أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد المثلوثي - التاريخ بين العلم والديالكتيك















المزيد.....



التاريخ بين العلم والديالكتيك


محمد المثلوثي

الحوار المتمدن-العدد: 2967 - 2010 / 4 / 6 - 23:24
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



لم يمثل اختراع الآلة البخارية وتحول العالم من الصناعات المانيفاكتورية المحدودة إلى مرحلة الصناعات الكبيرة تحولا في الحياة المادية للبشر وأسلوب إنتاجهم المادي فحسب، بل لقد غيرت هذه الاختراعات الحديثة وأدوات الإنتاج العصرية من طريقة تفكيرهم وأساليب فهمهم للعالم المادي ولتاريخهم بالذات. ( فان الناس الذين يطورون إنتاجهم المادي ومعاشرتهم المادية يغيرون كذلك مع واقعهم هذا تفكيرهم ومنتوجات تفكيرهم –ماركس) فمع دخول العالم مرحلة الصناعات الكبيرة وتوطد أسلوب الإنتاج الرأسمالي وتحوله الفعلي إلى أسلوب إنتاج عالمي، ظهرت أساليب جديدة لمعرفة ليس القوانين المادية للطبيعة وعالم الأشياء المادية فقط بل وأيضا معرفة التاريخ البشري والقوانين المادية التي تحركه. فظهرت خاصة في كل من انجلترا وفرنسا اللتان مثلتا أوج هذا التطور أساليب جديدة في التعرف على التاريخ ممثلة في العلوم الاقتصادية والتاريخية. ولقد مثل علم الاقتصاد السياسي الانجليزي خاصة قاطرة هذا الاتجاه العام نحو إعادة النظر في التاريخ من خلال بحث الحياة المادية للبشر والعلاقات الاقتصادية التي يقيمونها أثناء تطوير حياتهم المادية وما يصاحبه من تغيير في معارفهم وأشكال وعيهم.
ومع ظهور هذه العلوم الجديدة لم يعد ُينظر للتاريخ كشتات من الظواهر المنفصلة والمعزولة بعضها عن بعض. كما لم يعد ُينظر للتاريخ كسلسلة من تطور الأفكار والعقائد الدينية والفلسفية. ولم يعد ُينظر له خاصة كسلسلة من تطور الإرادات السياسية لهذا الزعيم أو ذاك أو لهذه الدولة أو تلك، بل أصبح ُينظر للتاريخ من زاوية الوجود المادي للبشر، من خلال أساليب إنتاجهم لحياتهم المادية، أي من خلال تطور قوى الإنتاج المادية.(وطريقة البحث هذه لا تخلو من المقدمات. فهي تنطلق من مقدمات فعلية، دون أن تتخلى عنها لحظة واحدة. ومقدماتها إنما هي الناس مأخوذين، لا في انطواء انعزالي خيالي ما، بل في عملية تطورهم الفعلية، الملاحظة بصورة تجريبية، الجارية في ظروف معينة. وحين يتصورون هذه العملية الحياتية الفعلية، يكف التاريخ عن أن يكون جمعا لوقائع ميتة، كما عند التجريبيين الذين ما يزالون هم أنفسهم تجريديين أيضا، أو عن أن يكون واقعا متخيلا كما هو عند المثاليين -ماركس) وبذلك غادر العالم أرض التأمل الفلسفي وفلسفة التاريخ بالذات نحو أرض البحث التجريبي في تطور الصناعة والتجارة والتبادل العالميين. ولعل أهم ما أبرزته هذه الأبحاث الاقتصادية والتاريخية هو من جهة أن التاريخ البشري يتطور وفق قوانين مادية وليس بشكل عشوائي، أو وفق إرادة الأفراد. ومن جهة أخرى أن هذه القوانين تتبدل وتتغير في ارتباط بأسلوب الإنتاج المادي الذي يقيمه البشر. وإذا ما مثل اكتشاف القوانين المادية التي يتطور وفقها التاريخ ضربة قاسمة لمناهج البحث التاريخي القديمة وخاصة منها فلسفة التاريخ، فان اكتشاف الطابع التاريخي لهذه القوانين وتبدلها وتغيرها قد وجه ضربة للاقتصاد السياسي البورجوازي نفسه وأشرع الباب أمام تطور منهج جديد في النظر إلى التاريخ ألا وهو المنهج المادي التاريخي.
