جريس الهامس
الحوار المتمدن-العدد: 898 - 2004 / 7 / 18 - 08:26
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
عودة إلى سجن تدمر عام 1953 :
عدنا من سجن المزة الى سجن تدمر ونحن مضربين عن الطعام منذ سبعة أيام لنجد في المعتقل ثلاثة من قيادة الحزب هم السادة :
ابراهيم بكري – دانيال نعمة – والمناضل اللبناني بدر مرجان ....حاولوا إقناعنا بعدم جدوى الإضراب لكننا رفضنا .
في اليوم التالي أيقظونا مع رتل المجندين المعاقبين لنسير تحت الحراسة خلف صافرة الجلاد المغربي ( أبو محمد) وإيعازه
للسير في النظام المنضم أو رملا منبطحا والزحف فوق الشوك والأحجار وصولا إلى منطقة الاّثار للعمل في الحفر ونقل التراب
بواسطة عربات ندفعها على سكة حديد خارج الاثار كانت تسمى العربة منها ( الطرزينة ) . سقط منا رفيقان على الطريق
أعادوهما إلى المعتقل دون إسعاف . وفي المساء حاولوامرة أخرى إقناعنا بإنهاء الإضراب انضمت الأكثرية لهم رغم معارضتي
مع الرفاق نور الدين أتاسي وتوفيق أستور وبشّار موصلي .. وهكذ أنهي الاضراب ....
يومها أرسل لنا خالد بكداش رسالة بواسطة المجند البطل عبدالرحمن محفّل شقيق المناضل المعروف أحمد محفّل ومحمد محفل
رفيقنا في الجامعة قال السيد بكداش فيها : لقد رفعتم رأسنا عاليا أنتم جناح الحزب وفخره .....الخ
بدأ مناخ المعتقل يتغير بعد نقل الجلاد نجدت العطار ليستلم قيادة المعتقل مكانه ضابط عراقي من ضباط ثورة رشيد عالي الكيلاني
لجأ الى سورية بعد فشل الثورة ثم انضم الى الجيش السوري .. لم نر وجهه ولم يتدخل بأي شئ يخصنا . في نفس الوقت
استدعى الملازم أول نزيه الجمالي – شقيق رفيقنا سميح - الجلاد المغربي وأمره بعدم التعرض لنا وعدم تزحيفنا كل يوم
أما الدكتور وهيب الغانم طبيب الموقع المنفي الى تدمر فكان يستدعينا بالتناوب لإعطائنا تقارير طبية مع استراحة من العمل
ويقدم لنا كل مساعدة مع الحوار السياسي الذي يشد من عزيمتنا بعد إخراج الممرض من عيادته . كان إنسانا رائعا تعرفنا عليه
لأول مرة ... أضحى كل من في تدمر متعاطفا معنا ... وأذكر كيف كانت فلاّحات تدمر ينتظرن عودتنا من العمل في لهيب
الصيف يحملن اللبن ( العيران ) ليقدموه لنا ..كان الجلاد يمنعهن في البداية لكن بعد أن استطاب شرب اللبن وحرّك شفتيه
الغليظتين عن دمدمات غير مفهومة كالتتري إذا أهين تناول الكوب الثاني وسمح لهن بتوزيع اللبن علينا ......
أرسل إلينا الجلاد مطيع الجابي الذي كان رئيسا للشعبة السياسية اّنذاك أحد جواسيسه إلى المعتقل وإسمه ( ضياء الرفاعي )
زاعما أنه من أنصار حزب الشعب في حلب .... كشفناه من اليوم الأول .. عاملناه كإنسان وساعدناه كيف يمسك الرفش ليرفع
التراب وكيف يحفر بالمعول قبر أسياده سقط عدة مرات بجسده النحيل وساعدناة على النهوض حتى اعترف لنا بمهمته محاولا
التظاهر بالندم وهذا الجاسوس نفسه كتب عشرات المقالات ضد عبد الناصر في عهد الإنفصال بإسم ( مطلع )
ثم غادرنا فجأة أثناء وجودنا في العمل بعد تفتيشه أمتعتنا لم يجد فيها سوى ساعة لأحد رفاقنا سرقها وانصرف ....
فكرنا بالهرب جديا لتوجيه صفعة كبيرة للديكتاتورية . خصوصا وأن المناخ ملائم والوسيلة متوفرة ..فرئيس الحرس كان
الرقيب كمال كاخي ومعاونه العريف عسكر حافظ والمجندون مع عبد الرحمن محفل مستعدون للمساعدة والفرار معنا ..
لكن دانيال وابراهيم رفضا ذلك ووافق بدر مرجان معنا ...وفشلت المحاولة في المهد ....
أطلق سراح الرفيق العراقي فاضل الطائي والزميل التعاوني عبد الرزاق شركس قبل نقلنا إلى سجن المزة ثانية ,,,
في العاشر من اّب اعادونا إلى سجن المزة وبقي فرسان القيادة الثلاثة في تدمر أعادونا إلى نفس الزنزانة كأنها محجوزة
لحسابنا .كا ن عدد كبير من المعتقلين قد أطلق سراحهم بعد إعلا ن الشيشكلي الدستور المفصّل على مقاسه وإعلان نفسه
رئيسا للجمهورية . كما فعل حافظ الأسد تماما لكن بتواضع في الشعارات الكاذبة والشعوذة السلطوية والبطش الهمجي
بالمعارضين . ..
