أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال بنورة - الطبيب المناوب















المزيد.....


الطبيب المناوب


جمال بنورة

الحوار المتمدن-العدد: 3067 - 2010 / 7 / 18 - 11:45
المحور: الادب والفن
    


الطبيب المنـاوب بقلم: جمال بنورة

في ذلك الصباح الخريفي … كانت تهب ريح شرقية بـاردة … ما أن نهضت من الفراش شعرت برجفة تنتابني في أنحاء جسمي … منذ ثلاثـة أيام وأنا أتحامل على نفسي، وأنكر مرضي … كنت أعتقد أنه مجرد رشح خفيف وسوف يزول. وفي كل يوم كان الرشح يزداد حدة، يصاحبه صداع، وأحياناً حمى خفيفة … تعاودني بين حين وآخر. كنت أكره أن أستسلم للمرض … أو أن أسمح بأن يلزمني الفراش … وكنت أتجلد أمام زملائي، فقد كنت أعتبر المرض دليل ضعف، ولا أحب أن يشعر بمرضي أحد … كنت أقوم بواجبي كاملاً … ولكن في هذا الصباح، ما كان باستطاعتي أن أقوم بأي عمل … شعرت بالندم لأنني لم أعرض نفسي على طبيب حتى الآن … لقد طلبت الي ذلك زوجتي أكثر من مرة … وأنا أقول لها:
- ليس هناك ما يستحق …! ماذا أقول للدكتور؟ بسبب رشح بسيط …!
وفي ذلك الصباح كنت كالمقرور رغم ما تدثرت به من ملابس صوفية ثقيلة. قالت زوجتي بإشفاق … وهي تساعدني على لبس المعطف:
- إنك لا تستطيع أن تخرج في هذا البرد القارص …! لماذا لا نستدعي الطبيب إلى البيت؟
قلت مستنكراً: - هل تريدين أن تلمي الجيران علينا …؟ الطبيب لا يأتي الا في الحالات الخطرة … سوف يتساءلون: ماذا بـه؟ … وماذا لو علموا أن كل هذا بسبب حمى خفيفـة …
قالت جزعة: - ليس المهم ما يقول الناس … المهم صحتك …
- لا تخشي شيئاً على صحتي … سأذهب إلى الطبيب بنفسي …
وكان لا بد أن أمر بمركز عملي أولاً … كنت أسير في الطريق - وأنا أشعر بدوخة في رأسي … وارتخاء في مفاصلي … وبرودة تسري في ظهري …
دخلت حجرة المدير أطلب منه نموذج معاينة طبيـة، قال في دهشة مصطنعة: - ماذا بك؟
قلت خجلاً من مرضي:
- أشعر أنني لست على ما يرام …!
قال متهكماً: - كيف …؟ شباب مثلك … وتستسلم للمرض؟
- لقد غالبتـه حتى غلبني …
عاد يسأل متشككاً: - بماذا تشعر؟
وشرحت له الأمر فقال:
- تناول قرصين اسبرو مع قدح شاي ساخن … وسوف تتحسن …
قلت: - جربت ذلك ولم ينفع … أفضل استشارة طبيب …
- ولكن حالتك لا تستدعي ذلك …
قلت مستفزاً: - الطبيب يقرر ذلك …!
قال في ابتسامة ممتعضة:
- هل أنت في حاجة إلى إجازة …؟
- أنا في حاجة إلى علاج …!
- هل أنت جـاد؟
- وهل يبدو علي أنني أمزح …؟
وشعرت أنه لا يثق بكلامي … قلت محتـداً:
- أؤكد لك بأنه ليست لي أي مصلحة شخصية أريد قضاءهـا … وأنت تعرف أن المناسبة الخاصة الوحيدة التي تغيبت فيها رفضوا اعتبارها إجازة عرضية وخصموها علي …
وتردد في الكلام … فقلت على الفور قاطعاً عليه الطريـق:
-على أي حال أنا سوف أتغيب لعرض نفسي على طبيب حتى لو لم ترض أنـت بذلك.
