|
غواية الثورة
احميدة عياشي
الحوار المتمدن-العدد: 2874 - 2009 / 12 / 31 - 21:39
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
في 1930 احتفلت فرنسا الكولونيالية بمرور قرن على احتلال الجزائر•• صدمة الاحتلال الراديكالي تحولت في المخيال الجديد المنتصر إلى نشوة إنجاز حضاري•• بلد وشعبان•• شعب خليط وافد بالقوة راح يشكل هويته الجديدة على أنقاض هوية مخربة بشكل منظم، ومسلوبة بقوة السلاح، وعنف القانون، قانون المنتصر•• الاستعمار يحتفل بعيد ميلاده المائة•• العنف يحتفي بنفسه كلحظة تأسيس متجددة، وكمؤسسة عنفية توتاليتارية شاملة وكلية الأبعاد والآفاق•• نمط التأسيس كان رأسماليا ذا طراز كولونيالي، قام على نزع الأرض، واستئصال المقومات الرئيسية المشكلة للمعنى الهوياتي الفردي والجماعي•• خرجت المقاومات الجريحة من دائرة الراهن وراحت تزحف تحت وقع الهزائم والانكسارات إلى منطقة الذاكرة الصامتة، المنطوية على نفسها، والمنحدرة نحو بؤر الظلام الصاخب•• شعب ظافر في المركز يبحث دون هوادة عن وحدة، عن روح جديدة، عن هوية قائمة كوضع قائم وعن وطن ناشئ وجديد، وشعب في قلب الأطراف، يئن، يبحث عن إعادة بناء ملامحه، وعن إعادة بناء صوته عبر محاولات التأقلم مع منطق المنتصر حينا، وعن محاولة إبداع المقاومة حينا آخر•• الصراع الجديد الذي انبثق هو صراع بين نوعين إنسانيين كما يقول فرانز فانون، وتكمن دلالة محو الاستعمار ضمن هذا التوجه للصراع بين النوعين•• إن محو الاستعمار على أي مستوى درسناه، سواء كان مستوى لقاء الأفراد بعضهم ببعض، أم مستوى تسمية النوادي الرياضية بأسماء جديدة، أم مستوى التشكيل الإنساني لحفلات الكوكتيل وأجهزة الشرطة ومجالس إدارة المصارف القومية أو الخاصة، إنما هو إحلال نوع إنساني محل نوع إنساني آخر، إحلالا كليا، كاملا، مطلقا، بلا مراحل انتقال • نحن هنا أمام حالة كولونيالية جديدة تشكل استثناء، من حيث الجوهر والبنية والآليات والشكل والخطاب، وبالتالي من حيث التشكيلة النوعية وتوجهات الخطاب إذا ما قارناها بالكولونياليات الأخرى وبنفسها في مناطق أخرى في إفريقيا•• وهذا الاستثناء تخطاها إلى نقيضها، إلى طبيعة المقاومة نفسها لهذا الطراز من الكولونيالية•• لقد تشكل نجم شمال إفريقيا في المهجر الفرنسي على يد مصالي الحاج بخمس سنوات فقط قبل الاحتفال المائوي باحتلال الجزائر، ورأت جمعية العلماء المسلمين النور سنة واحدة بعد العام 1930، وجاء محمد بوخروبة (هواري بومدين فيما بعد) عامين بعد ذلك••• ولد محمد بوخروبة بضواحي مدينة فالمة في 23 أوت 1932، وتنحدر أصول والده من عرش بني خطاب بمنطقة جيجل، لا نعرف الكثير عن الصلة التي كانت تربطه بوالده إبراهيم بن عبد الله، ووالدته تونس بنت محمد بوخزيلة•• لقد كان محمد بوخروبة متكتما، لا يتحدث إلا نادرا عن طفولته•• وهو في هذا الشأن لا يختلف عن أبناء جيله الذين كانت العلاقة بينهم وبين الأب، تشوبها القداسة المرادفة للصمت•• وهذا النوع من القداسة يكشف عن تلك الثقافة السائدة داخل الأسرة، ثقافة تقوم على تبجيل الذكر، وإلغاء الطفولة كونها تعبر عن الضعف والعجز والارتباط بحضن الأم•• كان لمحمد بوخروبة أربعة إخوة وثلاث أخوات، وكان الوالد ابراهيم بن عبد الله، ينتظر من ابنه محمد معجزة، وهذه المعجزة لا يمكن أن تتحقق إلا بالعلم، معجزة أن يكون رجلا، وأن يحقق ما عجز الوالد عن تحقيقه، يكون عالما دينيا؟! يكون موظفا في الإدارة