أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض حسن محرم - الصول عبد الجواد















المزيد.....

الصول عبد الجواد


رياض حسن محرم

الحوار المتمدن-العدد: 2911 - 2010 / 2 / 8 - 17:51
المحور: الادب والفن
    


عاش يحلم بها، منذ أن كانت طفلة تنمو أمامه رويدا، ضفيرتيها الملفوفتين بعناية خلف ظهرها، أناملها الرقيقة وهى تقبض على شنطة الكتب تدارى صدرها، ظهرها المستقيم وخطواتها الواسعة بالحذاء الأبيض، تتسل مسرعة من أول الحارة الى باب البيت كأنها تهرب من شيئ يطاردها، تنظر دائما الى نقطة فى الأفق، لا تدير رأسها أبدا فى أى الإتجاهين، وكأنها تمثال من شمع.
هو كان ينتظرها بلهفة وشوق، عيناه لا تغيبان عن باب الحارة منتظرا اطلالتها، عيناه تلتقطها من بعيد، تنشرح اساريره وينفصل عن الجميع، يزداد خفق قلبه كلما إقتربت، يكاد نبضه يتوقف حين تمر أمامه، يود لو ثبتت الصورة هكذا، يودعا بنظراته حتى تختفى.
تمر الأيام والشهور وهو على هذا الحال، كل يوم يقرر أن يبدأها بالكلام لكنه يجبن، فى ذلك اليوم استجمع كل شجاعته، تحركت شفتيه بصوت لا يسمعه ملقيا تحية الصباح، تخيل للحظه انها ترد عليه، لاحظ ارتباكها وسرعة خطواتها حتى كادت تتعثر، أحس بالخجل الشديد، لعدة أيام لم يستطع أن يظهر فى حياتها.
إتخذ قرارا، ها هو يعود الى الحارة مرتديا البذة العسكرية، يضع البيريه الكاكى على رأسه، ذقنه حليقة، لحظات انتظارها تطول، قادمة هى من بعيد، لم يصبر حتى تصل، سار فى اتجاهها، ما إن اصبحت فى مرمى حديثة حتى رفع صوته محييا، فاجأه صوته مشروخا أجشّ، سمع ردها واضحا هذه المرة، ابتسامة شاحبة تعلو شفتيها.
لم يطاوعه قلبه ان ينتظر عودة أمه، صعد الى السطح محاولا أن يمد بصره الى شقتهم البعيدة، لا يرى شيئا سوى النور المنبعث من هناك، تخيلها جالسة بجانب امه، تلبس فستانا ابيض، تصور انه سمع صوت زغرودة، ربما كان صوت الرياح الشتوية، قرر النزول والذهاب هناك، وقف أمام البيت فى انتظار أمه، شاهدها تخرج من بيتهم وامها تودعها.
كان الصول "عبد الجواد" مستغرقا فى حكايته بكافة احاسيسه، يحرك يديه فى الهواء ويذداد احتقانا كلما أوغل فى القصة، كان حريصا على ان يذكر جميع التفاصيل، لم يكن ينظر الىّ، كأنما يتحدث الى نفسه، لا يتوقف الا ليشعل سيجارة جديدة، يأخذ نفسا عميقا ويستمر، كلما انتهى من جزء من الحكاية يمد يده ناحيتى بعلبة السجائر، وينظر الى ليتأكد اننى ما زلت اتابع.
عشرة اعوام كاملة مرت على زواجه منها، لم يأت الطفل بعد، لا يعرف للأيام طعما، مشتتا وفى حال من القلق المستمر، يخاف طول الوقت من كل شيئ، تنتابه لحظات بكاء طويلة، يحبها لدرجة العبادة، لا يتخيل لحظة ان يفارقها، هى أيضا تحبه، حريصة طول الوقت على ارضائه، تهتم بكل تفاصيل حياته، تهيئ له كل ما تستطيع، الأيام الثلاثة الأول من الإجازة لا يخرج من البيت، تطعمه بيدها، تسخنّ الماء لحمّامه، تليفّ له ظهره، تكوى البدلة العسكرية، تلمّع الحذاء، تهدهده كى ينام، يصحو من نومه كل يوم فزعا باكيا.
الإجازة اصبحت بالنسبة له عبئا ثقيلا، فى بدايتها يخاف أن ينزل، وعندما تنتهى يخشى أن يعود، آخر يوم توقظه من نومه مبكرا، تحضّر له إفطاره، تقف بين يديه حتى يأكل، تصب له الشاى وتساعده فى إرتداء ملابسه، تقبله وتدعو له بالسلامة، وهو خارج من الباب تقرأ المعوذتين.
يقف على رصيف المحطة ساهما، لا يفكر فى شيئ، لا يشعر بالوقت الذى يمر أو بمن يتزاحمون حوله، لا ينتبه لصوت القطار القادم أو المغادر، الوقت يمضى والتذكرة بين أصابعه، ينتبه أخيرا أنه جائع، ينظر بعينين زائغتين الى ساعة المحطة، مرت جميع القطارات، يسحب أقدامه مجهدا عائدا الى بيته، لا تسأله اين كان ولماذا عاد، تأخذه على كتفها كطفل، تطبطب على ظهره، وتساعده فى خلع ملابسه.