قال باعتذار:
- أنا لا أقصد ذلك … ولا أريدك أن تسيء فهمي …!
قلت مقاطعـاً:
- أنا آسف … فقد جعلتني أظن أن هذا ما ترمي إليه …
قال مستأنفاً حديثـه:
- أنت تعلم أن هناك من يتغيبون عن العمل لأغراض شخصيـة وهم يتظاهرون بالـمرض …
قلت محتجاً:- ولكن الطبيب الذي يقرر ذلك …
قال بسخريـة:- زيارة في عيادته الخاصة … مع دفع "الكشفيـة" ويعطيك الإجازة التي تطلبها …
قلت بلهجة حازمـة:
- ولكنني لن أذهب إلى العيـادة الخاصـة … لماذا ندفـع التأمين الصحي إذن؟ سأذهب فوراً إلى دائرة الصحـة …
******
وأنا أصعد الدرج المؤدي إلى دائرة الصحـة … رأيت أحد أطبـاء الصحة يصف سيارته وينزل منهـا … انتظرت حتى وصلني … ألقيت عليه تحية الصباح وعرضت عليه حالتي. قـال:
- لست أنا الطبيب المناوب …!
- من إذن؟
- اذهب إلى العيادة …
كان بعض المراجعين، يملأون الردهة في الداخل … ألقيت نظرة على العيـادة. كانت خالية … فقد نسي أحدهم بابها مفتوحاً … وتلفت حولي … فلم أجد أحداً من موظفي الصحـة لكي أساله … عبرت إلى الممر الداخلي … كان الموظفون منهمكين وراء مكاتبهم … لم أجرؤ على تعطيلهم عن أعمالهم بسؤالي عن الطبيب المناوب. وخرجت ممرضـة من إحدى الغرف … وسارعت إليها قائلاً:
- هل تسمحين؟! … أين الطبيب المناوب؟
أجابت وهي تمر بي بسرعـة:
- ليس هنـا …!
وقفت كمن أسقط في يده … وانتظرت لحظات طويلـة … لا أدري ماذا أفعل .. إلى أن عادت نفس الممرضـة تمر بي ثانيـة … استوقفتها وأنا أقول بلهجة رجاء:
- من فضلك …! وتوقفت لحظة وفي عينيها نظرة تساؤل …
وشرحت لها قصتي بكلمات مقتضبة سريعـة. قالت غير مباليـة:
- انتظر ربمـا يأتي بعد قليل …
قلت: أليس هناك من ينوب عنه عندما يغيب؟
- لا …
- إذن سأذهب للمعالجـة عند طبيب آخر …
- أنت حـر …!
- هل يمكن الحصول على إجازة من طبيب آخر وتصديقها هنـا …؟
- ممنـوع.
- ما العمـل إذن؟
- انتظـر …!
خرجت إلى الشرفـة … في نهاية الدرج المؤدي إلى المدخل الرئيسي … كان الطبيب الذي رأيتـه عند مقدمي يقف في الشرفة متكئاً على حاجز حديدي … ويلقي نظرات متأملة إلى الشارع … الذي تدب فيه حركة المارة والسيارات. وكانت السماء ملبدة بالغيـوم …
وبرزت الشمس فجأة من فجوة بين الغيوم المتراكضة في السماء لترسل أشعتها الدافئة على الكون …وقفت أتلمس الدفء وأنا أحتمي بحائط الشرفة من هبوب الريـح … وقد لذ لي الإحساس بحرارة الشمس …
قدم طبيب آخر، وقف مع الأول يتشمسان في الشرفـة وهما يتحدثان ويتضاحكان … وأنا أقف قريباً منهما في زاوية من الشرفـة غير ملق إليهما بالاً ولم افهم عما كانا يتحدثان … فقد كنت مشغولاً بأوجـاعي …
