أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحكيم البابلي - الوطن المسكون















المزيد.....


الوطن المسكون


الحكيم البابلي

الحوار المتمدن-العدد: 2807 - 2009 / 10 / 22 - 10:49
المحور: الادب والفن
    


لاشيئ يُغذي وينمي الخوف والرعب أكثر من الجهل . وأينما يكون المجتمع الجاهل ، تتواجد معهُ الأساطير والخرافات وحكايات الجن والعفاريت بأنواعها المُفزعة والمُضحكة على حدٍ سواء
في بداية الخمسينيات ، كانت مدينة بغداد تحوي العديد من البيوت المسكونة بالجن والعفاريت .. حسب زعم الناس في ذلك الحين . في أيام طفولتي تلك كانت عائلتنا تسكن منطقة ( سبع قصور ) التابعة لضاحية الكرادة الشرقية . وحسب مودة ذلك الزمان فقد كان في محلتنا واحدة من تلك البيوت المسكونة بالجن . كانوا يسمونه ( بيت أبو النبكة / كاف فارسية ) ، والنبكة أو النبقة هي شجرة السدر . وكانت النبكة الموجودة في حديقة ذلك البيت المسكون كبيرة عملاقة تغطي أغصانها مساحة كبيرة من الحديقة المهجورة المليئة بالحشائش والنباتات البرية ، كذلك تُغطي جزءاً كبيراً من سطح ذلك البيت
تقول الروايات أن إمرأة طيبة كانت تسكن ذلك البيت مع ولديها الشابين ، وتشاء الصدف السيئة أن يحب كلا الأخوين إبنة عمهم الشابة الحلوة ، وبسبب ذلك تنمو خلافاتهم وتتعمق في جذرها وتتطور الى إشتباكات جسدية عنيفة غالباً ما كان يتدخل الجيران لفضها
في ليلة ما ، وخلال أحدى المشاجرات ، يقوم أحد الأخوة بطعن الأخ الأخر عدة طعنات بسكين المطبخ ، ويلاحقه الى خارج الدار ويذبحه من الوريد الى الوريد عند شجرة النبق العملاقة . حدث كل ذلك في ليلة شتائية عاصفة ممطرة من ليالي بغداد في الأربعينيات . وقيل أن الأخ القاتل إختفى تماماً ولم يسمع لهُ خبر بعد ذلك الحادث أبداً ، وزعم بعض سكان المنطقة أنه إلتجأ الى الجن وأصبح واحداً منهم . ويحكي بعض الجيران أنهم كانوا يسمعون صراخ الأم الهستيري المرعب في الليالي الشتائية الممطرة حين تزورها ذكريات ولديها ويُهاجمها الشوق بلا رحمة ، وقيل أنها هجرت ذلك البيت بعد سنتين زاعمةً أن روح ولديها تطوفان في البيت مع الجن والعفاريت ، وإنها ترى شبحا ولديها أحدهما يركض ودشداشته ملطخة بالدماء ، والأخر يتبعه وبيده سكين المطبخ الطويلة وهي تقطر دماً
أما الناس الذين كانوا يعيشون حول بيت ( أبو النبكة ) فقد راحوا عبر السنوات التي تلت تلك الحادثة يرددون حكايات وشائعات مُفزعة لا يعرف أحد مدى صحتها عن ذلك البيت المسكون ، حيث أن أخباراً من هذا النوع هي حديث لذيذ للعامة يتداولوه بشغف وينموه ويهولوه حتى يُضاهي الخرافة غرابةً وخيالاً
يقول الجيران أنهم كانوا يسمعون أحياناً أنيناً وعويلاً كعواء الذئاب ، مُقترناً بضحكات هستيرية خشنة تقشعر لها الأبدان . ويتهامس آخرون عن كون الحجر يرتد الى راميها إذا قُذفت بأتجاه ذلك البيت ، ويُقسم البعض بأغلظ الأيمان أنهم كانوا يسمعون في الليالي الشتائية المُمطرة أصوات إحتفالات غريبة تُصاحبها أصوات دفوف وصنوج ودمامات وغناء بألحان ناشزة مُزعجة وأصوات حادة ولغة غريبة بأصواتها
