أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحكيم البابلي - من داخل القمقم ( 1 )















المزيد.....

من داخل القمقم ( 1 )


الحكيم البابلي

الحوار المتمدن-العدد: 2821 - 2009 / 11 / 6 - 16:55
المحور: الادب والفن
    


تقول الحكمة : "العين التي لا تبكي هي العين التي لا تبصر" .
ليس هناك شيئ يستطيع بناء شخصية الطفل في السنين العشرة الأولى من حياته أكثر من ثنائي الأم والمعلم ، وكما يقول الشاعر : الأمُ مدرسة إذا أعددتها أعددتَ شعباً طيب الأعراقِ . وللأسف الشديد كان العراق وما زال بعيداً بمراحل عن إعداد هذا الثنائي الرائع ، ولهذا رأينا تعاقب أجيال الخيبات والتداعيات لأننا بنينا على رمال وليس على ترسانة كونكريتية كما فعلت بعض الدول الذكية .
يقول المثل الشائع : "خلف كل عظيمٍ إمرأة "، ولا أعتقد أن صاحب المثل كان يقصد الزوجة أو الحبيبة كما قد يتصور البعض ، حيث أنه في العمر الذي يلتقي فيه ذلك الأنسان بحبيبته تكون شخصيته قد إكتملت نوعاً ما ، ولو كان ( طرطوراً ) على سبيل المثال فليس بمستطاع أية حبيبة أن تجعله عظيماً ، ولهذا أعتقد أن المرأة التي تقف خلف عظمته هي الأم ولا أحد غيرها ، إلا في حالاتٍ نادرة . فالأم هنا هي المدرسة الأولى بلا شك ، وبعدها تأتي المدرسة التقليدية بمراحلها المعروفة والتي هي الأساس الكبير "العلمُ في الصغر كالنقش على الحجر" ، وخاصةً في مرحلة المدرسة الأبتدائية .
تأتي المدرسة لتستلم هذا المشروع الكبير المهم ( الطالب ) من أحضان الأم مباشرةً ، فتصقل وتُطور وتُشذب وتُهذب وتُلمع وتُنمي وتُوجه وتُعلم ، ومن آلاف المشاريع المهمة هذه ( الطلبة ) تتكون طلائع الأمة وترسانة المستقبل ، وإذا لم يكن المعلمين - وخاصة في المدارس الأبتدائية - بالمستوى المطلوب ، كان مردود المشروع ربما صفراً أحياناً ، وكلما إزداد عدد الأصفار شحب وجه الأمة وتهالك جسدها . وما أكثر الأصفار في بلداننا الشرقية
***********************
شاهدتُ في التلفزيون الأميركي ( american teacher award ) ، برنامج جائزة أحسن معلم/ة في أميركا ، حيث تم تقديم مجموعة كبيرة من المعلمين بعد تصفيات كثيرة مسبقة ، وتم عرض فلم قصير عن طريقة تعليم كل منهم وتبيان إجتهاداتهم الشخصية وأساليبهم الذكية في سبيل تطوير الطلبة ودفعهم نحو الأحسن وكلٌ في حقله .
في النهاية فاز بهذا الشرف الرفيع - على عموم أميركا - معلمة في أحدى مدارس المعوقين
ولأن الحكمة تقول : "نعثر على المستقبل من خلال الماضي" ، فقد أعادني هذا البرنامج في تلك الليلة الى الماضي البعيد .. لا مقارناً فقط ، بل متألماً الى درجة الخجل من واقعنا المؤسف .
تذكرتُ المعلمين الجيدين - على قلتهم - الذين بذلوا كل ما في وسعهم لتعليمنا وتهيئتنا وتعبئتنا للمستقبل . كانوا بمستوى المسؤولية تماماً .
وكما يتواجد الذهب بنسب صغيرة ممزوجة مع الحجارة الرخيصة في مناجمه ، كذلك كانت نسبة المعلمين الجيدين في مدارس العراق وعلى طول إمتداد القرن العشرين ولأسباب كثيرة أهمها تفشي الفقر الثقافي وعدم تهيئة وتدريب المعلمين بصورة مدروسة ودقيقة لهذه المهنة الخطيرة التي أعتبرها أهم مهنة في أي مجتمع إنساني متحضر ، وأعتقد كذلك أن مدرس الأبتدائية يجب أن يكون حاصلاً على تعليم وخبرة وشهادة وممارسة أكثر من أستاذ الثانوية .
