|
نقد العلمانية (3)
محمد المثلوثي
الحوار المتمدن-العدد: 2853 - 2009 / 12 / 9 - 22:19
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إن تناولنا النقدي للعلمانية ليس بحثا في المفاهيم النظرية المجردة بل هو بحث في الواقع التاريخي الفعلي، حيث تبين لنا في الجزأين السابقين أن تناول موضوعة الدولة أو الدين إنما هو تناول للوجود المادي للبشر كما هو متحقق في التاريخ، ففي التاريخ تنحل الألغاز التي يتعثر في حلها الذهن الإيديولوجي والتأمل الفلسفي (تتلخص كل قضية فلسفية عميقة الفكرة، بكل بساطة، في واقع تجريبي ما ....وأنه يجب دائما، بالتالي، دراسة "تاريخ البشرية" ووضعه بالارتباط مع تاريخ الصناعة والتبادل- ماركس-)، إذ تبين لنا أن الأوهام الدينية لا تعدو أن تكون تعبيرا عن انفصال القوى الاجتماعية للإنسان عن وجوده الإنساني الحيوي وتحولها إلى قوة غاشمة تضطهده وتتحكم فيه كقوة غريبة، قوة مجردة وغير خاضعة للضبط، وهي بذلك تتحول إلى قوة غامضة تقرر مصائر الأفراد وتوزع السعادة والتعاسة على الناس كأنما هي قوى سماوية/ ميتافيزيقية. ولأنها كذلك في الواقع المادي فإنها تظهر في وعي الناس في شكل آلهة وكائنات خرافية، أي في شكل الدين (إن القوة الاجتماعية، أي القوة المنتجة المتعاظمة التي تنبثق بفضل نشاط مختلف الأفراد المشترك الذي يشترطه تقسيم العمل، إن هذه القوة الاجتماعية تبدو لهؤلاء الأفراد، بحكم أن النشاط المشترك نفسه ينبثق عفويا وليس طوعا واختيارا، لا كقوة موحدة خاصة بهم، بل كسلطة ما غريبة قائمة خارجا عنهم، لا يعرفون شيئا عن أصلها، وعن اتجاهات تطورها –ماركس-). وتبين لنا بذلك أن التحرر من تلك الآلهة، أي الدين، لا يكمن في الدحض "النظري" لوجود مثل تلك الكائنات (إثبات عدم وجود الله) بل في التغيير الفعلي للواقع المادي، وفي السيطرة على تلك القوى الاجتماعية المنفلتة (إن الثورة، وليس النقد، هي القوة المحركة للتاريخ –ماركس-)، وهذه السيطرة على قوى الإنسان الاجتماعية لا تكمن شروط تحققها في صراع الأفكار بل في تطور الإنتاج المادي للبشر نفسه، وفي الصراع الواقعي بين قوى طبقية متعارضة ومتناقضة الذي سيدفع حتميا المجتمع إلى الانتقال من حركة تطوره العفوية إلى حركة تطور واعية وهي بالضبط حركة الانتقال إلى التاريخ الإنساني الحقيقي، أي القضاء على الاغتراب الاقتصادي الذي هو أساس كل أشكال الاغتراب الفكري الأخرى (فالاغتراب الديني بما هو كذلك لا يحدث إلا في مملكة الوعي، حياة الإنسان الداخلية، لكن الاغتراب الاقتصادي هو اغتراب الحياة الواقعية، وبالتالي فان تخطيه يشمل كلا الجانبين -ماركس-). ولقد قادتنا هذه النظرة إلى الدين إلى معارضة سواء تلك العلمانية الليبرالية التي تقول بضرورة تنوير الدين، وجعله أكثر ملائمة للعقلانية، أي لبرنته وتحديث مقولاته لكي يتلاءم مع التطور والحداثة، أو مع العلمانية الملحدة (علمانية اليسار الراديكالي) التي تواجه الدين كوجود مستقل عن التاريخ المادي للبشر، وتتوهم أن التخلص من سلطة الدين يكون ببناء سلطة دُنيوية خالصة (فصل الدين عن الدولة وتحويل الدين إلى شأن شخصي)، وتعتقد أن التحرر يكمن في بناء دولة مدنية في معارضة للدولة الدينية، وحاولنا أن نثبت أن هذا أو ذاك لا يعدو أن يكون نضالا ضد هذا الشكل