أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أثير كاكان - خزانة الذكريات















المزيد.....

خزانة الذكريات


أثير كاكان

الحوار المتمدن-العدد: 3108 - 2010 / 8 / 28 - 11:21
المحور: الادب والفن
    


اخرجت امي رأسها من داخل التنور وهي تدندن بكلمات اغنية طالما غنيتها لها حينما كنت صغيراً فيما هوت اختي بوسادة الخبز على جدار التنور الداخلي وهي تسألها بخبث: ما الذي ذكرك بهذه الاغنية هذا اليوم بالذات ام تراك تحدسين كالعادة وصول مكاتيبه؟ أرجو أن يكون هو يذكرك ولو مرة كل سنة كما أنك تسبحين بذكره ليل نهار.
انتهرتها امي: صه. واستطردت: لماذا كل هذه الغيرة؟ لقد قسمت حبي بينكما بالتساوي طيلة حياتي. أنا أراك كل يوم اما هو فلم اره منذ خمس سنون انقضين في غربته المقيتة وقبلها ثلاث أخر قضاها يفلت بالكاد من بين نيوب الموت. ثمان سنون من الثماني والثلاثين عاماً التي هي كل عمره امضاها بعيداً عني وعن حضني وعن حضن اطفاله الصغار وزوجه المسكين التي ما فهمت من زيجتها شيئاً. كان خياري مراً، اما ان اخسره أبداً او أن أبعده، فاخترت الثانية.
جلست اختي على المقعد الخشبي الصغير وراحت تصنع اقراصاً صغيرة من العجين استعداداً لشوط آخر من الخبز ثم اردفت: ربما كان هذا ما يجب علي فعله. أن أهرب بعيداً عنك كي تفتقديني.
صرخت بها امي وهي تقذف بشوكة حمل الخبز بعيداً كما هي عادتها عندما تفقد اعصابها: ويحك كيف تقولين هذا؟ اتتمنين ان ارزئ بولديّ وأنا لا أزال على قيد الحياة؟ أي قسوة هذه التي تعتمر قلبك؟
غمزت اختي وهي تحاول أن تهدأ من روع امي: لا تحزني يا اماه. تعلمين انني ما قلت ما قلت الا لاستفزازك، أنا لا اطيق فراقك.
انتفضت امي حينما سرت في جسدها قشعريرة باردة وبدت كما لو انها تذكرت شيئاً لتوها واستطردت: هو كذلك كان لا يطيق بعداً عني، يوم قرر الرحيل كان قد قضى معظم اليوم متسكعاً مع صحبه وصويحباته ولم يعد الا متأخراً، عندما عاد كان الزمن قد تجاوز منتصف الليل بساعتين، زوجته كانت كذلك بانتظاره، بيد أنها كعادتها ظلت صامتة تجتر غضب دواخلها، اما انا فانفجرت به ساعتها وقلت له: ويحك اتعود ليلة سفرك متأخراً؟ اظننت أن صحبك سيفتقدوك أكثر مني؟ انا التي حملت همك صغيراً وكبيراً، انا التي دارت بي الدنيا وانا ابحث عنك بين الاصدقاء والجيرة والاقارب يوم كنت مطارداً متخفياً. اهكذا يكون جزائي على ما فعلت؟ ساعتها اخرج من دولابه الخشبي كرة زجاجية مليئة بالماء وبشيء يشبه الثلج الذي تنثه السماء او هكذا له اريد وناولنيها قائلاً: هذه لا يمكنني أخذها معي ربما يمكنك الاحتفاظ بها لي حتى عودتي او لحاقك انت بي. في بلاد الثلج سأكون، ربما في مكان شبيه بهذا الذي داخل الكرة من يدري ربما سأنتقل من سجن إلى سجن او ربما سيغمرني الثلج. لم استطع تصديق مدى برودة رده، حتى انه لم يرد بحرف واحد على ما قلت، هكذا وبكل بساطة قفز فوق المواضيع كلها وانتقى واحداً وانبرى يتحدث عنه دون ان يرحم دموعي التي نزفها قلبي قبل مآقيّ. خطوت محاولة مغادرة الغرفة وانا اتناول منه الكرة الزجاجية. وقبل أن أدرك عتبة الباب اردف هو: الوداع سيزيد الوضع صعوبة، تعرفين اني لا اقوى على النوم ليلة السفر. ذلك كله سيضعفني ويمنعني من السفر الذي تعرفين انني ما كنت اريده. حاولت ان ابتعد عنك لأنك خزانة ذكرياتي. آلامي كلها انت تحملينها منذ صغري، وكنت اخشى ان تذكريني بمن تعودت ان اكون لا بالرعديد الذي يخشى على حياته اليوم ويعدو هرباً من جلاديه.
ساعتها نظرت اليه وخرجت وانا امسح دموعي، وادركت حكمة قراره، همست بصوت واضح وانا اخطو بقوة خارج غرفته: انت لم تكن جباناً ابداً. ما هكذا ربّيتك انا.