وكم كان أحوجنا يومذاك الى معلمين محترفين ومتفانين في زمنٍ كانت مداركنا من السذاجة بحيث كنا نعتقد أن طن الحديد أثقل بكثير من طن القطن ، وأن فريد الأطرش هو أطرش ويأتي يومياً من مصر ليغني في دار إذاعة بغداد ومن ثم يعود أدراجه الى مصر ، كذلك كنا نعتقد أن الملك لا يتمرحض !!.
كان بعض المعلمين السلبيين الجهلة لا يعرفون الراحة النفسية إلا عن طريق التنكيل بالطلبة المساكين الذين كانوا حقلاً لتجاربهم ، يفرغون فيه كل ردود فعلهم ونقمتهم وخيباتهم الحياتية وعقمهم الأجتماعي ومشاكلهم البيتية .
كان من السهولة جداً لأي معلم أن يتحول الى عقدة نفسية مدمرة في وجدان الطالب ، والى كابوس يطارده طوال حياته ربما !!.
وغالباً ما يكون الطالب ( الضحية ) من عائلة فقيرة الحال ، أو بدين أو بليد أو قبيح الوجه أو خجول أو مخنث أو مصاب بعاهة أو لثغة أو من دين أو قومية أو لون مُختلف . ولم يكن يعرف الحقيقة الكبيرة غير قلائل من المعلمين ، وهي أن هذا النوع من الطلبة كانوا بأمس الحاجة الى المساندة والأهتمام والمساواة ، ولكن ... "لا تسير الرياح كما تشتهي السفن" ..... للأسف .
***************************
في المدرسة الأبتدائية كان مدير مدرستنا واحداً من أعتى مدراء ذلك الزمن ، ومما زاد في شراسته وإستقوائه وعدوانيته هو ضمانه لوظيفته بسبب قرابته لوزير قوي ومتنفذ ، كان يحمل نوع الشخصية ( البيوقراطية ) المتعجرفة التي يتصور صاحبها أنها سلطة منبعثة من سلطة الله .
كان إسمه الأستاذ بهجت ، وكنيته بين الطلبة ( صِكَرْ ) أي صقر ، حيث كان تهديده المفضل ( والله لا أصكركم صكر ) .
كان لهذا المدير عصا مغلفة بالجلد يسميها ( الخاتون ) ، يجلد بها راحة أيدي الطلاب المعاقبين في الأيام الشتائية الباردة أثناء الأصطفاف الصباحي في الساحة المكشوفة للعراء داخل سياج المدرسة ، ثم يأمر الطالب المُعاقب بخلع ملابسه ( النصف العلوي ) ليبقى هكذا مُعاقباً ومرتجفاً برداً وألماً طوال فترة الأصطفاف الصباحي والتي يتخللها أحياناً تفتيش النظافة والهندام وقص الشعر والأضافر وإلقاء المواعظ الفارغة .
أما المعلمين الذين كانوا تحت أمرته فقد حذو حذوه وأخذوا عصيهم الى رقاع المحلة الذي غلفها لهم بالجلد الأسود ، وكما يقول المثل العربي :" بال حمارٌ فأستبال أحمرة " .
كان الأستاذ بهجت يتجول بيننا بغطرسة بالغة كالطاووس أثناء الأصطفاف الصباحي . يديه خلف ظهرهِ ، ورأسه مرفوع بطربوشه العثماني الذي كان يحرص على لبسه في الأصطفاف الصباحي فقط ، وكان يردد بصوته الحاد النبرات : "أنا إبنُ جلا وطلاع الثنايا ..إذا حملتُ الخاتون تعرفوني" .
لحد اليوم لم أشاهد شخصية حياتية تقاربه في الشبه خلقةً وأخلاقاً غير شخصية ( مدير السجن ) في فلم ( سجين الكاتراز ) والذي مثل دور السجين فيه الممثل الشهير كلنت إيستود .
ربما كان الأستاذ بهجت يريد أن يُربي ويخرج جيلاً من المخصيين إجتماعياً ونفسياً حين كان يتفنن في خلق الطرق الخبيثة للحط من قيمة الطلاب وإذلالهم وكسر شموخهم ومعنوياتهم وتدميرهم نفسياً ، ولا أشك أبداً أنه نجح مع الكثيرين من هؤلاء المساكين . أقذر وأحط طرقه تلك كانت رفضه لتوسلاتنا وطلبات أهالينا المكرورة الملحاحة من أجل نزح مراحيض قسم الطلبة الممتلئة الخزان ، بينما كان هو يتمتع وهيئة المدرسين وبعض طلبته المدللين بمراحيض خاصة ونظيفة في بناية الأدارة ،
كان يستكثر علينا حتى حقنا في التمرحض ، وربما كان يعتبره ترفاً !! ، لأنه كان يُذكرنا دائماً بأن الوطن بحاجة الى ( زلم خشنة ) على حد تعبيره ، وكان يزعق في مسامعنا كل صباح "إخشوشنوا فأن الترف يزيل النِعَم" !! وكأن حبس الغائط في جسد الطلاب سيؤدي بالتالي الى خشونتهم !! .