وكنت أتساءل عما يبقيني هناك؟ لماذا لا أعود إلى بيتي أو إلى عملي؟ ولكن حتى لو عدت إلى مركز عملي … فسيضيع النهار قيل وصولي …وسأعتبر متغيباً بدون عذر … وشعرت بالنقمـة على نفسي … وعلى زوجتي التي تظل تلح علي بمراجعة الطبيب ولو لأتفه الأسباب … انها تخاف على صحتي أكثر من خوفي أنـا … وشعرت أن حالتي فعلاً لا تستدعي مراجعة الطبيب … وكان يمكن أن أنتظر يوماً آخر أو يومين وأشفى تمامـاً … وقد بدأت أشعر بالتحسن فعلاً … وبالخوف من أن يأتي الطبيب ويتهمني بالتمارض … من اجل التغيب عن العمل … على أية حال كان يمكن أن يمضي النهار دون المجيء إلى هنـا …
وخرجت الممرضة إياها إلى الشرفة بعد قليل لتنضم إلى الطبيبين الآخرين … ودار بينهم حديث ومزاح لا آخر لـه … يظهر أن وجودي لا يثير اهتمام أحد ولماذا يثير اهتمامهم!؟ وشعرت أن وجودي زائد وأن من الأجدر بي أن أغيب عن أعينهم … والتفتت الي الممرضة كأنما فطنت إلى وجودي وقالت دون أن أسألهـا:
- هناك اجتماع لمفتشي الصحة … وعليك أن تنتظر حتى يفرغ الطبيب من الاجتماع.
قلت يائساً:
- هل سأقضي النهار هنـا؟
- ماذا أعمل لك …؟
ومضى بعض الوقت وأنا أنتظر … دخلت الممرضة ثم خرجت بعد قليل لتقول:
- لقد انتهى الاجتماع … ادخل …!
دخلت، أخرجت ورقة المعاينة الطبيـة التي أخذتها من المدير لكي أقدمها للطبيب. وجدت باب غرفته مغلقاً … واجهني رجل ضخم الجثـة عند الباب … كان يرتدي بذلـة عاديـة - فطنت فيما بعد إلى أنه آذن.
- ماذا تريد؟
وأخذت أشرح له الأمـر من جديد …
قال بعد أن فرغت من كلامي وهو يشير إلى مقعد طويل:
- اجلس هنـا …
قلت - متى أستطيع رؤيـة الطبيب؟
- انتظر قليلاً …!
كان بعض المـوظفين والأطباء يدخلون ويخرجون في نشاط دائب. دخل الآذن غرفة الطبيب وخرج بعد قليل … وهو يتوجه الي بالسؤال:
- معك ورقة تثبت أنك موظف؟
ناولته إياها … ودخل بها إلى غرفـة الطبيب ثانيةً … ثم خرج ليقول لي:
- أدخل …!
دخلت أخيراً. كان الطبيب يستريح في مقعده الوثير … وراء مكتبه الفخم. بادرني قائلاً بلهجة استفسار:
- نعم …؟
شرحت لـه ما أشعر به … وأنا واقف وهو يجلس على كرسيه في ارتياح. بعد أن أنهيت كلامي سأل:
- هل تسعل …؟
- أحيانا …
انتزع ورقة من دفتر أمامه … بعد أن كتب عليها شيئاً ما ثم قال:
- هذا الدواء تجده في الصيدليـة …
ثم كتب على ظهر الورقة وقال:
- أما هذا لا يوجد منه عندنا، عليك أن تشتريه …!
وأخذ يشرح لي طريقة الاستعمال وأنا أنظر إليه في حيرة واستغراب … وظللت متردداً بعض الوقت ثم تغلبت على حيائي … وقلت متهيباً … وبصوت خفيض لا يكاد يسمع كأنما أتدخل في شأن ليس من حقي:
- بدون فحص؟
حدجني بنظرة مؤنبة ثم قال:
- أنا أعرف شغلي …
ثم انفرجت شفتاه قليلاً … وهو يقول:
- حالتك واضحـة … لا تحتاج إلى فحص …! ألا تريد أن تشفى؟
- طبعـاً … هذا هو المهم …
ثم بعد قليل سأل:
- تقدر أن تداوم؟!
قلت بعد تردد: - الواقع … أجد صعوبة في ذلك …
- سأكتب لك يومين راحـة …
- شكـراً …!
