا ألمّ بكاتب السطور، ولطرافته لا أملّ من تكراره،فقد كنت يوما في عيادة طبيب (في القاهرة) حينها سمعت نقاشا بين المراجعين عن مليونير مصري إنتحر بعد قتله لزوجته (فنانة تونسية) والأهم أن مساعدة الدكتور، كانت حزينة وتتأسف فقط لإنتحاره، لأنه لن يدخل الجنّة؟ وعندما تدخلت (غير مشكور) لأخبرها بأن الجنّة محض إفتراض ووهم وهراء؟ هاجت القبائل وماجت، وطار الشرر من عيني الممرضة ذات السواعد المفتولة (والقوام الشبيه بكيس بطاطا) وأحسست أنها تريد سلخ جلدي. فسكتّ بسبب الجشع وحب الحياة وعدم الرغبة بالشهادة، وبحثت عن (قندرة) ووضعتها في !!! ولزمت الصمت. (لذا أنصح نقاد الدين، بعدم الذهاب لهذا الطبيب، والأفضل أن يختبئوا في غابات كندا)

اللغة والصوت والجاحظ:
إستطرادا أتوقف عند الصوت وأثره وعلاقته بالدلالة اللغوية. فالجاحظ يتحفنا بمقطع لطيف في كتابه الحيوان، يتحدث عن تأثير الأصوات ويميّز بين ما يجلب الكمد، أو الطرب أو ما يزيل العقل حتى يُغشى على صاحبه (حسب وصفه) ويضيف حرفيا أن الناس : بعتريهم ذلك من قبل المعاني، لأنهم في كثير من ذلك لا يفهمون معاني كلامهم؟
ثم يورد لنا عبارة بديعة عن ماسرحويه، وهو طبيب يهودي بصري ومترجم للسريانية، بكى من قراءة أبي خوخ (للقرآن) فقيل له:

كيف بكيت من كتاب الله ولا تصدق به؟
قال: إنما أبكاني الشجا؟؟

ما يهم قارئ (الحداثة) ليس تاريخية الرواية وحقيقتها
بل البحث في مضمون ودلالة المكتوب، وليس فقط السؤال عن النسق الكرنولوجي والتحقيب الزمني أو حقيقة حدوث الرواية من عدمه؟! (2)
فمضمون قصة ماسرحويه القصيرة. تشير إلى معرفة الجاحظ بسحر الصوت وتأثيره على أسماع الناس، وخطفه لبّهم، دون حاجتهم للدلالة والمعنى. وهذه لفتة مهمة تفسر إستخدام السلطة للأوتار الصوتية (والآلات والفنون) من أجل الهيمنة والتحكم بخيال الناس ومشاعرهم ( هذا نعرفه من تأثير قراءات القصة الحسينية في عاشوراء وما يصاحبها من تهييج مشاعر، أو إلقاء الأناشيد الوطنية، ونفس الشيئ تمارسه الميديا الحديثة بلغة تصويرية، كما في قصة موت الأميرة ديانا مثلا وخلق هستيريا جمعية ؟!) .. أما الفضاء الدلالي لقصة الجاحظ، فيدلنا أيضا على أجواء مدنية سادت البصرة (زمن توليف النص؟!). فوجود كتب ونسّاخ ومترجمين وأطباء (مع تقدير دلالة تلك المهن بما يناسب عصرها) ووجود اليهودي ماسرحويه (ترجم كتاب القس أهرن بن أعيش) يدلنا على بحبوحة من التعايش السلمي والجدل الديني ويعكس ملامح للفضاء الثقافي العربي الفارسي المتداخل في تلك الفترة.

هوامش:
1ـ في علم الكتابة (جاك دريدا) ترجمة : د. أنو مغيث و د. منى طلبة
2ـ يرجع كتاب الحيوان لعام 233 هجري، وكتب الجاحظ ذكرت عند ياقوت وابن خلدون وغيرهم؟ لكن الباحث المعاصر يهمه أيضا المخطوطات المتبقية التي نقلت كتبه، فمن المعلوم أن تاريخ نسخ الكتب العربية تعرض عبر العصورلتغيرات وإضافات وحشو متأخر وخلط لأزمنة وأفكار وكتّاب. إلخ. ولو راجعنا مثلا تاريخ المخطوطات المتوفرة حاليا، التي إعتمدها المحقق عبدالسلام هارون في تقديمه لأشهر كتب الجاحظ "البيان والتبين": سنجد أن أقدم نسخة توفرت له هي نسخة مكتبة كوبرلي، المحفوظة بدار الكتب المصرية، ويعود نسخها لعام 684 هجري أما الأخريات فهي حديثة، كنسخة أنجزت بالمدينة المنّورة على ذمة الكتبخانة الخديوية عام 1299هجري (1882م)؟!