كذلك زعم بعض هؤلاء الناس - وجلهم من الأميين - أن شجرة النبق تضاعف حجمها بعد أن إرتوت جذورها من دماء الأخ المذبوح ، وتقول الشائعات أن من كان يأكل من نبق تلك الشجرة كان يصيبه الأسهال وحالة من الغباء لمدة يوم أو أكثر . ولطالما إستغل صبية وأطفال محلتنا تلك الشائعة لصالحهم حين كانوا يزعمون لذويهم أنهم أكلوا من نبق شجرة البيت المسكون ، ولهذا أصابهم الغباء وسقطوا في الأمتحان المدرسي لذلك الأسبوع أو الشهر ، كان الأهل يبتلعون الكذبة على مضض لأنهم من خلقها ، فيعنفوا أولادهم وينهوهم عن أكل نبق تلك الشجرة الملعونة وكأنها شجرة آدم وحواء
أما أنا فبعد سقوطي في إمتحان درس الحساب كالعادة ، حملتُ كذبة ( الغباء النبقي ) وبتردد الى والدي الذي كنتُ أعرف أنه ( مفتح باللبن ) ، أو كما كانت تقول عنهُ والدتي ( راضع وية الجني ) ، وكان نصيبي علقة ( بسطة ) عراقية شديدة أطارت من رأسي كل عفاريت الكذب وحذلقات الجن

********************
تمر الأيام بلا أحداث كبيرة على تأريخ محلتنا ، وذات يوم تنتشر في المحلة مفرزة شرطة كانت تُلاحق أحد المُتهمين بالشيوعية يومذاك ، كان إسمه ( حمزة ) ، من سكنة المنطقة ، ويقول شرطة المفرزة أن إخبارية وصلتهم تفيد بأن حمزة كان يسب الحكومة والملك ونوري السعيد أثناء تردده على مقهى الطرف
كان حمزة رجلاً أمياً من عامة الشعب ، بسيط المدارك وعلى شيئ من الغفلة ، كان كل ما يفهمه عن الشيوعية هو إنها نظام سيأخذ أموال الأغنياء ليوزعها على الفقراء بالتساوي ، وإن مقام الوزير سيكون كمقام الفراش ، وكان في أثناء الليل يقوم بألصاق المناشير المُحرضة على الثورة فوق جدران البيوت وأعمدة الكهرباء ، وكان يقول لأطفال المنطقة مُباهياً بأنه سيكون مُختار محلتنا بعد الثورة
وهكذا راحت شرطة المفرزة تطارد وتلاحق حمزة من شارع لشارع ومن منعطف لأخر الى أن حاصروه وشددوا عيه الكماشة أمام البيت المسكون . وكما تقول خطبة طارق بن زياد ( البحر من ورائكم والعدو من أمامكم ) ، وعلى هذه الصورة وجد حمزة نفسه في موقفٍ لا يُحسد عليه ، أمامه شرطة نوري السعيد وبأيديهم أحدث ( الصوندات والتواثي ) ، والكلبجات تتلامع في أحزمتهم . وخلفه كان يجثم بهدوء وعفرتة ( بيت أبو النبكة ) ، بنوافذه المكسرة الزجاج وشكله الكئيب الغامض ونبقته العملاقة وبابه الداخلي الخشبي المفتوح على مصراعيه كفك عفريت يتربص الطريدة
فكر حمزة للحظات ، وأظنه فضل عفاريت الجن على عفاريت الحكومة ، فلم يكن منهُ إلا أن عبر سور الحديقة الواطئ ودلف بلا أدنى تردد الى عمق ظلمات البيت المسكون
أسقط في يد مفرزة الشرطة . لم يصدقوا أن حمزة من الجرأة والشجاعة لهذه الدرجة المجنونة . وقفوا أمام البيت المسكون وعلامة إستفهامٍ كبيرة فوق وجوههم البلهاء . كانوا ينتظرون قرار وأوامر مفوض الشرطة الذي وصل بسيارة جيب وترجل منها وعصاه الغليظة في يده . كان يتضح من شكله أنه أبن ذوات ، قصير القامة ، يميل الى البدانة ، أحمر الوجه ، مُنتفخ الأوداج وكرشه الصغير يتهدل بكسل فوق نطاقه الأسود اللماع العريض ، وأكثر ما كان يثير الضحك في هذا الرجل كان صوته الأنثوي الرفيع النبرات ، ولهجته المصلاوية ، وصلعته اللماعة التي تجلس على مقدمتها وفوق الجبهة بالذات خصلة شعر مشعثة حمراء
