أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - سيكولوجية الخضوع 2















المزيد.....


سيكولوجية الخضوع 2


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2824 - 2009 / 11 / 9 - 16:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في عام 1933 تمكّن إنسان واحد من إيهام شعب بأكمله على أنه أرقى الشعوب وأفضلها. كان ذلك الشخص يدعى "أدولف هتلر" عندما عيّنه الحزب النازي رئيساً للوزراء في ألمانيا. كيف حصل ذلك؟ ما الذي جعل شعب مكوّن من عدّة ملايين من البشر يتبعه ويستمت من أجل تحقيق أحلامه وآماله الشخصية المجنونة؟

في الجزء الأول من هذا البحث تناولت موضوع الخضوع لسلطة عليا أو مرجعية مهما كان نوعها، حيث لا يمكن للفرد التخلّص من سطوة هذه السلطة أو المرجعية مهما حاول، حيث أنها لا تكبّله بأغلال معدنية أو تأسره في سجون وزنازين حجرية، إذ لا حاجة لذلك، بل إنها تضع الفرد في سجون عقلية وتضع في رأسه أغلال ذهنية لا يستطيع الإفلات من سطوتها _على الأرجح أنه لن يحاول الإفلات حتى لأنها يحقنه بنفس الوقت بمواد مخدّرة للعقل بحيث يصبح الإنسان عاجزاً عن معالجة الأمور والمسائل التي تعترضه خلال حياته، وبذلك يصبح أسيراً لتلك السلطة وعبداً لها، ولا يستطيع النجاة في هذا العالم إذا ابتعد خارج حدود مرجعيته التي تحكمه في كافة نواحي حياته.
كيف يحدث ذلك؟... ولماذا؟... ما الذي تفعله تلك المرجعيات حتى تسلب الإنسان قدرته على التفكير ومعالجة الأمور بدون الرجوع إليها والارتماء في أحضانها _ويطلق على ذلك عادةً اسم "النكوص"_ عندما يعجز عن مواجهة أبسط المصاعب والعقبات الحياتية التي تواجهه؟ كيف تسيطر السلطة الدينية أو السياسية أو التربوية أو أياً كان نوعها على العقل البشري وتسيّره حسب مشيئتها، ثمّ تجعله ينفذ إرادتها من دون رفض، أو مجرّد السؤال؟
أحد أهم الطرق الرئيسية في تنفيذ ذلك هو ما يطلق عليه اسم "الإيحاء" بمعناه العام والشامل.
ما هو الإيحاء؟... وكيف تتمّ السيطرة على العقول من خلاله؟... وما علاقته بالسلطة والدين؟
..................................
كنّا في السنة الدراسية الثانية، وكنا جالسين كمجموعة في المقهى بالجامعة نتناقش في مواضيع في السياسة والدين، أذكر أنّه كان هناك خلاف في المجموعة فيما إذا كان للدين دور كبير في برمجة أتباعه على الإرهاب والانتحار، أم أنّها أعمال فردية لا تتعلّق بالدين، وليس لها أية صلة به.
كنت قد طرحت تساؤلاً على أصدقائي: "كيف لأحدٍ ما أن ينتحر أو يفجّر نفسه من اجل تحقيق أهداف لا تتعلّق به، أو من أجل إثبات فكرة مجرّدة لا يمكن إثباتها، ما هي المراحل التي مرّ بها هذا الشخص حتى يصل إلى المرحلة التي بات فيها مقتنعاً بأنه سيقتل نفسه ويقتل الآخرين من أجل هذه الفكرة".
لا أعتقد أنّ أحداً أجابني في ذلك الوقت جواباً عقلانياً منطقياً يمكن اعتماده كحل. إذن ما الذي كان وراء ذلك؟!!
إنه الإيحاء.
...............................