أو ذاك للدولة، فيما أن التحرر الفعلي يكمن في التخلص من الدولة نفسها. ولقد دفعنا بحثنا في العلمانية إلى البحث في الجذور التاريخية للدولة، ليتبين لنا أن الدولة ظاهرة تاريخية ناشئة وليست وجودا طبيعيا، وان وجودها إنما يرتكز على وجود الملكية الخاصة وأنه لا انفصال بين الدولة والملكية الخاصة وأن مصير الواحدة مرتهن بمصير الأخرى. فالدولة كما تبين لنا هي في الحقيقة تحول الملكية الخاصة إلى قوة سياسية تحوم فوق المجتمع، وأن شكل الدولة لا يرتبط بالإرادة السياسية لهذا الحزب أو ذاك، لهذا الزعيم التاريخي أو ذاك، بل بمستوى وأشكال تطور الملكية الخاصة نفسها. فمثلما أن المَلكية القديمة المبنية على تراتبية محددة هي تعبير عن الشكل الإقطاعي، فان الجمهورية الحديثة هي تعبير عن الشكل الرأسمالي المعاصر ووصول الملكية الخاصة إلى أعلى درجات تطورها بحيث لم يعد بالإمكان التخلص من تناقضاتها الاجتماعية إلا بالقضاء على هذه الملكية الخاصة نفسها. وان انجاز هذه المهمة التاريخية لن يعني سوى القضاء على الأساس المادي للدولة. وهكذا يتضح أن التحرر الفعلي لا يكمن في تغيير شكل الدولة بل في تحطيمها، وهذا غير ممكن بدون القضاء على الجذر المادي للدولة، أي الملكية الخاصة. من كل ما سبق يتبين أن نقدنا للعلمانية يسير في خطين متوازيين، لكن الواحد مرتبط بالآخر أوثق ارتباط: نقد الدولة ونقد الدين. أو إذا أردنا الدقة فان هذان الخطان هما بالأحرى: نقد نقد الدولة ونقد نقد الدين، أي في الخلاصة نقد النقد العلماني للدولة والدين سواء في شكله الليبرالي أو في ثوبه اليساري الراديكالي. وكنا قد اشرنا سابقا إلى أن نقد العلمانية اليسارية لا يمكن أن يستوفي شروطه بدون توجيه نقد أكثر جذرية لبعض المفاهيم الرائجة خاصة في الأوساط الماركسية أو حتى الأناركية الرسمية من نوع الدولة العمالية، أو ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية، أو الدولة الديمقراطية الشعبية، أو حتى ديكتاتورية البروليتاريا كما يتداولها اليساريون عموما أو كما وردت عند ماركس نفسه في بعض المواضع من أعماله، وهذا ما نطمح للقيام به في هذا الجزء.
لقد بين البحث التاريخي أن الدولة تعتبر ظاهرة تاريخية مستجدة بالنظر للتاريخ البشري الطويل. فلقد أثبتت العديد من البحوث في هذا الصدد أن البشرية قد مرت بأحقاب تاريخية امتدت لآلاف السنين لم تكن فيها الجماعات البشرية تتشكل ضمن وحدات سياسية، ولم يكن للدولة في تلك الجماعات أي أثر. فضلا عن ذلك فلقد أثبت البحث التجريبي (مورغان، أنجلس، لوكسمبورغ...الخ) أن جماعات بشرية معاصرة قد بقي تنظيمها الاجتماعي بعيدا كل البعد عن التنظيم السياسي وعن وجود الدولة. ولعل الأهمية العظمى لتلك البحوث بغض النظر عن اختلافاتها ونقائصها التاريخية تتمثل في إثبات من جهة واقع أن الدولة لم تكن مطلقا ظاهرة طبيعية وُجدت منذ وُجد الإنسان، بل هي ظاهرة ناشئة وحديثة بالمعنى التاريخي.