تصاميم -زهاء حديد- العربية (2-3)

خالد السلطاني

الحوار المتمدن-العدد: 3064 - 2010 / 7 / 15 - 01:43
المحور: الادب والفن
    

صممت زهاء في الفترة الاخيرة مشاريع عديدة في بلدان عربية مختلفة. آخرها كان تصميم مشروع "دارة الملك عبد الله الثاني" (2008) في عمان بالاردن؛ كما صممت " معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية" (2006) في بيروت، لبنان، بالاضافة طبعا الى مشاريعها المتعددة في الامارت مثل "خور دبي التجاري- ابراج الاشارة" (2006) في دبي، و"دار اوبرا دبي" (2006) في دبي، و"مبنى اوبيوس OPUS البرج التجاري" (2007-2010)، في دبي، و"جسر الشيخ زايد" (1995-2007، 2009) في ابو ظبي، و"مركز الفنون الادائية" (2008) ابو ظبي، و"سوق دبي المالي" (2007)، دبي، وكذلك مشروعها "متحف البحرين للفنون المعاصرة " (2007-12) في المحرق، البحرين، والمضمار البحريني العالمي للسيارات (2007)، في المنامة، و"برج النيل" (2007) في القاهرة بمصر وغير ذلك من المشاريع التى صممتها خصيصا للبلدان العربية. ليس بمقدورنا ضمن محددات دراستنا هذه ان نضئ مجمل خصوصية اللغة المعمارية لكل مشروع على حدة من المشاريع المصممة، لكننا سنتوقف عند بعضها في قراءة سريعة لعمارتها التى نعتقد انها اغنت البيئة المبنية المحلية بشواهد مميزة، وبعضها سيُعد عند اكتمال تنفيذها بمثابة "ايقونة" بصرية للمدن المشيدة فيها. دعونا اذاً، نبدء من المبنى المذكور اخيرا في قائمتنا اعلاه، من "برج النيل" القاهري.

تتطلع زهاء في تصميمها "برج النيل" الى تأكيد مقاربتها المعمارية النزّاعة لان يكون الحدث التصميمي، حدثاً فريداً ولافتاً ومعبراً، كما تنشد الى امتحان هذه المقاربة في تايبلوجية المباني المتعددة الطوابق. فالبرج المختار موقعاً له في قلب القاهرة، يطل مباشرة على نهر النيل، ويرتفع الى نحو 70 طابقا، يحتوي على فندق وشقق سكنية، بالاضافة الى فضاءات خدمية متممة تشغل الطوابق السفلى منه. ولكي تبدو امينة الى "ثوابت" اسلوبها المعماري، تحرص المصممة الى النأي بعيدا عن "اميج" المبنى المتعدد الطوابق، التي مافتئت هيئته حاضرة في الاذهان، منذ ان "اخترعته" مدرسة شيكاغو في نهاية القرن التاسع عشر، ووجدت تلك الهيئة تمثيلا حداثياً له في تصاميم "ميس فان دير رّو" العقلانية، ذلك التمثيل المنطوي على حضور عال للهندسية المنتظمة والتكرار التماثلي لطوابقة. وهما من اسس لتجريدية صياغة الواجهات، وعملا ايضا على انتشار واسع وسهل لتلك الصيغة التصميمية في المشهد المعماري العالمي.
نحن اذن، في "برج النيل"، ازاء مسعى تصميمي يبتغي تحقيق هدف مزدوج، فهو من ناحية، يكرس اللغة المعمارية الخاصة، ومن ناحية آخرى، يبتعد قدر الامكان عن التصورات التى باتت مألوفة عن شكل المبنى المتعدد الطوابق. لقد شاهدنا سابقاً تنويعات عديدة لهذا المسعى في تصاميم زهاء لـ "مفردة" المبنى المتعدد الطوابق. وتحضر هنا ابراجها المتموجة "الراقصة" في (2006) في الامارات؛ وناطحة سحاب "اكسبورت سنتر" (2007) في موسكو، المزدوجة، ذات الشكل الانسيابي وواجاهاتها المحفورة، وشرفاتها الناتئة. اما مشروعها "سيتي لايف" (2004) في ميلانو بايطاليا، والمتوقع تنفيذه في 2014، فان معالجاته التصميمة المتفردة الدوارة، يختلف جذريا عن ماسبقه من تصاميم وما سوف يتبعه ..ايضا. والتنوع نفسه حاضرا ببلاغة فيما يخص مبنى " جيفوبسنايا تور" (2004) المسكوفي بروسيا و اسكان "سبيتيلاو" المنفذ في 2005 بفيينا /النمسا. وحتى في "برج مرسليليا" بفرنسا (2004 والمفترض ان يبدأ تنفيذه في 2009) المتعدد الطوابق، والذي بدت معالجاته التصميمية قريبة من "برج النيل"، الا إن الحل التكويني فيه، يختلف كثيراً عن ما تم تحقيقه في القاهرة.