الإيحاء Suggestion هو عملية دفع شخص معيّن على السلوك وفق رغبات شخص آخر دون أي نقد أو تمحيص. وهناك أنواع من الإيحاء أهمّها: الإيحاء العاطفي، وهو الإفادة من آراء أشخاص معيّنين من أجل التأثير على الأشخاص الآخرين، ويستعمل هذا النوع من الإيحاء بشكل خاص في مجال الإعلانات والقضاء. تخيل أنك ضمن محكمة قد عقدت للنظر في قضية شخص قد يحكم عليه بالإعدام، وأنت من بين المحلّفين الذين سيقرّرون مصير هذا الشخص. يتوجّه إليك محامي الدفاع بما لديه من مهارات خطابية، وتنصت أنت والمحلّفون الذين أنهككم التعب والجوع بعد محاكمة طويلة. إلاّ أنّ المحامي يتابع مرافعته محاولاً إقناع القاعة أنّ ذلك المتهم قد عاش حياةً صعبة، وأنه كان ضحية الأوضاع والظروف المعيشية، وأنه من أب سكير، وأم سكيرة، وشجار، وشقاء، وخلافات... ثمّ يصرخ المحامي بأعلى صوته "فكّروا جيداً سادتي المحلّفين، في الطفولة الشنيعة التي عاشها هذا الرجل، وأصدروا حكمكم بالبراءة", وعندئذٍ يصيب هذا الكلام صميم انفعالاتك ومشاعرك، ذلك أنك قد تذكّرت طفولتك التي تشبه طفولة هذا الرجل، وتذكّرت طفولتك البائسة، وشقائك. تصدر حكمك على الرجل بالبراءة، وذلك لأنّ كلام المحامي قد نفذ إلى مشاعرك ولامسها، أمّا المنطق والعقلانية، فقد خرجا من الباب مثلما دخلا.
يتوجّه الموحي إلى عقل الموحى إليه إذا أراد إقناعه بفكرة ما، حيث أنه يحاول الحصول على موافقته الإرادية والشعورية. إذ أنّ الشخص الموحي إليه بدوره سيوافق من فوره ما أن يقتنع أنّ الموحي على صواب وأنّ فكرته صحيحة.
غالباً ما يكون الإيحاء مرتبط بالإقناع، إذ أننا نلحظ معالمه عند الكثير من الحيوانات والحشرات في الطبيعة، فهناك الرقصات الإيحائية التي يؤدّيها كافة الكائنات الحيّة أمام شركائها من الجنس الآخر بهدف إقناعها بالتزاوج معها.
ولكن علينا أن نميّز بين الإيحاء والإقناع، فالإقناع يحدث نتيجة مناقشة منطقية وواعية، حيث يكون كل عقل منفتح على الآخر، ومحصّن من كافة ضروب الخداع والإيهام. بينما الإيحاء فهو حادث يقبله الآخر من دون محاكمة عقلية أو مناقشة منطقية، حيث أنه يتوجّه إلى اللا شعور مباشرةً ويضغط على الأزرار العصبية الداخلية. فلكي يتمّ التأثير على أي شخص من خلال الإيحاء الإيجابي يجب التوجّه مباشرةً إلى خاصية/ قابلية الإيحاء لديه، لذلك لابدّ من اختراق دفاعاته الشعورية الواعية والمتيقّظة، والمساس بمراكزه العصبية اللا شعورية. وهذا ما يستلزم ظروفاً خاصّة حيث ينبغي إزالة دفاعات العقل والإرادة ودفعها جانباً، وعندما تزول إمكانيات المقاومة الإرادية، يقع الإنسان فريسة الإيحاء والوهم.
أمّا قابلية الإيحاء فهي استعداد نفسي يسمح بإطاعة الأوامر الصادرة طاعة تتصف بأنها بمنتهى السهولة ولا تخضع للمناقشة.