عاد يؤكـد: - ستكون قادراً على مزاولة عملك بعد يومين …!
وشكرتـه ثانيـةً وخرجت.
عدت إلى البيت أحمل أنواعاً مختلفة من الحبوب والأدوية … وبادرتني زوجتي بالسؤال:
- ها … ماذا قال الطبيب؟
- كما قلت لك … لم يكن الأمر يستحق مراجعة طبيب! لقد كان موقفي حرجاً أمامه … كان ينظر الي كأنه لا يصدق بمرضي … حتى أنه لم يتنازل أن يفحصني …
- كيف أعطاك الدواء إذن؟
- لعلـه اعتقد بأنني لن استعمله …
ثم قلت في ضيق:
- كان يمكن أن أشفى بدون أن أذهب إلى طبيب …
- أنت دائماً تهمل نفسك …إلى أن تسوء حالتك …!
قلت ساخراً منهـا:
- لا تقولي بعـد اليوم … اذهب إلى طبيب … لقد كان الناس دائمـاً يعالجون أنفسهم بأنفسهم … وكانوا يشفون بدون أطباء …!
*****
عصر ذلك اليوم زارني المدير … ولعله كان يريد أن يتأكد فيما إذا كنت مريضاً فعلاً أم لا … وجدني مستلقياً في الفراش … ومتدثراً بأغطية ثقيلـة … وبعد أن سألني عن صحتي قـال …
- إذا استعطت أن تأتي إلى العمل غداً … فلا داعي للتغيب يومين.
- أؤكد لك بأن هذا ما أتمنـاه …
وفي صباح اليوم التالي … شعرت أن زوجتي دائمـاً على حق … فما أن نظرت إلى حالتي حتى صرخت جزعـة:
- لا بـد من استدعـاء طبيب خـاص …!
ولم أستطع حتى أن أمانع … فقـد اشتد علي المرض … ولم اقو على النهوض من الفراش …
الطبيب المنـاوب بقلم: جمال بنورة

في ذلك الصباح الخريفي … كانت تهب ريح شرقية بـاردة … ما أن نهضت من الفراش شعرت برجفة تنتابني في أنحاء جسمي … منذ ثلاثـة أيام وأنا أتحامل على نفسي، وأنكر مرضي … كنت أعتقد أنه مجرد رشح خفيف وسوف يزول. وفي كل يوم كان الرشح يزداد حدة، يصاحبه صداع، وأحياناً حمى خفيفة … تعاودني بين حين وآخر. كنت أكره أن أستسلم للمرض … أو أن أسمح بأن يلزمني الفراش … وكنت أتجلد أمام زملائي، فقد كنت أعتبر المرض دليل ضعف، ولا أحب أن يشعر بمرضي أحد … كنت أقوم بواجبي كاملاً … ولكن في هذا الصباح، ما كان باستطاعتي أن أقوم بأي عمل … شعرت بالندم لأنني لم أعرض نفسي على طبيب حتى الآن … لقد طلبت الي ذلك زوجتي أكثر من مرة … وأنا أقول لها:
- ليس هناك ما يستحق …! ماذا أقول للدكتور؟ بسبب رشح بسيط …!
وفي ذلك الصباح كنت كالمقرور رغم ما تدثرت به من ملابس صوفية ثقيلة. قالت زوجتي بإشفاق … وهي تساعدني على لبس المعطف:
- إنك لا تستطيع أن تخرج في هذا البرد القارص …! لماذا لا نستدعي الطبيب إلى البيت؟
قلت مستنكراً: - هل تريدين أن تلمي الجيران علينا …؟ الطبيب لا يأتي الا في الحالات الخطرة … سوف يتساءلون: ماذا بـه؟ … وماذا لو علموا أن كل هذا بسبب حمى خفيفـة …
قالت جزعة: - ليس المهم ما يقول الناس … المهم صحتك …
- لا تخشي شيئاً على صحتي … سأذهب إلى الطبيب بنفسي …
وكان لا بد أن أمر بمركز عملي أولاً … كنت أسير في الطريق - وأنا أشعر بدوخة في رأسي … وارتخاء في مفاصلي … وبرودة تسري في ظهري …
دخلت حجرة المدير أطلب منه نموذج معاينة طبيـة، قال في دهشة مصطنعة: - ماذا بك؟
قلت خجلاً من مرضي:
- أشعر أنني لست على ما يرام …!