وكغيره من المسؤولين في طول البلاد وعرضها كان يحاول تطبيق تعاليم وأحاديث بطرق سلبية مغلوطة غرضها التنكيل بالضعيف
كانت ساعات الدراسة تبدو أطول وتمر على بعضنا بألم ونحنُ بين حاقنٍ ( الذي يحبس بوله ) وحاقب ( حابس الغائط ) ، وأذكر هنا ملاحظة رائعة كنتُ قرأتها في كتاب ( مدارات صوفية ) للراحل هادي العلوي يقول فيها : ( أن الأسلام كان قد نهى القضاة عن ممارسة القضاء وهم حاقنون ، لأن هذا يُربك أحكامهم ويُعرضها للخطأ ) ، فكيف بطلاب صغار في الأبتدائية ولعدة ساعات في اليوم ؟!! ، حيث كان ذلك يسبب عرقلة في تفكيرنا وتركيزنا على مادة الدرس ، وكثير منا كان يتبول ويتغوط أينما إتفق و ( بالختلة ) . أحد الطلبة تغوط داخل الصف الدراسي أثناء تواجد بقية الطلبة في ساحة المدرسة أثناء فترة الدقائق العشرة بين حصةٍ وأخرى . البعض الأخر كان يتسلق سياج المدرسة الى الجانب الأخر المهجور ليعملها ويعود بسرعة البرق قبل أن يكتشفوا جريمته المُنكرة . وقد عوقب الكثير من الطلبة الذين تم القبض عليهم متلبسين بالجرم المشهود !!، كذلك تم إرسال الكثيرين الى بيوتهم قبل إنتهاء الدوام الرسمي .. يأكلهم خجلهم لأنهم فشلوا في سباق الماراثون لأطول مدة ممكنة لحبس الغائط !!، أنا وأخي الكبير كُنا نمتنع عن تناول وجبة الفطور في البيت كي لا نضطر لأستعمال المراحيض خلال ساعات الدوام المدرسي ، وكان الجوع مؤلماً أكثر بكثير .
كانت كل شكاوي الأهل وتهديداتهم الشفهية والتحريرية لأدارة المدرسة ووزارة المعارف تمر عبر "الى حيث ألقت رحلها أم قشعم" .
*******************************
زارنا ذات يوم مفتش وزارة المعارف عبر زيارته التفقدية السنوية لكل مدرسة . وأثناء الأصطفاف الصباحي راح يسألنا عن أحوالنا ويتفقد راحتنا وإحتياجاتنا ، تبرع بمستقبله أحد الطلبة ( الوكحين ) وكان أكبر منا حجماً وعمراً لأنه من المخضرمين بسبب سقوطه كل سنة في إمتحان البكالوريا للصف السادس المُنتهي ، وقال لحضرة المُفتش بأننا جميعاً بخير وعافية وفرحين ولا يعوزنا أي شيئ أبداً ( بصاية الله وصاية السيد المدير ) والذي سماه ( صقر الحق ) ، ولكننا ياسيدي المفتش لا نمانع لو أصريتم على فتح المراحيض بعد نزحها وتنظيفها ، ولا نمانع كذلك في الحصول على الكتب المجانية التي تقررها لنا مجاناً وزارة المعارف ، وسأعمل جاهداً على منع أي طالب من رفضه للصوبات ( مدافئ ) النفطية المتنقلة لغرف الدراسة الباردة ، كذلك ومن باب الأدب والأصول سنقبل ما تقرره الوزارة من (لابجينات وطوبة ) للفريق الرياضي لكرة القدم ، كذلك لن نمانع أبداً لو أحببتم إرسال معلم للغة الأنكليزية للصف الخامس والسادس حيث سيتم إمتحاننا في نهاية السنة باللغة الأنكليزية إن إتقناها أم لا .
كان المفتش يبتسم بعد أن إلتقط رسالة الطالب المشفرة ، ثم أعقب وبطريقة ساخرة قائلاً بأن حالنا تشبه أحوال عشيرة شمر التي يقول فيها المثل "إنها بخير ولا تعاني إلا من شحة الخام والطعام وقلة الخرجية" .