وقد تنشأ قابلية الإيحاء من السذاجة والبساطة، ويشكّل الأشخاص الذين يصدّقون كلّ شيء أهدافاً سهلة المنال للوقوع فريسة الوهم والإيحاء. كما أنّ قابلية الإيحاء تتجلّى في بعض الاضطرابات النفسية البسيطة مثل التعب الشديد، والإنهاك العصبي، والمستفحلة كضروب الذعر الجماعي، وحالات فرط الانفعال _كما حصل معك خلال جلسة المحاكمة.
..................................
يعرف القادة الدينيين أو السياسيين قوة الإيحاء هذه حق المعرفة. فقد حدث عام 1978 في قرية صغيرة في غويانا أن أقدمت مجموعة صغيرة من الناس على الانتحار بتجرّع مزيج سام من بعض المواد الفتّاكة، وذلك بإيحاء من قائد المجموعة "جيم جونس" الذي أمرهم بالإقدام على هذا الانتحار الجماعي. لم نعرف _وقد لا نعرف أبداً_ ما كان يدور في خلدهم عندما نفّذوا عملية الانتحار تلك، وجلّ ما نعرفه أنهم أقدموا على ذلك تطيقاً لأوامر وتعليمات قائدهم، حيث أنهم تجرّعوا السم وهم بكامل إرادتهم وقواهم العقلية.
قد يطابق الإيحاء فكرة كامنة في أعماق الفرد، ولنتأمّل الشخص الخجول الذي يدخل لحضور فيلم سينمائي مشوّق _ولنفترض أنّ هذا الفيلم سيثير عواطف ومشاعر هذا الشخص_ فعندما يخرج سنلاحظ أنه يقلّد شخصيّة بطل الفيلم الذي أثّر على مشاعره، إنه يقلّده ويشعر بأنه قد تقمّص شخصيّته. لقد وقع هذا الشخص تحت تأثير الإيحاء، حيث أنّ بطل الفيلم قد أيقظ في داخله عاطفة لا شعورية: عاطفة تعوّضه عن عقد نقصه وضعفه. فالإيحاء فكرة تدخل إلى الدماغ، حيث يقبلها من دون تردّد.
....................................
شروط الإيحاء:
الشرط الأول للإيحاء أن يتلائم مع عاطفة الشخص الموجودة مسبقاً في لا وعيه والتي بإمكانها خلق الدافع وتحريكه. ثمّ يتبع ذلك الشرط الثاني للإيحاء وهو أنه لا يجب أن يحدث أي رفض للإيحاء، وقد لاحظنا من قبل أنّ الحالات التي تهيّئ الشخص لتقبّل الإيحاء هي التعب والإنهاك العصبي والنفسي وحالات الذعر والاكتئاب، وكلّما ضعفت المقاومة العقلية، سهلت المهمّة أمام الموحي للتأثير على الموحي إليه.
قام أحد علماء النفس بإجراء تجربة على مجموعة من الطّلاب في إحدى الجامعات الأمريكية، حيث قسم الطلاب إلى مجموعتين، وأخبرهم أنّ التجربة تهدف لسبر عتبة الألم عند الإنسان، ثمّ وزّع على المجموعة الأولى حبوباً حمراء اللون وأخبرهم أنّ وظيفتها تحفيز الأعصاب وأنها تزيد من عتبة الألم وتجعل الإنسان حسّاساً للغاية تجاه أي ألم يلمّ به. ثمّ وزع على المجموعة الثانية حبوباً صفراء اللون وأخبرهم أنّ مهمّتها تخدير الأعصاب وتخفيض عتبة الألم، وطلب منهم تناولها.
التجربة تنصّ على أن يجلس كل فرد من المجموعتين على كرسي مقابل العالم ويتمّ وصله بجهاز يولّد صدمات كهربائية، وجهاز آخر يسجّل مدى استجابة كل شخص للألم جرّاء تلقيه للصدمة الكهربائية.