قال متهكماً: - كيف …؟ شباب مثلك … وتستسلم للمرض؟
- لقد غالبتـه حتى غلبني …
عاد يسأل متشككاً: - بماذا تشعر؟
وشرحت له الأمر فقال:
- تناول قرصين اسبرو مع قدح شاي ساخن … وسوف تتحسن …
قلت: - جربت ذلك ولم ينفع … أفضل استشارة طبيب …
- ولكن حالتك لا تستدعي ذلك …
قلت مستفزاً: - الطبيب يقرر ذلك …!
قال في ابتسامة ممتعضة:
- هل أنت في حاجة إلى إجازة …؟
- أنا في حاجة إلى علاج …!
- هل أنت جـاد؟
- وهل يبدو علي أنني أمزح …؟
وشعرت أنه لا يثق بكلامي … قلت محتـداً:
- أؤكد لك بأنه ليست لي أي مصلحة شخصية أريد قضاءهـا … وأنت تعرف أن المناسبة الخاصة الوحيدة التي تغيبت فيها رفضوا اعتبارها إجازة عرضية وخصموها علي …
وتردد في الكلام … فقلت على الفور قاطعاً عليه الطريـق:
-على أي حال أنا سوف أتغيب لعرض نفسي على طبيب حتى لو لم ترض أنـت بذلك.
قال باعتذار:
- أنا لا أقصد ذلك … ولا أريدك أن تسيء فهمي …!
قلت مقاطعـاً:
- أنا آسف … فقد جعلتني أظن أن هذا ما ترمي إليه …
قال مستأنفاً حديثـه:
- أنت تعلم أن هناك من يتغيبون عن العمل لأغراض شخصيـة وهم يتظاهرون بالـمرض …
قلت محتجاً:- ولكن الطبيب الذي يقرر ذلك …
قال بسخريـة:- زيارة في عيادته الخاصة … مع دفع "الكشفيـة" ويعطيك الإجازة التي تطلبها …
قلت بلهجة حازمـة:
- ولكنني لن أذهب إلى العيـادة الخاصـة … لماذا ندفـع التأمين الصحي إذن؟ سأذهب فوراً إلى دائرة الصحـة …
******
وأنا أصعد الدرج المؤدي إلى دائرة الصحـة … رأيت أحد أطبـاء الصحة يصف سيارته وينزل منهـا … انتظرت حتى وصلني … ألقيت عليه تحية الصباح وعرضت عليه حالتي. قـال:
- لست أنا الطبيب المناوب …!
- من إذن؟
- اذهب إلى العيادة …
كان بعض المراجعين، يملأون الردهة في الداخل … ألقيت نظرة على العيـادة. كانت خالية … فقد نسي أحدهم بابها مفتوحاً … وتلفت حولي … فلم أجد أحداً من موظفي الصحـة لكي أساله … عبرت إلى الممر الداخلي … كان الموظفون منهمكين وراء مكاتبهم … لم أجرؤ على تعطيلهم عن أعمالهم بسؤالي عن الطبيب المناوب. وخرجت ممرضـة من إحدى الغرف … وسارعت إليها قائلاً:
- هل تسمحين؟! … أين الطبيب المناوب؟
أجابت وهي تمر بي بسرعـة:
- ليس هنـا …!
وقفت كمن أسقط في يده … وانتظرت لحظات طويلـة … لا أدري ماذا أفعل .. إلى أن عادت نفس الممرضـة تمر بي ثانيـة … استوقفتها وأنا أقول بلهجة رجاء:
- من فضلك …! وتوقفت لحظة وفي عينيها نظرة تساؤل …
وشرحت لها قصتي بكلمات مقتضبة سريعـة. قالت غير مباليـة:
- انتظر ربمـا يأتي بعد قليل …
قلت: أليس هناك من ينوب عنه عندما يغيب؟
- لا …
- إذن سأذهب للمعالجـة عند طبيب آخر …
- أنت حـر …!
