أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - نضال الصالح - مدينتي نابلس وأم سائد















المزيد.....

مدينتي نابلس وأم سائد


نضال الصالح

الحوار المتمدن-العدد: 3113 - 2010 / 9 / 2 - 14:52
المحور: سيرة ذاتية
    


مدينتي نابلس تتمتع بنكهة خاصة ولها خصوصيتها ولقد أطلق عليها عالم الآثارارنست رايتس عاصمة فلسطين غير المتوجة ويطلق عليها أهل فلسطين جبل النار لدورها وقراها في ثورات الفلسطينيين المتتابعة ضد الإستعمار والصهيونية.
النابلسيون لهم أيضا نكهتهم الخاصة، لهجتهم التي تمط كجبنة الكنافة النابلسية، عاداتهم وتقاليدهم وحشريتهم التي تظهر لبعض من لا يعرفهم أنها نوع من الوقاحة وما هي بذلك، حرصهم على الجار وعلى إبن البلد وتكاتفهم مع بعضهم البعض. لا يوجد في نابلس أسرار والنابلسيون يحبون القيل والقال بدون ضغينة أو حسد. لا تستطيع أن تختبئ من عيونهم وأسئلتهم الفضولية- مين الأخ؟ وابن مين إنت؟ ووين بشتغل؟ وقديش راتبك؟ وشو بقربلك فلان؟ وسيل من الأسئلة التي في بعض الأحيان تتجاوز المعقول.
بعد الإحتلال الصهيوني سقطت عني المواطنة في بلدي كما سقطت عن الالاف المؤلفة من أبناء شعبي. هكذا قرر الفاشيون الجدد ووافقتهم دول الغرب " الديموقراطية" وصمتت الدول التي تسمى عربية، فلم يكن لديها، كما هو حالها اليوم، ما تقول.
لذا كانت الزيارة لنابلس تكلفني كثيرا من الجهد والعناء، حيث كان علي الأهل في نابلس أن يقوموا بالسعي للحصول من قوات الإحتلال على إذن زيارة يخولني بزيارة بلدي وموطني. أما بعد حصولي على الجنسية السلوفاكية فأصبحت الأمور أكثر سهولة وأكثر غرابة وغير معقولية فلقد انفتحت أمامي إمكانية زيارة بلدي كسائح أجنبي لعدم لزوم الفيز للأوروبيين.
منزلنا يقع في الجهة الشرقية من نابلس ويطل في الجهة المقابلة على العمارة أو الدبوية كما كان يقال لها، وهي مركز محافظة نابلس، بناها الأتراك وأعاد بناءها الإنجليز ومن ثم السلطة الأردنية وهدمها أو هدم قسما كبيرا منها اليهود الإسرائيليون.
منزلنا يتكون من طابقين وله حديقة جميلة مملوءة بأشجار الليمون والبرتقال والمندرينا والبوملي. ولقد اعتدت أن أجلس مع والدتي، رحمها الله، كل صباح في شرفة المنزل حيث نحتسي القهوة بالهال ورائحة الحمضيات تفوح في أرجاء الحديقة وجزء من البيت وتختلط مع رائحة القهوة والهال. وكثيرا ما كان ينضم إلينا الجيران وتمتلئ الشرفة بالضيوف والأصدقاء والأحباء. لا يمكنك أن تشعر بالوحدة في نابلس، لن يسمحوا لك بذلك.
المشي في شوارع وأزقة البلدة القديمة متعة ما بعدها متعة. فمن هنا مر الرومان واليونان والأتراك والإنجليز والإسرائيليون الصهاينة، وكل منهم هدم منها ما هدم وخرب ما خرب، ولكنها بقيت صامدة، شامخة تحكي عن تاريخ كل الذين مروا وذهبوا وما عادوا وبقيت هي.
كان مشواري المعتاد إلى البلدة القديمة بمثابة حج أقوم به كل يوم. كنت أخرج من بيتنا وأتوجه مشيا على الأقدام إلى البلدة القديمة، وكان المشوار الذي من المفروض أن يأخذ أربعين دقيقة يستمر عدة ساعات، حيث كان علي أن أقف في عدة محطات لا بد منها لشرب القهوة هنا والشاي بالنعناع هناك واليانسون في محل آخر. أول محطاتي عادة ما تكون قهوة باب البوابة الشرقية، حيث يجلس القادمون من قرى شرقي نابلس وحيث أجد في كل مرة بعضا من الأقارب أو الأصدقاء. باب البوابة الشرقية الذي لم يعد موجودا بالفعل يعم بمحلات السمانة وبائعي الخضار. وكنت أشرب القهوة على صوت بائعي الخضار الذين يروجون لبضاعتهم- أحمر وزي العسل يا بطيخ، أصبع الست يا خيار، ريحاني يا موز، وبين الفينة والأخرى كنت أسمع صبي القهوة يطلب القهوة للضيوف بصوت عالي وبشعرية عفوية- واحد حلوي للأفندي اللي جوي وهكذا.
بعد الإنتهاء من شرب القهوة والإعتذار عن قبول عشرات الدعوات لطعام الغداء، كنت أقوم وأخترق جموع الناس المكتظة لقضاء حاجاتها المختلفة وأتجه نحو البلدة القديمة. الطريق يخترق السوق المكتظ مرورا إلى الجامع الكبير أو الجامع الصلاحي نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي الذي أعيد بناءه في زمنه. الجامع الكبير بفصل الطريق إلى طريقين، واحد يتجه إلى ساحة المنارة وجامع النصر والآخر إلى خان التجار ومن ثم إلى سوق البصل وسوق الحدادين.