كان الناس قد تجمهروا في الشارع خلال دقائق ، فهذا حدث خطير وكبير ومثير في تأريخ محلتنا ، وحتى عرس الملك لن يكون أكثر إثارةٍ منه
جاء الناس من كل حدب وصوب ، وتحول الشارع الفرعي الهادئ خلال وقتٍ قصير الى مهرجان عام ، فهذا بائع الكبة وقد نفدت بضاعته بسرعة فهرول على عجل ليأتي بأحتياطي الكبة المخزون في بيته ، وهذا بائع اللبلبي ( الحمص ) يقف بفرح قرب عربته الخشبية المزوقة بألأمثال الشعبية والتعاويذ الدينية ( محروسة سبع الدجيل ) وهو ينادي بأعلى صوته ( يلبلبي ويلبلوب .. وبعانة ترس لجيوب ) ، وهنا بائع العمبة ( أم الشريس ) والصمون ، ، وهناك بائع السميط ، وهذا أبو الفشافيش وقد عسكر بمنقلته وأدواته فوق رصيف الشارع ومهفته تتسارع يميناً ويساراً فوق جمرات فحم المنقلة التي تشبه جمرات عيون العفاريت التي كانت ترافق ليل طفولتنا . وها هم شباب المحلة وقد إرتدوا أجمل دشاديشهم وعيونهم تحط بشراهة ونهم فوق أجساد شابات المحلة وهن يتمايلن ويتغنجن بدلال بصحبة أمهاتهن ، أما أنا وأطفال المحلة فقد أحضرنا من بيوتنا دفوف ومقارع وقدور وأواني نحاسية مختلفة الأحجام والأنواع ورحنا نقرع ونغني ونصفق ونرقص ونتقافز كالسعادين على لحن الأهزوجة الشعبية الشهيرة التي رحنا نكررها بلا ملل
حمزة كمز كمزة ضرب طوب كتل خمسة
حمزة كمز كمزة ضرب طوب كتل خمسة
كان رجال الشرطة الأربعة يحاولون إسكاتنا كي يصغوا لأوامر مفوض الشرطة الذي راح بصوته الأنثوي المُضحك ولهجته المصلاوية يأمرهم بالدخول الى البيت المسكون وإلقاء القبض على حمزة قائلاً
- إدخلوا علينو ، إبسطونو .. وقتلونو .. وِفْجِخونو .. وجغجغونو .. وبهذلونو .. وِنعَلو إمو وأبونو
إجتمع رجال الشرطة فيما بينهم ، كانوا مرتبكين وقد تطيروا هلعاً وخوفاً ، وبسرعة قرروا الأحجام عن الدخول الى البيت المسكون ، تقدم العريف ( مهاوش ) من مفوض الشرطة وأبلغه رفض رفاقه . ضاق مفوض الشرطة برفضهم ذرعاً ، ولجأ الى اللين ووعد كل واحد منهم مبلغ 100 فلس إذا هم نفذوا أوامره ، ومرة أخرى يجتمع العريف مهاوش مع رجاله المفزوعين ويتقدم بعدها العريف من مفوض الشرطة ليخبره بأن كل شرطي سيتبرع للمفوض بمبلغ 150 فلساً إذا هو تقدمهم في عملية الأقتحام . تثور ثائرة مفوض الشرطة الذي راح يكيل لرجاله كل أنواع السباب بلهجة ( القيق والقاق ) وبصوته الأنثوي الذي أثار ضحك الناس حول مسرح الأحداث
ومرةً أخرى يحتل المشهد أطفال المحلة وهم يترنمون بأهزوجتهم الشعبية التي اضاف لها أحد شيوخ المحلة مقطعاً جديداً يليق بالمناسبة فصارت
حمزة كمز كمزة ..... ضرب طوب كتل خمسة
حمزة إنكلب جني ..... طارت روحة وبقة رمسة
وأخيراً يحل المساء ، ويقرر مفوض الشرطة إنقاذاً لماء وجهه .. محاصرة البيت المسكون الى صباح اليوم التالي ، عسى أن يعض الجوع معدة حمزة ويخرج مستسلماً . لكنه لم يكن يدري بأن الطعام والماء قد تم تهريبهما الى حمزة قبل حلول الظلام
مر الليل ببطئ شديد لأننا لم نستطع النوم ، كنا فوق سطوح بيوتنا نتمدد على أسرتنا تارة ، ونراقب مفوض الشرطة وأزلامه يفترشون بطانياتهم فوق رصيف الشارع تارةً أخرى ، بينما راح حمزة يعكر صفو وهدوء الليل وهو ينهق كالحمار مرة ، ويمعمع كالخراف مرةً أخرى ، ويصرخ ويعفط ويولول بأصوات مُضحكة محاولاً إرعاب وتخويف رجال الشرطة طمعاً في إحتمال هربهم خوفاً