الخدعة في التجربة أنّ الحبوب مزيفة، وأنها مجرّد حبوب نشوية خلّبية، وليس لها أية تأثيرات جانبية: بعد أن تمّ إجراء عندما دخل أول شاب من المجموعة الأولى _المجموعة التي تناولت الحبوب التي من المفترض أنها تزيد عتبة الألم_ كان مشدود الأعصاب وخائف، ما أن مرّر العالم تياراً خفيفاً حتى صرح الشاب بأعلى صوته وكأنه سيموت من الألم، وهكذا كانت حال باقي أفراد المجموعة الأولى.
عندما حان دور المجموعة الثانية _والتي من المفترض أنها تناولت الحبوب المخدّرة_، دخل الشاب ويبدو عليه الخدر والنعاس، قام العالم بصعقه بتيار كهربائي أكثر شدّة ممّا صعق به المجموعة الأولى، إلاّ أنّ الشاب لم تظهر على وجهه أية علامات للألم أو المعاناة، فقط بعض التشنّجات في يده نتيجة مرور التيار الكهربائي فيها، وتلك كانت حالة باقي أفراد المجموعة الثانية.
ما حصل هنا فعلاً أنّ أعضاء المجموعة الأولى قد أوحوا إلى أدمغتهم أنهم سيتألّمون، وبأنّ أعصابهم ستتلقى الكثير من الألم، بالمقابل، عكست أدمغتهم إيحاءاتهم بأنّ التجربة ستكون مؤلمة للغاية، وأنّ أعصابهم متحفّزة وجاهزة للشعور بالألم نتيجة تناولهم للحبوب الحمراء. أمّا عند المجموعة الثانية فقد كانت أدمغتهم مخدّرة وأعصابهم كذلك، إذ لوحظ أنّ جميعهم باتوا مخدّرين أو منتشين، وعندما كان العالم يسألهم عن أحوالهم، كان البعض يجيب أنه يشعر بلذّة ونشوة أو بالنعاس.
الأمر الغريب أنّه بعد أن كشف العالم حقيقة التجربة أمام الطلاّب لم يتمكّنوا بسهولة من التخلّص من أعراض ما بعد التجربة. فالمجموعة الأولى ظلّت تعاني من آثار الصدمة النفسية الناتجة عن شعورهم بالآلام المبرحة التي شعروا بها أثناء التجربة، ومن حسن حظّ أعضاء المجموعة الثانية أنّ آثار النشوة والخدر استمرّت لوقت أطول.
من هنا ندرك أهمية الإيحاء ودوره الكبير في السيطرة على العقل البشري، إذ جلّ ما فعله العالم هو أنه حرّك الجمر، وسعّر النار، ودفع بالفكرة نحو اللاشعور حيث انتقل الطلاب فيما بعد إلى مرحلة الإيحاء الذاتي.
وهذا ما يحصل بالضبط لصديقك المصاب بفرط الانفعالية والذي عنده استعداد فطري للإيحاء عندما تخبره بأنّ وجهه لونه أصفر وتظهر عليه بقع حمراء، أمّا القشة التي ستقسم ظهر البعير فهي عندما تسأله: "هل أنت بخير؟ تبدو اليوم وكأنك مريض" وسرعان ما تنهار آلياته ودفاعاته العقلية وينتقل إلى مرحلة الإيحاء الذاتي، فيسقط مريضاً بالوهم.
.........................
يرتبط الإيحاء في معظم الأحيان بالبرمجة _اللغوية منها والعصبية، فالشخص المصاب بالوسواس القهري يردّد مجموعة من الكلمات أو يؤدي سلسلة من الأفعال المتتالية نتيجة خلل نفسي أو عصبي يوحي إليه أنّ هناك مشكلة ما هو بصددها، حيث أنها تقدح زناد تلك السلسلة من الأفعال. وغالباً ما يكون المريض قد تبرمج على قول أو فعل تلك الأمور، وبرمجته تلك قد تلقاها من محيطه الأسري والتربوي والثقافي، فنرى المسلم الذي يذكر أمامه اسم نبيّه يردّد بلا تفكير عبارة (صلى الله وعليه وسلّم).