كنت أسلك طريق خان التجار مرورا بسوق الذهب وأخرج من هناك متجها نحو صيدلية عدي هاشم، صديقي الذي درس الصيدلة في فينا وكان يزورني في براتسلافا وكنت أزوره في فينا. ولا أبالغ إن قلت أنني كنت خلال هذا الطريق القصير اقف عشرات المرات لمصافحة وعناق المعارف والأقارب ولقبول دعواتهم لإحتساء القهوة أو الشاي أو اليانسون أو الكازوزة.
صيدلية عدي هاشم تقع مقابل حلويات العكر المشهورة بصنع الكنافة النابلسية، وكنا نجلس أمام الصيدلية نراقب الناس وهم يدخلون محل الحلويات ويأكلون الكنافة الساخنة، وكان عدي يغريني بقوله: شو رايك يا ابو داوود في كنافة سخنة من الصدر؟ كنت في بعض الحلات أقبل العرض المغري وفي أخرى أرفضة معتذرا بأنني مدعو على الغذاء عند أختي أم سائد وكان يرد على اعتذاري:" طبعا يا خيي، ما منقدر نتعدى على أم سائد."
أختي أم سائد، شادن الصالح، زوجة الدكتور جمال أبو حجلة، طبيب الأنف والحنجرة، يعرفها النابلسيون جيدا. وحين كنت اسير معها في شوارع نابلس، كانت تتلقى التحيات من كل حوب وصوب. كانت في غاية الطيبة وكان لسانها لاذعا لا تستحي أن توجهه لمن يستحق. وكان الجميع يتلقى نقدها بكل حب ورضى قائلين:" بتؤمرينا يا أم سائد وإنت على راسنا من فوق". وكانت تضحك ضحكتها المشهورة وتجيب " الله يرضا عليكم، إنتو أخوتي وأولادي."
أم سائد كانت إلى جانب فضائلها الأخرى طباخة ماهرة وكانت تعرف أنني أحب كبة الرز المطبوخة باللبن. وكبة الرز لمن لا يعرفها، هي معجون من الرز المطحون باللحمة المطحونة، تصنع على شكل طابات وتحشى باللحم المفروم والبصل والصنوبر وتطبخ باللبن. تعلمتها من والدتي وأدخلت عليها تحسينات سرية أعطتها نكهة رائعة الطعم.
كنت أدخل إلى بيت أختي ورائحة الكبة وغيرها من المشهيات تفوح في جميع أرجاء البيت، وكنت أتلصص إلى المطبخ علني أستطيع سرقة ولو كبة واحدة من الطنجرة النحاسية. ولكن أم سائد كانت لي دوما بالمرصاد وكانت تسرع وتطردني من المطبخ بحنو قائلة: روح روح يا أخي، الغداء جاهز، ثم تصرخ على ابنها سائد أن يحضر الطاولة وينادي على جدته، والدتي، التي دخلت تأخذ "غطسة نومه". وكان سائد يرد عليها: "بتؤمري يا أحلى أم سائد في الدنيا."
سائد يعمل مدرسا في جامعة النجاح، ويحمل في كبدة رصاصة هدية من الفاشيين الجدد الإسرائيليين. لقد أطلق عليه الجيش الإسرائيلي النار وكان لا يزال طالبا في المدرسة. ولقد استطاع أن يصل إلى المستشفى في الوقت المناسب، وبقدرة قادر استطاع الأطباء إنقاذ حياته ولكنهم لم يستطيعوا إخراج الرصاصة من كبده، بقيت ذكرى على همجية العدو الإسرائيلي وإجرامه.
يقول أهل نابلس أنه لكل أكلة مصران وأن في البطن خلوى لا يملؤها إلا الحلوى. واعتاد كثيرون من أهل نابلس أكل الكنافة قبل الغداء وبعده. والكنافة حاضرة بعد كل حفلة غداء ولا يعتبر الغداء كاملا إذا لم تكن آخرته كنافة. وكان ابو سائد خبيرا في طلب الكنافة، وكان يقول للكنفنجي: " نضال جاي من أوروبة ولا تفضحنا معاه." بعد الغداء وأكل الكنافة كنا نستلقي لمدة ساعة أو نصف الساعة والتي بدونها لم نكن نقدر على السهر والسمر.
في المساء كان يأتينا الأصدقاء والأقارب للسلام على الضيف القادم من أوروبا ولطالما كان على رأس الحضور الصديق الدكتور فرحان أبو الليل، المسيحي الذي يحفظ القرآن والذي كان يردد القول بأن القرآن ليس كتاب المسلمين وحدهم، وأنه كتاب كل العرب وأصل من أصول التراث العربي. قضى جزءا لا باس به من حياته في السجن، سجنته السلطات الأردنية ومن بعدها سجنته الصهيونية الإسرائيلية وبنفس التهمة ولقد قضى في السجن عدة سنوات. وقلما كان المجلس يخلو من الصديق المناضل بسام الشكعه الذي فجر الموساد رجليه وأقعده على كرسي متحرك ولكنه لم يستطع أن يقعده عن الإستمرار في النضال من أجل حرية بلده.
لم تكن تخلوا الأمسية من أحاديث السياسة وأحاديث المجتمع، من تزوج ومن ولد له طفل ومن مات ومن استشهد. فرغم الإحتلال كان الناس يعملون ويتزوجون ويخلفون ويتزاورون ويتسامرون. الحياة يجب أن تستمر مع كل القهر والحصار والعنف. السهرات واللقاءات في بيت أم سائد كانت ندوات ثقافية بامتياز، حيث تلتقي هناك كل الآراء والإتجاهات السياسية وحيث كانت تدور النقاشات الهادئه والإيجابية.

بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر عام 2002 كانت أختي أم سائد جالسة في شرفة منزلها مع زوجها وإبنها سائد. كانت تطرز ثوبا فلسطينيا لعروسة ابنها سائد وكان زوجها يحتسي الشاي وأبنها سائد يهم للصلاة. وقفت سيارة عسكرية إسرائيلية أمام المنزل ونزل منها جنديان، صوبا بنادقهما الرشاشة صوب أختي والعائلة وأطلقا النار بكثافة. أصابت تسع رصاصات أم سائد فسالت دماءها على الثوب وبقي شاهدا على همجية وإجرام النازيين الجدد. أصيب ابنها سائد برصاصة في الرقبة وزوجها برصاصة في الرأس ونجيا من الموت بأعجوبة. هرع سائد إلى أمه وظن أنه أغمي عليها هلعا من المفاجأة وخوفا عليه. ضمها إلى صدره وأخذ يطمئنها بأنه بخير وأن إصابته طفيفة. ظن أن الدماء التي غطت جسدها هي دماء جرحه، ثم لا حظ أن الدماء تدفق من عدة ثقوب في صدرها فأخذ يصيح" قتلتمو أمي يا مجرمين." نظرت أم سائد إلى ولدها، ابتسمت له ثم فارقت الحياة.
كانت أم سائد في الستين من العمر، أم لثلاث فتيان وفتاة وجدة لعدد من الأحفاد. لم تحمل السلاح في حياتها، كانت فلسطينية، تعشق فلسطين كآلاف الفلسطينيات مثلها تحاول مساعدة شعبها بدعم صموده ومساعدة عائلات االشهداء والأسرى. لم تكن تسيرفي مظاهرة في شوارع المدينة تلقي الحجارة على الجنود الإسرائليين، كانت جالسة مع عائلتها في شرفة منزلها التي تبعد عن الشارع عشرات الأمتار. كانت تطرز ثوبا لعروسة إبنها فقتلها النازيون الجدد وبقيت دماءها تغطي ثوب العروس كشاهد على الإجرام الصهيوني.
دفنت أختي أم سائد في قبر يبعد بعض الأمتار عن قبر إبنة خالتها الشهيدة شادية أبو غزاله ويحيط بها قبور كثير من الشهداء منهم مجموعة من طلاب إبنها سائد الذين وهم في طريقهم إلى الجامعة إنتهوا على يد العدو الصهيوني في مقبرة الشهداء. رحلت أم سائد ومن يومها ما عدت أجد للكبة رائحة ولا طعم.



#نضال_الصالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإعجاز العلمي في القرآن وعجز العقل المسلم
- هل من الممكن عصرنة الدين ؟
- موسى والعقيدة الموسوية، حقيقة أم خرافة
- قسوة البرد ونار القهر
- تشرذم اليسار نصر لليمين، سلوفاكيا مثلا
- لقطات من زيارة خاطفة
- قتلوه ولم يمشوا في جنازته
- حب من الماضي
- عالم المجانين
- مستشفى الأمراض العقلية وعالم المجانين
- العم حسنين: الحكمة والقمامة
- عبدالرحيم عمر: الشاعر، الصديق والإنسان
- البحث عن الذات
- قصتي مع جابر بن حيان
- كيف تتكون الهالة حول الجسم وما علاقتها بصحته
- اليهود الخزر
- وحدة المخابرات العربية
- المرأة والجنس في الديانة اليهودية
- المتقاعد
- الإسلام والمسيحية، صراع عقائد أم مصالح؟


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - نضال الصالح - مدينتي نابلس وأم سائد