بعد أيام تم فتح المراحيض ونحنُ بين مهلل ومكبر ، وقد أحسسنا بالترف الحقيقي الذي كان يقصده الأستاذ بهجت ، وبدأنا أخي الكبير وأنا نستمتع بوجبة الفطور قبل ذهابنا الى المدرسة كل صباح ، وقام طلبة الصفين الخامس والسادس بأكتشاف مجاهل وغابات اللغة الأنكليزية بقيادة معلم الرياضة الذي كان يجهل حتى أصول وقواعد اللغة العربية . أما بقية طلباتنا فقد نُسِبَت الى قائمة الكماليات والبطر
********************************
كان الأستاذ بهجت أبيض البشرة أحمرها ، ذا أنفٍ أقنى وعينين سوداوتين منطفأتين كعيني سمك القرش ، طويلاً نحيفاً نزقاً إنضباطياً حاد المزاج والصوت ، كانت صفاته أقرب الى صفات الضابط الأنكليزي منها الى المعلم العراقي
كان لئيماً وطالما إستهدف بلؤمه الطلاب الفقراء من أبناء العوائل المسحوقة طبقياً وإجتماعياً ، بينما كان يتودد لدرجة الأذلال لكل من كان إبن غنى أو مركز أو جاه ، وعليه تماماً ينطبق قول أبو حيان التوحيدي : "ما تعاظم أحدٌ على من دونه ، إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقهِ ".
********************************
كان ( سمير ) أحد الطلبة وإبن ضابط كبير في الجيش الملكي يومذاك ، محط إهتمام وحب وتملق المدير والهيئة التدريسية .
كان سمير يرفع العلم كل يوم سبت أثناء الأصطفاف الصباحي ، وهو الذي يردد الأناشيد والقصائد ، وهو مراقب الصف ، ودائماً وأبداً الأول على الصف ، ولم نكن نعرف هل كان ترتيبه الأول دائماً لتفوقه وإجتهاده بحق .. أم لمجاملة وخنوع للسيد الوالد ؟!. وحتى لو كان لأجتهاده ... فلم لا ؟ وكل الظروف الأيجابية تحيط به وترعاه وتحضره ليكون سيداً على أقرانه في المستقبل بشكلٍ من الأشكال وبصورة من الصور ، فمجتمعنا العراقي والعربي كانا وما زالا يحضران دوماً لدراما الحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم والراكب والمركوب .
وطبعاً في كل صف من الصفوف ، وكل مدرسة من المدارس كان هناك ( سمير ) بأسم مختلف و "ماكو زور يخلة من واوي " .
وبعكس كل هذا الحب والدلال والأهتمام كان الأستاذ بهجت يعادي وبشدة الكثير من الطلاب المغضوب عليهم وبصورة علنية ومُستهجنة ومُلفتة للنظر . كان جزء كبير من عدائهِ قد إنصب على رأس طالب مسكين نسيتُ إسمه لأن السيد المدير كان دائماً يكنيه تحقيراً بأسم ( باروخ ) . وباروخ هو إسم يهودي ويقابله في العربية إسم ( مبارك ) وفي الآرامية إسم ( بريخو أو بريخة ) ، وليس مثل العرب والعراقيين أناسٌ يستهويهم التنابز بالألقاب !!.
كان باروخ هذا طويلاً نحيفاً بهزال ، دميماً تحتل وجهه عدة ثآليل ( فالول ) كبيرة ، رث الثياب يلبس طوال موسم الدراسة لباس الرياضة الأسود القصير مع ثوب مخطط وبلوزة صوفية مثقوبة عند العكسين ، كان لباس الرياضة الأسود هو لباس أغلب الطلبة الفقراء يومذاك وربما لحد اليوم !!.
كل تلك الصفات جعلت باروخ موضع تندر وتسفيه المدير وهيئة التدريس وإنتقلت كالعدوى الى غالبية الطلبة الذين كانوا يتحلقون حول باروخ وهم يهزجون ( سمير فوك المنارة ... وباروخ جوة الطهارة ) ، وهو أمرٌ مُحزنٌ حقاً ومؤسف عندما ينقلب المرء ضد صنوه تعاطفاً مع القوي !!!. ولم يكن هؤلاء الصغار يمثلون بعملهم ذاك إلا كبارهم .. " فالولد على سر أبيه يكبر" .
ذات يوم تشاجر باروخ مع طالب آخر وضرب أحدهما الأخر ، كان أمراً إعتيادياً يحدث بين الطلبة كل يوم وهم يتناقرون كما تتناقر الديكة ، ولكن باروخ لم يكن محبوباً من قِبَلِ آلهة المدرسة ، وكما يقول المثل العراقي العامي : ( مكروهة وجابت بنية ) !!.
