أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبلة الفاري - مجنون حيفا















المزيد.....

مجنون حيفا


عبلة الفاري

الحوار المتمدن-العدد: 2905 - 2010 / 2 / 2 - 20:23
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
تبكين كدموع بقايا الشمعة المحتضرة في حوضها الصغير السابحة فوق سطح البحر الساكن فوق سكون السفن الغارقة في جوف العباب ، أشعلها أحد الحالمين بأمنية قد تتحقق ، وترفلين بأذيالك البرتقالية كثوب الشمس الغسقي الآفلة عند تشوب حمرة الغروب وراء الصنوبر البعيد ، ثم تحاكين الليل وتساهرين النجوم ، تتحدثين عن ماض لا أدري أهو قريب أم بعيد ..
تهذين وتهذين وأنا أستمع كالأبله بكل تركيز أخاف أن تفوتني كلمة ، أو عبارة، أو لمحة،أو إنفعال يبدو على وجهك الملائكي الأبيض كالبدر ، يا لروعة هذا البياض يا جدتي ! كل شيء فيك أبيض كأجنحة النوارس والموج الغاضب المتكسر على شاطىء مدينتك الخضراء المعلقة، شعرك ، وجنتيك ، أسنانك ، أناملك ، كل شىء فيك بلون الثلج وغيم بلادنا، إلاّ هذه( العصبة) السوداء ، وهذا الثوب البرتقالي المعرّق بعيدان الياسمين الأخضر .
حين سألتك لماذا هذا اللون ،غلبتك إبتسامة صفراء ، وكانت الإجابة آه حزينة على أيام زمان ، وتفجرت الذكريات عن تراثنا، وأرضنا ، وربيع بلادنا ، ولم أفهم يومها سوى أنّ البرتقالي يرمز للبيارات، والأخضر للأرض ،وهذا شيء يهتم له الفلاحون ، هكذا انت يا جدتي ، لم تتغيري ،هززت رأسي بمرارة لا أدري لم أقتحمتني ذكرياتها في هذه اللحظات...
طوال الطريق حيث يسبح النظر في الأفق البعيد ، تصدح فيروز بصوتها الملائكي الرائع الذي امتعنا به سائق الباص المتجه صوب نابلس وهو يشق مشاق الطريق بين القرى المتناثرة فوق السفوح والتلال.
تكتظ جميع مقاعد الباص بالموظفين والفلاحين وطلبة الجامعات وغيرهم، وأنا كعادتي أجلس في المقعد الأول أراقب حركة الناس في كل مكان ، إبتداء من كراج باصات جنين وإنتهاء بوسط نابلس ، كل شيء عشـوائي ومبعثر و كل يوم أرى أشـياء تبدو لي وكأني أراها لأول مرّة على جانب الرصيف ، إلاّ ذلك المجنون.. !! هو الشيء الوحيد الثابت، والمتمسمر في نفس المكان والموعد.
أنزل من سيارة النقل العام القادمة من قريتي حوالي الساعة السادسة صباحا لألتحق في باص نابلس ينقلني الى جامعة النجاح حيث أدرس العلوم ، وبمجرد نزولي في ساحة( الكراج) ألتقي بزقزقة فناجين بائعي القهوة حيث تمتزج رائحة قهوة الصباح الزكية ، بروائح الفلافل و الحمّص والمشاوي وغير ذلك من الماكولات الخاصة بالمسافرين ، إلى جانب ضوضاء المحركات وصياح السائقين.. نابلس.. رام الله.. القدس ..عمان...أشتري رغيف فلافل وأضعه في كيس، ثم كأسين من القهوة وأتجه صوبه ،لأجده منطويا على نفسه في المكان المعهود..... ينتظرني ! ، أجلس الى جانبه على حافة الرصيف ، أعطية افطاره والقهوة ، ونبدأ الحديث الأشبه بالمسلسل ، البداية واضحة والمكان والاشخاص كذلك واضحون ، لكن الرواة عدّة والهواة كثيرون الكل يغني على ليلاه ويرسم نهاية حسب ما يجوب مخيلته...
كان أوّل يوم أستقل به الباص حين رأيته لأول مرة ، يرتدي معطفا شتويا رثّا، وكوفية مهترأة متسخة، ملتحيا، وشبه حافي ، صعد الى الباص وحاول الجلوس ، فصرخ به السائق وسط أمتعاض الركاب من مظهره ، ورائحة سيجارته الكريهة.
إنزل يا حاج !
أنا ذاهب الى حيفا ! أليس هذا باص حيفا؟
لا يا حاجّ، هذا باص نابلس
إذا ، خذ كل نقودي وأوصلني الى حيفا.
د س يده في جيبه ليخرج حفنة صغيرة من النقود تصدّق بها فاعلو الخير.
نهره السائق ، ألم أقل لك أنه ليس باص حيفا، هيا إنزل !
نزل يولول ويهذي ويلعن لماذا الناس أشرار؟ لماذا لا يقبل أحد أن يوصلني الى حيفا؟
إشتغل محرك الباص و إنطلقت الرحلة ، وإنطلق السائق يحدّث ركاب المقاعد الأولى عن المجنون الذي كلما شاهد باصا قفز بداخله يريد العودة الى مدينته التي جنّ بحبها.