بعض حالات الوسواس القهري الناجمة عن خلل في الشعور الديني لدى الشخص تخلق سلسلة من الأفعال المتكرّرة والمزعجة للمريض، كأن يقود بترديد آية أو تعويذة أو مقطع ما عندما يشعر بالتهديد أو وجود أي خطر نفسي.
في الحقيقة، المريض لا يسيطر على نفسه أو على أفعاله، لأنّ هناك مجموعة من البرمجيات أو الأزرار العصبية داخل نفسه، ويمكن إثارة هذه البرمجيات عن طريق التوجّه إليها وتنشيطها باستخدام الإيحاء. معظم الأحيان يلجأ المعالج النفساني إلى الإيحاء أو التنويم المغناطيسي لعلاج مثل هذه العوارض.
ولكننا يجب ألا نخلط بين التنويم المغناطيسي والإيحاء، فالتنويم المغناطيسي هو استراتيجية علاجية يتمّ من خلالها التواصل مع اللا شعور بشكل مباشر عندما يكون الخص منوّماً أو في حالة غيبوبة تنويمية يسهل خلالها التعامل مع عقله الباطن. أمّا الإيحاء فهو اقتحام وإسقاط وعي الشخص للوصول إلى لاوعيه وتثبيت أفكار معينة بغرض إقناعه بصحتها.
.........................
تناول الكثير من العلماء موضوع العلاقة بين الإيحاء والبرمجة، وكيف يمكن إعداد الشخص _أو أي كائن حي_ ليتقبّل أوامر وتعليمات الآخرين عن طريق الإيحاء. ومن أشهرهم العالم الروسي إيفان بافلوف وكلبه _على الأرجح أصبح كلب بافلوف أشهر من العالم نفسه_.
تتلخّص تجربة بافلوف على الشكل الآتي: وضع على لسان كلبه قليلاًً من مسحوق اللحم، فوجد أنّ هذا الكلب قد استجاب بإفراز اللعاب نتيجة طعم اللحم في فمه. في المرحلة الثانية من التجربة، استخدم بافلوف الجرس، وقد لاحظ أنّ الكلب قد استجاب إلى صوت الجرس بأذنيه _إلاّ أنه لم يفرز اللعاب طبعاً لأنّ الجرس لم يكن متصلاً بغدده اللعابية_ في المرحلة الثالثة، قام بافلوف بدق الجرس اثناء وضع مسحوق اللحم على لسان الكلب، في هذه المرحلة استجاب الكلب بإفراز لعاب غزير من غدده اللعابية نتيجة طعم مسحوق اللحم، وبعد عدّة محاولات من تكرار التنبيه والإثارة، استغنى بافلوف عن مسحوق اللحم، ورنّ الجرس من دون أن يضع أي مادّة على لسان الكلب، ففوجئ بأن لاحظ أنّ الكلب قد استجاب بإفراز اللعاب وكأنه يتذوّق طعم اللحم.
ما حدث هنا هو أنّ دماغ الكلب _لا شعورياً_ قد ربط بين المثير الأول (طعم اللحم) وبين المثير الثاني (صوت الجرس) وكوّن منهما وحدة عصبية متصلة، أو سلسلة محددة من [السبب ـ النتيجة] أطلق عليها اسم (الفعل المنعكس): حيث أنه استجابة الكائن لأي تنبيه أو مثير خارجي، وهو أداة الكائن للتعامل مع محيطه وبيئته حيث يقول بافلوف ((إنّ المنعكسات هي عناصر التكيّف المتواصل أو التوازن... وهي أفعال لابدّ ولا مفرّ منها حيث أنها الرد الفعل الآلي للكائن، وهي في نفس الوقت مولودة معه، وتشبه الأحزمة التي يضعها الإنسان للآلات من أجل غايتين: غاية إيجابية وتعطي نشاطاً معيناً، وغاية سلبية كافّة وتكفّ هذا النشاط المعيّن)).