و إثبات من جهة أخرى أن ظهور الدولة كان مرتبطا ببروز واقع تاريخي جديد لم تعرفه البشرية من قبل ألا وهو ظهور الملكية الخاصة على أنقاض الملكية المشاعية. فالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج لم تكن تستوجب وجود جهاز دولة لتنظيم الإنتاج بل كانت عملية الإنتاج تتم بشكل جماعي وفق ظروف الإنتاج التاريخية التي وجدت المجموعات البشرية نفسها في مواجهة لها. ولم تتخذ عملية تنظيم الإنتاج وتوزيع الثروة الاجتماعية أي طابع سياسي مستقل عن الجماعة نفسها. كما لم يظهر في تلك الجماعات أي أثر لتراتبية اجتماعية مبنية على تملك خاص لوسائل الإنتاج. كما أثبتت تلك البحوث أن ظهور الدولة ارتبط بظهور تمايز اجتماعي أفرزه التطور التاريخي نفسه وتحلل المشاعات البدائية. فالدولة لم تظهر إلا بظهور التملك الخاص لوسائل الإنتاج، أي الملكية الخاصة. وهذا ما جعل التنظيم السياسي للمجتمع يبرز على أنقاض التنظيم الجماعي وتتحول عملية تنظيم الإنتاج وتوزيع الثروة الاجتماعية من عملية جماعية تتم وفق طقوس اجتماعية تشارك فيها كل المجموعة البشرية إلى عملية إكراه اجتماعي تقوم به أجهزة مستقلة، إلى هذا الحد أو ذاك، عن الوجود الاجتماعي نفسه. وفيما كانت التراتبية الاجتماعية داخل الجماعات المشاعية تقوم على أساس التنظيم الجماعي للإنتاج (زعيم القبيلة مثلا لا يستمد مرتبته من امتلاكه لوسائل الإنتاج بل من خبرته ونفوذه المعنوي في توحيد القبيلة، ولم يكن متسلطاً على المجتمع، بل كان خادمه) فان التراتبية السياسية في المجتمعات الطبقية تقوم على امتلاك وسائل الإنتاج والثروة الاجتماعية. وفيما كانت دائرة التنظيم الاجتماعي للإنتاج في المشاعات البدائية متلاحمة مع كل الوجود الاجتماعي للجماعة، فان الدائرة السياسية التي أعقبت ذلك كانت قد اتخذت وجودا مستقلا عن بقية دوائر المجتمع الأخرى. وأصبحت عملية إدارة المجتمع تتحول شيئا فشيئا إلى عملية منفصلة، مستقلة بذاتها. ولعل كل التطور التاريخي للدولة يمكن تلخيصه في تطور انفصالها كدائرة مستقلة عن حياة الجماعة في مقابل نشأة وتطور الجماعية الوهمية المبنية على الدولة، أو المجتمع السياسي. ويجد هذا التطور تتويجه التاريخي في الجمهورية الديمقراطية وفي الانتخابات العامة. فبينما كانت المجتمعات الماقبل رأسمالية قد حافظت إلى هذا الحد أو ذاك على علاقة مباشرة بين المنتجين ووسائل إنتاجهم فان قيام الرأسمالية ونموها وتطورها كان يفترض الانفصال الكلي المستمر والدائم بين المنتجين وأدوات إنتاجهم. وهذا يعني تاريخيا اكتمال انفصال القوى الاجتماعية وتحولها إلى وجود مستقل يواجه وجود البشر كدائرة غريبة ومعادية. وهو ما سيجد ترجمته في ظهور الدولة بمظهر الأداة المستقلة عن الوجود الاجتماعي. بطبيعة الحال فليس من طموح هذا العرض التتبع الدقيق للتطور التاريخي للملكية الخاصة والدولة، لكن ما يهمنا هو النتيجة العامة للأبحاث التاريخية التي بينت أن تطور الأشكال التاريخية التي اتخذتها الدولة لا تعدو أن تكون انعكاسا للتطور الواقعي لأشكال الملكية الخاصة ومستويات تطورها. وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج بأن أشكال التنظيم السياسي لا تملك في حد ذاتها تاريخا خاصا تماما مثلها مثل أشكال الوعي التي تظهر عليها الصراعات التاريخية، وإنما هي انعكاس لمستويات تطور أشكال الملكية الخاصة. فإذا كانت المَلكية هي الشكل السياسي المناسب للمستوى المتدني لتطور الملكية الخاصة فان الجمهورية الديمقراطية هي الشكل المناسب لأقصى مستويات تطور الملكية الخاصة وتتويجها في شكلها التاريخي المعاصر: في شكل