ورغم أن ظهور المنهج الجديد (المادية التاريخية) قد مثل إعلانا عن تفسخ كلا من المنهج الفلسفي في النظر للتاريخ (فلسفة التاريخ) (إن فلسفة التاريخ الهيغلية هي الثمرة الأخيرة التي بلغت "أخلص تعبير" عنها لكل علم التاريخ الألماني هذا الذي يرى أن المسألة كلها لا تقوم في المصالح الفعلية ولا حتى في المصالح السياسية، بل تقوم في الأفكار الخالصة –ماركس) وكذلك منهج الاقتصاد السياسي، فان محاولات إعادة الروح لهذه المناهج المتفسخة قد اتخذت أشكالا ولبوسا غريبة وخاصة من خلال تقديم نفسها بثوب هذا المنهج الجديد بالذات. ولعل ما يسمى بالاقتصاد السياسي الماركسي والفلسفة الماركسية (المادية الجدلية) قد مثلا أخطر هذه المحاولات. وسوف نعرض في هذا النص بعض أوجه التناقض بين المنهج المادي التاريخي وبين الاقتصاد السياسي الماركسي والفلسفة الماركسية (المادية الجدلية).
أول سؤال يطرح نفسه في النظر إلى التاريخ وقوانينه هو: هل أن التاريخ يتحرك وفق قوانين مادية أم وفق قوانين الديالكتيك الهيغلي (وحدة الأضداد، التراكمات الكمية والتحولات النوعية، نفي النفي...الخ)؟ فإننا نجد من جهة أن المنهج المادي التاريخي يكشف عن أن القوانين التاريخية هي قوانين متحولة ومتبدلة، أي أن كل أسلوب إنتاج له قوانين خاصة به. ومن جهة أخرى نجد أن المادية الجدلية تقول بأن قوانين الديالكتيك التي هي بحسب نظرها قوانين طبيعية تطابق أيضا قوانين التطور التاريخي، أي أن التاريخ بحسب المادية الجدلية يتحرك وفق قوانين طبيعية، هي قوانين الديالكتيك، وليس وفق قوانين تاريخية. لكن لو بدأنا بتوجيه نظرنا لقانون السكان مثلا فما الذي سنجده عند ماركس، أي منهج المادية التاريخية، وما الذي سنجده عند الفلسفة الماركسية (المادية الجدلية).
فأما بالنسبة لماركس فإننا نجد أن قانون السكان يتبدل ويتغير حسب أسلوب الإنتاج المادي الذي يقيمه البشر، حيث أننا نجد أن لنمط الإنتاج العبودي قانونه الخاص للسكان ولنمط الإنتاج الإقطاعي (الزراعي) قانون مختلف للسكان. ولا يمثل قانون السكان المعاصر سوى قانون تاريخي جديد. وهذا يعني أن ماركس لا يعتبر قانون السكان الخاص بنمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر قانونا طبيعيا ينطبق على كل مراحل التاريخ السابقة. كما أنه يعتبر أن هذا القانون يرتبط وجوده وسريانه بوجود نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه. وهذا يعني أن تغييرا في أسلوب الإنتاج سيعني إلغاء قانون السكان الراهن والاستعاضة عنه بقانون سكان جديد. أما بالنسبة للفلسفة الماركسية وماديتها الجدلية فان التاريخ يتطور وفق قوانين مطلقة لا تتبدل ولا تتغير هي قوانين الديالكتيك.