أحدهم أخبره أن يذهب الى شارع حيفا ، ويسير شمالا ، ومشى الى أن وصل الى منطقة كلها أسلاك وأشواك فنهره الحراس المدججون، وعاد خائبا غاضبا، وثاني ، أن ينتظر في كراج حيفا وفعل، وظل أسبوعا كاملا دون أن ياتي الباص لنقله وعاد مقهورا ، أمّا الثالث ، أن ينتظر قطار النقل العثماني وظل أياما متوقفا في المحطة التي إندثرت وتشتت ركابها ومعها غاب القطار وتلاشت سـكة الحديد.....
تعرفت إليه أياما قليلة كانت كافية لمعرفته الدهر كله ، انّه العم منصور، يعرفه كل سكان المدينة ، منذ أن هاجر إبنه الى أمريكا ، أصابته حالة جنون حيفا، فهو من هناك عاش طفولته يرعى الأوز ويصطاد الأسماك ويلهو في غدير المنسي ، وبعد ذلك حدث الذي كان..... ليجد نفسه يعشش في خيمة ليربي فراخه و ينسج الشوك ليفترشه ، ويحفر الصخر ليقتات ، ويقاسي قسوة الحياة ليعيش ....
شديد الشبه بجدتي ، عذب الحديث مثلها ، رقيق القلب،واسع الثقافه رغم شروده وجنونه ، كانت جدتي تخفي مفتاحها الحديدي القديم الثقيل في عبّها ، أمّا هو فيحفظه في حزامه، وكانت دائمة البكاء والهذيان الى أن إنحبست دموعها بصمت للأبد ، وكنت صغيرا عن إدراك معاني كلماتها وفهم وجعها،أما الآن، أنّي كبير لحد إدراك وجعه ، وإستيعاب مأساة جدتي وكل الجدات.
كل البيوت منزله ، وكل الأرض ملك له ينام حيثما شاء، لكنه كالطير المفجوع بعشه لا غصن يستقر به ولا وكر به ينام ، دائم التنقل والتجوال، يبحث عن شيء فقده لا يدرك أين هو أو ما هو ؟
لم يات بالأمس ، ولم ينتظرني كعادته، واليوم كذلك عدت خائبا بعد أن علّقت له طعامه ،ووضعت فنجان القهوة في نفس المكان ، هل ذهب الى حيفاه ؟ لكن! بينه وبينها طريق طويل مرصوف بالاشواك وألأسلاك و الحكايات ، وقد وعدته أن آخذه اليها حين يكمل لي الحكاية ، لأتعرف الى مدينته الساحرة التي فتنت روعتها كل المدن والموانئ والبلدان وفاق عبق برتقالها وياسمينها كل الورود ، فقد أحببتها من كثرة ماوصفتها جدتي والحاج منصور بأدق التفاصيل .
أراقب السهول والجبال تستقبل الصباح على جانب الشارع الجبلي الملتوي ، محاولا أن أتناسى ذكرى جدتي التي داهمتني بلا سابق إنذار وبداخلي أتوجس سوءا حلّ بصديقي ، لم يغيبه عني سوى صعب الصعاب .
بالأمس ذهبت الى المستشفى الحكومي ، وعيادة الوكالة حيث يتعالج الفقراء، ولم أجد له إسما بين المرضى ، كذلك ، قصدت مقر البلدية حيث عمال التنظيف ، لا سمح الله إن حلّ به مكروه يجدون الجثّة باكرا في أحد الشـوارع ، لكن أجمع الجميع على إختفاء أثره منذ يومين .
حاولت أن أشغل نفسي من جديد بإعادة ترتيب كتبي الجامعية ، ولكني أنتبهت أني إقتنيت جريدة الصباح بالرغم من روتين الأخبارالممل ، فتحت الجريدة ،وفي أسفل الصفحة الأولى هزني الخبر،إنتزع قلبي خبر دهس سائق مخمور لعجوز مختل عقليا مجهول الهوية ، يحمل في جيبه مفتاح كبيرا قديما في أحد شوارع حيفا..... إنه هو ، كيف وصل الى هناك؟ إمتطى الغيوم ؟ أم صنع جناحين وطار؟أم حفر الصخر بأظافره وشق طريقه الى مدينته ؟
نوما هنيئا يا جداه ، لتخلد بسلام في راحتك الأبدية بين ثراها الطهور ، وروحك تحوم في سمائها بين النجوم لتباركها... لكن ، لم رحلت عنّي بعد أن وجدتك؟ هل أحببت حيفاك أكثر من حبك لي يا صديقي؟ كم تسربلت دموعي فهي قليلة وكم حزنت فلن أوفيك ........ كثيرون هم المجانين ولكني لم أر على شاكلتك أحدا ، عشت فقيرا وحيدا ومت شهيدا لحلمك الذي أوصلك الى حيفاك بأي وسيلة لا أدري ، ليتني أستطيع الوصول اليك يا جدّي الرائع ، كي أدفنك كما يليق ، وأزرع فوق قبرك شجرة نخيل وغرسة زيتون لتكبرا ربيعا تلو ربيع وتزورهما أسراب السنونو واليمام ...



#عبلة_الفاري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إن كنت تبحث عني
- إبن الشاطئ


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبلة الفاري - مجنون حيفا