تتضمّن المنعكسات وظائف أساسية ورئيسية لبقاء العضوية مثل: البحث عن الطعام، الحفاظ على البقاء، الدفاع عن النفس أثناء مواجهة مفترس محتمل، وغالباً ما يطلق علماء النفس على هذه المنعكسات اسم: الغرائز أو العواطف والانفعالات.
.........................
ما نستنتجه من التجربة السابقة هو أنّ الدماغ يسيطر على الجسم ويتحكّم به من خلال جهاز معقّد من المنعكسات والغرائز التي يمكن برمجتها وإعادة توجيهها. حيث أنّ بافلوف قد أوحى لكلبه أنه كلّما دق الجرس فإنّ موعد اللحم قد حان، وبذلك توجّهت دوافع وغرائز الكلب إلى إفراز اللعاب في كلّ مرّة يسمع فيها صوت الجرس. ولو خرج هذا الكلب من المختبر وتمّ أخذه إلى أيّ مكان في العالم، ولو بعد فترة زمنية طويلة، سيظلّ يفرز اللعاب عند سماعه صوت الجرس، لأنه يحمل تلك البرمجيات التي برمجه عليها بافلوف، وسيبقى أسير برمجته العقلية تلك.
تلك الدوافع أو المنعكسات الموجودة عند كل كائن حي، موجودة عندنا نحن البشر أيضاً: القتال، الغذاء، الجنس، وتكون على شكل أزرار نفسية عصبية تتمّ برمجتها كي يؤدي كل واحدٍ منها وظيفة حيوية معيّنة، إلاّ أنها جميعها تصبّ في خانة الإبقاء على حياة الكائن والمحافظة على استمراره. إلاّ أننا نقوم بتهذيبها وتقليمها حضارياً عن طريق التربية والتعليم.
.........................
على مرّ العصور أدرك رجال الدين والسلطة حاجة البشر إلى الشعور بالأمان والاطمئنان على حياتهم، فتلاعبوا بأزرار الناس النفسية كي يبقوهم في حالة دائمة من الوهم والقلق _وتعريف القلق أنّه خوف غير مبرّر، ومن دون وجود سبب محدّد ومنطقي لهذا الخوف_ ثمّ أوحوا غليهم بحلول قد تكون ماورائية أو سياسية أو ثقافية _وقد تحوّلت تلك الحلول أو الأفكار إلى إيديولوجيات ومنظومات فكرية معقدّة سيطرت على حياة معتنقيها_ كي تبقيهم مسيطرين على هؤلاء الناس الذين يتحرّكون وفق غريزة القطيع من دون أن يتساءلوا حول جدوى هذه الحلول أو الأفكار وفعاليتها.
كم من الرؤساء الذين اعتمدوا الإيحاء كي يوهموا شعوبهم بأنهم يواجهون أخطاراً خارجية دائمة، تهدّد وجودهم وبقائهم، من دون أن يكون هناك أي سبب منطقي لهذه الأخطار. الم يخدع الرئيس الأمريكي "جورج دبليو بوش" شعبه ويوهمه أنّ هناك أسلحة دمار شامل موجودة في العراق، حيث أنها تشكلّ خطراً على أمن وسلامة الشعب الأمريكي وتهدّد وجوده.
ألا يعاني العالم العربي والإسلامي اليوم حالة مستعصية من البارانويا الجماعية التي تقصيه عن الآخر، وتدفعه نحو التقوقع على الذات، ثمّ النكوص نحو خضن الماضي. ألا يسعى رجال الدين والسياسة بكل ما أوتوا من قوّة وطاقة لإقناع شعوبهم بأنهم يواجهون خطراً يهدّد كيانهم وهويتهم وديانتهم. ألا تصرف كميات هائلة من المصادر والموارد المالية الضخمة لمواجهة هذا الخطر المفترض، فنرى التفجيرات الإرهابي تحدث في كلّ مكان ينفّذها أولئك الشبان الذين يظنّون أنهم يدافعون عن شريعتهم وديانتهم، إلا أنهم لا يفعلون شيئاً سوى أنهم يقتلون أنفسهم والناس الأبرياء بإيعاز من أشخاص آخرين عملوا جاهدين من أجل برمجتهم كي يتلقوا الأوامر ويطيعوها من دون تساؤل أو شك.