نفضت اختي بقايا العجين من يديها داخل الاناء الكبير وحملت صينية الاقراص العجينية، وضعتها على المنضدة قرب التنور ثم قالت: نعم اذكر ذاك اليوم بوضوح كما لو انه الامس القريب، ليلتها، توهمت اني سمعته يبكي، وتذكرته عندما كان صغيراً يعدو دائماً نحو غرفتنا هرباً من ضربات ابي ويجهش هناك بالبكاء بيد انني لما فتحت الباب وجدت عيناه محمرتان انما دون دموع وهو يفحص حقائب السفر واحدة تلو الآخرى، عندما دخلت نظر الي بدهشة وقال ما الذي ايقظك في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
فاجبته بأني لم انم فصرخ صرخة الملدوغ: تباً. لم يحاول الجميع اشعاري بالذنب الا يكفي ما احمله من هموم؟
قلت وانا اغادر غرفته: لا تقلق منذ الغد لن يكون لك هم سوى نفسك وعائلتك.
حاول اللحاق بي بيد اني انسللت في عجالة الى السطح خوف كلمة وداع.
كنت اوقفه ههنا في باحة الدار واطلب منه ان يردد الاغنية امامي كما لو كان في المدرسة، فكان يفعلها باستحياء على عادته، ثم يركض الى حضني يقبلني ويعدو خارجاً. همست امي وهي تسلط نظرات هائمة على سلالم لطالما عليها عدوت.
- كنتما انتما الاثنين عالمي. واصلت امي.
- اتراه سيذكر ميلادك؟ همست اختي.
- تعلمين انه ينسى، هو لا يذكر حتى ميلاده لولا اننا نذكره. انا لا ابالي بهذه المناسبات على اي حال مالم تكن تخصكما.
- هو يخصنا على اي حال فنحن نحتفل بوجودك معنا. قالت اختي بصلابة كي لا تدع امي تهوي في هوة العمر المنتهي.
بيد ان امي استطردت: لا تذكريه على اية حال فمشاغله كثيرة.
رن جرس الهاتف لحظة هوت يد ابي الخشنة القوية تطرق باب منزلنا الحديدي معلنة عن وصوله، ركضت اختي لاستقباله فيما صرخت امي: افتحي الباب لأبيك وانا سأجيب الهاتف.
كان ذلك في ذات الثانية التي تلكأت فيها اختي مترددة ما بين الباب وجرس الهاتف فهمست غاضبة: كيف تراها تفعل ذلك؟
فتحت الباب، بزغ وجه ابي المتعب من ورائه فهمس وهو يطأً عتبة الباب: قاتل الله الحر ما العنه.
دلف داخلاً وشرع يسأل اختي وهو يناولها اكياس الفاكهة والخضار: كيف هي امك اليوم؟
همست بخبث: كعادتها تنتحب ابنها.
- رفقاً بها. ففي مثل هذا اليوم قبل خمسة اعوام سافر هو تاركاً اياها ورائه تعد الايام من بعده. همس ابي بلهجته اللوامة.
- يا الهي لقد نسيت هذا بالفعل. هتفت اخي وهي تلطم جبينها.
- يومها اخبرها بانها خزانة ذكرياته وستظل هكذا تحمل آلامه حتى ساعة موته بيد أنها نهرته قائلةً: عساي اموت قبلك. كان ذلك قبل ان يستوقفها هو قائلاً لها: بل سأموت انا قبلك عسى بذاك ينتهي حزنك. استطرد ابي.
حينما صعدت اختي وابي السلم كنت انا اتحدث مع امي عبر الهاتف، حالما علمت اختي بأنه انا ركضت واختطفت السماعة من يد امي وبدأت تقص علي تفاصيل ذاك اليوم.
فيما عدت امي نحو التنور وقد تذكرت أقراصاً كانتا هي وأختي قد تركتاها قبل طرقة ابي ورنين هاتفي. بدا بيتنا في تلك اللحظة مفعماً بالحركة رغم الحزن الداكن الذي اغرق فيه منذ سنين. بيد أن هذا الخبز الذي كانت أمي تنتزعه من داخل التنور بيديها المنهكتين بدا بانعكاسات وهجه على وجهها كما لو ان مهرجاناً من الفوانيس الملونة قد أضاء المنزل في تلك الليلة بعد أن غاب عنه لسنين طويلة.
عادت امي والتقطت سماعة الهاتف بعد أن أنقذت أقراص الخبز من الحريق، عدت الدقائق معها بسرعة، تناقصت النقود، غاب صوتها فجأة فيما بقيت أنا على الطرف الصامت من الخط دون عزاء ودون وجه امي.



#أثير_كاكان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في ذاكرة مريضة بالحب
- اللحظات الأخيرة في حياة رجل مهزوم
- يوم في حياة ذاكرة تتداعى
- وطني أيها الطاغية
- مطر الذاكرة
- أنثى بلا ذاكرة


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أثير كاكان - خزانة الذكريات