كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 2899 - 2010 / 1 / 26 - 10:58
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
وأخيراً نشرت موازنة 2010 العراقية في بغداد ولم تقر حتى الآن, كما صادقت حكومة الإقليم على ميزانيتها لنفس السنة. ولم يتم حتى الآن إقرار الموازنتين من مجلس النواب. ولهذا سيكون مفيداً مناقشة هاتين الميزانيتين في محاولة لمعرفة المضمون الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهما من خلال ما توفر من معلومات شحيحة.
يشبَّه علماء الاقتصاد والإحصاء في الغرب الإحصائيات التي تنشرها أجهزة الإحصاء في الكثير من دول العالم, وخاصة الدول النامية, بمايوه السباحة البكيني, فما يُظهر من جسم المرأة كثير, ولكن ما لم يكشف عنه هو الجوهري. وهكذا هي حالة الميزانيتين في بغداد وأربيل. ومع ذلك فهما يسمحان لنا أن نكشف عن طابعهما الفعلي.
كتب الصديق الدكتور صالح حسن ياسر مقالاً مهماً وجيداً عن موازنة 2010 تحت عنوان "أسئلة تبحث عن أجوبة واضحة - ملاحظات أولية حول مسودة موازنة عام 2010 - (2-2), وهي ليست ملاحظات أولية بل تفصيلية. ولهذا سأركز من جانبي على موازنة الإقليم. ولا شك في أن هناك نقاط التقاء بين الميزانيتين في الجوانب السلبية.
يردد الاقتصاديون بصواب ان السياسات المالية والنقدية هي تجسيد واقعي لمضمون ومعبر عن السياسات الاقتصادية وال اجتماعية التي تمارسها الدولة أو الحكومة في هذا البلد أو ذاك. والموازنة السنوية هي التعبير الأكثر ملموسية على مدى سنة لمضمون السياسة الاقتصادية ونهجها الاقتصادي والاجتماعي, والتي يفترض أن تكون جزءاً من إستراتيجية اقتصادية اجتماعية تلتزم بها الدولة وتنفذها عبر عدد من السنوات, وتجد تعبيرها في الميزانية الاعتيادية وميزانية التنمية. وموازنة 2010 تعبر عن الميزانيتين في آن.
وفي مقدور الموازنة السنوية عبر مؤشراتها المهمة أن تكشف بدورها عن الطابع الطبقي أو الاجتماعي والنهج الاقتصادي لهذه الحكومة أو تلك, وهي:
1. مصادر الموارد المالية المخصصة للميزانية والتي تجسد بدورها طبيعة بنية الاقتصاد الوطني لهذا البلد أو ذاك, أي مدى تنوعه وتقدمه أو مدى تشوهه وتخلفه.
2. اتجاهات توزيع تلك الموارد السنوية على حقلين جوهريين حقل التراكم وحقل الاستهلاك, ومن ثم كيف يوزع التراكم على القطاعات الاقتصادية المختلفة, وكيف يوزع الاستهلاك بين الاستهلاك الفردي والاستهلاك الاجتماعي وسبل توزيع هذه الموارد في هذا الحقل أيضاً ولمصلحة من, ألمصلحة الفئات المنتجة والكادحة والفقيرة, أم لمصلحة الفئات الحاكمة والغنية المتخمة.
3. ثم وجهة توزيع ما يراد به تحقيق التراكم الرأسمالي, أي توزيع الموارد المخصصة للتثمير الإنتاجي بين مختلف القطاعات الاقتصادية الإنتاجية من أجل تغيير بنية الاقتصاد وتحقيق إغناء وتطوير الاقتصاد الوطني والثروة الوطنية.
4. وهل ستترك الدولة الاهتمام بالتصنيع وتحديث الزراعة وتتوجه صوب الاستيراد وتهتم باستيراد السلع الاستهلاكية, بما فيها السع الاستهلاكية البذخية التي تساهم في التفريط بموارد البلاد, في حين تهمل حقاً استيراد السلع التي تساهم في تنمية الإنتاج المحلي الذي يسهم في إغناء المجتمع والثروة الاجتماعية ويقلص البطالة ويحسن مستوى معيشة الفرد.