كذلك لو أخذنا قانون العمل، فان القوانين التاريخية المنظمة للعمل ضمن نمط الإنتاج العبودي تختلف عن تلك المنظمة للقنانة وهذه الأخيرة تختلف عن القوانين المنظمة للعمل المأجور. ففي حين نجد مثلا أنه في ظل العبودية لا وجود للعمل الضروري والعمل الزائد حيث تكون ملكية العمل هي لمالك العبيد نفسه، أي أن العبد لا يملك قوة عمله (أي لا يبيع قوة عمله) وأن العمل الضروري لإعالة العبد يدخل ضمن ملكية السيد ولا يتقاضاها العبد إلا في شكل استهلاك بيتي مباشر. وقانون العمل هذا مرتبط أساسا بضعف مستوى تطور أدوات الإنتاج وضعف المردودية الخاصة بالعمل الاجتماعي. بينما نجد أنه في ظل الإقطاعية يكون العمل الضروري والعمل الزائد منفصلين تماما، حيث يحوّل القن ملكية جزء من عمله إلى ملكية السيد سواء في شكل جزء من المنتوج أو من خلال أتاوات نقدية على الأرض. وهذا القانون مرتبط بالإنتاج الزراعي أساسا وضعف ومحدودية الصناعات الحرفية وضعف ومحدودية التبادل والتجارة. أما في العمل المأجور الحديث، فان العمل الضروري والعمل الزائد متضمنان في القيمة الاستعمالية لبضاعة قوة العمل، ولا يظهر انفصالهما إلا من خلال الأجر وفائض القيمة والربح. هكذا يتبين أن القوانين التاريخية المنظمة للعمل هي قوانين تتبدل وتتغير كلما تغير أسلوب الإنتاج. أما في مقابل هذه القوانين المتبدلة والمتحولة التي يتحرك وفقها التاريخ المادي للبشر فما الذي نجده لدى الفلسفة الماركسية وديالكتيكها المادي؟ لا شيء سوى تكرار نفس المقولات الفلسفية (وحدة الأضداد، التراكمات الكمية والتحولات النوعية، نفي النفي...الخ). وهكذا يتبين لنا التناقض في أسلوب ومنهج النظر للتاريخ بين المادية التاريخية التي ترى لقوانين التاريخ كقوانين متغيرة من أسلوب إنتاج إلى آخر، يحتاج الكشف عنها إلى بحث علمي، تجريبي. وبين المادية الجدلية أو الفلسفية الماركسية التي تجعل من مقولات الديالكتيك كقانون مطلق للتاريخ. وهي في ذلك لا تختلف في شيء عن شيوخ الهيغلية الذين يقول عنهم ماركس (كان الهيغليين الشيوخ يعتقدون أن كل شيء مفهوم بنظرهم مادام موضوعا في إطار هذه المقولة الهيغلية أو تلك).
ولو صوبنا النظر أيضا لقانون القيمة-العمل نفسه، هذا القانون الذي يمثل روح الرأسمالية وجوهرها التاريخي. فإننا سنجد أن هذا القانون ليس قانون إنتاج بشكل مطلق، بل إن شرط تحققه التاريخي يكمن في وجود أسلوب إنتاج مخصوص هو أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وهذا يعني أن سريان هذا القانون مرتبط تاريخيا بنمط الإنتاج الرأسمالي وأنه ومثلما لم يكن لهذا القانون وجود في أنماط الإنتاج السابقة فان تغييرا لأسلوب الإنتاج المعاصر سيكون معناه الحتمي إلغاء القانون وظهور قوانين إنتاج جديدة. وهكذا يظهر لنا أنه ليس للتاريخ قوانين أبدية مثل القوانين الطبيعية. وبالتالي فانه سيكون من الخطأ القول بأن للتاريخ قوانين مطلقة تنسحب على مختلف أساليب الإنتاج، حيث تبين لنا أنه وبرغم أن ظاهرة النمو السكاني مثلا قد وجدت على مر التاريخ إلا أن القوانين التي تنظم هذا النمو قد تبدلت وتغيرت من أسلوب إنتاج إلى آخر، كذلك فان العمل ورغم أنه لائحة اقتصادية قد وُجدت في كل أنماط الإنتاج بما في ذلك المشاعي، فان القوانين التاريخية المنظمة للعمل لم تكن دائما هي نفسها. وأن القانون