في الأصطفاف الصباحي لليوم التالي ظهر الصكر وبيده الخاتون التي كنا نعتبرها نذير شؤم . وقف الصكر وسط الساحة وبأعلى صوته راح يُلقي على أسماعنا محاضرة في التربية والمُثل العليا والوطنية ومكارم الأخلاق ، فكان "كتلك العاهرة التي تحاضر عن الفضيلة " . بعدها راح يُسَوِد تأريخ باروخ المدرسي ، ناعتاً إياه في نهاية قائمة الأتهامات بالغباء والكسل والفوضوية والقباحة !!، تماماً كما تُتلى الأتهامات قبيلَ تنفيذ حُكم الأعدام .
وكما في الأفلام السينمائية ، كانت هناك دقيقة صمت متعمدة لأشاعة الرهبة فينا ، كان الصكر خلالها يُشمرُ عن ساعديهِ بطريقة ذكرتني بوالدي وهو يُشمر عن ساعديهِ كلما أراد ذبحَ بعض دجاجاته في أيام الأعياد والعطل الرسمية .
بعدها نوديَ على إسم باروخ الذي تقدم وهو يسحل خطواته المتباطئة وفي عينيه نصف المفتوحتين حزنٌ شفيفٌ يشبه غُبش صباحات الخريف .
تقدم ذلك الكائن الموجوع ، ولن أنسى ما حييتُ وجهه الحزين وعينيه المتوسلتين وهو يرمقنا من تحتِ حاجبيه طالباً عوناً لم نكن نملكهُ ، تقدم خطوات أخرى على مهل وكأنه يريد أن يوقف الزمن ، ثم وقف أمام السيد المدير الذي طلب منهُ أن يبسط راحة يديهِ لينال عقابه .
إمتنع باروخ أن يأتمر ، شبك ذراعيه فوق صدرهِ وهو يهز رأسه رافضاً يميناً ويساراً ، وإنفجرت دموعه وعلا نشيجه المتقطع القادم من عمق تداعياته وتوحده أمام قطيع الذئاب . كان يعرف تماماً ما هو مقدمٌ عليه ، وأعتقده كان قد قرر مع سبق الأصرار وقف تلك الأجتياحات الملحاحة لكيانه الأنساني وكرامته المثقوبة
المُهانة بلا سبب ، كانت قد أصابته حالة من العزة رغم علمه المسبق بحجم الخسارة التي ستلحق بهِ ، وكان يبدو مصراً على صعود الصليب رافضاً أن يحني رأسه مرةً أخرى ، وكما يقول جبران خليل جبران :
وفي الزرازيرِ جبنٌ وهي طائرةٌ ................. وفي البزاةِ شموخٌ وهيَ تحتضرُ .
وبأعلى صوته صرخ الصكر ووجهه يتمعر غضباً : هم أكو واحد منكم يلومني ؟ ،
ثم إنهال بالخاتون على جسد باروخ الذي راح يحمي وجهه بيديهِ وبعد لحظات من المقاومة ثارت ثائرتهِ وإنتزع العصا من يد الصكر وهو يصرخ بجنون وقذفها بقوة خارج أسوار المدرسة ثم هرول الى باب المدرسة الخارجي وهو يصرخ بمرارة مغادراً المكان الى الأبد . ولم يكن يُسمع في ساحة الأصطفاف بعد ذلك غير صوت بكاء الطلبة الصغار العمر وهم يشهقون كمَّن شرق بماء .
بعد أيام صدر قرار الهيئة التدريسية بطرد باروخ لما تبقى من السنة الدراسية .
إشتغل باروخ في معمل الثلج القريب من المدرسة ، ورفض بشدة بعد تلك الحادثة أن يُكلم أو يحيي أي طالب ينتمي لمدرستنا ، فالجروح العميقة تحتاج الى زمنٍ طويل كي تلتئم .
وإن كانت جروحي النفسية التي سببتها تلك الحادثة لم تلتئم بعد ، فكيف بالأحرى هي جروح ذلك الأنسان الضحية ..... باروخ ؟!!.
اليوم وبعد أكثر من خمسين سنة على تلك الحادثة نقرأ كل يوم عن الحالة المُزرية التي وصلت إليها مدارس العراق ونتسائل : هل حقاً هناك من يلوم الشعوب في تعثرها على الطريق الوعر الذي أوجده حكامها الأنانيين ؟؟ .
تحياتي
********************************
قريباً ( من داخل القمقم 2 )



#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوطن المسكون


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحكيم البابلي - من داخل القمقم ( 1 )