خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 895 - 2004 / 7 / 15 - 06:38
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
لا يرتبط السؤال هنا بطبيعة الهوية الوطنية من الزاوية القانونية أو التعريفية وإنما بالبعد النفسي والعقلي الذي يتأثر به المواطن كانعكاس للواقع اليومي الذي يعيشه بعيدا عن الصيغ الجاهزة والاستهلاك الأيدلوجي. فمن البداهة القول إن العراق هو عراق العراقيين عرفا وقانونا وممارسة لكن الشعور الداخلي للمواطن الفرد هو المكان الذي يختزن فيه الموقف الفعلي من مفهوم المواطنة السائد في المجتمع. ومفهوم المواطنة عراقيا مفهوم ملتبس بصيغته التي اشاعتها النظم السياسية التي جعلت من نخب اجتماعية وسياسية متنفذة تمتلك حقوق مواطنة أكثر مشروعية من غيرها. وهذا المفهوم السلطوي النخبوي الذي يمنح اهاب المواطنة وامتيازات القوة ويعزز الشعور الداخلي للمواطن بمواطنته أو بانعدامها انبث في ثنيات الوعي الجمعي للمجتمع في ضوء انقسام اجتماعي مركب وبتوزع معين للمصالح والانتماءات هدد ويهدد فكرة الانتماء الوطني السليمة وتبعاتها من حقوق والتزامات.
ويرتبك شعور الانتماء الوطني هذا أكثر وأكثر في ظل ظروف الاستبداد والهيمنة الصارخة لنخب اجتماعية وسياسية أو طائفية على مقاليد المجتمع. ويستشري هذا التشوه في المفهوم حينما ينعدم معدل التماسك الاجتماعي بالانفصال الحاد بين السلطة والمجتمع وتحولهما إلى نقيضين متنافرين وأحيانا متناحرين كما حدث في العراق في غالب زمنه الجمهوري وشطر كبير من طوره الملكي. فالعراق في تلك المراحل كان عراق السلطة ومن يرتبط بها ويمثلها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. فالإقطاعي والباشا وموظف الدولة الكبير كانوا يمارسون حياتهم وكأنهم أكثر وطنية أو تمثيل للوطن والمجتمع وبالتالي اكثر حقوق في المواطنة من القطاعات الأخرى التي هي حسب التقسيم الاجتماعي والعرف المنبثق عنه اقل شانا ودورا وبالتالي انتماءا وطنيا. وفي تحول العراق الى النظام الجمهوري تقوض هذا التركيب الهرمي للسلطة داخل المجتمع لصالح تركيبة جديدة استبدلت عناصر القوة في المجتمع لتفتح الميدان لفئات اجتماعية مختلفة عن سابقتها، لتلعب دورها ذاته، قوامها الجيش والتجار وكبار موظفي الدولة التي هي اكبر جهاز بيروقراطي واقتصادي في المجتمع وابرز ممثل ومنظم للهرمية الاجتماعية، حيث يتم تبوأ المراكز الحساسة فيها على أسس اجتماعية وعائلية، وفي مراحل متأخرة، أيدلوجية حزبية( مرحلة حكم البعث) بعد الدمج الشامل للدولة بالسلطة والحكم. هكذا ووفق تفاعلات وانزياحات اجتماعية وسياسية وبإبعاد أيدلوجية وأهواء فردية تحول المجتمع والوطن إلى ملكية خاصة بأسر وفئات والى حد ما طائفة محددة عبر حزب وأيدلوجية( البعث والعروبية) أنتجت الاستبداد وعممته في كل تفاصيل المجتمع. وهكذا اختزل العراق انذاك في هذه الفئات كما سيختزل لاحقا وبصورة فجة ومقززة باسم فرد شاذ يحكمه بالإكراه والعنف.