المنظم للعمل في ظل العبودية ليس هو نفس قانون العمل في ظل الإقطاعية كما ليس هو نفس القانون بالنسبة للعمل المأجور الحديث. كل هذا يبرز لنا الخطأ الفادح الذي يرتكبه أصحاب المادية الجدلية في القول بأن قوانين الديالكتيك التي هي قوانين أبدية للطبيعة حسب اعتقادهم تطابق أيضا حركة تطور التاريخ، حيث أنه وعلى عكس القوانين الطبيعية التي من ميزتها أنها قوانين مطلقة، فان القوانين التاريخية هي قوانين يرتبط سريانها بأسلوب الإنتاج المحدد وليس هناك قوانين اقتصادية يمكن لها أن تنطبق على كل أساليب الإنتاج. فإذا قلنا أن قانون وحدة الأضداد مثلا هو قانون طبيعي، أي ينطبق على عالم الأشياء المادية، وهو في نفس الوقت ينطبق على حركة التطور التاريخي، فان هذا لن يعني سوى أن قوانين التاريخ هي قوانين أبدية مثلها مثل قوانين الطبيعة، وهذا ما يتناقض كليا مع المنهج المادي التاريخي. بل إن ماركس قد أقام كل تعارضه مع الاقتصاد السياسي حول هذه النقطة بالذات. حيث وفيما كان الاقتصاد السياسي يعتبر قوانين الاقتصاد الرأسمالي قوانين طبيعية ومطلقة للإنتاج، فان ماركس كان يعتبر دائما تلك القوانين كقوانين تاريخية خاصة بأسلوب الإنتاج الرأسمالي فقط، وأثبت من خلال أبحاثه التاريخية أن تلك القوانين الخاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي لم يكن لها أثر في أنماط الإنتاج السابقة، وأن التاريخ سيعرف قوانين اقتصادية مغايرة في ظل الشيوعية.( بالنسبة لنا إن ما يسمى بالقوانين الاقتصادية ليست قوانين خالدة من قوانين الطبيعة. إنها قوانين تاريخية تنشأ وتزول. كما أن قواعد الاقتصاد السياسي الحديث... هي بالنسبة لنا تلخيص للقوانين والظروف التي يمكن فقط للمجتمع البورجوازي العيش في ظلها. باختصار إنها ظروف الإنتاج والتبادل في ذلك المجتمع، وقد جرى التعبير عنها بطريقة مجردة ومختصرة. لذا فانه بالنسبة لنا لا يمكن لأي من هذه القوانين أن يكون أقدم من المجتمع البورجوازي الحديث، بما أنها تعبير عن ظروف البورجوازية المحضة –ماركس)
ويقول أصحاب الفلسفة الماركسية أن الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى ومن أسلوب إنتاج إلى آخر يتم وفق قانون التراكمات الكمية والتحولات النوعية. حيث يقولون في محاججاتهم أن الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر يتم عبر تراكمات كمية تؤدي في النهاية إلى تحول نوعي والى ظهور نمط إنتاج جديد. ويعتبرون هذا القانون الديالكتيكي قانونا مطلقا للتاريخ. لكن لو تفحصنا الأمر عن كثب فإننا سنجد أن الانتقال التاريخي من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى عبر التاريخ الإنساني المعلوم لدينا لم يتم وفق قاعدة واحدة. وأن أشكال هذه التحولات لم تكن بتاتا متماثلة. حيث أن الانتقال مثلا من العبودبة إلى الإقطاعية لم يخضع لنفس السيرورة التاريخية في الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية. وهذا ما تثبته الدراسات التاريخية، فظهور أسلوب الإنتاج الإقطاعي في أوروبا مثلا كان نتيجة تدمير الإمبراطورية الرومانية من طرف البرابرة والتدمير الكبير الذي عرفته قوى الإنتاج وتقهقر الصناعة والتجارة وتحول المجتمع الأوروبي إلى الزراعة والاقتصاد المنغلق وتعطل حركة التبادل والتجارة. (إن القرون الأخيرة من الإمبراطورية