- هل يمكن الحصول على إجازة من طبيب آخر وتصديقها هنـا …؟
- ممنـوع.
- ما العمـل إذن؟
- انتظـر …!
خرجت إلى الشرفـة … في نهاية الدرج المؤدي إلى المدخل الرئيسي … كان الطبيب الذي رأيتـه عند مقدمي يقف في الشرفة متكئاً على حاجز حديدي … ويلقي نظرات متأملة إلى الشارع … الذي تدب فيه حركة المارة والسيارات. وكانت السماء ملبدة بالغيـوم …
وبرزت الشمس فجأة من فجوة بين الغيوم المتراكضة في السماء لترسل أشعتها الدافئة على الكون …وقفت أتلمس الدفء وأنا أحتمي بحائط الشرفة من هبوب الريـح … وقد لذ لي الإحساس بحرارة الشمس …
قدم طبيب آخر، وقف مع الأول يتشمسان في الشرفـة وهما يتحدثان ويتضاحكان … وأنا أقف قريباً منهما في زاوية من الشرفـة غير ملق إليهما بالاً ولم افهم عما كانا يتحدثان … فقد كنت مشغولاً بأوجـاعي …
وكنت أتساءل عما يبقيني هناك؟ لماذا لا أعود إلى بيتي أو إلى عملي؟ ولكن حتى لو عدت إلى مركز عملي … فسيضيع النهار قيل وصولي …وسأعتبر متغيباً بدون عذر … وشعرت بالنقمـة على نفسي … وعلى زوجتي التي تظل تلح علي بمراجعة الطبيب ولو لأتفه الأسباب … انها تخاف على صحتي أكثر من خوفي أنـا … وشعرت أن حالتي فعلاً لا تستدعي مراجعة الطبيب … وكان يمكن أن أنتظر يوماً آخر أو يومين وأشفى تمامـاً … وقد بدأت أشعر بالتحسن فعلاً … وبالخوف من أن يأتي الطبيب ويتهمني بالتمارض … من اجل التغيب عن العمل … على أية حال كان يمكن أن يمضي النهار دون المجيء إلى هنـا …
وخرجت الممرضة إياها إلى الشرفة بعد قليل لتنضم إلى الطبيبين الآخرين … ودار بينهم حديث ومزاح لا آخر لـه … يظهر أن وجودي لا يثير اهتمام أحد ولماذا يثير اهتمامهم!؟ وشعرت أن وجودي زائد وأن من الأجدر بي أن أغيب عن أعينهم … والتفتت الي الممرضة كأنما فطنت إلى وجودي وقالت دون أن أسألهـا:
- هناك اجتماع لمفتشي الصحة … وعليك أن تنتظر حتى يفرغ الطبيب من الاجتماع.
قلت يائساً:
- هل سأقضي النهار هنـا؟
- ماذا أعمل لك …؟
ومضى بعض الوقت وأنا أنتظر … دخلت الممرضة ثم خرجت بعد قليل لتقول:
- لقد انتهى الاجتماع … ادخل …!
دخلت، أخرجت ورقة المعاينة الطبيـة التي أخذتها من المدير لكي أقدمها للطبيب. وجدت باب غرفته مغلقاً … واجهني رجل ضخم الجثـة عند الباب … كان يرتدي بذلـة عاديـة - فطنت فيما بعد إلى أنه آذن.
- ماذا تريد؟
وأخذت أشرح له الأمـر من جديد …
قال بعد أن فرغت من كلامي وهو يشير إلى مقعد طويل:
- اجلس هنـا …
قلت - متى أستطيع رؤيـة الطبيب؟
- انتظر قليلاً …!
كان بعض المـوظفين والأطباء يدخلون ويخرجون في نشاط دائب. دخل الآذن غرفة الطبيب وخرج بعد قليل … وهو يتوجه الي بالسؤال:
- معك ورقة تثبت أنك موظف؟
ناولته إياها … ودخل بها إلى غرفـة الطبيب ثانيةً … ثم خرج ليقول لي:
- أدخل …!