لم تكن علاقتى بالصول عبد الجواد وثيقة الى درجة أن يفتح قلبه ويحكى قصته، كنت حديث التجنيد ووصلت الى الوحدة من وقت قريب، الغالب انه كان يبحث عن شخص يجيد الإستماع ، وكنت أنا هو، كنا نجلس معا على الرمل فى ضوء القمر، كمية الضوء تسمح بالكلام ولكن لا تجعلنى ارى جيدا تعبيرات وجهه، فقط شاهدت ما يشبه الدمعتين تنسابان على خده، حاولت التواصل معه، لكن أحسست أن فى قصته ثمة شيئ ناقص، ضلع غير مكتمل من المربع، حدست ان ذلك الجزء هو الأهم، والذى يمكن أن يحل العقدة.
ألقيت نظرة فاحصة عليه، ربع الجسم، بسمرة اهل الجنوب، شاربيه مقوسان الى الأعلى، وآثار إصابة قديمة على جبهته، يشبه أحد أبطال الأساطير، تذكرت ابوزيد الهلالى فى التغريبه.
نسائم الصباح هلت علينا، بعد صلاة الفجر ذهبت معه الى الكانتين، جلسنا وحدنا متقابلين، الإفطار لا يتغير، جبن مثلثات ومربى، أخذنا أكواب الشاى الساخن معنا الى القشلاق، تمدد على سريره والسيجارة ما زالت بين أصابعة، بدأته بالكلام، كان يرد بعبارات قصيرة متحفظة، بعد كثير معاندة استطعت ان اعرف السر، إنه لا يستطيع.
أحس أنه تورط معى فى الكلام، لاذ بالصمت، ارتدى ملابسه وعدّل من هندامه فى المرآة التى على الحائط، لف سبابته وإبهامه على شاربيه مرتين، بعد أن أكمل لبس البيادة نظر الى وبصوت حاد طلب منى سرعة التحرك كى نلحق طابور الصباح.
بعد الغذاء حاولت التلاطف معه، كان يتعمد الخشونة، حاول ان يشعرنى ببعد المسافة بينى وبينه، صول ومجرد جندى مجند، لم أرغب فى التقليل من شأنه، أو الإيحاء أننى كشفت سرا يقلل من كرامته، كنت حريصا طول الوقت ان ابقى جانبه دون تكلف، بدأت جهامته تلين شيئا فشيئا، بعدها صرنا أصدقاء.
كلما اقترب موعد الإجازة كان يتوتر، ليلتها لم ينم طوال الليل، بكى كثيرا، حاولت التخفيف عنه، سألته ان كان لجأ لطبيب، أجابنى وعينيه تنظران الى السقف انه طرق جميع الأبواب، الأطباء والمشعوذين والزار والمخدرات وكل الطرق، لكنها سدت فى وجهه، فى الصباح حملت معه الشنطة وطلعنا على الطريق، أشار بكلتا يديه من نافذة الباص وهو يغادر.
كنت قلقا عليه كثيرا هذه المرة، أعّد الأيام وأحسب ما تبقى لعودته، فى اليوم المحدد لوصوله لم استطع الإنتظار، ذهبت الى الموقف على امل ان يصل، لكن مخاوفى تحققت، تكرر ذلك فى اليوم التالى والأيام اللاحقة، سألت عنه كل العائدين من اجازاتهم، شعرت بمسئولية تجاهه، قررت البحث عنه.
انسانة طيبة، ريفية أصيلة، لم تتوقف عن البكاء طوال الوقت، أخبرتنى انه كان دائم الشرود طول اجازته، لايأكل الا الكفاف ويدخن بشراهه، فى اليوم الأخير بكى كثيرا، أخذته فى أحضانها وبكت معه، فى الصباح لم يستطع اكمال لبسه، خرج مسرعا بدون وداع، حاولت اللحاق به لكنه كان أسرع.
لم اجد الكثير من الكلمات، حاولت طمأنتها أنه سيعود، كان إحساسى عكس ذلك، وأنه قد ذاب فى الزحام، فى رحلة البحث عنه سمعت قصصا وحكايات كثيرة، البعض قال أنه سافرالى ليبيا، وآخرون قالوا انه ذهب الى البحر الأحمر، ومجند من الأسكندرية أقسم انه شاهده مطلق لحيته ويدور فى حلقات الذكر بمولد ابو العباس.



#رياض_حسن_محرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكومة ترقص على إيقاع شباب الفيس بوك
- هل وصل الأمر الى -أيام- طه حسين؟
- زكى مراد...فارس ليس من هذا الزمان
- شخصيات من السجن(2)
- فلسطينيون فى مصر (3)
- دموع أم
- 2-فلسطينيون فى مصر
- لماذا تطالب الحكومة المصرية بعودة الآثار المسروقة ولا تطالب ...
- فلسطينيون فى مصر
- العلمانيون بالقميص الإسلامى
- الحب المستحيل
- ذكريات هزيمة
- القضية الفلسطينية.....رؤية تحليلية
- دكان شحاتة .. والواقعية المصرية
- جريشة..حكاية بطل شعبى
- سلطنة عمان..وتوليفة التسامح
- هل كانت العالية بنت ظبيان أما للمؤمنين؟
- الهجّالة
- النقاب والتحرش
- حماس تهزم عسكريا,,, وتنتصر سياسيا


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض حسن محرم - الصول عبد الجواد