الكولونيالية؟! على أية حال، كان الحلم بالثورة غائما وبعيد المنال• تردد مثل أترابه على الجامع وبالتالي حفظ جزءا من القرآن، وكان حفظ القرآن، هو التمكن من هذه السلطة الرمزية وهي اللغة العربية التي تعرضت للقمع والحصار الكولونياليين• كان الإقبال على الجامع شكلا من أشكال الدفاع عن الوجود وحماية الذات في الحاضر والمستقبل، وعندما بلغ 15 من عمره انتقل محمد بوخروبة إلى عاصمة الشرق قسنطينة، وانضم إلى مدرسة الكتانية بدل الانضمام إلى المدرسة التي تشرف عليها جمعية العلماء المسلمين، هل كان الانضمام مبنيا على تفكير وتدبير وبالتالي اختيار، أم كان مجرد صدفة؟! هل كان الوالد ابراهيم بن عبد الله وراء الاختيار؟! إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، يعني أن الوالد كانت ميوله نحو الحركة الوطنية الراديكالية التي كان يقودها مصالي الحاج، لأن الكتانية، والتي كانت عبارة عن مدرسة (تأسست منذ عهد الباي صالح،) قريبة من الوطنيين الراديكاليين الذين كانوا يجهرون برفضهم السافر للاستعمار وانخراطهم المباشر في النضال السياسي الشعبوي المنادي بالانفصال عن فرنسا، وبالاستقلال التام، وهذا عكس جمعية العلماء المسلمين التي اختارت طريقا آخر ومغايرا عن الاستقلاليين•• لقد كانت الجمعية تركز على التربية، وعلى إعادة تكوين الفرد الجزائري•• وذلك من أجل المحافظة على شخصيته الإسلامية لكن ضمن الأطر الشرعية والسياسية للوضع والنظام القائمين• استمر محمد بوخروبة طالبا في الكتانية إلى غاية 1949، ثم انتقل بعدها إلى جامع الزيتونة بتونس، لكن القلب كان في القاهرة• في بداية الخمسينيات، كانت القاهرة مكة المتعلمين وقلعة الناشطين السياسيين والثوريين وساحة معارك الأفكار والإيديولوجيا• فمنذ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وطه حسين وعباس محمود العقاد وحسن البنا تحولت القاهرة إلى علامة جذرية في تشكل الوعي العربي والإسلامي الجديدين، وذلك من خلال الدور الجديد للنخب الناشئة التي راحت تجرب كل الأشكال والأساليب من أجل تحقيق قفزة الخروج من ظلام العبوديات وإنجاز الحرية التي تتجاوز حرية الأفراد إلى حرية الشعوب، وبالتالي تأسيس عهد جديد من حياتها، يقول طه حسين وقد شعرت، كما شعر غيري من المصريين، بأن مصر تبدأ عهدا جديدا من حياتها إن كسبت فيه بعض الحقوق، فإن عليها أن تنهض فيه بواجبات خطيرة وتبعات ثقال••• فنحن نعيش في عصر من أخص ما يوصف به أن الحرية والاستقلال فيه ليستا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى وأشمل فائدة وأعم نفعا • كان للزيتونة حدودها، هكذا شعر الفتى محمد بوخروبة، وهو يريد أن يتجاوز هذه الحدود إلى مكان أرحب، إلى مكان يوفر له سلاح المعرفة، ويوفر له الوصول إلى القوة، لكن القوة من أجل ماذا؟! الفكرة التي كانت تسكن وجدان محمد بوخروبة رغم وضوحها وبساطتها كانت مشوبة بالغموض• كان موزعا بين الحركة والفعل، وبين التأقلم مع المعطى القائم وبين تجاوزه بحثا عن الجديد الذي لم تكتمل ولم تتضح صورته بشكل جلي وفعلي•• عليه أن يغامر ويصل إلى القاهرة•• وهكذا اتخذ القرار ذات يوم عندما التقى بسائق شاحنة كان يتجه إلى الصحراء الليبية•• سأله السائق، لماذا تريد أن تذهب إلى القاهرة، فرد الفتى محمد بوخروبة من أجل العلم !! وصل محمد بوخروبة إلى القاهرة في العام 1951، أي سنة قبل قيام جماعة الضباط الأحرار بانقلابهم على الملك فاروق• (جاء من أجل العلم أم من أجل الثورة؟!)