قرابة الفجر يأس حمزة من محاولاته البائسة لتفريق الحصار حول البيت المسكون ، وإلتجأ الى آخر سهمٍ في جعبته فراح يغني ويسب الحكومة ربما إيماناً منه بالمثل الشعبي ( لمبلل ميخاف من المطر ) ، وراح صوته يعلو من باطن البيت المسكون ليشق سكون الليل
أنعل أبو الحكومة ..... آمين
وبجاه الله وسماعين ..... آمين
موت الكرف شرطتنة ..... آمين
نكسوا والله عُكلنة ..... آمين
بعد أن كرر حمزة تلك الكلمات عدة مرات ، راح الناس من سكنة البيوت المجاورة ينهضون من أسرتهم الصيفية فوق السطوح ويطلوا بدشاديشهم من خلف أسيجة السطوح ، وشيئاً فشيئاً بدأوا صغاراً وكباراً يشاركون حمزة غنائه ولعنته وتحديه للحكومة وشرطتها ، وراحت أصواتهم تنتقل مع نسيم الليل العذب المشبع بالرطوبة والندى ، ليصل الى شوارع مجاورة ومحلات قريبة
أنعل أبو الحكومة ..... آمين
وبجاه الله وسماعين ..... آمين
موت الكرف شرطتنة ..... آمين
نكسوا والله عُكلنة ..... آمين
لا أعرف ماذا كان شعور حمزة في تلك اللحظات ، وهو يسمع أبناء محلته ووطنه يساندوه ويتعاطفون معه وهو في ظلمات موقفه وظلمات البيت المسكون ؟ لكنني أتصور بأنه في خلال تلك اللحظات الحرجة العصيبة من حياته كان مستعداً لمواجهة كل سرايا شرطة نوري السعيد ، وكل جحافل الجن والعفاريت والمردة والغيلان
ضاع الصوت الأنثوي لمفوض الشرطة بين أصوات غناء الناس وهو يطلب منهم أن يكفوا عن سب الحكومة والشرطة ويتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وعندما يأس من ذلك عمد الى مسدسه الكبير وأطلق في الهواء عدة عياراتٍ نارية . وبقدرة قادر إختفت كل الرؤوس المُطلة من فوق سطوح المنازل بسرعة عجيبة . وقف على أثرها مفوض الشرطة بزهو وهو يتلمظ إنتصاره الميمون بعد نهارٍ ملئه الفشل ، زم شفتيه وأعاد مسدسه الى قرابه وهو يجيل نظره فوق السطوح يميناً ويساراً بتحدي ، وراح صارخاً وبكل ما أسعفه صوته الأنثوي من حدة وعنجهية معززاً إنتصاره الباهت
- كليب ولاد الكليب ... ينعل أبوكِم وبو الخَلَفكِم
لم يتجرأ على إجابته أحد ، إلا أن رقية صغيرة هوت من حيث لا يدري وإستقرت مهشمة على أرضية الشارع قرب قدميه . ساد الشارع صمتٌ عميق شامل لم يكن يقطعه غير نقيق الضفادع بين الحين والأخر ، ولم يُسمع صوتٌ آخر الى أن إنبلج الصباح

**********************************
تجمهر الناس على جهتي الشارع وحول سياج البيت المسكون قبل أن تشرق الشمس بقليل ، وكأن سوق عكاظ قد تحول الى شارعنا الفرعي ، وكان جميع الباعة المتجولين يتوقعون يوماً دسماً وكما يقول المثل ( مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ ) . أما مفوض الشرطة فكان يحاول وبكل أدب الطلب من أصحاب البيوت السماح له بأستعمال مرافقهم الصحية لقضاء حاجته الصباحية ، إلا أنهم رفضوا طلبه بتعمد وبحجة وجود نساء في بيوتهم ، مما إضطره وعلى عجل للذهاب الى أقرب جامع لقضاء حاجته ، بينما البعض يقهقه تشفياً
إنتصف النهار ومفوض الشرطة لا يزال يفكر بطريقة يُخرج بها حمزة من بيت ( أبو النبكة ) . وفجأةً توقفت سيارة شرطة ثانية وترجل منها ضابط شرطة وقور الملامح أبيض الشعر متجهم الوجه وعلى أكتاف بدلته الكاكية اللون تنام عدة نجمات لماعة . كان برفقته ثلاثة شرطة كبار الأجسام مكفهري الوجوه تنم عيونهم عن شرورٍ وسوء نية
تقدم الضابط الأنيق عدة خطوات وهو يضع يده اليسرى خلف ظهره بينما يتدلى من يده اليمنى سوط قصير رفيع مصنوع من الجلد الأسود اللماع . هرع مفوض الشرطة وازلامه مرتبكين ووقفوا أمام الضابط وقدموا له التحية العسكرية بحزم وقوة وبساطيلهم الثقيلة تدق أرضية الشارع بشكل مبالغ فيه وهم يصرخون : سيدي
سألهم الضابط بهدوء عن الحادث ككل ، وراح مفوض الشرطة يشرح بالقيق والقاق ما حدث يوم البارحة ، وأوضح بأن شرطته خافوا من إقتحام البيت المسكون وخاصة لأن الوقت كان ليلاً . إغتاظ ضابط الشرطة وصرخ بأعلى صوته : ولك لو جايبين حساوي ( بغل ) هم جان دبرهة أحسن منك .
راح الناس يضحكون ويقهقهون تشمتاً وعندما إلتفت الضابط نحوهم بغضب سكتوا وتراجعوا عدة خطوات . عاد الضابط الى هدوئه وراح يتكلم بصوتٍ عالي أظن أراد إيصاله الى الناس وإلى حمزة بصورة خاصة . أمر أتباعه أن يُنزلوا عدة صفائح من النفط الأبيض من سيارته ويرشوها فوق جدران البيت المسكون وحديقته
بعد دقائق إنتهوا من رش المكان بالنفط الأبيض ، تقدم الضابط من سياج الحديقة الواطئ وراح يخاطب حمزة بصوتٍ عالي
- إسمع لك ، كلب ، تطلع بالعيني والأغاتي تطلع ... ما تطلع راح إنطلعك مشوي مثل الكباب ، عندك خمس دقايق .. وقد أعذر من أنذر ، وإذا ما طِلَعِت ما راح يتلحكلك لا طنطل ولا سعلوة ، ولا لينين ولا ستالين
إنتهت فترة الخمسة دقائق ولم يخرج حمزة ، تقدم الضابط وبيده حزمة يابسة صغيرة من أغصان الأشجار وراح يُضرم فيها النار من ولاعته ، دخل الى حديقة البيت المسكون ، ساد بين الناس صمتٌ عميق لم نكن نسمع في خلاله غير صوت طقطقة إحتراق حزمة الأغصان بيد الضابط وأصوات إبتلاع كل واحدٍ منا لريقه
رفع الضابط يده بالأغصان المحترقة عالياً وبدأ يعد بصوته الجهوري : واحد ... إثنين ... ثلاثة ... ، وقبل أن ينطق بالرابع ظهر حمزة على عتبة الباب الداخلي للبيت المسكون بثبات ورأسه مرفوع الى أعلى بشموخ وبطريقة مسرحية أجبرت بعض الناس المحتشدين الى إفلات ضحكات قصيرة شبه مكتومة
تعجب أغلب الذين يعرفون حمزة ، حيث لم تكن هذه الأمور من صفات شخصيته ، وخاصةً لأنه يقف أمام واحد من عتوية الحكومة الملكية . مشى حمزة بكل هدوء ووقار عبر حديقة البيت ، مجتازاً ضابط الشرطة الذي إرتسمت على وجهه إبتسامة ساخرة . وقف حمزة على رصيف الشارع ، وأدار وجهه لعدة جهات متفحصاً جموع الناس الذين إبتلع الصمت ألسنتهم ، وفجأةً صرخ بأعلى صوته : يحيا الوطن
وكأن نبياً حل بين جموع الناس الذين راحوا يصفقون ويهتفون ويهزجون ويتقافزون طرباً لهذه الشجاعة وهذا التحدي ، بينما النساء يهلهلن ويصفقن ويلقين أشعاراً شعبية . وفجأةً ينهال مفوض الشرطة بعصاه الغليظة ضرباً عشوائياً على رأس وجسد حمزة ، وحذا حذوه عدة أنفار من الشرطة ، فألقوا المسكين أرضاً وأشبعوه ضرباً ورفساً وتكديماً