وبطبيعة الحال لا تزال أصداء تلك العقلية ماثلة وقائمة في المجتمع. فقد أثبتت كثير من الوقائع ومازالت تثبت إن المواطن العراقي ونتيجة لهيمنة هذا المفهوم، بقي لسنوات طويلة يشعر وكأنه ضيف ثقيل على أرضه وفي مجتمعه وان عليه أن يقدم مبررات لحسن نيته وبراءته بقبوله بما يرمى له من( إكراميات) هي جزء تافه من حقوقه. وبقيت جماعات السلطة والطبقات الاجتماعية والسياسية المتنفذة في المجتمع تعامل المواطن بازدراء ومنية ولاتتصدق بقبول وجوده، حتى لو كان مواطنا منقوص الحقوق، إلا حين يقدم فروض الطاعة والاستكانة لها.
وانقسام المجتمع الحاد قسم معه مفاهيم المواطنة والانتماء وصار العراق وطنا لجماعات السلطة والنفوذ وليس لكل أبناءه كما تقضي الشرائع البشرية المتحضرة. وسوف لن يقف، بطبيعة الحال، مفهوم المواطنة على قدميه مالم تستأصل ثقافة الامتيازات وما يستتبعها من مفاهيم شوهاء للمواطنة.
قد لا نجنح في عالم الخيال إذا ما تصورنا ان خلفية تلك العقلية وهذا التصور يجدان بعض من جذورهما في نمطية ثقافة القطيع أو الجماعة ــ الكتلة المتراصة، الغالبة، وبتطرف، في الممارسة والوعي الاجتماعيين عندنا لحد تجاوز على، وبخس من، قيمة الفرد، ومن منظور انتقص من كيانيته وحوله إلى حامل معلب لقيم وعقل الجماعة. ومن الواضح ان هذه الذهنية غالبا ما تسد في مجتمعاتنا طريق العودة والاستدراك للفرد في حال الضلال الفعلي عن القيم الإنسانية. في الوقت الذي نلاحظ إن الفرد في المجتمعات المتطورة لا يحرم من أي صفة أو محدد هوية شامل أو أية حقوق معنوية تقر له بطبيعته الإنسانية والاجتماعية حتى لو خرج على القيم المجمع عليها كحالات الجريمة العادية كالسرقة أو القتل أو غيرها. وبهذا يتيح له المجتمع تصحيح موقفه بينما في مجتمعاتنا غالبا مايظهر العكس، ولايتاح، لمن يبتعد عن الجماعة، حق وإمكانية العودة والاندماج من جديد إلا وفق مفهوم وشرط محدد جوهره التوبة والتنكر للذات وإلغائها، وغالبا مايقع في مجتمعاتنا الحكم على الانسان مرة واحدة والى الأبد وتلصق به صورة نمطية من غير تقبل واستيعاب لقدرته على التجاوز، ومن غيرادراك أن الطبيعة البشرية متنوعة وغنية التركيب.
إن معاملة الفرد على انه جزء من مجموع وملحق لكتلة كبيرة من البشر سيصادر شعوره الطبيعي بفرديته وماهيته كانسان له فرادته وتميزه الذي بمقتضاه يتم الحكم عليه والتعامل معه. واستئصال تلك العقلية وإلغاء تلك الثقافة سيمهدان السبيل حتما لبناء ثقافة ووعي عقلاني وإنساني بالمواطنة والانتماء والالتزام بما يفرضانه من التزامات وتضحيات.
على خلفية هذا الواقع ومفاهيمه المعممة مازال البعثيون، وفي الظروف الحالية، أي بعد فشلهم وزوال كل مبررات وجودهم، يتصورون ان العراق هو عراقهم وانهم الوحيدون الجديرون بحكمه. ومازال بعض متطرفي السنة، لارتباطات تاريخية بانظمة الحكم، يعتقد انه هو العراق، وبعض قبائل تكريت والرمادي لاتزال تحمل ذات التصور. فالمدن( البيضاء*) ومنها تكريت وقرية العوجة وعشيرة البوناصر تعتقد بانها المالك الحقيقي والشرعي للعراق وتمثله ولهذا يفسر أي موقف أو إجراء ضدهم اعتداء على العراقيين لانهم، حسب مفهومهم، هم العراق. حتى لو كان الموقف منهم، والإجراءات التي تلحقه، هو في حقيقته تجريد لهم من امتيازات نهبوها من المجتمع بالقوة، بغير شرعية ولا كفاءة، وغلفوا لاحقا استماتتهم لاستعادتها بلباس مقاومة الاحتلال، وهو في الواقع مقاومة للمجتمع كله، الذي جر بعض السذج لبريقه الخادع.