5. كما في مقدور الميزانية الكشف عن النهج الاقتصادي للدولة أو الإقليم في ما يخص الموقف من قطاع الدولة وموارد الحكومة والقطاع الخاص والقطاع المختلط بما يحقق التوازن المنشود في دولة تمتلك موارد أولية مهمة وموارد مالية سنوية كبيرة, ثم أين يتجه التركيز ولمصلحة من.
وحين نبحث في ميزانية الإقليم, فنحن نبحث في اقتصاد ريعي استهلاكي متخلف ومشوه وموروث من الماضي لا يختلف عن طبيعة الاقتصاد العراقي في بقية أجزاء العراق, لم يجر حتى الآن أي تغيير حقيقي ولو تدريجي في بنية هذا الاقتصاد منذ انهيار حكم صدام حسين في كردستان العراق في نهاية العام 1991 أو حتى بعد سقوط النظام في العام 2003, في ما عدا إقامة بعض مشروعات البنية التحتية. فهو لا يزال اقتصاد يعتمد على إيرادات النفط الخام وتراجع استثنائي في دور القطاع الزراعي وغياب الصناعة المحلية والتصنيع واستمرار وجود جيش من العاطلين بشكل مكشوف أو مقنع. وهو بذلك اقتصاد ريعي استيرادي استهلاكي لا يغني الثروة الوطنية بل يقلصها ولا يحسَّن ظروف حياة الشغيلة, بل يزيد غنى فئات معينة في المجتمع وفق أساليب غير سليمة بالارتباط مع الفساد المالي الذي يسود العراق كله, ومنه الإقليم. وفي مثل ها الاقتصاد يفترض في حكومة الإقليم عند وضع ميزانية العام 2010 أن تتجلى فيها خطوات عملية حثيثة وتدريجية تساهم في تغيير بينة الاقتصاد والمجتمع, تغيير الواقع المرفوض. فهل تساهم الموازنة التخمينية التي صادق عليها مجلس وزراء الإقليم للعام 2010 في ضمان بداية فعلية باتجاه التغيير المنشود أم إنها تواصل إتباع سياسات خاطئة مورست حتى الآن في العراق كله وفي الإقليم أيضاً. والحقيقة المرة تشير إلى إن الموازنتين في بغداد وأربيل تساهمان في إبقاء التخلف والتشوه في الاقتصاد العراقي وفي إقليم كُردستان. كما أن الموازنتين يعبران عن مصالح الفئات الاجتماعية المستفيدة حالياً من أوضاع الاقتصاد العراقي عموما وأوضاع اقتصاد الإقليم السيئة. إذ أن الفارق بينهما ليس جوهرياً بل شكلياً ولا يؤثر على السمات السلبية التي تجمع بين اقتصاد الجزء (الإقليم) واقتصاد الكل (العراق).
تبلغ الميزانية المخمنة للإقليم لسنة 2010 ( 11.4) ترليون دينار. خصص منها (7.9) ترليون للنفقات الاستهلاكية الجارية, و(3.5) ترليون لقطاع الاستثمار.
وهنا يبرز التناسب غير العقلاني والمضر باقتصاد كُردستان, التناسب بين الاستهلاك والتراكم 69,3 : 30,7, في حين أن كردستان بحاجة إلى المزيد من التراكمات الرأسمالية, وكان المفروض أن تكون الصورة مقلوبة, أو بتناسب آخر يميل لصالح التراكم.
وحين إمعان النظر وفق ما هو منشور من أرقام في موقع حكومة الإقليم فإنها لا تكشف عن الجوهري من الأمور, كما في حكاية "المايوه البكيني", إذ يلاحظ توجيه (2.4) ترليون دينار عراقي من إجمالي المبلغ المخصص للاستثمار لتغطية المشاريع القديمة, وهي كلها لم تكن استثمارات في القطاع الصناعي أو الزراعي الأساسي, كما لم تجر الإشارة إلى طبيعة تلك المشاريع والتخصيصات الموجهة لها والمدى الذي قطعته. ولم يبق من إجمالي المبلغ الموجه للاستثمار سوى 1,1 ترليون دينار عراقي أو ما يعادل 31,4% والتي وزعت على النحو التالي:
** (350) مليار دينار لصندوق هيئة الاستثمار ودعم بناء وحدات سكنية.
** 150 مليار دينار لبناء مدارس.
** 50 مليار للمصرف الزراعي.
** (30) مليار دينار للمصرف الصناعي.
من هنا يتبين أن الدولة لم تخصص أي مبلغ حقيقي للتنمية الصناعية والزراعية في قطاع الدولة أو القطاع التعاوني, بل وجهت المبلغين المحدودين إلى المصرفين الصناعي والزراعي لأغراض التمويل الخاص عبر القروض والمساعدات. الخلل ليس هنا, بل الخلل في إهمال قطاع الدولة وفي قلة الموارد المالية التي يفترض أن توجه لهذين القطاعين. وهذا يعني أن الاقتصاد الكردستاني سيبقى متخلفاً ومشوهاً في بنيته وتابعاً للاستيراد الخارجي ومكشوفاً بشكل كامل على جيرانه والعالم وفاقداً للقدرة على التشغيل في القطاعات الإنتاجية التي تحقق التراكم الرأسمالي الضروري والمشارك في إغناء الثروة الوطنية والمحفز للنمو الاقتصادي الأكثر استقراراً والأكثر ازدهاراً.
إن اقتصاد كُردستان بحاجة إلى تثمير إنتاجي أولاً وقبل كل شيء, وهو الذي ينمي الاقتصاد ويغير بنيته ويشغل العاطلين عن العمل ويرفع من مستوى الدخل الفردي والدخل العام ويساهم في تغيير بنية السكان وفي تنمية الوعي ويوفر أرضية صالحة لنمو المجتمع المدني والخروج من المجتمع العشائري الفلاحي المتخلف, رغم قلة الفلاحين في ريف كردستان.
كلنا يعرف أن النظم السابقة لم تهتم بالاقتصاد الكردستاني وأهملته, ولكنها أهملت أيضاً الكثير من مناطق العراق الأخرى. وقد كانت هذه السياسة محور نقد شديد من قوى المعارضة العراقية بمن فيهم قادة الحزبين الحاكمين, الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, وكذلك موضع نقد بقية قوى المعارضة السياسية حينذاك, ولكن السؤال العادل هو: لماذا لا يبدي أبناء وبنات كردستان, وهم في الحكم, اهتماماً أكبر وأفضل بتطوير اقتصاد كردستان؟ ولماذا يجري الإصرار على إهمال قطاعات الصناعة والزراعة والطاقة حيث يجبر الإقليم على استيراد الطماطة والفجل والعنب وكل ما كان ينتج بكميات كبيرة في إقليم كردستان العراق؟ هذه ليست (حزورة) فزوره. فقد وصلت القوى المعارضة إلى السلطة وكان عليها ممارسة السياسات التي لم تمارسها النظم السابقة وكانت تطالب بها والتي نكتشفها في أدبيات أحزاب المعارضة العراقية عموماً والكردستانية منها خصوصاً.
عند متابعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية لإقليم كردستان العراق لا نجد دليلاً واحداً على اختلاف في جوهر السياسات الاقتصادية التي كان ولا يزال لزوم تغييرها لتساهم في تغيير طبيعة الاقتصاد الكردستاني وتستثمر موارد النفط المالية وكمادة خام في التنمية الصناعية والزراعية وليس في صرف الأموال على المزيد من الاستيراد الاستهلاكي والبذخي الذي يفرط بالموارد المالية ولا يساهم في تنميتها.
لم يكشف المبلغ المخصص (350) مليار دينار عراقي لصندوق هيئة الاستثمار ودعم بناء وحدات سكنية عن شيئين مهمين فيه, وهما: ما هي تلك المشاريع أولاً, وكيف كان عمل هذه الهيئة قبل ذاك ثانياً؟ إن المبالغ الموجهة لبناء المدارس ليست كثيرة ولكنها ضرورية, والسؤال الذي يفترض أن تجيب عليه السياسة الاقتصادية للحكومة هو من سيحصل على عقود بناء هذه المدارس وغيرها؟ وهل ستجري بطريقة المناقصة السرية أو ستوزع كما في الماضي وفق إرادة المسؤولين واختياراتهم؟ وما هو الموقف من المنافع والخدمات الاجتماعية الأخرى الضرورية للمجتمع مثل الصحة والاتصالات وتحديث بنية أجهزة الدولة ... الخ.