في عمارة جميع تلك المباني تتكرس نزعة الاشتغال التكويني المتفرد. وعمارة برج النيل لا تختلف عن ذلك. فالجدران "الزعنفية" Fin Walls الخرسانية المشكلة لواجهة المبنى، تتيح امكانية دوران طوابق البرج، موفرة الى غرف الفندق وفضاءات الشقق السكنية نقاط رؤى مختلفة للمنظر المرئي المحيط. لا تشأ زهاء إبقاء مسقط الطوابق المكررة في صيغة واحدة. ثمة "انبعاج" ينتأ بارزا من الطوابق السفلى في الجهة الغربية، ويستمر في خط مائل حتى الطوابق العليا، ثم ينحرف الى وضعه السابق عند طوابق القمة، ملحقاً مساحة اضافية الى احياز المساقط الافقية، ومانحا المبنى شكلا فريداً. وهذه الفرادة الشكلية يتكثف حضورها ايضا جراء "سحب" فضاءات الطوابق السفلية، ومدها في اتجاه النهر، لخلق احياز مميزة للفعاليات الخدمية العامة التى تحتاجها طبيعة المبنى. وتنشأ ساحة واسعة في الجهة الجنوبية للتعريف بالمبنى ومداخله، ويتأكد وجودها من خلال امتدادات جسور خرسانية معلقة تقوم بمقام " السقف" المفتوح لها. ونرى استخدام الاسلوب نفسه في الجهة الشمالية ايضا. وكل ذلك معنى في استيلاد فورم شديد الفرادة للمبنى المصمم. والذي تظهره الرسوم المقترحه للمبنى الكاشفة لاساليب معالجات واجهاته ذات "التضاريس" المتنوعة. وطبقاً لتلك الرسوم فان المشروع المقترح يمكن ان يكون اضافة قيمة للبيئة المبنية، واكمال نفيس لخط سماء القاهرة.
تختلف اللغة المعمارية لمبنى"معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية" المفترض تشييده في مجمع الجامعة الامريكية ببيروت في لبنان، عن جميع ما يحيط بها من ابنية ذات مقاربات تصميمة مختلفة. وتعزو المصصمة سبب هذا الاختلاف، ليس فقط الى لفت انظار الطلبة والاكاديميين لموضوعة المعهد، التى بمقدورها ان تحدد وتؤثر على مستقبل البلد ومحيطه الاقليمي، وانما ايضا الى جذب انتباه الباحثين واصحاب القرار المحليين والاقليميين والدوليين لها. وقد يكون هذا الامر صحيحاً؛ لكننا نعتقد ان "ولع" زهاء بثيمة التفرد الهيئاتي للابنية المصممة من قبل مكتبها، نابع اساسا من الرغبة في جعل ذلك الولع بمثابة "توقيع" تصميمي خاص وشخصي يسم مقاربتها المعمارية بسمات خاصة. وهذا "التوقيع" هو الذي يجعل من عمارة المعهد تكتسي ذلك القدر من التميز والاختلاف والجدة.
تنتظم فراغات المعهد في خمسة طوابق، بالاضافة الى طابق تسوية "قبو"، تشغله قاعة محاضرات مع خدماتها. وتشغل غرف الادارة والباحثين وكذلك غرف المناقشة والورش، طوابق المبنى جميعها عدا الاخير، الذي خصص باكمله الى المكتبة وفضاء المطالعة. وتم استغلال اعلى المبنى كحديقة سقفية، ومكان اطلالة نحو البحر ونحو منشاءات مجمع الجامعة الآخرى. وأفضت دراسة متأنية للموقع مع مجاوراته، الى ضرورة وجود مدخلين للمبنى احدهما يقع في الجهة الشرقية عند الطابق الارضي، والاخر في الجهة الغربية يقود مباشرة الى الطابق الاول، عبر مرقاة Ramp منحنية تربط ممشى السابلة مع المبنى. وفي العموم فان الاحياز التى يتضمنها المعهد، هي احياز ادارية وتعليمة عادية؛ بيد ان عادية تلك الاحياز، اضحت في ايدي المصممة حافزا لاستيلاد فورم تصميمي متخم بعدم العادية ومكتنز بعدم المألوفية. فما تقترحه زهاء من اسلوب تكويني جامع لتلك الاحياز، لا علاقة له البتة عن تصورات المتلقي المألوفة للمبنى التعليمي او الاداري، ذلك المبنى الذي تتشكل هيئته عادة من تكرار الفضاءات الوظيفية المتماثلة.