الرأسمال. لكن وفي المقابل فان التطور النوعي الكبير الذي عرفته الملكية الخاصة بتحولها إلى الرأسمال قد أوجد الأرضية المادية التامة لظهور الدائرة السياسية كدائرة مستقلة عن الملكية، ولتوطد الوهم بأن هذه الدائرة السياسية هي التي تحدد فعلا طابع الملكية نفسه، ويمكن بالتالي للسلطة السياسية أن تحدد طابع الملكية الاجتماعية طبقا لإرادتها المستقلة. وهذا هو في الحقيقة الواقع المادي الذي ترتكز عليه أوهام الإرادة السياسية، حيث يتم النظر إلى التاريخ على أنه تطور للإرادة السياسية نفسها، وبذلك يتم النظر للأشكال السياسية كوجود له تاريخ خاص وتطور خاص بمعزل عن طابع الملكية. بل إن الإرادة السياسية من هذا المنظور هي من يحدد طابع الملكية وليس العكس. ومن هنا يتم النظر إلى تحولات طابع الملكية على أنه محكوم بإرادة السلطة السياسية، أي بإرادة الدولة. والفئة الاجتماعية التي تسيطر على الدولة يمكنها حسب هذا المنظور أن تحدد طابع الملكية طبقا لإرادتها السياسية. ولأن التاريخ ينظر له من هذه الزاوية كتاريخ تحولات في الإرادة السياسية وليس تحولات لطابع الملكية المحكوم بمستويات تناقضاته مع تطور أدوات الإنتاج، فان الملكية في شكلها الرأسمالي تكون قد حلت محل الملكية ذات الطابع الإقطاعي بسبب استيلاء البورجوازية على السلطة السياسية وليس العكس. بينما في الواقع فالأسلوب الإنتاجي الجديد، هو الذي دفع البرجوازية إلى الاستيلاء على الحكم السياسي. أي أن النتيجة في هذه الحالة تتحول إلى سبب، إذا أردنا استخدام مقولة مفهومة لدى اليساريين. والملكية الرأسمالية لا تعود هنا نتيجة لتطور قوى الإنتاج وتناقضها مع طابع الملكية الإقطاعي بل كحصيلة لاستيلاء البورجوازية على الدائرة السياسية للمجتمع. والجمهورية الديمقراطية (هذا الشكل المعاصر للدولة) لا يعود انعكاسا لتغير طابع الملكية التاريخي بل تتحول إلى سبب وأداة لهذا التحول. هذا الوعي المقلوب، الذي يجد تفسيره في التطور الهائل للملكية الخاصة نفسها وتحولها إلى قوة غريبة وغاشمة، هو الذي يجعل العلمانيين الليبراليين يعتقدون أنه يمكن بتغيير شكل الدولة من دولة "دينية" إلى دولة "دُنيوية" أن نغير في طابع الملكية نفسه، أن نقضي على التمايزات الاجتماعية وأن نحقق العدالة الاجتماعية. كذلك يجعل هذا الوعي المقلوب العلمانيين اليساريين يعتقدون أنه يمكن تحقيق الشيوعية عبر الاستيلاء على الدولة التي ستوجه المجتمع نحو القضاء على الملكية الخاصة. فمثلما يعتقد العلمانيون الليبراليون أن دولة مُعلمنة، وفصل الدين عن الدولة، سيقود المجتمع نحو القضاء على الظلم الاجتماعي، فان العلمانيين اليساريين يعتقدون أن استيلاء البروليتاريا على الدولة سيقود المجتمع إلى إلغاء الطبقات. وفي الحقيقة فان كلاهما ينطلق من الأيديولوجية التي تقر بأن الدولة هي التي تحدد طابع الملكية، ولا يرون في الدولة انعكاسا لطابع الملكية. وفيما لا ترى العلمانية الليبرالية أن شكل الدولة لا يتحدد بإرادة الأفراد السياسيين بل بطابع الملكية ومستويات تطوره التاريخي، فان العلمانية الراديكالية لا ترى أن الدولة يرتبط وجودها التاريخي بالملكية الخاصة، وان التنظيم السياسي للمجتمع ليس سوى مظهر تاريخي للتنظيم الاجتماعي القائم على الملكية الخاصة ومرتهن به. فمثلما