في القرن الحادي عشر أقام أحد أتباع الطرق الإسلامية المتطرّفة جماعة أطلقت على نفسها اسم "الحشاشين Assassins" أي أتباع الحشيش، وقد كانت هذه الجماعة تلجأ إلى أساليب الاغتيال والقتل والتعذيب إذ أنها كانت تتكون من مجموعة من القتلة والسفّاحين المأجورين. أمّ أساليبهم في القتل فقد كانت في استغلال الشبان الأقوياء والقادرين، عن طريق غسل عقولهم وبرمجتهم كي يكونوا على أهبة الاستعداد في أية لحظة للأداء المهمة، وكانت طريقة الغسل تتمّ من خلال جعلته يتناول جرعة من المخدّرات أو المهلوسات التي تجعله يشعر بالنشوة ثمّ وضعه في حديقة منعزلة مليئة بالأشجار والنباتات والأزهار، وجعل الفتيات يتحلّقون من حول، وبذلك كانوا يوهمونه بأنهم يرسلونه على الجنّة ويرونه الحور العين، والنشوة التي يشعر بها في داخله، وعندما يصحو يدفعونه على القتل وهو على وعد بأنه سيعود إلى تلك الجنّة عودة أبدية، لذلك لم يكن يخاف القتل أو أن يقتل طالما أنه يقتل في سبيل الله _حسب ما أوحى له زعيمه.
........................
عندما يتمّ إقناع العامّة أو الجماهير بوجود خطر خارجي يتهدّدها، تصاب بحال من الذعر الجماعي الذي يتبعه سقوط كافة الدفاعات والحصون العقلية لأبناءه، فيصبحون عرضة لشتى أنواع الأوهام والإيحاءات التي يبثها لهم رؤسائهم ومرجعياتهم الدينية، وهل هناك أوضح من الأمثلة التي أمامنا.
ختاماً: يقول الفيلسوف والمفكّر الأمريكي "ريتشارد برودي" في كتابه: "فيروس العقل" أنّ الضغط على أزرارنا النفسية والعصبية أسلوب فعّال وخطير لجذب انتباهنا نحو أفكار وأوهام معيّنة، وبذلك يسهل السيطرة على الناس وتوجيههم أينما اتفق، وكان هتلر يعلم هذه الحقيقة حق المعرفة، ونجح في استغلالها.



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيكولوجية الخضوع والطاعة (1/2)


المزيد.....




- -صدق-.. تداول فيديو تنبؤات ميشال حايك عن إيران وإسرائيل
- تحذيرات في الأردن من موجة غبار قادمة من مصر
- الدنمارك تكرم كاتبتها الشهيرة بنصب برونزي في يوم ميلادها
- عام على الحرب في السودان.. -20 ألف سوداني ينزحون من بيوتهم ك ...
- خشية حدوث تسونامي.. السلطات الإندونيسية تجلي آلاف السكان وتغ ...
- متحدث باسم الخارجية الأمريكية يتهرب من الرد على سؤال حول -أك ...
- تركيا توجه تحذيرا إلى رعاياها في لبنان
- الشرق الأوسط وبرميل البارود (3).. القواعد الأمريكية
- إيلون ماسك يعلق على الهجوم على مؤسس -تليغرام- في سان فرانسيس ...
- بوتين يوبخ مسؤولا وصف الرافضين للإجلاء من مناطق الفيضانات بـ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - سيكولوجية الخضوع 2