• حوالي خمس سنوات سيقضيها الفتى بمصر، وستكون هذه السنوات حاسمة في حياته، لقد تمكنت منه غواية الثورة•• وتعرف في القاهرة على القادة السياسيين لحركة التحرر الوطني في مكتب المغرب العربي، وتابع عن كثب صراعات جمال عبد الناصر مع الإخوان المسلمين، واقترب من أولئك الجزائريين الذين كانوا يحلمون ويخططون للثورة انطلاقا من القاهرة•• هنا في القاهرة رأى بأم عينيه القومية الناصرية وهي تتقدم المعركة الإيديولوجية والسياسية ضد الكولونيالية ذات الوجوه المتعددة•• وكان السؤال الحاسم في حياته•• ما العمل لاستعادة وطنه؟! ما العمل لاستعادة الحلم الذي كان يتغلغل في أعماقه، لكنه كان محاصرا بالضباب والإبهام؟! وكان الجواب، بمقدار وضوحه، مفتوحا على المغامرة الكبرى•• مغامرة يتنازعها الهاجس الرومانسي والغواية الثورية•• لا مكان للفظ الثوري، ولا للغة الثوروية•• لا مكان لمنطق المساومة الذي درجت عليه سياسات المناضلين المحترفين في الحركة الوطنية الجزائرية•• لا مكان لأنصاف الحلول••• الحل الوحيد في العمل المسلح•• كان القرار قد اتخذ••• لم يعد الشك أو التردد يملأ أي جزء من أجزاء نفس وفكر الفتى••• كان الفتى محمد بوخروبة من بين الفتيان الخمسة عشر الذين وقع عليهم نظر واختيار أحمد بن بلة الذي كان مقيما في القاهرة ليتلقوا الدروس العسكرية في المدرسة الحربية بالأسكندرية••• وفي 1955، كان الفتى الصموت قد اختار الثورة على المعرفة•• قد اختار المغامرة الثورية على البقاء في القاهرة•• دخل إلى الجزائر للانخراط في الثورة على متن اليخت ديانا الذي كان ملكا للملكة الأردنية•• اكتشف فيه عبد الحفيظ بوصوف قائد الولاية الخامسة، أنذاك فتى ذا تصميم وقوة ورباطة جأش•• فتى مؤمنا حتى النخاع بالثورة التي كانت في عامها الأول••• كان الفتى مؤمنا بفكرة واحدة ووحيدة، هي تغيير الوضع و تغيير نظام العالم وهذا التغيير الشامل لنظام العالم، لا يحدث إلا من خلال إزالة الاستعمار•• وقد تبدو هذه الإزالة لأول وهلة برنامج فوضى مطلقة ، لكنها في حقيقة الأمر هي عملية تاريخية و نزال بين قوتين متعارضتين أساسا، قوتين تستمد كل منهما صفتها الخاصة من ذلك التكوين الذي يفرز الظرف الاستعماري ويغذيه وهذا النزال إنما يتم أو تم على مسرح التاريخ، تحت شعار العنف المزيل لعالم عتيق والخلاّق لعالم آخر•• احميدة عياشي مدير عام صحيفة الجزائرنيوز
#احميدة_عياشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بومدين وكاتب ياسين- الثورة واليوتوبيا -
-
بومدين -محاولة اقتراب من الصورة -
-
يااهل مصر -نحن لا نكرهكم- وانتم ؟
المزيد.....
-
في السعودية.. اكتشاف أول من نوعه لقرية أثرية من العصر البرون
...
-
مستشفيات لبنان في مرمى النيران مع احتدام الحرب.. شاهد ما كشف
...
-
إصابة 3 أطفال جراء إلقاء طائرة مسيرة إسرائيلية قنبلة على عيا
...
-
بعد -الخط الأول-.. الجيش الإسرائيلي أمام خيارين في لبنان
-
-الناخبون يواجهون أسوأ اختيار رئاسي في تاريخ الولايات المتحد
...
-
إسبانيا تحت الصدمة.. استمرار البحث عن الجثث بعد الفيضانات ال
...
-
فضيحة أمنية تهز إسرائيل: وثائق مسربة من مكتب نتنياهو عثر علي
...
-
جيمس آرثر بلفور المشؤوم
-
-كتائب القسام- تعلن مقتل وجرح عناصر قوة إسرائيلية في تفجير م
...
-
معاريف عن الجيش الإسرائيلي: الكوماندوز البحري نفذ إنزالا في
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|