ثارت ثائرة الناس وجن جنونهم وإشتبكوا مع رجال الشرطة بالأيدي ، وراحت الحجارة تنهال فوق رؤوس الجميع من كل الجهات ، وعلت أصوات الناس بكل أنواع الشتائم وأقذعها ، وبدأت بعض النسوة يهزجن بغضب : الخاين شعبة نكص إيدة ........ الخاين شعبة نكص إيدة
مرت دقائق قصيرة وقد ساد فيها الهرج والمرج ، تحركت سيارة الجيب مبتعدةً عن الجموع ، كان يعتليها أحد العرفاء الذي أزاح قماشاً كاكياً من فوق مدفع رشاش وراح يُطلق خرطوشاً من العيارات النارية في الهواء . أصاب الهلع الشديد الناس المدنيين ، وكان صراخهم يصم الأذان ، وخلال بضعة ثواني تبخروا كلهم ولم يتبق في الشارع غير الشرطة وضابطهم وحمزة الممدد فوق أرضية الشارع وهو يسبح بدمه غائباً عن وعيه ، وعلى بعد أقدام منهم كان البيت المسكون يجثم بهدوء في مكانه المعهود تظلله شجرة النبق العملاقة ، يحيطه صمتٌ مُطبق ، فحتى الجن والعفاريت هالهم ما شاهدوه في ذلك اليوم

******************************
تم الأفراج عن حمزة بعد إندلاع ثورة الرابع عشر من تموز . يقول ناس المنطقة التي تحولنا منها قبل الثورة بأن حمزة عاد الى محلته ، وكان يتواجد دائماً في مقهى المحلة ، صامتاً هادئاً كئيباً لا يُكلم أحداً ، وعيناه تحملقان أبداً في أفقٍ بعيدٍ غير مرئي ، وكأنه لم يكن موجوداً بين الناس ، وفوق جسده كانت تنام بضع ندوبٍ وأخاديد لجروحٍ قديمة
قال بعض الناس أنه فقد عقله في تلك الليلة المرعبة الرهيبة التي قضاها داخل البيت المسكون . ويقول آخرون أنه فقد إتصاله بالحاضر عبر كل عذابات سجن ( نقرة السلمان ) ، وكما تقول الأغنية القديمة :
نوبة يكولون إنصدع ...... نوبة يكولون إنجن
نوبة يكولون صابتة ...... بالراس جنية

***************************
يقول القادمون من العراق الى مهاجرنا هذه الأيام ، أنه لم تعد هناك اليوم بيوتٌ مسكونة بعد أن صعدت أسعار الأيجارات والعقارات حد الذروة . وهكذا نجد ان الجن والعفاريت والسعالي والطناطل وأرواح الموتى لم تكن إلا خيالات وسخافات أوجدها جهل الناس عبر عصور الغباء ، وإن الجن والعفاريت الحقيقيين هم نحنُ ولا أحد غيرنا ، فعندما يعبر أي كائن بشري حدود إنسانيته يتحول الى عالم الجن والعفاريت الذين يفتكون بالطيبين من البشر
اليوم وبعد مرور خمسين سنة على ذلك الحادث المُضحك المُبكي ، أتذكر كيف كُنا نقف متأملين غموض ذلك البيت المسكون ( بيت أبو النبكة ) ، كان واحداً من بيوت شارعنا وحارتنا ، وكم من المرات سال لُعابنا لنبق شجرته العملاقة
كُنا نقف صغاراً خارج أسوار البيت المسكون ، لا نتجرأ على دخول حديقته وإعتلاء نبقتهِ ، كُنا نتصور أن فيالق الجن تسرح وتمرح في غرفه وأروقته على هواها
واليوم نقف كباراً خارج أسوار وحدود الوطن ، نحمل جنية حبه التي أقفلنا عليها رؤوسنا ، ونراه ... تعيثُ فيالق الجن والعفاريت في مدنه وقراه ، وتُقدمُ القرابين البشرية في طقوسٍ وثنية على مذابح آلهته الغبية
أه يا أنتَ ... يا جذري
يا اُمي ....
يا جرحي ....
يا ألمي .....
يا شجرةَ النبق العملاقة ....
أيها الوطن المسكونُ بالشر ....
نحنُ مسكونون بكَ الى الأبد
تحياتي



#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الحكيم البابلي - الوطن المسكون