الرومانية بسبيل الانحطاط وفتحها ذاته من قبل البرابرة قد دمرت جملة كبيرة من القوى المنتجة. وانحطت الزراعة، وتدهورت الصناعة من جراء انعدام التصريف، وركدت التجارة أو أوقفت بالعنف، وقل عدد سكان الريف والمدن، وجميع هذه الظروف التي واجهها الفاتحون، وأسلوب تحقيق الفتوحات الذي اشترطته هذه الظروف، طورت الملكية الإقطاعية بتأثير نظام الجرمان العسكري –ماركس) بينما على العكس من ذلك فان ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي كان نتيجة الازدهار الذي عرفه المجتمع الأوروبي بداية من القرن الثالث عشر وازدهار الصناعات الحرفية والتجارة العالمية واكتشاف العالم الجديد والطرق البحرية المكتشفة حديثا. أي أنه وعلى عكس السيرورة التاريخية التي ظهر فيها نمط الإنتاج الإقطاعي كحصيلة لتدمير قوى الإنتاج، فان ظهور الرأسمالية كان حصيلة تطور قوى الإنتاج وازدهار الصناعة والتجارة. فهنا نجد أنفسنا تجاه سيرورتين تاريخيتين مختلفتين أديا في كل مرة إلى الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى، وهذا يعني أن الانتقال التاريخي من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى لم يتم بتاتا بشكل متماثل، أو وفق قانون مطلق واحد مثلما يزعم أصحاب المادية الجدلية. وهكذا يتضح لنا أن عمليات الانتقال التاريخية للتشكيلات الاجتماعية إنما تخضع لقوانين تاريخية متبدلة ومتغيرة، ومن غير الممكن الكشف عن هذه القوانين المادية بدون بحث تجريبي مسبق وبدون توفر الوسائل والمواد التاريخية اللازمة. أما القانون الديالكتيكي (التراكمات الكمية والتحولات النوعية) فانه مقولة موجودة منذ العصور القديمة ولم يحتج الكشف عنها لأي مجهود علمي، وأكثر من ذلك فانه لا يفسر شيئا ولا يقدم أية معرفة جديدة بالتاريخ وقوانين تطوره. وإذا كانت هذه المقولات الديالكتيكية أصلا موجودة منذ عهد الإغريق، فكيف لهؤلاء العباقرة اليونانيين أن يكتشفوا قوانين التطور التاريخي بدون توفرهم على المادة التاريخية نفسها، أي بدون تطور الصناعة والتجارة الذي نعرفه اليوم.
وفي جانب آخر من الموضوع يقول أصحاب الفلسفة الماركسية أن صراع الطبقات محكوم بقانون ديالكتيكي مطلق هو وحدة الأضداد. ويقولون أن العلاقة بين الطبقات الاجتماعية في كل التشكيلات التاريخية محكومة بقانون مطلق هو وحدة الأضداد. فما الذي يعنيه ذلك؟ إن ذلك يعني أن العلاقة بين طبقة مالكي العبيد والعبيد مطابقة للعلاقة بين طبقة الأسياد والأقنان وهذه الأخيرة مطابقة للعلاقة بين طبقة البورجوازيين وطبقة العمال المأجورين، فهي في كل الأحوال هنا علاقة محكومة بقانون مطلق هو قانون وحدة الأضداد. لكن لو كان الأمر على تلك الشاكلة، لو أن القانون التاريخي نفسه هو الذي يحكم علاقة الطبقات فيما بينها مهما كانت التشكيلة الاجتماعية، فان ذلك لن يعني سوى انعدام أي تطور في التاريخ نفسه. فلو كانت علاقة العبيد بأسيادهم هي نفسها العلاقة بين الرأسماليين والبروليتاريين (وحدة الأضداد دائما) فذلك سيكون بمثابة بلاغ نعي لعلم التاريخ نفسه. فإذا كانت العلاقات الاجتماعية بين الطبقات متماثلة عبر التاريخ ومحكومة بقانون ديالكتيكي مطلق هو وحدة الأضداد فسيكون من اللغو الحديث عن تشكيلات اجتماعية مختلفة بقوانين اقتصادية متغيرة، وسيكون من اللغو أيضا الحديث عن تطور تاريخي.
لكن لو تمعنا في الموضوع بعيدا عن الأوهام الديالكتيكية،فإننا سنجد أن العلاقة الاجتماعية التي تربط الطبقات محكومة بقوانين متغيرة هي أيضا وفق التشكيلة الاجتماعية التي تنتظم فيها تلك الطبقات. وسنجد أن القوانين الاقتصادية المنظمة لعلاقة مالكي العبيد بالعبيد تختلف جذريا عن العلاقة بين الإقطاعيين والأقنان وهذه الأخيرة تختلف نوعيا عن العلاقة بين مالك رأس المال وبائع قوة العمل، البروليتاري المعاصر. ففي حين تكون ملكية الأسياد للعبيد ملكية مطلقة، أي أن العبد ليست له ملكية على قوة عمله وأنه هو نفسه لا يبيع ولا يشتري شيئا مطلقا، بينما لا يشتري مالك العبيد قوة عمل العبيد فقط بل يشتري العبد نفسه. فان الوضع يختلف جوهريا في العلاقة بين الإقطاعي والقن، حيث أن القن يختص بملكية كلية أو جزئية لا لنفسه فقط بل لإنتاج عمله، وأن الإقطاعي لا يستولي على كل إنتاج القن بل فقط على جزء منه في شكل عيني في مرحلة أولى ثم في شكل نقدي في مرحلة ثانية، هذه المرحلة النقدية الثانية ستكون إيذانا بتفسخ طبقة الإقطاعيين وبروز صراعات اجتماعية جديدة. أما في المرحلة الرأسمالية فان العلاقة الاجتماعية بين البورجوازيين والبروليتاريين ستعرف تحولا آخر، وستكون محكومة بقوانين اقتصادية جديدة، حيث تظهر ولأول مرة في التاريخ قوة العمل كبضاعة تباع وتشترى. ففي حين يكون العبد ملكية مطلقة لمالك العبيد فان الرأسمالي المعاصر لا تعود له ملكية البروليتاري، وهو يشتري فقط قوة عمل العامل لفترة زمنية محددة. وبينما يكون إنتاج القن ملكية خاصة له، يفرط في جزء منها لصالح مالك الأرض وفق عقد اجتماعي محدد. فان كل إنتاج البروليتاري الحديث تعود ملكيته كليا إلى مالك رأس المال. وهكذا نجد أن القوانين التاريخية المنظمة لعلاقة الطبقات الاجتماعية تتبدل وتتغير وفق التشكيلة الاجتماعية المحددة ووفق أسلوب الإنتاج المحدد. ولذلك فانه سيكون من الخطأ القول بأن هذه العلاقة بين الطبقات متماثلة على مدى التاريخ ومحكومة بنفس القانون ألا وهو قانون وحدة الأضداد، بل إن لكل تشكيلة اجتماعية قوانين تاريخية خاصة تحكم العلاقة بين طبقاتها الاجتماعية. وأن هذه القوانين هي بالضبط موضوع علم التاريخ. أي أنها قوانين لا يمكن الكشف عنها إلا عن طريق البحث التجريبي، البحث المادي، ولا توجد في متناولنا سلفا مثلما يدعي الديالكتيكيون. (إن أفرادا معينين يمارسون بصورة معينة النشاط الإنتاجي يدخلون في علاقات اجتماعية وسياسية معينة، ولا بد للمراقبة التجريبية أن تستوضح في كل حالة بمفردها – بالاستناد إلى التجربة، وبدون أية تعمية وبدون أية محاولة للتأمل العقيم – الصلة بين البنية الاجتماعية والسياسة والإنتاج –ماركس).