ثمة كتلة خرسانية تبدو صياغتها الشكلية اقرب الى العمل النحتي منه الى الفعل المعماري. وهي وإن بدت راسخة في الارض التى "تنبت" منها، فانها تظل على جانب كبير من التوتر والشد وعدم الاستقرار، جراء ميلان جدرانها الخارجية من الجهة الشرقية ، وحضور التطليعة الكابولية Cantilever القوية الممتدة بعيدا عن الكتلة الساندة من الجهة الغربية. وهذه التطليعة الحرة تمتد من سقف الطابق الثاني، تسند "بعارضتها" Beam الطابقين العلويين، مانحة المبنى هيئة مميزة، وجاعلة من عمارته حدثاً لافتا بامتياز ضمن عمارة مباني مجمع الجامعة. وتضفي فتحات النوافذ المرسومة على شكل متوازي المستطيلات بابعاد مختلفة، احساساً بمتانة "صخرة" كتلة المبنى، اكثر بكثير من ان تعبر عن خفة جدار "مثقب" بفتحات نوافذ عادية.

من ضمن مشاريع عديدة مخصصة الى دولة الامارات العربية، ذكرناها في مستهل دراستنا، صممت زهاء حديد "مركز ابوظبي للفنون الادائية"، وهو مجمع لمسارح عديدة وفضاءات خدمية آخرى، تقع ضمن الحي الثقافي في "جزيرة السعديات" التى لا تبعد سوى نصف كلم عن شواطئ العاصمة ابوظبي وتقع في الشمال الغربي منها. وهذا الحي اكتسب شهرة واسعة في الاوساط المعمارية وغيرها، جراء تعاون الهيئة المسؤولة عن تطويرها واستثمارها مع ادارة متحف غوغنهايم النيويوركي، لتحويل هذا الحي الى وجهة ثقافية وسياحية وسكنية على افضل المستويات العالمية. ولهذا الغرض فقد تم تكليف مكتب "سوم" SOM الاستشاري لاعداد المخطط الحضري، ودُعّي معماريون مشهورون لتصميم الابنية الثقافية المهمة فيه، وهم بالاضافة الى زهاء حديد المصممة لـ"مركز الفنون الادائية"، هناك فرانك غيهري لتصميم "متحف غوغنهايم ابو ظبي للفن المعاصر"، وجان نوفيل لتصميم "لوفر ابو ظبي"، وتاداو آندو لتصميم "المتحف البحري" واخيرا نورمان فوستر لتصميم "متحف الشيخ زايد الوطني" . ويفترض عند اكمل تنفيذ تلك الاعمال سيكون بالامكان رؤية تصاميم مميزة تعود الى معماريين مرموقين في مكان واحد وفي وقت واحد. وهي لحظة نادرة في تاريخ العمارة العالمي يتيحها هذا الموقع لمشاهديه. ومن هنا استثنائية الحدث المبنى، ومن هنا ايضا اهميته. وتعي جداً زهاء حديد هذه الاستثنائية، وهذه الاهمية في مقاربتها للتصميم المقترح.
يشغل مركز الفنون الادائية، مساحة اجمالية تقدر بـ 62.770 مترا مربعا ويأوي خمسة مسارح هي: مسرح الموسيقى والمسرح الدرامي وقاعة الحفلات ودار الاوبرا ومسرح مرن متعدد الاغراض. ويبلغ مجموع المقاعد الاجمالي بـ 6.300 مقعد. ويمتلك المبنى مقاسات ضخمة نوعا ما، فطوله يصل الى 490 مترا، وعرضه الى 135متراً؛ اما ارتفاعه فيدنو من 62 مترا . وفضاءات المركز موزعة على 10 طوابق في الاعلى و4 طوابق في السرداب. وتبلغ المساحة الكلية للموقع بحدود 25800 مترا (GA, 99,p. 142). ويصل الزوار الى المركز عن طريق ممر للسابلة طويل يمثل ايضا المحور التكويني الاساسي للمركز؛ وهذا الممر متفرع من الشارع الرئيس. ويتوسط موقع المركز بين موقع المتحف البحري في الجنوب ومتحف لوفر ابوظبي في الشمال.