دخلت أخيراً. كان الطبيب يستريح في مقعده الوثير … وراء مكتبه الفخم. بادرني قائلاً بلهجة استفسار:
- نعم …؟
شرحت لـه ما أشعر به … وأنا واقف وهو يجلس على كرسيه في ارتياح. بعد أن أنهيت كلامي سأل:
- هل تسعل …؟
- أحيانا …
انتزع ورقة من دفتر أمامه … بعد أن كتب عليها شيئاً ما ثم قال:
- هذا الدواء تجده في الصيدليـة …
ثم كتب على ظهر الورقة وقال:
- أما هذا لا يوجد منه عندنا، عليك أن تشتريه …!
وأخذ يشرح لي طريقة الاستعمال وأنا أنظر إليه في حيرة واستغراب … وظللت متردداً بعض الوقت ثم تغلبت على حيائي … وقلت متهيباً … وبصوت خفيض لا يكاد يسمع كأنما أتدخل في شأن ليس من حقي:
- بدون فحص؟
حدجني بنظرة مؤنبة ثم قال:
- أنا أعرف شغلي …
ثم انفرجت شفتاه قليلاً … وهو يقول:
- حالتك واضحـة … لا تحتاج إلى فحص …! ألا تريد أن تشفى؟
- طبعـاً … هذا هو المهم …
ثم بعد قليل سأل:
- تقدر أن تداوم؟!
قلت بعد تردد: - الواقع … أجد صعوبة في ذلك …
- سأكتب لك يومين راحـة …
- شكـراً …!
عاد يؤكـد: - ستكون قادراً على مزاولة عملك بعد يومين …!
وشكرتـه ثانيـةً وخرجت.
عدت إلى البيت أحمل أنواعاً مختلفة من الحبوب والأدوية … وبادرتني زوجتي بالسؤال:
- ها … ماذا قال الطبيب؟
- كما قلت لك … لم يكن الأمر يستحق مراجعة طبيب! لقد كان موقفي حرجاً أمامه … كان ينظر الي كأنه لا يصدق بمرضي … حتى أنه لم يتنازل أن يفحصني …
- كيف أعطاك الدواء إذن؟
- لعلـه اعتقد بأنني لن استعمله …
ثم قلت في ضيق:
- كان يمكن أن أشفى بدون أن أذهب إلى طبيب …
- أنت دائماً تهمل نفسك …إلى أن تسوء حالتك …!
قلت ساخراً منهـا:
- لا تقولي بعـد اليوم … اذهب إلى طبيب … لقد كان الناس دائمـاً يعالجون أنفسهم بأنفسهم … وكانوا يشفون بدون أطباء …!
*****
عصر ذلك اليوم زارني المدير … ولعله كان يريد أن يتأكد فيما إذا كنت مريضاً فعلاً أم لا … وجدني مستلقياً في الفراش … ومتدثراً بأغطية ثقيلـة … وبعد أن سألني عن صحتي قـال …
- إذا استعطت أن تأتي إلى العمل غداً … فلا داعي للتغيب يومين.
- أؤكد لك بأن هذا ما أتمنـاه …
وفي صباح اليوم التالي … شعرت أن زوجتي دائمـاً على حق … فما أن نظرت إلى حالتي حتى صرخت جزعـة:
- لا بـد من استدعـاء طبيب خـاص …!
ولم أستطع حتى أن أمانع … فقـد اشتد علي المرض … ولم اقو على النهوض من الفراش …



#جمال_بنورة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برج المراقبة
- زواج مؤجل
- الزيارة
- الاجتياح
- في المستشفى
- موعد مع الموت
- الموت خلف الأبواب - قصة قصيرة
- لقمة العيش - قصة قصيرة
- القبر - قصة قصيرة
- موت الفقراء - قصة قصيرة
- الدرس الأخير - قصة قصيرة


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال بنورة - الطبيب المناوب