أن مشرعو القوانين يعتقدون أن القانون هو الذي يحدد الحق وليس طابع الملكية (وبما أن الدولة هي ذلك الشكل الذي يحقق فيه الأفراد المنتسبون إلى الطبقة السائدة مصالحهم المشتركة، والذي يجد فيه المجتمع المدني كله في عهد معين تعبيره المكثف، فانه ينجم من هنا أن جميع الأحكام العامة تطبقها الدولة، وتكتسب شكلا سياسيا. ومن هنا ينبع الوهم بأن القانون يرتكز على الإرادة، بل على الإرادة الحرة المفصولة عن أساسها الفعلي. كذلك الحق يحصرونه فيما بعد في القانون –ماركس-)، فان السياسيون يعتقدون أن الإرادة السياسية للدولة هي التي تحدد الشكل التاريخي للملكية. ومثلما يظهر التاريخ بالنسبة لأهل القانون كسلسلة من التطورات الخاصة بالتشريع والنظم القانونية، ويظهر لهم أن لهذه التطورات في الأشكال الحقوقية تاريخ خاص، فان التاريخ يظهر للسياسيين كجملة من (الأفعال السياسية المدوية -ماركس-) وكسلسلة من تطورات الإرادة السياسية بحيث يكون للنظم السياسية (لأشكال الدولة) المتعاقبة تاريخ منفصل عن التطور التاريخي لأشكال الملكية الخاصة وجملة تناقضاتها الاجتماعية. وعلى هذا الأساس في النظر للتاريخ تنبني كل الأطروحة القائلة بأن على البروليتاريا أن تستولي على الدولة، أو أن تبني دولتها الطبقية الخاصة (ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية، الديمقراطية الشعبية، ديكتاتورية البروليتاريا...الخ) وذلك من أجل تغيير طابع الملكية الاجتماعي. أي أن الدولة البروليتارية ستقود التاريخ طبقا لإرادتها السياسية نحو إلغاء الملكية الخاصة. لكن لماذا نرى أن هذه الرؤية تتناقض مع الفهم المادي للتاريخ؟ أولا، لأن الدولة كما سبق أن بينا ترتكز في وجودها التاريخي على ملكية طبقة اجتماعية لوسائل الإنتاج دون أخرى، أي على الملكية الخاصة، فمثلما يرتكز وجود الدولة الإقطاعية على شكل من التملك الخاص لوسائل الإنتاج (علاقات الإنتاج الإقطاعية)، فان الدولة الرأسمالية ترتكز في وجودها على شكل آخر من التملك الرأسمالي لوسائل الإنتاج (علاقات الإنتاج الرأسمالية)، وما كان ممكنا للجمهورية المعاصرة أن تظهر كنقيض للمَلكية القديمة إلا نتيجة التناقض المادي الفعلي الذي حكم الملكية الإقطاعية مع قوى الإنتاج المنفلتة وليس نتيجة استيلاء البورجوازية على السلطة السياسية. وهذا يعني أن تحول البورجوازية إلى طبقة سائدة سياسيا هو نتيجة التحولات التاريخية لطابع الملكية الخاصة وليس العكس (ومن هنا ينجم أن كل نضال داخل الدولة –النضال بين الديمقراطية والأرستقراطية والمَلكية، النضال من أجل الحق الانتخابي...الخ- لا يعدو أن يكون أشكالا وهمية يجري بها النضال الفعلي بين مختلف الطبقات –ماركس-). من هنا يبرز أن الطابع الطبقي للدولة (أو شكلها السياسي) ينبثق من التطور الذي تعرفه العلاقات المادية بين البشر، أي طبيعة إنتاجهم لحياتهم المادية. وهذا يصل بنا إلى أنه من الخطأ القول بأن استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية هو المقدمة التاريخية للتحويل في طابع الملكية. أي أنه من الخطأ القول بأن الإرادة السياسية لدولة البروليتاريا هو ما سيقود لتحقيق الشيوعية، أو أن الشيوعية هي نتيجة تاريخية لاستيلاء البروليتاريا على الدولة، فالبروليتاريا ليست لها مصلحة خاصة، أو ملكية خاصة بها لتحميها من خلال سيادتها على المجتمع. فمثلما أن نمط الإنتاج الرأسمالي لم يكن نتيجة استيلاء البورجوازية على السلطة السياسية، بل العكس هو الصحيح، حيث أن ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي هو ما قاد إلى تحولات في شكل الدولة السياسي من المَلكية إلى الجمهورية الديمقراطية، فانه من المستحيل القول بأن دولة بروليتارية هي من سيخلق نمط إنتاج جديد هو الشيوعية.