غفران قسّام
الحوار المتمدن-العدد: 2957 - 2010 / 3 / 27 - 17:01
المحور:
الادب والفن
قراءة نقديّة- تراث عربي: ألف ليلة وليلة
لـ: غفران قسّام
عرفتْ أوروبا رائعة دافنشي: السيّدة المحترمة، المترجمة عن الإنجليزيّة موناليزا. وقيل في عالميّتها صنوفًا شتّى من التّفسيرات الخاضعة لتشخيصات دافنشي الضّوئيّة، وتحكّمه بالألوان، حيث أظهرتْ ابتكاريّة الملامح لامرأة، قيل أنّها في الحقيقة: “صورة زوجة التّاجر فرانشيسكو دي جوكندو” . ومحور اهتمامنا في سيّدة دافنشي المحترمة، هو: في انسدال الشّعَر، حيث “حيَّر العلماءَ؛ إذ أنّ الشّعر المنسدل المفروق في المنتصف بتلك الفترة كان للنّساء سيّئات السّمعة. وهذا لا ينطبق على الجوكندا زوجة التّاجر فرانشيسكو كما يقال” . فهل كان يرمي الفنّان أن ينقضَ الحقيقة بمقاييس مثاليّة في داخله؟ أم أنّ إعجابه بهذه الواقعيّة قد امتزجتْ بحريّة تخيّله، فانجذب إلى إبداعٍ خاصٍّ به؟. هذا هو السرّ، سرُّ كلِّ فنّ يُكتب له الذّيوع، وتتوالى أمام معطياته الفاتنة قوالب فنّية صاخبة في أشكالها، وديمومة تعاقب الأجيال عليها جيلاً بعد جيل.
وتنطبق سيرورة حديثنا عن سيّدة دافنشي على سيّدة شهريار، شهرزاد، ذلك النّموذج المثاليّ للمرأةٍ المثقّفةٍ، والذكيّة، وذات الجمال، والحضورٍ الأنثويّ الفاتن؛ الأمر الذي جعل أوروبا تنساق مع الأخيرة؛ ليشكّل لديها مخيّلة خصبة حول سحر الشّرق. وقد قيل: “إنّ ممّا دفعَ الغربَ إلى الهيمنة على الشَّرق واستعماره، هو: ما جاء في كتاب اللّيالي، أو ألف ليلة وليلة عن الشَّرق وفنونه، وعظمته، وسِحره” .
وأيًّا كانت دوافع الغرب، فللشّرق دوافعٌ أخرى في معاينة هذا المؤلَّف، وخلْقِ كثير من الدّوائر المتداخلة تعدّ كمتواليّاتٍ اكتنازيّة تحوم حول فكرة التحوّل التي أتتْ بها ألف ليلة. وتظهر حيثيّاتُ عرضِ هذه الفكرة في نصّ ألف ليلة منذ سعى الوزير –والد شهرزاد- في سرد أوّل حكاية فبها، وهي: (حكاية الحمار والثّور مع صاحب الزّرع)؛ حتى يثني ابنته عن قرارها في الارتباط برجلٍ مستبدٍّ كشهريار وإن كان ملكًا. ومع أنّ السّردَ لم يشهد بتراجع شهرزاد عمّا عزمتْ عليه ؛ إلا أنّها لم تدخّر جهدًا في قولبة نصيحة والدها، والسّير على خطاها طوال السَّرد الحكائيّ لليالي، حيث اتّبعتْ هذا التّمثيل القصصيّ في تهذيب السلوك فـ: “تحوّلتْ شخصيّة شهريار من شخصيّة شرّيرة إلى شخصيّة خيّرة” ، وكأنّها بما قامتْ به تمثِّل مقولة: “كلُّ فتاةٍ بأبيها معجبة”. فهل حكاياتُ شهرزاد غير عاديّة أمام هذه المعطيات الموجبة؟ إن كان كذلك فما صفتها؟ وهل يمكن أن تثبت فاعليّتها على الواقع؟ ربما ما أكسبها صفة غير الاعتياديّة؛ كون نتائج سردها الخرافيّ، أتتْ لصالحها، وإلى جانب بنات جِلدتها، وهذه النّتائج قائمةٌ على مبدأ التّحوّل: من… إلى…، وربّما به يدعو كاتب الليالي –وهو مجهول- مجتمعه، وكلّ مَن حوله أن يعتنق جوهر فكرة الحكايات، حيث: “يشكّل انتصار الخير على الشرّ محورًا أساسيًّا فيها بما تكتظّ به من أجواء السِّحر وعوالم الجنّ. ففي حكاية مصباح علاء الدّين، يتحوّل الشّابّ المتواضع علاء الدّين بمساعدة الجنّيّ إلى ثريّ، يتغلّب على الوزير الشّرّير، ويتزوّج من ابنة السّلطان. ويتكرّر في هذه القصص تحوّل البشر بفضل السِّحر إلى حيوانات مختلفة” .