ذات مرة قال احد أقارب صدام، ممن لم تترك السلطة والجاه أي اثر من التمدن على مظهره، بان عشيرتهم( البوناصر) موضع حسد من قبل العشائر الباقية لأنها حكمت العراق. و في سياق مماثل اعتبر الشيخ احد أعضاء هيئة العلماء المسلمين في العراق أن الحكومة الجديدة( حكومة علاوي) لا تحظى بالترحيب والقبول لأنها هددت بانتهاك حرمات بيوت العراقيين، ويقصد بالعراقيين هنا أبناء الفلوجة وغيرها من المدن المرتبطة تاريخيا بنظم الحكم القومية العسكرية، والتي شكلت مركزا للاعمال الارهابية والتخريبية. وجاء هذا التعليق كإشارة الىتصريح وزير الدفاع العراقي بأنه سيلاحق الإرهابيين في عقر دارهم وهي اشارة واضحة الدلالة في تعيين الجهة المقصودة مما اثارت فزع الهيئة واحد شيوخها.
ومن ثمار تلك العقلية المتفشية في مجتمعات الحكم الشمولي والاستبداد المطلق، كما هو حال الوضع العراقي لحين سقوط النظام ألبعثي، الحكم على مجاميع وشرائح اجتماعية أو سياسية بكاملها بالضلال( الشيعة، الأكراد، الشيوعيون، الخ) مما يؤدي إلى إقصاءها من أي دور في الحياة الاجتماعية والسياسية وبالتالي أي قيمة أو انتماء. وتعامل وكأنها ديكورات أو ملحقات مهمتها تنفيذ رغبات السلطة ومتنفذيها.
واذا ما اقر ان قطاعات واسعة من المجتمع تهمش وتقصى من الحياة ومن الانتماء، في خضم الصراع الاجتماعي والسياسي، لاسيما اذا تدخلت عوامل اقليمية في مساره ومنحنياته، كما هو الوضع العراقي، ويتم التشكيك في ولاءها للوطن الذي هو معادل للولاء للسلطة بحسب مفهومها، فانه يمكن القول انه وفي زحمة هذا الصراع تنشا، وكحالة مضادة، وبشكل آلي وتلقائي أحيانا، حالة من الشعور الخاص لدى جماعات معينة، فرض عليها الصراع ومواضعاته الارتباط وان شكليا بالسلطة، نوع من الشعور الخاص بامتلاك الوطن وهوية المواطنة.
وفي الحقيقة ليس هناك ضير من تعزز الشعور لدى أي فرد من ابناء المجتمع العراقي من أن العراق هو عراقه، فلهذا بعد ايجابي يجعل الفرد يعتقد بقيمته وبولائه في نفس الوقت، لكن المشكلة تكمن فيما لو شعر هذا الفرد أو تلك الجماعة بان العراق هو عراقه لوحده وانه هو العراق وان الآخرين ضيوف أو ملحقات أو مادة لممارسة السلطة عليها وهذا تصور مضر لانه يستتبع بالضرورة إلغاء وإقصاء لبقية المجتمع خارج النخبة ومحظييها.
فهل يفرض علينا هذا الواقع استدراكه في الحقبة الجديدة ونضع المعادلة الاولية والبسيطة التي مفادها ان العراق لكل العراقيين في موضع الفعل. ام سيكرر الزمن دورته الازلية في اعادة انتاج المفاهيم الخاطئة والضارة ويعود العراقي من جديد ضيفا عابرا في وطنه؟
هامش
* سميت المدن التي لم تشارك في انتفاضة اذار 1991 لخصوصيات اجتماعية وارتباطات تاريخية بانظمة الحكم العسكرية القومية بالمدن البيضاء، وهي الموصل، تكريت، الرمادي، وسامراء، تمييزا لها عن المدن السوداء( مدن الجنوب الحزينة) التي عوقبت بحصار مضاعف بعد انتكاسة الانتفاضة وفرض الحصار الدولي على العراق.
السويد
13-7-2004
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