دعونا نتابع جانباً آخر في الموازنة التخمينية للإقليم.
خصصت حكومة الإقليم مبلغاً قدره 90 مليار دينار عراقي أو ما يعادل 76,9 مليون دولار أمريكي لمساعدة الأحزاب السياسية, يذهب منه أكثر من 60 مليون دولار أمريكي للحزبين الحاكمين والباقي 17 مليون $ أمريكي يوزع من حيث المبدأ على بقية الأحزاب والمنظمات. أي بنسبة 86,7 : 13,3. وهذا المبلغ الكلي يزيد عما هو مخصص لقطاعي الصناعة والزراعة في إقليم كردستان. فمجموع المبلغ المخصص للأحزاب والصناعة والزراعة هو 170 مليار دينار عراقي أو ما يعادل 145,3 مليون دولار أمريكي ونسب التوزيع هي 52,9 % للأحزاب السياسية, و47,1% للمصرفين الصناعي والزراعي. وهو أمر لا يمكن أن يفهم من اقتصادي عراقي يدرك المشكلات التي يعاني منها اقتصاد الإقليم, كما يفترض أن لا يقبل به أي سياسي يعي مسؤوليته في تغيير بنية الاقتصاد والمجتمع في الإقليم ويكافح البطالة والفقر.
منه يمكن أن نشير إلى أن نسبة مهمة من الإنفاق الجاري لا تذهب إلى الخدمات الاجتماعية الضرورية بل إلى جهات ووزارات خدمية غير معنية بالتنمية أو بالخدمات الإنتاجية أو الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والتنويرية ...الخ.
من هنا يمكننا القول بأن الموازنة التخمينية للإقليم تتميز بما يلي:
1. إنها ميزانية ذات طبيعة طبقية مشوهة وبعيدة كل البعد عن خدمة مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة والمنتجة, وهي بالتالي تخدم مصالح التجار المستوردين والمقاولين والشركات الأجنبية العاملة في الإقليم والفئة البيروقراطية, سواء أكانت حزبية أم إدارية.
2. وهي ميزانية هادرة لموارد الإقليم وغير منمية للدخل القومي, كما أنها سياسة تفتقد إلى الرؤية الاقتصادية الإستراتيجية ولا تساهم في إزالة التشوه ولو تدريجاً وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.
3. وهي تنطلق من ذهنية لبرالية جديدة قاصرة عن وعي الواقع القائم في كردستان وضروراته, ولكنها مشوهة وفاقدة لفهم طبيعة ومضمون هذا النهج اللبرالي الجديد في السياسات الاقتصادية, إذ أنها لا تجسد حتى مصالح الطبقة البرجوازية المتوسطة في المجتمع والبرجوازية الصغيرة, دع عنك أهمية نمو طبقة عاملة منتجة للدخل القومي. إن من يدافع عن اللبرالية الجديدة لا يعي عواقبها الوخيمة على الاقتصاد والمجتمع في البلد النامي, رغم اتهامه للاقتصاديين الآخرين بأنهم لا يعون مضمون اللبرالية الجديدة رغم كل الكوارث التي تسبب بها سياسات اللبرالية الجديدة على الصعيد العالمي, وكأنه الوحيد الذي يفهم ميكانزم (آليات عمل) هذا النموذج الاقتصادي الرأسمالي الاستغلالي المتطرف والمناهض لمصالح شعوب الدول النامية, ومنها العراق, ومنه إقليم كردستان!
4. وأن هذه الميزانية مستنزفة لموارد النفط المالية وتبقي التشوه في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوعي الاجتماعي ولا تستخدم النفط الخام كمادة أولية لأغراض التصنيع المحلي وبالتعاون والتنسيق مع حكومة بغداد.
أتمنى على مجلس النواب في الإقليم أن يدرس هذه الميزانية التخمينية ويجري تغييرات جذرية عليها وفق مصالح تطور اقتصاد ومجتمع الإقليم, وخاصة تلك الفئات الاجتماعية التي كانت وراء انتصار قضية الشعب الكردي, تلك الفئات الكادحة التي كانت وقود الثورة الكردستانية على مدى ثمانين عاماً. وأتمنى على حكومة الإقليم أن تعيد النظر بهذه الموازنة لصالح شعب كردستان وتقدمه ولصالح العراق عموماً.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