بعد يومين أو ثلاثة وفي منتصف الليل فتح باب زنزانتنا بعصبية وظهر أمامنا عزت حسين مدير السجن عزت حسين وبجانبه
ضابط برتبة مقدم عرّفنا عن نفسه قائد الشرطة العسكرية عبد الحق شحاذة – كنا نجلس القرفصاء لضيق الزنزانة .لم نتحرك
بقينا جالسين كما نحن .. بدأ كلامه بحرصه على عامنا الدراسي وأنهم لايريدون منا سوى التوقيع على التعهد الاّنف الذكر ....
لإنقاذ عامنا الدراسي ...كررنا رفضنا , كالسابق ..عندها جنّ جنونه وقال بالحرف الواحد : ( طيّب وقّعوا لنا بأنكم لن تعملوا
في السياسة من الاّن حتى صباح الغد ..شو راح ندخل الجيش الأمريكي الى سورية هذه الليلة ؟؟)
أجبناه بالرفض وطالبنا كالعادة إطلاق سراحنا بلا قيد ولا شرط أو إحالتنا إلى القضاء ., ازداد جنونه وبدّل الحقد لون وجهه
انصرف بعد رفسه الباب ببسطاره . وفي مكتبه جمع ضباطه وهويلطم على رأسه قائلا :
( ولي من هوْلاء لو كان عددهم أكثر لخربوا البلد ) هذا مانقله لنا فيما بعد الضابط الوطني ( فوّاز محارب )
وجها لوجه مع الديكتاتور أديب الشيشكلي :
في الخامس عشر من اّب نقلونا في شاحنة عسكرية الى مبنى الأركان العامة للجيش الذي كان يومها في بوّابة الصالحية بدمشق
صعدنا الى الطابق الرابع وأدخلونا الى قاعة كبيرة يتصدرها مكتب عادي يقف خلفه ضابط صغير برتبة ملازم وأمامه رقعة
كتب عليها : الملازم إحسان مهمندار مرافق القائد العام ....تعرف هذا الضابط على رفيقنا توفيق أستور وسلّم عليه لأنة كان
زميله في الكلية العسكرية . وفي امتحان التخرج سألت اللجنة الفاحصة توفيق السوْ ال التالي :
لو أعطيت أمرا بقمع تظاهرة ضد الدولة ماذا تفعل ؟؟ أجاب دون تردد : لن أطلق رصاصة واحدة على شعبي ...لأنني لم أدخل
الجيش لأصبح شرطيا ضد الشعب ... كانت النتيجة طرده من الكلية لينضم الينا في كلية الحقوق ..
سأل توفيق زميله إحسان إلى أين ؟ ابتسم إحسان قائلا ستقابلوا الزعيم الشيشكلي , كانت مفاجاْ ة كبيرة ..وسرت الهمسات
بيننا ..لاأحد يصافحه ....كان واقفا خلف مكتبه . وقفنا علي جانبي المكتب دون كلام ولاسلام .
كان قصير القامة تزين كتفية كتل نحاسية ملمعة . ذو أنف طويل وعينان جاحظتان تنمان عن غباء مقرون بغرور بدائي
بدأ كلامه بعنجهية بونابرتية بعد هزيمة واترلو قائلا : أنا اّسف لإضاعة عام دراسي لكم إنشاء الله ستعوضوه ....
بقينا صامتين ثم تابع : نحن نقوم بتجربة حكم قد ننجح وقد نفشل وسورية اليوم تعيش عصرها الذهبي , اّمل من قيادات
أحزابكم ألاّ تقوم بأعمال تخريب ضدنا . قالها بالفرنسية ( sabotage ) ليتركوا سورية تتمتع بعهدها الذهبي .....
ثم قال أنتم مثل أولادي وإن كنتم عاقّين .. كرر أسفه لأإضاعة عامنا الدراسي سنطلق سراحكم فورا الاّن أنتم أحرار
مع السلامة ...كان صمتنا الرائع في معرض البيان بيان .....خرجنا الى بوابة الصالحية أحرارا ونحن لانصدق ما جرى ,,,
سجلت هذه الوقائع المطموسة في التاريخ ليقارن الناس مع ماتعرض لة أبنا ء وبنات شعبنا وما زالوا علىأيدي الطاغية
الأسد وجلاوزته الذي أعلن حول اعتقال العديد من الوطنيين الشرفاء : لن يخرجوا من السجن ما دمت حيا وهذا لم يقله
أي ديكتاتور في العالم ليدرك العالم كله حجم مأساة شعبنا ....وإلي القسم الخامس والأخير من هذا الموضوع وشكرا ......
المحامي جريس الهامس – هولندة
#جريس_الهامس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