، فالشيوعية تجد شروط وجودها الكامنة، قبل أن تعلن البروليتاريا ثورة على الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج والتوزيع، ولا تأتي الثورة لخلق أسلوب جديد في الإنتاج من العدم، فالثورة لا تفعل سوى إعادة تنظيم المجتمع من جديد، وبعد إعادة تنظيم الإنتاج على أسس شيوعية، فلا يبقى ثمة دافع وراء أي تنظيم سياسي (فمن السهل أن نرى أن كل الحركة الثورية تجد بالضرورة كلا من أساسها التجريبي وأساسها النظري في حركة الملكية الخاصة، وبتعبير أدق في حركة الاقتصاد –ماركس-)، فماذا تعني إذا الدكتاتورية السياسية للبروليتاريا؟ إن انتصار البروليتاريا في إعادة تنظيم الإنتاج على أسس شيوعية، يعني بالتحديد انتصارها على الطبقات، لا على البرجوازية وحدها. فهل يبقى هناك معنى للسيادة السياسية للبروليتاريا؟ ثانيا، إن سيادة طبقة اجتماعية وسيطرتها على الدائرة السياسية للمجتمع يفترض سلفا سيطرتها الاقتصادية، أي امتلاكها الخاص لوسائل الإنتاج. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هناك امتلاك طبقي خاص لوسائل الإنتاج بدون أن يكون هناك استغلال طبقة اجتماعية لأخرى، أو بدون إخضاع المجتمع لمصالح خاصة، وكل تاريخ البشرية يبين بأن الدولة لا يمكن أن تصبح خادم المجتمع، بل ستبقى دائما مستغِلا له ما بقيت الدولة في التاريخ، فالملكية الخاصة تفترض أن هناك جزء من المجتمع ينتج لكنه لا يملك، وان هناك جزء آخر يمتلك بدون أن ينتج. وإذا كان الأمر كذلك فهل للبروليتاريا أن تحقق سيادة سياسية بدون أن تكون لها سيادة واقعية، سيادة اقتصادية، أي سيطرة على وسائل الإنتاج بصفتها كطبقة خاصة في المجتمع لها مصلحة خاصة؟ وعلى ماذا سترتكز الدولة السياسية للبروليتاريا في وجودها إذا ما أقرينا أن الدولة لا يمكن لها أن تواصل وجودها يوما واحدا بدون الملكية الخاصة. فهل يمكن أن توجد سيادة طبقية بدون ملكية خاصة لوسائل الإنتاج، بدون استغلال طبقة لأخرى؟ وإذا افترضنا أن البروليتاريا ستقيم دولتها السياسية على أساس ملكيتها لوسائل الإنتاج، فإننا سنجد أنفسنا مضطرين إما للقول بأن هذه الملكية لم تعد ملكية خاصة بل ملكية جماعية لوسائل الإنتاج، وهذا ما سيعني إنهاء دور الطبقات في التاريخ والإلغاء الذاتي للبروليتاريا نفسها كطبقة، وسوف لن يكون هناك أي أساس مادي لوجود مثل هذه السلطة السياسية البروليتارية. وإما سنجد أنفسنا مضطرين للقول بأن البروليتاريا ستحافظ على ملكيتها الخاصة لوسائل الإنتاج ، وهذا لا يمكن له أن يتحقق تاريخيا إلا باستغلال طبقة أخرى، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لديمومة شكل التملك الخاص للملكية. ثالثا، لو طرحنا السؤال: ما الذي سيقضي على الملكية الخاصة؟ هل ستقضي عليها تناقضاتها التاريخية الخاصة أم الإرادة السياسية للبروليتاريا، أو لنخبة واعية من هذه الطبقة؟ إن الإجابة على هذا السؤال هو ما يفصل الفهم المادي للتاريخ عن كل المناهج الأخرى. فبينما تجد المناهج الأخرى سر التطور التاريخي مرة في الإرادة الإلهية، ومرة في الصراعات الدينية أو المذهبية، ومرة في الروح المطلق، ومرة في إرادة العظماء والأبطال، ومرة في الإرادة السياسية للأحزاب أو المجموعات أو الأفراد أو الزعماء السياسيين، فان الفهم المادي للتاريخ لا يرى في كل ما سبق سوى الأشكال التي تظهر عليها تلك الصراعات، بينما يجد في العلاقات المادية التي يقيمها البشر أثناء إنتاجهم لحياتهم المادية وجملة التناقضات التي تحكم أشكال الملكية وقوى الإنتاج والوعي الاجتماعي في وجودهم الاجتماعي الشامل ، يجد فيها سر التطور التاريخي، والأساس المادي الذي ترتكز عليه كل أشكال وعي الناس لوجودهم الاجتماعي. من هنا فان ما سيقضي على الملكية الخاصة إنما هو تطورها المادي التاريخي الخاص ومستويات تناقضاتها الداخلية وليس إرادة البروليتاريا السياسية أو ما يسمى بدكتاتوريتها، ولا إرادة هذا الحزب الشيوعي أو ذاك، أو هذه الدولة العمالية أو تلك. يتبين مما سبق أن مفهوم دولة البروليتاريا مفهوم وهمي ومتناقض، فالبروليتاريا لا يمكن لها أن تحقق سيادة طبقية بصفتها كطبقة اجتماعية، ذلك أن تحررها لا يمكن أن يعني سوى إلغاء الملكية الخاصة، أي إلغاء الأساس المادي لكل سيادة طبقية، وهو ما سيعني إلغاء الأساس المادي لكل دولة، وفي الأخير إلغاء الدائرة السياسية كدائرة مستقلة عن التنظيم الاجتماعي الشامل. يتبين من كل ما سبق أن مفهوم الدولة العمالية وكل المفاهيم الدائرة حوله إنما هي مشاريع راديكالية لإصلاح الدولة، أو شكل راديكالي من العلمانية اليسارية. ولعل هذا هو السبب العميق وراء إدراجنا لنقد هذه المفاهيم ضمن نقدنا للعلمانية عموما. ذلك أن العلمانية بكل فروعها لا تحمل إلا عنوانا واحدا هو إصلاح الدولة، بينما على النقيض من ذلك فان الشيوعية لا تحمل إلا عنوانا واحدا نقيضا هو تدمير الدولة. لا شك وأن موضوعتنا النقدية التي قدمناها ضمن هذه الأجزاء الثلاث تطرح أسئلة أخرى عن طبيعة الدور التاريخي للبروليتاريا، وطبيعة تنظمها الطبقي، والوسائل الثورية للإطاحة بالدولة وإلغاء الملكية الخاصة...الخ. وهذا ما سنحاول بحثه في مواضيع قادمة.
#محمد_المثلوثي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد العلمانية (2)
-
نقد العلمانية (1)
-
ماركس والماركسية
-
ايران: الثورة، ومحاولات الالتفاف
المزيد.....
-
هذا ما يتمناه جورج وسوف لوطنه سوريا
-
أول تعليق لنعيم قاسم بعد سقوط بشار الأسد وما خسره حزب الله ف
...
-
الفصائل والسلطة تشتبكان بمخيم جنين
-
هل تسعى إسرائيل لتقسيم سوريا؟
-
الشرع: -لسنا بصدد خوض صراع مع إسرائيل ولا نحمل أي عداء تجاه
...
-
زيلينسكي: روسيا تستعين بمزيد من الجنود الكوريين الشماليين في
...
-
بوندسليغا: ماينز يلحق أول خسارة ببايرن في هذا الموسم
-
سيمونيان تدعو إلى عدم تعليق آمال كبيرة على السلام الذي وعد ب
...
-
السوداني وماكرون يبحثان هاتفيا آخر المستجدات في سوريا والمنط
...
-
خبير عسكري: لجنة الاتصال العربية داعمة للانتقال السلمي في سو
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|