وتتّضح تراجيديّة التّحوّل مع التّمفْصُل عند استيقافات السَّرد بعبارته الشّهيرة: “وأدركَ شهرزادُ الصّباح، وسكتتْ عن الكلام المباح”، ونشهد ذلك، منذ أن اعتلى السَّرد خطاب شهرزاد لوالدها: “بالله يا أبتِ! زوّجني هذا الملك، فإمّا أن أعيش، وإمّا أن أكون فداءً لبنات المسلمين، وسببًا لخلاصهنّ من بين يديه” ، إلى قولها عند لحظات النّهاية السّعيدة في احتيالها على شهريار باستعطاف حالها من خلال أولاده: “يا ملكَ الزّمان، إنّ هؤلاء أولادك، وقد تمنّيتُ عليكَ أن تعتقني من القتل؛ إكرامًا لهؤلاء الأطفال. فإنّك إن قتلتني يصير هؤلاء الأطفال من غير أمّ، ولا يجدون مَن يُحسن تربيتهم من النّساء. فعند ذلك بكى الملك، وضمّ أولاده إلى صدره: “يا شهرزاد! واللهِ إنّي قد عفوتُ عنكِ من قبل مجيء هؤلاء الأولاد؛ لكوني رأيتكِ عفيفة تقيّة، وحرّة نقيّة” .
هذا الانقلاب الجوهريّ لصورة شهريار الرّجل بكلّ سلطته التي وصلتْ حدّتها إلى لون الدّم، قد ذابتْ كلّها أمام إثبات شهرزاد لرجولته القلقة من كيد النّساءِ وخياناتهنّ، أنّها مختلفة عنهنّ بطهارتها، وطيب منبتها؛ الأمر الذي يجعلنا نطرح فكرة، أنّ: الحكايات لم تكن السّبب في تحويل رجلٍ بذكاء شهريار ودهائه عن قراره في حقّ النّساء، فليس من السّذاجة بمكانٍ أن يُستسلم لذلك. وفي المقابل، كانت شهرزاد تستفيد في سردها بتشكيل صورٍ خيميائيّة في ذهن شهريار في وضح النّهار، هذه الصّور عبّرَ عنها شهريار –لو لاحظتم- في عبارته الأخيرة، بقوله: “رأيتُكِ عفيفة…”، وما كان ليقولها إلا بعد تثبّتٍ من ذلك . وتتمحور فكرة الصّور الخيميائيّة، بأنّها: “التي تتحدّث عن جوهر التّحويل الذي يُرى دائمًا بين الشّمس والقمر” . فقد كانت ترمي من خلال حكاياتها أمرًا أبعد من ذلك، وهو ملاحظة شهريار لسلوكيّاتها الإنسانيّة في وضَح النّهار، وتجربة أخلاقها، وكشف معدنها من خلال المواقف. فالسّرد الشّهرياريّ، كان واضحًا منذ البداية في عرض سلوكيات الرّجل كردّة فعلٍ حادّة لا هوادة فيها. وفي المقابل جاء السّرد الأنثويّ، بكلّ طاقاته الثّقافيّة والألمعيّة؛ ليمتصّ كلّ هذه الشّحنات السّالبة من الذّكورة تحت قبّة الحكايات، ومن هنا كان التّركيب الجدليّ للزّمن والتّحوّل: “وأدرك شهرزاد الصباح…”. فمع بزوغ الشّمس، تكفّ شهرزاد عن الحديث، لكن هل تكفّ عن الفعل؟. طبعًا لا، بل تمارس حياتها الطّبيعيّة بكلّ طقوسها، وعند المساء يكن لها موعد مع الحكي، فما بين الشّمس / نهار، والقمر / ليل، يحدث التحوّل الجوهريّ في ذات شهريار تجاه شهرزاد –التي تمثّل النّساء جميعًا آنذاك-، فيغتبط لحديثها، ويأنس له بطلب المزيد منه. وقد تحدّثت ألييف كروتييه في معارض حديثها عن طقوس الحرملك في قصر طوبقابي في اسطنبول، عن موعد الحكايات لدى النّساء، بقولها: “بعد غروب الشّمس وقبل شروقها، لم يكن يُسمح للنّساء بالخروج. ذلك هو الوقت الذي تتوالد فيه الحكايات. وتقضي أحد التّفسيرات بأنّ النّساء كنّ يحكين هذه القصص لبعضهنّ لكي تريحهنّ من الأرَق. وكنّ أيضًا، يستمتعنَ بطرح الأحاجي التي بدا أنّها تنتهي بفكرة الحياة المهدّدة والموت العبثيّ” .
إذن، ليس من السّهل أن نتقبّل قول مَن يقول أنّ: حكاية شهرزاد هي السّبب في إنقاذ الموقف. وليس من الصّائب بمكانٍ أن نضيّق واسعًا؛ بمعنى أن نحصر فكرة الليالي بمبدأ الحكايات، وإنّما هي فكرة التحوّل بكل مراميها.
ملحوظة: حقوق حواشي النّصوص المقتبسة لديّ.
غفران قسّام- جدّة
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