لا شك وأن كل المجتمعات الطبقية قد عرفت صراعات اجتماعية كحصيلة لتناقض المصالح المادية بين الطبقات الاجتماعية. لكن هذه النزاعات لم تخضع لنفس القانون المطلق، بل لقوانين متغيرة ومتحولة، فالأساس الواقعي للنزاع بين العبيد ومالكي العبيد ليس هو نفس الأساس المادي للنزاع بين الإقطاعيين والأقنان كما ليس هو نفسه الأساس المادي للنزاع بين الرأسماليين والعمال. ومثلما رأينا سابقا فان القوانين الاقتصادية التي تدفع الأطراف الاجتماعية داخل تشكيلة اجتماعية محددة إلى النزاعات والصراعات من غير الممكن أن تنسحب على الصراعات الاجتماعية ضمن تشكيلات اجتماعية أخرى. والصعوبة التي تعترض البحث العلمي في التاريخ تبدأ بالضبط عندما ندخل في البحث عن القوانين التاريخية الخاصة بكل تشكيلة اجتماعية. لكن بدل هذا العمل التجريبي المضني والذي يستلزم الوجود المسبق لوسائل البحث العلمية والمادة التاريخية نفسها، وهذا ما لا يوفره إلا تطور الصناعة والتجارة، فان فلسفة التاريخ تكتفي بإطلاق التجريدات وتحضير الوصفات وبناء المخططات لتصنيف العهود التاريخية في إطارها، وتعتقد أنه يكفي أن نضع ظاهرة تاريخية ما في إطار أحد المقولات الديالكتيكية لنكوّن بذلك معرفة ايجابية عنها. وعلى العكس من المادية الجدلية التي تحول مقولات الديالكتيك التأملية إلى "مخططات لتصنيف العهود التاريخية"، فان المنهج المادي التاريخي يعتمد فقط الدراسة والبحث التجريبي في العملية الحياتية الفعلية ونشاط الأفراد في كل عهد بمفرده." وإذا ما قمنا باختصار أعم النتائج المجردة من بحث تطور الناس التاريخي في كلّ واحد، فان هذه التجريدات لا تمتلك بحد ذاتها، في معزل عن التاريخ الفعلي، أية قيمة على الإطلاق. ولا يمكنها أن تصلح إلا لتسهيل تبسيط المادية التاريخية، ورسم تتابع مختلف شرائحها". هكذا فان الماديين الجدلييين يحولون "أعم النتائج المجردة" للبحث التجريبي إلى مقولات جدلية وقوانين مطلقة للتاريخ ناسبين مثاليتهم تلك لماركس والمنهج المادي التاريخي.
ولو عدنا إلى ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه، فهل نجد نفس السيرورة المادية التي حكمت هذا الظهور في كل أرجاء الأرض؟ هل أن تطور الرأسمالية واكتساحها كل العالم كان وفق قانون مطلق واحد؟ هل أن تطور الرأسمالية في أوروبا سار بنفس الشاكلة التي سار بها في بقية القارات؟ إننا إذا ما بحثنا الأمر بطريقة علم التاريخ فسنجد أنفسنا متعارضين بالضرورة مع منهج الديالكتيك. فإذا كان تطور نمط الإنتاج الرأسمالي بالنسبة للديالكتيك قد خضع لقانون واحد هو التحولات الكمية التي أدت لتحول نوعي، فان البحث التاريخي يبين لنا أن تطور الرأسمالية قد عرف أشكالا تاريخية متنوعة ومختلفة بعضها عن بعض. ففي حين كان ظهور الرأسمالية في أوروبا كحاصل لظهور المدن التجارية وازدهارها وتطور الصناعات الحرفية وتحولها إلى المانيفاكتورة، فان تطور الرأسمالية في القارة الأمريكية الشمالية مثلا كان حصيلة الموجة الاستيطانية الأوروبية والقضاء على السكان الأصليين. أما في آسيا وإفريقيا فلقد كانت الحملات الاستعمارية التي قوضت المجتمعات الزراعية هناك وأغرقت الصناعات الحرفية ببضائعها هي التي ألحقت تلك البلدان بالسوق العالمية وحكمت على الأقنان والفلاحين سواء عبر المنافسة أو عبر التدمير العسكري بالتحول إلى بروليتاريين سواء في الأراضي الزراعية التي تم الاستحواذ عليها وتحويلها الصناعي أو عبر التكدس في الأحياء القصديرية حول أهم المدن. وهكذا نجد أنفسنا أمام أشكال من التحول مختلفة وخاضعة لقوانين اقتصادية لا تتماثل لا في الزمان ولا في المكان. وان التطور التاريخي الذي عرفه المجتمع الصيني مثلا لم تعرفه مجتمعات أمريكا الشمالية. وأنماط الإنتاج التي ظهرت في أوروبا لم تظهر في آسيا، والتشكيلات الاجتماعية التي ظهرت في إفريقيا لم تظهر في كل القارة الأمريكية. ففيما امتد نمط الإنتاج الأسيوي مثلا لآلاف السنين بدون أن يعرف العبودية أو القنانة، فإننا نجد بعض التجمعات المشاعية القديمة التي واصلت الحياة حتى في القرن العشرين، ونستطيع أن نجد مشاعة الأرض في روسيا في عهد القياصرة الحديث. ونمط الإنتاج الرأسمالي نفسه والذي يعتبر العمل المأجور ميزته التاريخية قد أسس بنيانه على تجارة العبيد الثلاثية واستخدام العبيد في مزارع السكر في القارة الأمريكية. وهكذا نجد أن التطور التاريخي لم يخضع كما يعتقده الديالكتيكيون إلى قانون مطلق واحد بل إلى قوانين اقتصادية غاية في التنوع والتعقيد، وأن القوانين التي سادت في عهد ماض قد اندثرت لتفسح المجال لقوانين جديدة، وهذه الأخيرة ما تفتأ أن تترك مكانها لقوانين أخرى وهكذا دواليك، فأين سنعثر على هذا القانون الأبدي الذي يحكم التاريخ من أوله إلى آخره؟ طبعا لا وجود لمثل هذه القوانين المطلقة إلا في أذهان أصحاب الفلسفة الماركسية، هذه القوانين التي ورثوها عن فلسفة التاريخ الهيغلية محاولين إعادة الروح لجثتها المتفسخة ببعض التعابير التي يستنسخونها عن ماركس، متعارضين في ذلك مع ماركس نفسه. هذا الأخير الذي ما فتئ يردد أن "القوانين الاقتصادية ليست قوانين خالدة من قوانين الطبيعة".
ثم وإذا ما افترضنا أن القانون الديالكتيكي (وحدة الأضداد) هو قانون أبدي للتطور التاريخي، فكيف سيكون سريان هذا القانون في المجتمع الشيوعي؟ ألا ُيفترض أن الشيوعية ستنهي صراع الطبقات وستقيم مجتمع المنتجين الأحرار، أي مجتمعا ليس فيه طبقات اجتماعية متضادة؟ ألا ُيفترض بالشيوعية أن تعوض التطور العفوي لقوى الإنتاج بتطوير واع لها، وبالتالي فلن يكون هناك مكان للتصادم بين هذه القوى الاجتماعية وعلاقات الإنتاج؟ فأين سنعثر على قانون وحدة الأضداد في مثل هذا المجتمع؟ وإذا كانت عملية الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية ستكون عبر قانون التراكمات الكمية التي ستؤدي إلى التحول النوعي، فما هي بالضبط تلك التراكمات الكمية؟ وما هو الحد الذي بالوصول إليه سيقع التحول النوعي؟ فنحن نعرف في الطبيعة مثلا أن غليان الماء يتم حتميا بالوصول إلى المائة درجة من الحرارة، أي أننا نعرف مسبقا في هذه الحالة بدقة صارمة نقطة التحول والشروط المادية الضرورية لقيامها، لكن هل نستطيع التحديد المسبق لنقطة التحول من الرأسمالية إلى الشيوعية؟ هل نستطيع القول مثلا انه عندما يصل تطور قوى الإنتاج إلى نقطة محددة سلفا سيقع بالضرورة تحول في نمط الإنتاج، وما هي هذه النقطة بالضبط؟ إننا في الواقع إذا ما دخلنا عالم المنطق الديالكتيكي فإننا سنكون قد غادرنا علم التاريخ بالكامل. ببساطة لأن الديالكتيك لا يفعل سوى محاولة إيهامنا بأن تأمله الفلسفي هو الواقع، وأن الواقع التاريخي هو حصيلة ذلك التأمل. ولا يختلف الديالكتيك المادي عن ديالكتيك هيغل سوى بأنه يقدم نفسه باسم المادية التي هو غريب عنها، ويحاول إيهامنا بأن تحرر البروليتاريا لا يخضع لقوانين مادية تختلف كليا عن قوانين العهود التاريخية السابقة بل لقوانين أبدية. وكأن الصراع الطبقي سيتلاشى إن نحن تخلينا عن الديالكتيك. وكأن الشيوعية ليست حركة واقعية بل عقيدة ديالكتيكية.




#محمد_المثلوثي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد العلمانية (3)
- نقد العلمانية (2)
- نقد العلمانية (1)
- ماركس والماركسية
- ايران: الثورة، ومحاولات الالتفاف


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد المثلوثي - التاريخ بين العلم والديالكتيك