تتجاهل زهاء في قرارتها التكوينية للمركز، تجاهلا تاماً مألوفية الفورم الشائع لمبنى المسرح؛ عبر استحضار اشكال الطبيعة الحيّـة، لتكون هذه المرة، الهيئة المختارة للمبنى. وهذا الاستحضار لا يقتصر على تماثل الشكل لوحده، وانما يسعى وراء تمثيل الحركة "الحية" فيه ايضا، من خلال خيار الاشكال المقترحة للمبنى المفعمة بالحركة والموحية الى دينامية نشطة. فهيئة الكتلة المصطفاة مليئة بالطاقة التى تبدو وكأنها متحفزة في اتجاه الخور الذي تثب نحوه، معلقة فوق <جادة التمشي> "البروميناد" Promenade البحري. واذ تستدعي المصممة بهيئة مبناها اشكال اوراق الاشجار او ثمار شجرة الكرمة، فانها تقدم ذلك باسلوب يشي بتداخل الواجهات بعضها في البعض الآخر، وامتزاجها مع "مفردة" السقف لخلق سلسلة مشاهد متعددة للمبنى المرئي، تتغير تشكيلاتها البصرية باستمرار. ونزعة التداخل التكويني هذه لدى المصممة، نراها حاضرة ايضا وبقوة بين خارج المركز وداخله. فالمصممة لا تتوقف عند اسالبيب معتادة في إجراءات ربط شواهد خارج المبنى مع الفضاءات الداخلية، فهي تتخطى، بسعيها المثابر الذي لا يقبل التسويف، اعراف مغلوقية الفضاء المسرحي متجاوزه محرماته، ومقترحةً لنا "مسرحا" مكشوفا داخل احياز المبنى، وهو "المسرح المرن" الذي يقع فوق المسارح الاربعة، بجدران وسقوف زجاجية تربط المشاهد الداخلي مع بانوراما الموقع المحيط. وبهذا المقترح فان زهاء تتطلع الى تقديم تصميم جديد ونادر في موضوعة عمارة المسارح. وهي تشرح بواعث اختيار مقاربتها التصميمة المشاركة في تنفيذ مشاريع جزيرة السعديات بان "جميع مخططات الجزيرة يتعين ان تكون ببساطة، استثنائية وفوق العادة. وعندما يتم تحقيق هذه الرؤى الشاملة والمتفردة، فانها تؤسس لمعيار ثقافي عالمي، سيجد صدى له على امتداد العقود الآتية" .
ان هذه الاستثنائية التصميمية التى تتحدث عنها المعمارة، تكاد تكون الخيار التصميمي المفضل (الوحيد؟) لديها، هي التى تسعى لان تكون تلك الصفة حاضرة في عمارة مراكز ثقافية عديدة صممتها في السنين الاخيرة،. لنتذكر مشروعها المميز"مركز حيدر عليّيف الثقافي" (2007)، في باكو ، اذربيجان، و"متحف الفن الحديث" في روما الذي افتتح اواخر هذه السنة (2009)، و"دارة الملك عبد الله الثاني" (2008) في عمان، الاردن <والتي نأمل ان نعود الى قراءة عمارتها بتفصيل اكثر مستقبلا>، و"دار اوبرا غوانغيزو" في الصين (2003، والذي بدء تشييدها عام 2008)، و"مركز فاينو الثقافي" (2000-2005) في فولسبيرغ بالمانيا ؛ وفي غيرها من التصاميم الثقافية. في جميع تلك التصاميم يتبدى بوضوح استثنائية الطرح وفرادة المعالجة التصميمة كاساس لثيمة الحل التكويني، وهو نفس الاساس المعتمد بصورة رائعة ومتميزة في عمارة "مركز الفنون الادائية" بالسعديات في ابو ظبي.
د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

#خالد_السلطاني (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات